مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 121 ـ 130
(121)
     وأمّا الصلة بين المقسم عليه أعني قوله : « لتبعثن » والحلف « بالنفس اللوامة » فهي ظهور اللوم من هذه النفس يوم القيامة ، فانّ نفس الكافر لا تلومه في الدنيا إلاّ قليلاً ، في حين يتجلّى اللوم ويتجسّد يوم القيامة أكثر فأكثر.
     وأمّا كرامة النفس اللوامة فواضحة جداً ، لأنّها تردع الاِنسان عن اقتراف الذنوب ، ولا يمكن خداعها ، وهي يقظة تزجر الاِنسان دائماً بالنسبة إلى ما عمله وقصده.
     إنّ إبراهيم لما حطّم الأصنام وجعلها جذاذاً إلاّكبيراً لهم لعل القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيتها ، فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم أحضروه للاقتصاص منه ، وخاطبوه بقولهم : ( أأنت فعلت هذا بآلهتنا ) ، فأجابهم إبراهيم : ( بل فَعَلَهُ كَبيرهُم ) ، ثمّ أمرهم بسوَاله عن الجريمة التي ارتكبها ، فبهُت الجمع من هذا السوَال وظلوا صامتين لعجزهم عن الاِجابة ، فعندئذ تبين لهم أنّ مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد ، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الذي اختطوه ، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا انّها غير خليقة بالعبادة والخضوع ، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله : ( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون ) أي خاطبوا أنفسهم بالظلم ، فكأنّه قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون مالا يقدر عن الدفع عن نفسه وما نرى الأمر إلاّكما قال هذا الفتى.
     هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الاِنسان عن ارتكاب الذنوب.
     وهذا الذي يسمّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي ، ويصفون الوجدان محكمة لا تحتاج إلى قاض سوى النفس ، وهي التي تقوم بتأسيس


(122)
المحكمة ، وتشخص المجرم ، وتصدر الحكم بلا هوادة ، ودون أي تهاون.
     وفي الآيات القرآنية الأُخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس ، يقول سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ). (1)
     يقول الاِمام الصادق في تفسير الآية : « بيّن لها ما تأتي وما تترك ». (2)
     إنّ اللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الأُمور وشرّها ، فلو لم تكن عالمة من ذي قبل لم تصلح للوعظ ولا للزجر ، ولأجل ذلك ، يقول سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَينَين * وَلِساناً وَشَفَتَيْن * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين ). (3)
     يقول الاِمام الصادق ( عليه السلام ) : « هداه إلى نجد الخير والشر ». (4)
     ثمّ إنّ مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشر ، يقول الاِمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه فلا يسمع معروفاً إلاّ عرفه ولا منكراً إلاّ أنكره ». (5)
     نعم ، ما حباه اللّه سبحانه لكلّ إنسان من النفس اللوامة ، كرامة ونعمة عظيمة ، حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح والخير من الشر ، ولكنّه لو مارس الشرّ مدّة لا يستهان بها ربما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير والشر بالشر ، بل ربما يرى الشر خيراً والخير شراً ، وذلك فيما إذا زاوله الاِنسان كثيراً بنحو ترك بصماته على روحه ونفسه وقضائه وتفكيره ، وقد أشار سبحانه إلى أنّ قبح وأد البنات وقتل الأولاد ـ لأي غاية من الغايات كانت ـ أمر يدركه كلّإنسان ، ولكن ترى أنّ بعض المشركين يستحسن عمله هذا ويعدّه من مفاخره
1 ـ الشمس : 7 ـ 8.
2 ـ الكافي : 1/163.
3 ـ البلد : 8 ـ 10.
4 ـ الكافي : 1/163.
5 ـ اثبات الهداة : 1/87.


(123)
وكراماته ، يقول سبحانه : ( وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُرَكاوَُهُمْ ). (1)
     فقد أثر الشركاء في عقول الوثنيين وتفكيرهم فصار القبيح حسناً والشر خيراً ، يقول سبحانه : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَناً فَإنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاء ). (2)
     وعلى هذا فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحق في جميع الظروف والحالات بل ربما يكون قضاوَها على خلاف ما هو الحقّ ، لا سيما فيمن يزاول الجرم طيلة عمره ، فربما يعود في آخر عمره يتنكر لجميع المقدسات ويسيطر فعله القبيح على آفاق فكره وإيمانه ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساءُوا السُّوأى أن كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ ). (3)

    مراتب النفس في الذكر الحكيم
     إنّ القرآن الكريم جعل للنفس الاِنسانية مراتب :
     1. النفس الأمّارة ، 2. النفس اللوّامة ، 3. النفس المطمئنة ، 4. النفس الراضية المرضية ، وإليك وصف هذه المراتب بنحو موجز :

    1. النفس الأمّارة
     إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات ، فليس للاِنسان أن يبرّىَ
1 ـ الأنعام : 137.
2 ـ فاطر : 8.
3 ـ الروم : 10.


(124)
نفسه من الميل إلى السوء ، وإنّما له أن يكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر وذلك برحمة من اللّه سبحانه ، يقول سبحانه نقلاً عن يوسف ( عليه السلام ) : ( وَما أُبَرِّىَُ نَفْسِي إِنَّ النَّفس لأَمّارةٌ بالسُوء إِلاّمَا رَحِمَ رَبّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيم ). (1)
     فما أبرأ يوسف نفسه عن أمرها بالسوء ، وإنّما كفّها عن ارتكاب السوء ، لأنّ النفس طبعت على حب الشهوات التي تدور عليها رحى الحياة.
     والأخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل ، وجعلها في مسير السعادة وحفظها عن الاِفراط و التفريط ، فالمادية نادت بالانصياع لرغبات اللّذات مهما أمكن ، والرهبانية نادت بكبح جماح اللذات والشهوات والعزوف عن الحياة واللوذ في الكهوف والأديرة ، ولكن الاِسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما ، ففي الوقت الذي يدعو إلى أكل الطيّبات ويندّد بمن يحرّمها ، ويقول : ( قُلْمَنْ حَرَّمَ زِينَة اللّهِ الّتي أَخْرجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيّباتِ مِنَ الرِّزْق ). (2) يأمر بكبح جماح النفس عن ارتكاب المعاصي والسيئات التي توجب الفوضى في المجتمع وتسوقه إلى الانحلال الأخلاقي.

    2. النفس اللوّامة
     النفس اللوامة وهي الضمير الذي يوَنّب الاِنسان على ما اقترفه من السيئات و الآثام خصوصاً بعد ما يفيق من سكراتها فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه وإنابة إلى الحقّ ، وهذا يدل على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات ،
1 ـ يوسف : 53.
2 ـ الأعراف : 32.


(125)
وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحقّ والعدل ، ولكلّ تجلّ ـ ي خاص ، فانّ غلبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل فيقترف المعاصي والآثام ، ولكنّه ما إن تخمد شهوته ، حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرات اللّذة فتستيقظ النفس اللوامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حد ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار ، لعدم تحمله وطأة تلك الجريمة.
     وهذه النفس حيّة يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.

    3. النفس المطمئنّة
     وهي النفس التي توصلها النفس اللوّامة إلى حد لا تعصف بها عواصف الشهوة ، وتطمئن برحمة الرب وتحس بالمسوَولية الموضوعة على عاتقها أمام اللّه وأمام المجتمع ، يقول سبحانه : ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّة ) (1) فصاحب هذه النفس يمتلىَ بالسرور والفرح عند الطاعة وتجد في صميمها لذة للطاعة وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان.
     وبعبارة أُخرى : النفس المطمئنّة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر ، ويرى الدنيا دار مجاز ، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ، ابتلاء وامتحاناً إلهياً ، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان ، وإكثار الفساد ، والعلو والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر ، بل هو في مستقر من العبودية لا
1 ـ الفجر : 27 ـ 28.

(126)
ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط. (1)
     وهناك كلمة قيمة للحكيم محمد مهدي النراقي حول واقع النفوس الثلاث ، يقول :
     والحقّ انّها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الأُخر ، وصارت منقادة لها مقهورة منها ، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سمّيت « مطمئنة » ، لسكونها حينئذٍ تحت الأوامر والنواهي ، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها ، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع ، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سمّيت « لوامة ». وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت « أمّارة بالسوء » لأنّه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة ، فكأنّما هي الآمرة بالسوء. (2)

    4. النفس الراضية المرضية
     وهي النفس المتكاملة الراضية من ربّها رضى الرب منها ، واطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً ، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية ، وإذا رضى العبد من ربّه ، رضى الرب منه ، إذ لا يسخطه تعالى إلاّ خروج العبد من زي العبودية ، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربّه ولذا عقب قوله : « راضية » بقوله : « مرضية ».
     قوله تعالى : ( فَادْخُلِي فِي عِبادي * وَادْخُلي جَنّتي ) تفريع على قوله : ( ارجعي إِلى رَبِّكِ ) وفيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد
1 ـ الميزان : 20/285.
2 ـ جامع السعادات : 1/63 ـ 64.


(127)
اللّه حائز مقام العبودية ، وذلك انّه لما اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضى بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدر وقضى ، ولا فيما أمر ونهى ، إلاّ ما أراده ربّه ، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ، ففي قوله : ( فَادْخُلي في عِبادي ) تقرير لمقام عبوديتها.
     وفي قوله : ( وادْخُلي جَنَّتي ) تعيين لمستقرها ، وفي إضافة الجنة إلى ضمير المتكلم تشريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلاّ في هذه الآية. (1) هذا كلّه حول المقسم به.
     وأمّا المقسم عليه : فهو محذوف معلوم بالقرينة أي « لتبعثنّ » وإنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره ، قال تعالى : ( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتيكُمْ إِلاّبَغْتَة ) (2) وقال : ( إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخفِيها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (3) ، وقال : ( عَمّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ العَظيم ) (4). (5)
     وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فواضح ، فانّ الاِنسان إذا بعث يوم القيامة يلوم نفسه لأجل ما اقترف من المعاصي ، إذ في ذلك الموقف الحرج تنكشف الحجب ويقف الاِنسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا ، فيندم على ما صدر منه قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الأَرْضِ لأفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (6) ، وقال سبحانه : ( وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَروا بَلْ مَكْرُ اللَّيلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نكفُرَ باللّهِ وَنَجْعل لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَة لَمّا رَأَوا العَذابَ وَجَعَلْنَا الأَغلالَ في أَعْناقِ الَّذينَ كَفَرُوا هَل يُُجْزونَ إِلاّ ما كانوا يَعْمَلُونَ ). (7)
     وبالجملة فيوم القيامة يوم الندم والملامة ، ولات حين مناص.
1 ـ الميزان : 20/286.
2 ـ الأعراف : 187.
3 ـ طه : 15.
4 ـ النبأ : 1 ـ 2.
5 ـ الميزان : 20/104.
6 ـ يونس : 54.
7 ـ سبأ : 33.


(128)
    الفصل الثامن
القسم في سورة المرسلات
     لقد حلف سبحانه بأوصاف الملائكة ، وقال :
     أ : ( وَالمُرسَلاتِ عُرْفاً ).
     ب : ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً ).
     ج : ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً ).
     د : ( فَالفارِقاتِ فَرْقاً ).
     ه ـ : ( فَالْمُلْقِيات ِذِكراً * عُذْراً أو نُذْراً * إِنَّما تُوعَدونَ لَواقعٌ ). (1)
     حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها ب ـ : « المرسلات ، فالعاصفات ، والناشرات ، فالفارقات ، فالملقيات ذكراً عذراً أونذراً.
     وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير هذه الأقسام ، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المرسلة العاصفة الناشرة ، بيد أنّ وحدة السياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات ، فنقول :
     1. ( المُرْسَلاتِ عُرفاً ) أي أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي ، والعرف ـ بالضم فالسكون ـ الشعر الثابت على عنق الفرس ويشبه به الأُمور إذا تتابعت يقال جاءُوك كعرف الفرس ، يقول سبحانه : ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ
1 ـ المرسلات : 1 ـ 7.

(129)
بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) (1) ، ومع ذلك فقد فسر بالرياح المرسلة المتتابعة.
     2. ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً ) والعصف هو سرعة السير ، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها ، والمراد اقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.
     ومع ذلك فسر بالرياح الشديدة الهبوب.
     3. ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً ) قسم آخر ، والمراد نشر الصحيفة والكتاب ، والمعنى أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليتلقاه ، ومع ذلك فقد فسّرت بالرياح التي تنشر السحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر.
     4. ( فَالفارِقات فَرقاً ) المراد به الملائكة الذين يفرقون بين الحقّ والباطل والحلال والحرام ، وذلك لأجل حمل الوحي المتكفّل ببيان الحقّ والباطل ومع ذلك فقد فسّر بالرياح التي تفرق بين السحاب فتبدّده.
     5. ( فَالْمُلْقياتِ ذِكراً ) المراد به الملائكة ، تلقي الذكر على الأنبياء وتلقيه الأنبياء إلى الأُمم.
     وعلى ذلك فالمراد بالذكر هو القرآن يقرأونه على النبي ، أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المتلو عليهم.
     ثمّ يبّن انّ الغاية من إلقاء الوحي أحد الأمرين إمّا الاِعذار أو الاِنذار ، والاِعذار الاِتيان بما يصير به معذوراً ، والمعنى انّه يلقون الذكر لتكون عذراً لعباده الموَمنين
1 ـ النحل : 2.

(130)
بالذكر وتخصيصاً لغيرهم.
     وبعبارة أُخرى يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجة على المكذبين وتخويفاً لغيرهم ، هذا هو الظاهر من الآيات.
     وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) وما موصولة والخطاب لعامة البشر ، والمراد إنّما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب أمر قطعي وواقع وإنّما عبر بواقع دون كائن ، لأنّه أبلغ في التحقّق.
     ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه واضحة ، لأنّ أهم ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الاِيمان بالبعث والنشور ، ويوَيد ذلك قوله ( عذراً أو نذراً ) أي إتماماً للحجة على الكفار وتخويفاً للموَمنين كل ذلك يدل على معاد قطعي الوقوع يحتج به على الكافر ويجزي به الموَمن.
     وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي ، حيث يقول : من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست انّها مع ما تتضمن الاِقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود ، فانّ التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم ، أعني : إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تدبير لا يتم إلاّمع وجود التكليف الاِلهي والتكليف لا يتم إلاّمع تحتم وجود يوم معه للجزاء يجازي فيه العاصي والمطيع من المكلفين.
     فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هوبعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل : اقسم بهذه الحجّة انّ مدلولها واقع. (1)
1 ـ الميزان : 20/147.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس