مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 211 ـ 220
(211)
النور
36
التمثيل السادس والثلاثون
    ( وَالّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الحِسَابِ ). (1)
    تفسير الآية
    « السراب » : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الاَرض كأنّه ماء يجري ، و « القيعة » : بمعنى القاع أو جمع قاع ، وهو المنبسط المستوي من الاَرض ، والظمآن هو العطشان.
    يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية ، وأُخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي ، ولعلّ المشبه في الاَوّل هو حسناتهم ، وفي الثاني قبائح أعمالهم.
    وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية :
    قال سبحانه : ( وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعمالهم ) أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم ، مثلها كـ ( سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).
    1 ـ النور : 39.

(212)
    فقد وصف الظمآن بصفات عديدة :
    الاَُولى : حسبان السراب ماءً ، كما قال سبحانه : ( كَسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).
    الثانية : إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً ، كما قال سبحانه ( حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ ، لاَن المقصود هو مجيء الرائي إلى السراب ، ولا يجيئه إلاّ الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.
    الثالثة : عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً ، ولكن يجد الله سبحانه عنده ، كما قال سبحانه : ( وَوَجد الله عنده ).
    وهذا خبر عن الظمآن ، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر ، والمعنى وجد أمر الله ووجد جزاء الله ، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة.
    فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته و بعده ، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له ، ولكن يتجلّ ـ ى له خلاف ذلك وانّ الاَمر أمر الله لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من ألوهية آلهتهم.
    فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم ، كما يقول سبحانه : ( فَوَفّاهُمُ اللهُ حسابهم ).
    ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَاللهُ سريع الحساب ).
    وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقى إلى قوله : ( لم يجده شيئاً ) ، كما أنّها من قوله ( ووجد ... ) يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.


(213)
    وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها لله تبارك وتعالى ، فمن قدمها إليه و قام بها لاَجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه.
    وأمّا من عبد غيره و قدم إليه القربات راجياً الانتفاع به ، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً.
    إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر ، أي المشبه به والمشبه ، ولكن المشبه ، أعني : الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أُخرى.
    أولاً : انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد الله هو المجازي لا غير.
    وثانياً : انّه سبحانه يجزيه بأعماله.
    وثالثاً : فيوفيه حسابه.
    وما ذلك إلاّ لاَنّ الله سريع الحساب.
    وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي ، وأُريد من الضمائر الثلاثة في « وجد » « وفّاه » « حسابه » الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.


(214)
النور
37
التمثيل السابع والثلاثون
    ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها وَمَنْ لَمْ يَجعلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ). (1)
    تفسير الآية
    « اللجيّ » : منسوب إلى اللجّة ، وهي في اللغة البحر الواسع العميق ، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه ، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه ، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله ( بحرٍ لجيّ ) أي بحر متلاطم.
    و « السحاب » : عبارة عن الغيوم الممطرة ، بخلاف الغيم فهو أعم ، وانّمااستخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.
    هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية ، وأمّا المقصود فهو كالتالي.
    انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين ، لاَجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرةويعلو ماءه
    1 ـ النور : 40.

(215)
موج فوق موج ، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه.
    هذا هو المشبه به ، و أمّا المشبه فالاَعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شيء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور.
    ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظلمات ثلاث.
    الاَُولى : ظلمة البحر المحجوب من النور.
    الثانية : ظلمة الاَمواج المتلاطمة.
    الثالثة : السحاب الاَسود الممطر.
    فتراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول ، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة :
    النحو الاَوّل : ظلمة الاعتقاد ، ظلمة القول ، ظلمة العمل.
    النحو الثاني : ظلمة القلب ، ظلمة البصر ، ظ ـ لمة السمع.
    النحو الثالث : ظلمة الجهل ، ظلمة الجهل بالجهل ، ظلمة تصوّر الجهل علماً. (1).
    ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله.
    ولذلك يصفه سبحانه بقوله : ( ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ).

    1 ـ انظر تفسير الفخر الرازى : 24/8 ـ 9.

(216)
    إيقاظ
    ثمّ إنّ بعض الموَلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الاَمثال ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعام وَيَمْشي فِي الاََسْواقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ). (1)
    ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الاَمثال ليست من قبيل التمثيل ، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في لسان الكفّار ، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام ، ويمشي في الاَسواق ، فلا يصلح للرسالة.
    ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول ، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك؟
    ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يُلقَ إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية ، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها ، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.
    فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إيجاباً وسلباً بقوله ( انظر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثال ) أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الاَسواق ، وأُخرى بعدم اقترانك بملك ، وثالثة بالفقر ، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.
    وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول ، ولاَجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الاَمثال القرآنية.
    1 ـ الفرقان : 7 ـ 9.

(217)
العنكبوت
38
التمثيل الثامن والثلاثون
    ( مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون * إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم * وَتِلْكَ الاََمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إِلاّ العالِمُون ). (1)
    تفسير الآيات
    ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة ، وبيت العنكبوت أُخرى ، أمّا الاَوّل فقد مضى البحث عنه ، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.
    وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان ، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول : لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب ، وأُخرى يمثل عمله بالمثل التالي : وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت ، لاَنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب ، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا
    1 ـ العنكبوت : 41 ـ 43.

(218)
يقدر على الدفع.
    ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الاَرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.
    إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها ، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت ، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة ، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء و يصير خيطاً في غاية الدقة ، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سم ـ اً يوقف حركاتها ، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها. (1)
    ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت ، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت ، الذي يتألف من حائط هائل ، وسقف مظلٍّ ، وباب ونوافذ ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب ، و من جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لاَدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية ، فلو هبّ عليه نسيم هادىَ لمزق النسيج ، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى ، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق ، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.
    هذا هو حال المشبه به ، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ ، لا تخلق ولاترزق ، ولا تقدر على استجابة أي طلب.
    بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت ، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً ، ولكن الاَصنام والاَوثان لا توفر شيئاً للكافر.
    1 ـ انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر : 6/772.

(219)
    وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله : ( وَإِنّ أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت لَو كانُوا يَعْلَمُون ).
    ثمّ إنّ قوله : ( لو كانوا يعلمون ) ليس قيداً لقوله : ( أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت ) ، لاَنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن ، وانّما هو من متمّمات قوله : ( اتخذوا ) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً ، ربما أعرضوا عنها.
    ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أُخرى ، وقال : ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يدعُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) والظاهر انّ « ما » في قوله : ( ما يدعون ) موصولة ، أي انّه يعلم ما يعبد هوَلاء الكفار و ما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.
    ثمّ قال سبحانه : ( وَتِلْكَ الاََمْثال نَضْرِبها لِلنّاس وما يعقلها إِلاّ العالمون ) أي نذكر تلك الاَمثال ، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.


(220)
الروم
39
التمثيل التاسع والثلاثون
    ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالاََرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُون * وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الاََعْلى فِي السَّموات وَالاََرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً من أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يعْقِلُون ). (1)
    تفسير الآيات
    « القانت » : هو الخاضع ، الطائع ، فقوله : ( كلّ له قانتون ) أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث ، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور لله سبحانه.
    ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلاً على بطلان الشرك في العبادة ، أمّا البرهان فقوله سبحانه : ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالاََرْض كُلّ لَهُ قانِتُون ) واللام في قوله « وله » للملكية ، والمراد منه الملكية التكوينية ، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك ، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه ، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين ، وذلك
    1 ـ الروم : 26 ـ 28.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس