مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 241 ـ 250
(241)
الزخرف
46
التمثيل السادس والاَربعون
    ( فَاسْتَخَفَّ قوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِين * فَلَمّا آسفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقناهُمْ أَجْمَعِين * فَجَعَلْناهُمْ سلفاً وَمَثَلاً للآخِرِين ). (1)
    تفسير الآيات
    « آسفونا » : مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه.
    وقال الراغب : الآسف : الحزن و الغضب معاً ، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد ، و المراد في الآية هو الغضب.
    السلف : المتقدم.
    انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه ، ويقول : فلمّا آسفونا ، أي أغضبونا ، وذلك بالاِفراط في المعاصي و التجاوز عن الحد ، فاستوجبوا العذاب ، كما قال سبحانه : ( انتقمنا منهم ) ثمّ بين كيفية الانتقام ، وقال : ( فَأَغْرَقناهم أجمعين ) فما نجا منهم أحد ( فجعلناهم سلفاً و مثلاً للآخرين ) ، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتى من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.
    فالمشبه به هو قوم فرعون واستئصالهم ، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم ، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.
    1 ـ الزخرف : 54 ـ 56.

(242)
الزخرف
47
التمثيل السابع والاَربعون
    ( وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ * وَقالُوا ءالِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون * إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ * وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الاََرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم ) . (1)
    تفسير الآيات
    « الصدّ » : بمعنى الانصراف عن الشيء ، قال سبحانه : ( يصدّون عنك صدوداً ) ، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.
    « تمترُنَّ » : من المرية وهي التردد بالاَمر.
    ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما قرأ : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُون * لَوْ كانَ هوَُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلّ فِيها خالِدُونَ * لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ). (2)
    1 ـ الزخرف : 57 ـ 61.
    2 ـ الاَنبياء : 98 ـ 100.


(243)
    امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً ، فقال عبد الله بن الزبعرى : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الاَُمم؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « هو لكم و لآلهتكم ولجميع الاَُمم ».
    فقال : خصمتك و ربّ الكعبة ، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً ، وعلى أُمّه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما ، وعزير يعبد ، والملائكة يعبدون ، فإن كان هوَلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم ، ففرحوا وضحكوا. (1)
    وإلى فرحهم وضجّتهم ، يشير سبحانه بقوله : ( إذا قومك منه يصدّون ) حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته ، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي ، قال سبحانه :
    ( ولمّا ضرب ابن مريم مثلاً ) أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلاً وشبهاً لآلهتهم ( إذا قومك منه يصدون ) أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلاً وضحكاً لمّا حاولوا إسكات رسول الله بجدلهم ، حيث قالوا في مقام المجادلة : ( وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ) يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.
    وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً و مثلاً لآلهتهم ، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الاِجمال ،
    1 ـ الكشاف : 3/100.لاحظ سيرة ابن هشام : 1/385 ، وقد ذكرت القصة بتفصيل.

(244)
ويجيب على استدلال ابن الزبعرى.
    أوّلاً : انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلاّ المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق ، وذلك لاَنّ طبعهم على اللجاج والعناد ، يقول سبحانه : ( ما ضربوه لك إِلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
    وثانياً : انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلاّ جدلاً وهم يعلمون بطلان دليلهم ، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم ، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً لله رافضاً للشرك ، فاستدلالهم كان مبنياً على الجدل وإنكار الحقيقة ، وهذا هو المراد من قوله : ( ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
    ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه و انّه كان آية من آيات الله سبحانه ، وقال : ( إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثلاً لِبَني إِسرائيل ) ، أي آية من آيات الله لبني إسرائيل ، فولادته كانت معجزة ، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياوَه الموتى معجزة ثالثة ، فلم يكن يدعو قطُّ إلى عبادة نفسه.
    ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس ، يقول : ( وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَة في الاََرض يخلفُون ) أي يطيعون الله ويعبدونه ، فليس الاِصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلاّ طلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة الله ، وإلاّ ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لاَمره.
    ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح ، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.


(245)
    إلى هنا تم تفسير الآية ، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لاَن يكون مثلاً إنّما هو قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً ) وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى ، وأمّا قوله : ( وَجَعَلناه مثلاً لبنى إِسرائيل ) فالمثل فيه بمعنى الآية.
    إيقاظ :
    ربما عُدّت الآية التالية من الاَمثال القرآنية : ( وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ وَآمنُوا بِما نُزّلَ على مُحمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ ) (1) والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح ، أي تشبيه شيء بشيء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.
    تفسير الآيات
    "بال" البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به ، قال : ( كفّر عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالهُم ) ، وقال : ( فَما بال القُرونالاَُولى ) أي حالهم وخبرهم ، و يعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الاِنسان ، فيقال خطر كذا ببالي. (2)
    1 ـ محمد : 2 ـ 3.
    2 ـ مفردات الراغب : 67 مادة بال.


(246)
    إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش و مشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر. فقال : ( انّ الّذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ الله ) أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الاِسلام ، فهوَلاء أضلّ أعمالهم ، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً. فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الاِبل في يوم بدر وقبله.
    فيقابلهم الموَمنون كما قال : ( وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَآمنوا بِما نزّل على محمّد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ ).
    فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات ، لكنّه سبحانه من جهةأُخرى جعل صالح أعمال الموَمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم.
    فشتّان ما بين كافر وصادّ عن سبيل الله ، يحبط عمله.
    وموَمن بالله و بما نزّل على محمد ، يكفّر سيئاته بصالح أعماله.
    ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والموَمن ، كما علم نتائج أعمالهما.
    ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل ولذلك يضل أعمالهم ، وأمّا الموَمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم ، وقال : ( ذلك بأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ ).
    وفي ختام الآية الثانية ، قال : ( كذلِكَ يضرب الله للنّاس أمثالهم ) أي كذلك يبين حال الموَمن والكافر ونتائج أعمالهما وعاقبتهما.
    وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل ، بل بمعنى الوصف ، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والموَمن وعاقبتهما. فليس هناك أي تشبيه


(247)
وتنزيل ، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة ، فالآية الا َُولى تشير إلى الكافر ونتيجة عمله ، والآية الثانية تشير إلى الموَمن و مصير عمله ، و الآية الثالثة تذكر علة الحكم ، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والموَمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.


(248)
محمد
48
التمثيل الثامن و الاَربعون
    ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَير آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ لِلشّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصفىً وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِوَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمعاءَهُمْ ). (1)
    تفسير الآية
    « آسن » يقال : أسن الماء ، يأسن : إذا تغير ريحه تغيراً منكراً ، وماء غير آسن : أي غير نتن.
    « الحميم » : الماء الشديد الحرارة.
    قوله : « مثل الجنة » أي وصفها وحالها ، وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي جنة فيها أنهار. فلو أردنا أن نجعل الآية من آيات التمثيل فلابدّ من تصور مشبه و هو الجنة الموعودة ، ومشبه به وهو جنة الدنيا بما لها من الخصوصيات.
    ولكن الظاهر انّ الآية صيغت لبيان حال الجنة ووصفها وسماتها ، وهي كالتالي :
    1 ـ محمد : 15.

(249)
    1. فيها أنهار أربعة وهي عبارة عن :
    أ : ( أنهار من ماء غير آسن ) أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول البقاء.
    ب : ( أنهار من لبن لم يتغير طعمه ) ، ولا يعتريها الفساد بمرور الزمان.
    ج : أنهار من خمر لذة للشاربين ، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا ، و قد وصف القرآن الكريم خمر الجنة في آية أُخرى ، وقال : ( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأسٍ مِنْ مَعِين * بَيضاءَ لَذّةٍ للشّارِبينَ * لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُون ). (1) فقوله : ( لذّة للشاربين ) أي ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة ، فقوله : ( لا فيها غول ) ، أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، وقوله : ( ولا هم عنها ينزفون ) أي يسكرون. وبذلك يمتاز خمر الآخرة على خمر الدنيا.
    د : أنهار من عسل مصفّى وخالص من الشمع.
    وهذه الاَنهار الاَربعة لكلّ غايته و غرضه : فالماء للارتواء ، و الثاني للتغذّي ، والثالث لبعث النشاط والروح ، والرابع لاِيجاد القوة في الاِنسان.
    2. وفيها وراء ذلك من كلّ الثمرات ، كما قال سبحانه : ( وَلَهُمْ فيها مِنْ كُلّ الثَّمرات ) فالفواكه المتنوعة تحت متناول أيديهم لا عين رأتها و لا أُذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.
    3. وفيها وراء هذه النعم المادية ، نعمة معنوية يشير إليها بقوله : ( وَمَغْفِرة مِنْ رَبّهِم ).

    1 ـ الصافات : 45 ـ 47.

(250)
    وبذلك تبيّن لنا وصف الجنة وحال المتقين فيها ، بقي الكلام في تبيين حال أهل الجحيم ومكانهم ، فأشار إليه بقوله :
    ( كمن هُوَ خالِدٌ في النّار ) هذا وصف أهل الجحيم ، وأمّا ما يرزقون فهو عبارة عن الماء الحميم لا يشربونه باختيارهم وإنّما يسقون ، ولذلك يقول سبحانه : ( وسقوا ماءً حميماً ) الذي يقطّع أمعاءهم كما قال : ( فقطّع أمعاءهم ).
    وعلى كلّ تقدير ، فلو قلنا : إنّ الآية تهدف إلى تشبيه جنة الآخرة بجنة الدنيا التي فيها كذا وكذا فهو من قبيل التمثيل ، وإلاّ فالآية صيغت لبيان وصف جنة الآخرة وانّ فيها أنهاراً وثماراً ومغفرة.
    والظاهر هو الثاني ، فالاَولى عدم عدّ هذه الآية من الاَمثال القرآنية وإنّما ذكرناها تبعاً للآخرين.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس