وقال الاِمام علي أمير الموَمنين ( عليه السلام ) في وصف القرآن :
« ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً
لا يدرك قعره ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا
ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ». (1)
إلى غير ذلك من الخطب والكلم حول التعريف بالقرآن الواردة عن أئمّة
أهل البيت ( عليهم السلام ).
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 198.
حلف سبحانه بالعصر مرّة واحدة دون أن يقرنه بمقسم به آخر ، وقال :
( وَالعَصْر * إِنّ الاِِنْسان َلَفي خُسْر ). (1)
تفسير الآيات :
العصر يطلق ويراد منه تارة الدهر ، وجمعه عصور.
وأُخرى العشيّ مقابل الغداة ، يقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران
الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر.
وثالثة بمعنى الضغط فيكون مصدر عصرت. والمعصور الشيء العصر ،
والعُصارة نفاية ما يُعصر ، قال سبحانه : ( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (2) ، وقال : ( وفيهِ يَعْصِرُون ) (3)
، وقال : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (4) أي السُّحُب التي تعتصر بالمطر.
ورابعة بمعنى ما يثير الغبار ، قال سبحانه : ( فَأَصابَها إعصار ) (5)(6) والمراد
من الآية أحد المعنيين الأوّليين.
1 ـ العصر : 1 ـ 2. 2 ـ يوسف : 36. 3 ـ يوسف : 49. 4 ـ النبأ : 14. 5 ـ البقرة : 266. 6 ـ مفردات القرآن ، مادة عصر و مجمع البيان : 5/535.
(73)
الأوّل : الدهر والزمان.
الثاني : العصر مقابل الغداة.
ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع كما هو واضح.
وإليك بيان المعنيين الأوّلين.
1. العصر : الدهر ، وإنّما حلف به لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور
الليل والنهار ، وقد نسب ذلك القول إلى ابن عباس والكلبي والجبائي.
قال الزمخشري : وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. (1)
ولعلّ المراد من الدهر والزمان اللّذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ
البشرية ، وذلك لأنّه سبحانه جعل المقسم عليه كون الاِنسان لفي خسر إلاّ طائفة
خاصة ، ومن المعلوم أنّ خسران الاِنسان انّه هو من تصرم عمره ومضي حياته من
دون أن ينتفع بأغلى رأس مال وقع في يده ، وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة
نأتي بنصها :
قال : وعن بعض السلف ، تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ،
ويقول : ارحموا من يذوب رأس ماله ، ارحموا من يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا
معنى أنّ الاِنسان لفي خسر يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو
خاسر. (2)
2. العصر : أحد طرفي النهار ، وأقسم بالعصر كما أقسم بالضحى ، وقال :
( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (3) كما أقسم بالصبح ، وقال : ( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (1) ،
1 ـ الكشاف : 3/357. 2 ـ تفسير الفخر الرازي : 32/85. 3 ـ الضحى : 1 ـ 2.
(74)
وإنّما أقسم بالعصر لأهميته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام
المعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليومية تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ
الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الاِنسان إلى
الراحة.
وهناك قولان آخران :
أ : المراد عصر الرسول ، ذلك لما تضمنته الآيتان التاليتان من شمول
الخسران للعالم الاِنساني ، إلاّ لمن اتبع الحقّ وصبر عليه ، وهم الموَمنون
الصالحون عملاً ، وهذا يوَكد على أن يكون المراد من العصر عصر النبي « صلى الله
عليه وآله وسلم » ، وهو عصر بزوغ نجم الاِسلام في المجتمع البشري وظهور
الحقّ على الباطل.
ب : المراد به وقت العصر ، وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسم بها ، لفضلها
بدليل ، قوله : ( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (2) كما قيل أنّ المراد من
قوله تعالى : ( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (3) هو صلاة العصر.
أضف إلى ذلك انّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبة
يختم بها الأعمال.
ولا يخفى انّ القول الأخير في غاية الضعف ، إذ لا صلة بين القسم بصلاة
العصر والمقسم عليه ، أعني ( الاِِنْسان لفي خُسر ) على أنّه لو كان المقسم به هو
صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه ، وحذف المضاف مع عدم توفر قرينة
عليه ، ومنه يظهر حال الوجه المتقدّم عليه.
1 ـ المدثر : 34. 2 ـ البقرة : 238. 3 ـ المائدة : 106.
(75)
والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ، حيث إنّ الحلف بالزمان وتاريخ
البشرية يتناسب مع الجواب ، أي خسران الاِنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه.
وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ الاِِنْسانَ لَفي خُسْر ) والمراد من
الخسران هو مضي أثمن شيء لديه وهو عمره ، فالاِنسان في كلّ لحظة يفقد رأس
ماله بنحو لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سنة الحياة الدنيوية حيث ينصرم عمره
ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأي خسران أعظم من
ذلك.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فأوضح من أن يخفى ، لأنّ حقيقة
الزمان حقيقة متصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر
الاِنسان فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج.
ثمّ إنّه سبحانه استثنى من الخسران من آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق
وتواصى بالصبر.
ووجه الاستثناء واضح. لأنّه بدّل رأس ماله بشيء أغلى وأثمن ، يستطيع أن
يقوم مقام عمره المنقضي فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة
برضوانه سبحانه ، ونعمه المادية والمعنوية.
يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُوَْمِنينَ َأَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتلونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوراةِ وَالاِِنْجيلِ وَالقُرآنِ وَمَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوزُ الْعَظيم ). (1)1 ـ التوبة : 111.
وردت كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور ، (1) وحلف به
مرة واحدة ، وقال : ( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (2) هي من السور المكية.
تفسير الآيات
النجم في اللغة : الكوكب الطالع ، وجمعه نجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب
والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب.
وأمّا « هوى » في قوله : ( إِذا هَوى ) فيطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ،
وأُخرى على السقوط من علو إلى سفل.
ولكن تفسيره بسقوط النجم وغروبه ، لا يساعده اللفظ ، وإنّما المراد هو
ميله ، وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى أي إذا مالَ.
ثمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :
أ : أمّا مطلق النجم ، فيشمل كافة النجوم التي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه
ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الاِحاطة بها.
1 ـ وهي : النحل : 16 ، النجم : 1 ، الرحمن : 6 ، الطارق : 3. 2 ـ النجم : 1 ـ 4.
(77)
ب : المراد هو نجم الشعرى الذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه : ( وَانَّهُ
هُوَ رَبُّ الشِّعرى ). (1)
ونظيره القول بأنّ المراد هو الثريا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستة منها
واضحة وواحد خافت النور ، وبه يختبر قوة البصر.
وربما فسر بالقرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه « صلى الله عليه وآله
وسلم » طيلة 23 سنة لنزوله نجوماً. (2) لكن لفظ الآية لا يساعد على هذا المعنى.
فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامة النجوم أو بنجم خاص يهتدي به السائر ،
ويدل على ذلك أنّه قيد القسم بوقت هويه ، ولعل الوجه هو أنّ النجم إذا كان في
وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق
من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيّن بزواله جانب المغرب من
المشرق. (3)
وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما
ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّوَحيٌ يُوحى ).
جمع سبحانه هناك بين الضلال والغي فنفاهما عن النبي « صلى الله عليه
وآله وسلم » ، والقرآن يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا
الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (4)
كما يستعمل الغي في مقابل الرشد ، يقول سبحانه : ( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ 1 ـ النجم : 49. 2 ـ انظر الميزان : 19/27 مجمع البيان : 5/172. 3 ـ تفسير الفخر الرازي : 28/279. 4 ـ المائدة : 105.
(78)
لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ). (1)
والمهم بيان الفرق بين الضلالة والغواية ، فنقول :
ذكر الرازي أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية
أن لا يكون له طريق مستقيم إلى المقصد ، يدلّك على هذا انّك تقول للموَمن
الذي ليس على طريق السداد ، انّه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضال. والضال
كالكافر والغاوي كالفاسق. (2)
وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهل من اعتقاد فاسد ، وذلك أنّ
الجهل قد يكون من كون الاِنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد
يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني ، يقال له : غيّ. (3)
وعلى هذا فالآية بصدد بيان نفي الضلالة والغي عن النبي « صلى الله عليه
وآله وسلم » وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنه « صلى
الله عليه وآله وسلم » ليردّ به التهم الموجهة إليه من جانب أعدائه.
وأمّا بيان الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ
النجم عند الهوي والميل يهتدي به الساري كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي بقوله
وفعله وتقريره.
فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينية ، وهكذا لا خطأ في
هداية الوحي الموحى إليه ، ولذلك قال : ( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ).
1 ـ الأعراف : 146. 2 ـ تفسير الفخر الرازي : 28/280. 3 ـ مفردات الراغب : 369.
حلف سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا
يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ). (1)
تفسير الآيات
المراد من مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب.
قال الراغب : الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، يقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى
ذلك يراد منه مطالعها ومغاربها ، يقال : مواقع الغيث أي مساقطه. (2)
ويدل على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها أنّ اللّه سبحانه يقسم
بالنجوم وطلوعها وجريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ،
كما في قوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (3) وقال : ( وَالنَّجْم إِذا
هَوى ) وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب ) ويرجح هذا القول أيضاً ، انّ
النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى : ( وَإدْبار1 ـ الواقعة : 75 ـ 79. 2 ـ مفردات الراغب : 530 ، مادة وقع. 3 ـ التكوير : 15 ـ 16.
(80)
النُّجوم ) (1) صخ ، وقوله : ( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم (2)).
وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون *
لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون ) وصف القرآن بصفات أربع :
أ : ( لقرآن كريم ) ، والكريم هو البهي الكثير الخير ، العظيم النفع ، وهو من
كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله أعني القرآن مثله.
وقال الأزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد ، فاللّه كريم يحمد فعاله ،
والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
ب : ( في كتاب مكنون ) ولعل المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة
قوله : ( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ). (3) ويحتمل أن يكون المراد الكتاب
الذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه : ( في صُحُفٍ مُكَرَّمَة * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرة * بِأَيدِي سَفَرَة * كِرامٍ بَررَة ). (4)
ج : ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله : ( لقرآن كريم ) ،
كما هو المتبادر ، لأنّ الآيات بصدد وصفه وبيان منزلته فلا يمس المصحف إلاّ
طاهر ، فيكون الاِخبار بمعنى الاِنشاء ، كما في قوله سبحانه : ( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ). (5)
ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتاب مكنون ) فيكون المعنى لا يمس
1 ـ الطور : 49. 2 ـ الحج : 18. 3 ـ البروج : 21 ـ 22. 4 ـ عبس : 13 ـ 16. 5 ـ البقرة : 228.