مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 1 ـ 10
مفاهيم القرآن
الجزء التاسع
دراسة
الأقسام
في القرآن الكريم
تأليف
العلاّمة
جعفر السبحاني


(5)
بسم اللّه الرحمن الرحيم
القرآن والآفاق اللامتناهية
     الحمد للّه الذي علّم بالقلم ، علّم الاِنسان مالم يعلم ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا محمّد خير من طاف الأرض وحكم ، وعلى آله الأئمّة السادة هداة الأُمّة إلى الطريق الأقوم.
     نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين هادياً للاِنسان ومنيراً له طريق السعادة ، وقد وضع علماء الاِسلام علوماً جمة لفهم حقائقه وكشف أسراره ومعانيه ، وعلى الرغم من ذلك ، لم يزل المفسرون في كلّ عصر يستخرجون منه حقائق غفل عنها الأقدمون ، وكأنّ الاِنسان أمام بحر موّاج بالحقائق العلمية لا يُدرك غوره ولا يتوصل إلى أعماقه ، ولا يمكن لأحد الاِحاطة بأسراره وعجائبه.
     وكأنّ القرآن هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الذي لم يزل يبحث عن أسراره الباحثون ، وهم بعد في الأشواط الأُولى من الوقوف على حقائقه الكامنة. ولا غروَ أن يكون الكتاب العزيز كذلك أيضاً ، لأنّه كتاب صدر من لدن حكيم عليم لا نهاية لوجوده وعلمه ، فيجب أن يكون كتابه المنزّل رشحة من رشحات وجوده.
     وهذا هو متكلّم قريش وخطيبهم الوليد بن المغيرة المخزومي لمّا جلس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسمع شيئاً من آيات سورة غافر ، ذهب إلى


(6)
قومه ليبيّن موقفه من الكتاب ، وقال : واللّه قد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الاِنس ولا من كلام الجن ، وانّ له لحلاوة ، وانّ عليه لطلاوة ، وانّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وانّه ليعلو وما يعلى عليه. (1)
    فقد أدرك مُنطيق قريش بصفاء ذهنه ما يحتوي عليه القرآن من أسرار وكنوز.
     نعم ، قد سبقه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذلك حيث عَرّف القرآن ، بقوله :
     « له ظهر وبطن ، وظاهره حُكْم ، وباطنُه عِلْم ، وظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة ». (2)
    وقد أفاض الاِمام أمير الموَمنين ( عليه السلام ) في بيان أبعاد القرآن غير المتناهية ، وقال في خطبة يصف فيها القرآن بقوله : « أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ـ إلى أن قال : ـ و ينابيع العلم و بحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الاِسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ». (3)
    وقد أثبت توالي التأليف حول القرآن الكريم على مختلف الأصعدة ، انّه كتاب القرون والأعصار ، وحجّة خالدة للناس إلى يوم القيامة ، وقد استحوذ الكتاب العزيز على اهتمام بالغ لم يَحظ به أي كتاب آخر.
1 ـ مجمع البيان : 10/387.
2 ـ الكافي : 2/599 ، كتاب القرآن.
3 ـ نهج البلاغة : 2/202 ، طبعة عبده.


(7)
    إلماع إلى بعض آفاقه اللا متناهية
     إنّ من آفاق القرآن و معانيه السامية هو أقسامه ، فقد أقسم القرآن الكريم بأُمور مختلفة ربما يبلغ عدد أقسامه إلى أربعين حلفاً أو أكثر ، وتمتاز عن الأقسام الرائجة في العصر الجاهلي بأنّها انصبت على ذوات مقدسة أو ظواهر كونية ذات أسرار عميقة ، في حين امتاز القسم في العصر الجاهلي بالحلف بالمغاني والمدام (1).
    وجمال النساء ، إلى غير ذلك من الأُمور المادية الساقطة.
     حلف سبحانه في كتابه مضافاً إلى ذاته ، بالقرآن ، الملائكة ، النفس ، الشمس ، القمر ، السماء ، الأرض ، اليوم ، الليل ، القلم ، و غير ذلك من الموضوعات التي تحتوي على أسرار مكنونة ، ويصحّ في حقّها ، قوله سبحانه : ( وَانّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ). (2)
    ينقل السيوطي انّ أوّل من أفرد أقسام القرآن بالتأليف هو شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ( المتوفّى 751 هـ ) ولم يذكر كتاباً غيره ، ثمّ جمع السيوطي أقسام القرآن و جعله نوعاً من أنواع علومه ، فبحث عنها بحثاً موجزاً لا يتجاوز عن خمس صفحات. (3)
    وقال الكاتب الچلبي في « كشف الظنون » ـ بعد سرد ما قام به السيوطي ـ : وتبعه صاحب مفتاح الكرامة حيث أورده من فروع علم التفسير. (4)
    ولم نقف على كتاب مفرد حول أقسام القرآن في الأوساط الشيعية مع ما
1 ـ المدام والمدامة : الخمر.
2 ـ الواقعة : 78.
3 ـ الاِتقان في علوم القرآن : 4/46 ـ 51.
4 ـ كشف الظنون : 1/137 ـ 138.


(8)
فيها من بحوث هامة سوى ما ألّفه ولدي العزيز الروحاني الحائز على مقام الشهادة الشيخ أبو القاسم الرزاقي (1) تحت عنوان « سوگندهاى قرآن » ، و هو كتاب قيّم حافل بنقل الآراء حول القسم في القرآن ، وقد طبع في حياته بتقديم منّا تغمده اللّه برحمته وأسكنه فسيح جناته.
     ثمّ إنّ ابن قيم الجوزية وإن كان أوّل من ألّف ـ حسب ما نعلم ـ ولكن كتابه يعوزه المنهجية في البحث حيث لم يذكر الأقسام الواردة واحداً تلو الآخر حسب حروف التهجّي أو حسب سور القرآن ، وإنّما ذكر أقسام كلّسورة في فصل واحد.
     لكن ما ألّفه الشيخ الرزاقي خال من هذه النقيصة ، فانّه ألّف كتابه على نمط التفسير الموضوعي ، فجعل لكلّ حلف فصلاً خاصاً ، وذكر جميع الآيات الواردة في خصوص ذلك الحلف ، مثلاً ذكر الآيات التي أقسم اللّه فيها بنفسه في فصل خاص ، كما جمع ما أقسم اللّه فيه بالليل في سور و آيات مختلفة في مكان واحد.
     ولما كان ما ألّفه ابن قيم غير خال عن النقيصة ، كما أنّما ألّفه ولدنا البار لا ينتفع به القارىَ العربي لأنّه أُلّف باللغة الفارسية ، عزمت على تأليف مفرد في هذا الصدد بغية تعميم الفائدة.
     وأردفه إن شاء اللّه بالبحث عن أمثال القرآن.
1 ـ استشهد مع مجموعة من العلماء أثر إسقاط الطائرة التي كانت تقلّهم أثناء رحلة داخلية خلال الحرب العراقية الاِيرانية من قبل النظام البعثي الغاشم عام 1408 هـ / 1367 هـ.ش.

(9)
بحوث تمهيدية في أقسام القرآن
     إنّ البحث عن الأقسام الواردة في القرآن الكريم رهن استعراض أُمور في معنى القسم و ما يتبعه من المقسم به والمقسم عليه وأبحاث أُخرى ، فنقول :

    1. تفسير القسم
     إنّ لفظة القسم واضحة المعنى تعادل الحلف واليمين في لغة العرب ، ولها معادل في عامة اللغات وإنّما يوَتى به لأجل تأكيد الخبر والمضمون ، قال الطبرسي : القسم جملة من الكلام يوَكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب. (1)
    قال السيوطي : القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده ، حتى جعلوا مثل : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقينَ لَكاذِبُون ) (2) قسماً ، وإن كان فيه إخبار بشهادة ، لأنّه لمّا جاء توكيداً للخبر سمّي قسماً. (3)
    ولذلك نقل عن بعض الأعراب ، انّه لما سمع قوله تعالى : ( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالأَرْضِ انّهُ لحَقّ ). (4)
    صرخ وقال : من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين. (5)
1 ـ مجمع البيان : 5/225.
2 ـ المنافقون : 1.
3 ـ الاِتقان : 4/46.
4 ـ الذاريات : 22 ـ 23.
5 ـ الاِتقان : 4/46.


(10)
    2. أركان القسم
    إنّ القسم من الأُمور ذات الاِضافة وهو فعل فاعل مختار له إضافة إلى أُمور أربعة :
     أ. الحالف ، ب. ما يحلف به ، ج. ما يحلف عليه ، د. الغاية من القسم.
     أمّا الأوّل : فالحلف عبارة عن فعل الفاعل المختار ، فلا يصدر إلاّ منه سواء أكان واجباً كاللّه سبحانه أم ممكناً كالاِنسان وغيره.
     والذي يتناوله بحثنا في هذا الكتاب هو القسم الذي صدر عن الواجب في كتابه العزيز دون سواه.
     فلا نتعرض لما حلف به الشيطان في القرآن وقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعين ). (1)
    ثمّ إنّ أدوات القسم عبارة عن الأُمور الأربعة ، أعني : الباء والتاء والواو واللام ، وأمثلة الكل واضحة ، وأمّا الأخير فكقول الشاعر :
للّهِ لا يبقى على الأيام ذُو حيَدٍ بمُشمَخر به الطيّانُ والآسُ (2)
    وسيوافيك انّ حرف الباء يجتمع مع فعل القسم دون سائر الأدوات ، إذ يحذف فيها فعله ، أعني : أقسم.
     وأمّا الثاني ـ أي ما يحلف به ـ : فانّ لكلّ قوم ، أُموراً مقدّسة يحلفون بها ، وأمّا القرآن الكريم فقد حلَفَ سبحانه بأُمور تجاوزت عن الأربعين مقسماً به.
     وأمّا الثالث ـ أي ما يحلف عليه ـ : والمراد هو جواب القسم الذي يراد منه
1 ـ ص : 82.
2 ـ والحيد كعنب جمع حيدة وهو القرن فيه عقد ، والمشمخر الجبل العالي ، والطيّان الياسمين الصحرائي والآس شجر معروف.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس