مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 141 ـ 150
(141)
ربّ إن تعفُ فالمعافاةُ ظنّيأ وتُعاقِبْ فلم تعاقِب بريّا
    فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ أخاك آمن شعره ، وكفر قلبه » وأنزل الله تعالى الآية. (1)
    وقيل : إنّه أبو عامر بن النعمان بن صيفى الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فقدم المدينة ، فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما هذا الذي جئت به ، قال : « جئت بالحنيفية دين إبراهيم » ، قال : فأنا عليها ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها » .
    فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منّا طريداً وحيداً ، فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح ، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة ، فمات بالشام طريداً وحيداً.
    والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين ، بل كما قال الاِمام الباقر ( عليه السلام ) : « الاَصل في ذلك بلعم ، ثم ضربه الله مثلاً لكل موَثر هواه على هدى الله من أهل القبلة ». (2)
    وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الاِنسان هي أُخريات حياته ، فربما يكون موَمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه ، فليس صلاح الاِنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلاً على صلاحه ونجاته في آخر عمره.
    1 ـ مجمع البيان : 2/499 ـ 500.
    2 ـ مجمع البيان : 2/500.


(142)
وبذلك يعلم أنّ ترضّي القرآن عن المهاجرين والاَنصار في قوله سبحانه : ( لَقَدْ رَضِي اللهُ عَنِ الْمُوَْمِنينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ). (1)
    ويوَيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله : ( إِذ يُبايعونك ) ولا يكون دليلاً على رضاه طيلة حياتهم ، فلو دلّ دليل على زلّة واحد منهم ، فيوَخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين.
    وقد يظهر مفاد قوله سبحانه : ( والسَّابِقُونَ الاََوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالاََنْصَارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْري تَحْتَهَا الاََنهَارُ خالِدينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ ). (2)
    فانّ الآية دليل على شمول رضى الله لهم ، فيوَخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها ، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة ، فيوَخذ بالثاني ، وليس بين الدليلين أي خلاف ، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية ، أعني من آتاه الله سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها.
    فما ربما يتراءى من إجماع غير واحدمن المفسرين بهذه الآيات كلى عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي والله العالم.
    1 ـ الفتح : 18.
    2 ـ التوبة : 100.


(143)
سورة التوبة
17
التمثيل السابع عشر
    ( وَالذّين اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُوَْمِنينَ وإِرْصاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ الحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهّرين * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللهِوَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدي القَومَ الظّالِمين ). (1)
    تفسير الآيات
    « الضرار » : هو إيجاد الضرر عن عناد.
    « الاِرصاد » بمعنى الاِعداد.
    « البنيان » مصدر بنى.
    و « التقوى » خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة ، والواو فيه مبدلة من الياء لاَنّها من وقيت.
    « شفا » : شفا البئر وغيره ، جُرفُه ، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.
    1 ـ التوبة : 107 ـ 109.

(144)
    « الجرف » جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول فيبقى واهياً.
    قال الراغب : يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه ، أي يذهب به ، جرف هار البناء وتهوّر : إذا سقط ، نحو : إنهار.
    ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يأتيهم ، فأتاهم وصلى فيه ، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غُنْم بن عوف ، فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلاً ، وقيل خمسة عشر رجلاً ، منهم : ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحرث ، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء ، فلمّا فرغوا منه ، أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يتجهّز إلى تبوك.
    فقالوا : يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة.
    فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه » ، فلمّ ـ ا انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.
    إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم ، ومن بناه على شفا جرف ، فالاَوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة ، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة.
    فالموَمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى الله ورضوانه ، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد


(145)
وأرخاها وأقلّها بناءً وهو الباطل ، فإيمان الموَمن و دينه من مصاديق قوله : ( أَفَمَنْ أسَّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان ) ولكن دين المنافق كمن ( أسّس بنيانه على شفا جرف هار ) فلا محالة ينهار به في نار جهنم.


(146)
سورة يونس
18
التمثيل الثامن عشر
    ( إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النَّاسُ والاََنْعَامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الاََرْضُ زُخْرُفَهَا وَ ازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْهَا أَتاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالاَمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون * واللهُ يَدعُو إلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ). (1)
    تفسير الآيات
    قوله : ( فاخَتلَطَ بهِ نَبات الاََرض ) فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة ، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الاَرض ، لاَنّ المطر ينفد في خلل النبات ، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.
    قوله : ( ازّيّنت ) أصله تزينت ، فادغمت التاء بالزاى وسكِّنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل.
    فقوله : ( أخذت الاََرْضُ زُخرفها وازَّيّنت ) تعبير رائع حيث جعلت
    1 ـ يونس : 24 ـ 25.

(147)
الاَرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.
    قوله : ( قادرون عليها ) ، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها.
    قوله : ( أتاها أمرنا ) كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها « حصيداً » شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله.
    قوله : ( كأن لم تغن ) بمنزلة قوله : كأن لم ينبت زرعها.
    قوله : ( دار السلام ) فهو من أوصاف الجنة ، لاَنّ أهلها سالمون من كل مكروه ، بخلاف المقام فانّها دار البلاء.
    هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية.
    وأمّا تفسيرها الجملي ، فنقول :
    نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الاَشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها ، فلم يزل يتعاهدها بمياه الاَمطار والسواقي ، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة ، وصارت الاَرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت ، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت ، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الاَمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة ، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً ، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.
    هذا هو المشبه به والله سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل ، وهو انّ الاِنسان ربما يغتر بالدنيا ويعوّل الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها ، وعدم ثباتها واستقرارها.


(148)
    يقول موَيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم :
    ترجو البقاء بدار لا ثبات لهافهل سمعت بظل غير منتقل وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية ، وقال : ( الله يدعو إلى دار السلام ).
    ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد ، فذكر أقوالاً :
    أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.
    وثانيها : إنّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.
    وثالثها : إنّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الاَوصاف. (1)
    والحقّ أنّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل ، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الاِطلاق وليس فيها أي مكروه.
    وقد قيّد سبحانه في الآية دار السلام ، بقوله : ( عند ربّهم ) للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك.
    ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف ، أعني : قوله :
    1 ـ مجمع البيان : 3/102.

(149)
    ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ على كُلّ شَىْءٍ مُقْتَدراً ). (1)
    وسيوافيك بيانها في محلها.
    ويقرب من هذا ما في سورة الحديد ، قال سبحانه :
    ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الاََمْوالِ وَالاََولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلاّ مَتاعُ الغُرُور ). (2)
    1 ـ الكهف : 45.
    2 ـ الحديد : 20.


(150)
سورة هود
19
التمثيل التاسع عشر
    ( إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَأَخْبتُوا إِلى رَبّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُون * مَثَلُ الفَريقَين كَالاََعْمى وَالاََصَمّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُون ). (1)
    تفسير الآيات
    يصوّر سبحانه الكافر كالاَعمى والاَصم ، والموَمن بالبصيروالسميع ، ثمّ ينفي التسوية بينهما ـ كما هو معلوم ـ غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة.
    فقال في حقّ الكافر : ( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون ). (2)
    والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات وروَية الحقائق ، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الاَسماع ، كما أنّ نفى الاَبصار كناية عنه.
    ثمّ إنّه سبحانه وصف الموَمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة :

    1 ـ هود : 23 ـ 24.
    2 ـ هود : 20.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس