مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 131 ـ 140
(131)
    الفصل التاسع
القسم في سورة النازعات
     حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات ، وقال :
     ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً ).
     ( وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً ).
     ( وَالسّابِحاتِ سَبْحاً ).
     ( فَالسّابِقاتِ سَبْقاً ).
     ( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرِّاجِفَةُ * تَتْبَعُها الرّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَومَئذٍ واجِفَةٌ * أَبْصارُها خاشِعَةٌ ). (1)
     حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها ب ـ : النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المدبرات.
     النازعات من النزع ، يقال : نزع الشيء جذبه من مقره ، كنزع القوس عن كنانته.
     والناشطات من النشط وهو النزع أيضاً ، ومنه حديث أُمّ سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها ، أي نزعها ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذاخرج.
1 ـ النازعات : 1 ـ 9.

(132)
     والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء ، ويقال : سبح سبحاً وسباحة ، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس.
     والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.
     وأمّا الغرق اسم أُقيم مقام المصدر ، وهو الاِغراق ، يقال : غرق في النزع إذا استوفى في حدّ القوس وبالغ فيه.
     هذه هي معاني الألفاظ ، وأمّا مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة ، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر ، قال الزمخشري : أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أُمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم. (1)
     والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثنّ يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.
     ولا يخفى انّ الطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الأُولى ، فالملائكة الذين ينزعون الأرواح من الأجساد هم الذين ينشطون الأرواح ويخرجونها ، ولكن يمكن التفريق بينهما ، بأنّ الطائفة الأُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكفار من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقاً ، وقد عرفت معناه ، وأمّا الناشطات هم الموكلون بنزع أرواح الموَمنين برفق وسهولة.
     والسابحات هم الملائكة التي تقبض الأرواح فتسرع بروح الموَمن إلى الجنة ، وبروح الكافر إلى النار ، والسبح الاِسراع في الحركة ، كما يقال : للفرس سابح إذا أسرع في جريه.
1 ـ الكشاف : 3/308.

(133)
     والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح الموَمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار.
     فالمدبرات أمراً المراد مطلق الملائكة المدبرين للأُمور ، ويمكن أن يكون قسم من الملائكة لكلّ وظيفة يقوم بها ، فعزرائيل موكل بقبض الأرواح وغيره موكل بشيء من التدبير.
     ثمّ إنّ الأشد ، انطباقاً على الملائكة ، هو قوله : ( فالمدبرات أمراً ) ، وهو قرينة على أنّ المراد من الأخيرين هم الملائكة ، وبذلك يعلم أنّ سائر الاحتمالات التي تعجّ بها التفاسير لا يلائم السياق ، فحفظ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة.
     وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي :
     المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفّار ، وبالناشطات الوحش ، وبالسابحات السفن ، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال ، وبالمدبرات الأفلاك ، ولا يخفى انّه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقسم وما جاء بعده من الآيات التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.
     والآيات شديدة الشبه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافات والمرسلات ، والظاهر انّ المراد بالجميع هم الملائكة.
     يقول العلاّمة الطباطبائي : وإذ كان قوله : ( فالمدبرات أمراً ) مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله : ( فَالسّابِقاتِ سَبْقاً ) مقروناً بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح ، دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث : ( وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً *


(134)
فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) فمدلولها أنّهم يدبرون الأمر بعدما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول ، فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره. (1)

    تدبير الملائكة
     إنّ القرآن الكريم يعرّف اللّه سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من مراتبه فله الخلق والتدبير ، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير يدبرون الأُمور بإرادته ومشيئته ، ويوَدّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود ، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على أنّهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السوَال ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنّة والنار.
     كما أنّهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد الموَمنين.
     وبالجملة هم ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون ) (2)
     فاللّه سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم ، فيقبض الأرواح بواسطتهم ، وينزل الوحي بتوسيطهم ، وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد ، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره. (3)
     قال أمير الموَمنين ( عليه السلام ) في حقّ الملائكة : فمنهم سجود لا
1 ـ الميزان : 20/181.
2 ـ الأنبياء : 26 ـ 27.
3 ـ الميزان : 20/188 ، نقل بتلخيص.


(135)
يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافُّون لا يتزايلون ، ومسبِّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نومُ العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النِّسيان ، ومنهم أُمناءُ على وحيه ، وألسنة إلى رُسُله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظةُ لعباده والسَّدنَة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السُّفلى أقدامُهُم ، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم ، والخارجة من الأقطار أركانُهم ، والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم ، متلفِّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم و بين من دونهم حُجُب العزَّة وأستار القدرة ، لا يتوهَّمون ربَّهم بالتَّصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدُّونه بالأماكن ، ولا يُشيرون إليه بالنَّظائر. (1)
     وقد عرفت أنّ المقسم عليه هو كتبعثن ، وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، هو ما قدمناه في الفصل السابق وهي انّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم وتدبيره لم يكن سدى ولا عبثاً بل لغاية خاصة وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا.
1 ـ نهج البلاغة : 19 ـ 20 ، الخطبة الأُولى.

(136)
    الفصل العاشر
القسم في سورة التكوير
     قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث ، مضافاً إلى الليل المدبر ، والصبح المتنفس ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مطاعٍ ثَمَّ أَمِين ). (1)

    تفسير الآيات
     أشار سبحانه إلى الحلف الأوّل ، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث بقوله :
     الخُنَّس ، الجوار ، الكنس.
     كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر ، بقوله : ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَس ).
     وإلى الثالث أي الصبح المتنفس بقوله : ( والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّس ).
     وجاء جواب القسم في قوله : ( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) فوصف الرسول بصفات خمس : كريم ، ذي قوة ، عند ذي العرش مكين ، مطاع ، ثم أمين.
     فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ثمّ نعرج إلى بيان الرابطة بين المقسم به
1 ـ التكوير : 15 ـ 21.

(137)
والمقسم عليه.
     أمّا الحلف الأوّل فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة.
     فقد ذكر سبحانه أوصافاً ثلاثة :
     الأوّل : الخنس : وهو جمع خانس كالطُلَّب جمع طالب ، فقد فسره الراغب في مفراداته بالمنقبض ، قال سبحانه : ( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الخَنّاس ) أي الشيطان الذي يخنس ، أي ينقبض إذا ذكر اللّه تعالى.
     وقال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس ) أي بالكواكب التي تخنس بالنهار.
     وقيل : الخنس من زحل والمشتري والمريخ ، لأنّها تخنس في مجراها أي ترجع ، واخنست عنه حقه أي أخرته. (1)
    فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخر ، ولعلهما يرجعان إلى معنى واحد ، فانّ لازم التأخر هو الانقباض.
     الثاني : الجوار : جمع جارية ، والجري السير السريع مستعار من جري الماء.
     قال الراغب : الجري ، المرّ السريع ، وأصله كمرِّ الماء.
     قال سبحانه : ( وَمِنْ آياتِهِ الجوارِ فِي البَحْرِ كَالأَعلام ) (2) أي السفينة التي تجري في البحر.
     الثالث : الكنس : جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه ، وهو كناية عن الاختفاء
     فالمقسم به في الواقع هي الجواري بما لها من الوصفين : الخنوس
1 ـ مفردات الراغب : مادة خنس.
2 ـ الشورى : 32.


(138)
والكنوس ، وكأنّه قال : فلا أقسم بالجوار الخنس والكنس ، فقد ذهب أكثر المفسرين أنّ المراد من الجواري التي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية ، والتي يمكن روَيتها بالعين المجردة ، وهي عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل و يطلق عليها السيارات المتغيرة.
     وتسمية هذه الخمسة بالسيارات والبواقي بالثابتات لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها ، إذ لاشك انّ الكواكب جميعها متحركات ، ولكن الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير متغيرة فتطلق عليها الثابتات ، ولو كانت متغيرة فتطلق عليها السيارات ، فهذه السيارات الخمسة تتغير فواصلها عن سائر الكواكب.
     إذا عرفت ذلك : فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس ، وقد فسرا بأحد وجهين :
     الأوّل : أنّها تختفي بالنهار ، وهو المراد من الخنّس ، وتظهر بالليل وهو المراد من الكنّس.
     يلاحظ عليه : أنّ تفسير خنس بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي ، أعني : الانقباض والتأخر إلاّ أن يكون كناية عن الاختفاء.
     كما أنّ تفسير الكنس بالظهور خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء ، وما ربما يقال : من أنّ ـ ها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظباء في كنسها (1)
     لا يخلو من إشكال ، فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها بل تختفي فيها.
     ولو سلمنا ذلك فالأولى أن يفسر الجواري بمطلق الكواكب لا الخمسة المتغيرة.
1 ـ تفسير المراغي : 30/57.

(139)
     الثاني : أن يقال : انّ خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثمّ هي تجري وتستمر في مجاريها ، وكنوسها عبارة عن قربها و تراجعها
     قال في اللسان : « وكنست النجوم كنساً ، كنوساً : استمرت من مجاريها ثم انصرفت راجعة. (1)
     وعلى ذلك فاللّه سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في الليل ، وهي انّها على أحوال ثلاثة.
     منقبضات حينما تقرب فواصلها ثمّ إنّها بالجري يبتعد بعضها عن بعض ، ثمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأُولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثمّ الرجوع إلى حالتها الأُولى.
     ( واللّيل إِذا عَسْعَس ) : وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله ، فإقبالها في أوّله وإدبارها في آخره.
     والظاهر انّ المراد هو إقبالها.
     قال الزجاج : عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر ، ولعل المراد هو الثاني بقرينة الحلف الثالث أعني ( وَالصُّبح إِذا تَنَفَّس ) ، والمراد من تنفس الصبح هو انبساط ضوئه على الأُفق ودفعه الظلمة التي غشيته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر :
حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا
     هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ
1 ـ لسان العرب : مادة كنس.

(140)
كَريم ).
     الضمير في قوله : ( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) يرجع إلى القرآن بدليل قوله : ( لقولُ رَسُولٍ ) والمراد من « رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول اللّه إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انّه أنزله على قلب سيد المرسلين. قال سبحانه : ( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّاً لِجِبْريلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه ) (1) وقال : ( نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين ). (2)
     ثمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ست :
     1. رسول : يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.
     2. كريم : عزيز بإعزاز اللّه.
     3. ذي قوة : « ذي قدرة وشدة بالغة ، كما قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوى ). (3)
     4. ( عِنْدَ ذِي الْعَرش مَكين ) : أي صاحب مكانة ومنزلة عند اللّه ، وهي كونه مقرباً عند اللّه.
     5. مطاع : عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.
     6. أمين : لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمّل من الوحي.
     وعطف على جواب القسم قوله : ( وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون ) (4) والمراد هو
1 ـ البقرة : 97.
2 ـ الشعراء : 193 ـ 194.
3 ـ النجم : 5 ـ 6.
4 ـ التكوير : 22.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس