مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 221 ـ 230
(221)
لاَنّه سبحانه هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء ، والمربوب مستسلم لربه.
    ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد ، بقوله : ( وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الخَلْق ثُمَّ يُعيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ).
    وحاصل البرهان : انّه سبحانه قادر على الخلق من العدم ـ كما هو المفروض ـ فالقادر على ذلك قادر على الاِعادة ، إذ ليس هو إعادة من العدم ، بل إعادة لصورة الاَجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة ، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء.
    ثمّ إنّ هذه الاَولوية حسب تفكيرنا وروَيتنا ، وإلاّ فالاَُمور الممكنة أمام مشيئته سواء ، قال على ( عليه السلام ) :
    وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوى والضعيف في خلقه إلاّ سواء. (1)
    ولاَجل توضيح هذا المعنى ، قال سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الاََعلى فِي السَّمواتِ وَالاََرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم ) والمراد من المثل الوصف ، والمراد من المثل الاَعلى هو الوصف الاَتم والاَكمل ، الذي له سبحانه ، فهو علم كله ، قدرة كله ، حياة كله ، ليس لاَوصافه حد.
    إلى هنا تمَّ ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الاَجسام.
    وإليك بيان الاَمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.

    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 185.

(222)
    ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الاِنكاري ، وحاصله : هل ترضون لاَنفسكم أن تكون عبيدكم وإماوَكم شركاء لكم في الاَموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هوَلاء العبيد والاِماء ورضاً منهم ، كما تخشون الشركاء الاَحرار.
    والجواب : لا ، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله ، فعندئذٍ يقال لكم : كيف تجوزون ذلك على الله ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له ، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.
    والحاصل : انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الاَموال ، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل ، كأن يكون خالقاً أو مدبراً ، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.
    فالشىء الذي لا ترضونه لاَنفسكم ، كيف ترضونه لله سبحانه ، و هو ربّ العالمين؟ وإلى ذلك المثل أشار ، بقوله :
    ( ضَرَبَ الله لَكُم مَثلاً مِنْ أَنْفُسكُم ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم ( هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم ) فقوله : ( هل لكم ) شروع في المثل المضروب ، والاستفهام للاِنكار ، وقوله « ما » في ( مما ملكت ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الاِماء.
    فقوله : ( من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) مبين للشركة ، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره ، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء ، و على ذلك يكون من في شركاء ، زائدة.


(223)
    فقوله : ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) بيان للشركة ، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الاَحرار ، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الاَحرار ، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.
    ثمّ إنّه يتم الآية ، بقوله : ( كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون ) ، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق ، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.


(224)
فاطر
40
التمثيل الاَربعون
    ( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ). (1)
    تفسير الآية
    « الفرات » : الماء العذب ، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه : ( وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً ) ، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.
    « الاَُجاج » : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.
    « مواخر » من مخر ، يقال مخرت السفينة مخراً ، إذا شقت الماء بجوَجئها مستقبلة له.
    فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والاِيمان ، أو الكافر والموَمن.
    وحاصل التمثيل : انّ الاِيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الاَُجاج.
    وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه : ( وَما يَسْتَوى البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أُجاج ) بل انّ الكافر أسوأ
    1 ـ فاطر : 12.

(225)
حالاً من البحر الاَُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين :
    أ : يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الاِنسان ، كما قال سبحانه : ( وَمن كلٍّ تأكُلون لَحماً طَرياً ).
    ب : يستخرج من كلّ منهما اللآليَ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.
    إلى هنا تمَّ التمثيل ، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لاَجلها السورة ، وقال :
    ( وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون ) ، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام ، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي ، و قال : ( وَما يستوى البحران ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب ( وترى الفلك ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.
    مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل ، وقال : ( وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (1)
    وبذلك يظهر انّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهى كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الاََنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون ). (2)
    فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم ، فهكذا الملح الاَُجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.
    1 ـ النحل : 14.
    2 ـ البقرة : 74.


(226)
فاطر
41
التمثيل الواحد و الاَربعون
    ( وَما يَسْتَوِي الاََعْمى وَالبَصِير * وَلا الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الاَحْياءُ وَلاَ الاََمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمعٍ مَنْ فِي الْقُبُور ). (1)
    تفسير الآيات
    « الحرور » : شدة حرّ الشمس ، وقيل : هو السموم . وقال الراغب : الحرور : الريح الحارة.
    هذا تمثيل للكافر والموَمن ، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية :
    1. الاَعمى ، 2. الظلمات ، 3. الحرور ، 4. الاَموات.
    كما شبّه الموَمن بأضدادها التالية :
    1. البصير ، 2. النور ، 3. الظل ، 4. الاَحياء.
    وما ذلك إلاّ لاَنّ الكافر لاَجل عدم إيمانه بالله سبحانه وصفاته وأفعاله ، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً ، وتحيط به نار ،
    1 ـ فاطر : 19 ـ 22.

(227)
قال سبحانه : ( انّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بِالكافِرين ) (1) وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا و إن لم يشعروا بها ، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الاَنبياء وإن كان حياً يمشي ، وهذا بخلاف الموَمن فانّه يبصر بنور الله يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت ، فهو في ظلّ ظليل رحمته ، وانّه يسمع نداء الاَنبياء ويوَمن به.
    وبعبارة واضحة : الكافر مجالد مكابر ، والموَمن واعٍ متدبر.
    1 ـ التوبة : 49.

(228)
يس
42
التمثيل الثاني والاَربعون
    ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ * قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ * قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ * قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ * وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنّيإِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ * وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ * إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ * يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ). (1)

    1 ـ يس : 13 ـ 30.

(229)
    تفسير الآيات
    « التعزيز » : النصرة مع التعظيم ، يقول سبحانه في وصف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( فَالّذينَ آمَنُوا بهِ وَعَزّروه وَنَصَرُوه ) (1)
    « طيّر » : تطير فلان وإطيّر ، أصله التفاوَل بالطير ، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله ( إِنّا تطيرنا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بكم.
    وبذلك يظهر معنى قوله : ( إِنّما طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم ، أعني : حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.
    « الرجم » : الرمي بالحجارة.
    « الصيحة » : رفع الصوت.
    هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث الله إليهم الرسل ، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.
    ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقّة ، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه ، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة ، فإذا هم خامدون.
    هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها :
    فقد ذكر المفسرون انّ المسيح ( عليه السلام ) بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم : شمعون ويوحنّا ، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية ، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

    1 ـ الاَعراف : 158.

(230)
    وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون ، فواجها تكذيب القوم و ضربهما ، فعززهما سبحانه برسول ثالث ، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث ، ولا يهمنا تعيين اسمه ، وربما يقال انّه « بولس » . فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة و المجادلة والعناد ، محتجين بوجوه واهية :
    أ : انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا ، و ما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب ، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم ، وليس لنا إلاّ البلاغ كما هو حق الرسل.
    ب : انّا نتشاءم بكم ، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشىء ، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاوَم والتطيّر.
    ج : التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيد والنهي عن عبادة الاَوثان ، وقد أجاب الرسل بجوابين :
    الاَوّل : انّ التشاوَم والتطير معكم ، أي أعمالكم وأحوالكم ، وابتعادكم عن الحق ، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.
    الثاني : انكم قوم مسرفون ، أي متجاوزون عن الحد.
    كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر ، وفي خضمِّ هذه الاَجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هوَلاء رسل الحقّ ، وذلك للاَُمور التالية :
    أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام ، و هذا دليل على إخلاصهم في الدعوة ، وقد تحمّلوا عناء السفر و هم لا يسألون شيئاً.
    ثانياً : انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم ، ومن بيده مصيره
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس