كتاب ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام ::: 51 ـ 60
(51)
ومن ايجابيات الرضا بالقضاء الاستسلام للأمر الواقع وللحالة المطبقة بالانسان ، وهذا الاستسلام يمنعه من ردود الأفعال المتشنجة والصاخبة ضد الأفراد وضد المجتمع ككل ، فاذا عاش الفقر والحرمان فلا يحسد ولا يحقد ولا يعتدي على أموال الآخرين ، وإذا عاش الاهمال والحرمان فلا ينتقم لذاته ، وإذا عاش الفشل في مشاريعه فلا يلقي باللائمة على غيره بل هو في جميع هذه الحالات يميل إلى السعي والكدح لأجل تغيير حاله بطرق سليمة أقرّها الشرع ، والرضا بالقضاء يمنعه من الاستسلام للقلق والاضطراب وهما المرتع الخصب للخلق غير السوي وغير المستقيم.

المبحث الثاني :
طرق تقييم النفس ودورها في التربية
1 ـ تنمية الحياء
     الحياء عبارة عن الشعور بالانفعال والانكسار النفسي نتيجة للخوف من اللوم والتوبيخ من الآخرين ، وهو شعور تراعى فيه المثل والقيم والضوابط الاجتماعية ، ويسهم بشكل فعّال في ضمان تنفيذ القوانين والمنع من الاقدام على التجاوز والاعتداء ، وهو الذي يحصن الانسان من جميع ألوان الانحراف والرذيلة.
     قال أمير المؤمنين عليه السلام : « الحياء لباس سابغ ، وحجاب مانع ، وستر من المساوئ واقٍ ، وحليف للدين ، وموجب للمحبة ، وعين كالئة تذود عن الفساد ، وتنهى عن الفحشاء » (1).
1 ـ شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : 20 / 272.

(52)
     وللحياء آثار تربوية ايجابية جاءت في حديث أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال :
     1 ـ « الحياء مفتاح كل خير ».
     2 ـ « الحياء يصدُّ عن فعل القبيح ».
     3 ـ « ثمرة الحياء العفّة ».
     4 ـ « من كساه الحياء ثوبه خفي عن الناس عيبه » (1).
     وقال الامام جعفر الصادق عليه السلام : « فلولاه لم يقرَ ضيف ، ولم يوف بالعداة ، ولم تقض الحوائج ، ولم يتحر الجميل ، ولم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء ، حتى أنّ كثيراً من الأمور المفترضة أيضاً انما يفعل للحياء ، فانّ من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ، ولم يصل ذا رحم ، ولم يؤدّ أمانة ، ولم يعفّ عن فاحشة » (2).
     والحياء الايجابي هو الحياء من : الله تعالى ، والنفس ، والمجتمع ، والقانون ، والذي يحقق آثاراً صالحة في الفكر والسلوك ، قال الامام موسى الكاظم عليه السلام : « استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم » (3).
     وقال عليه السلام : « رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء ، فحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وذكر الموت والبلى ، وعلم انّ الجنّة محفوفة بالمكاره ، والنار محفوفة بالشهوات » (4).
     وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « غاية الأدب أن يستحي الانسان من نفسه » (5).
1 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 257.
2 ـ بحار الأنوار / المجلسي : 2 / 25.
3 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 293.
4 ـ المصدر السابق نفسه : ص 291.
5 ـ شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : 20 / 265.


(53)
     فالحياء من الله تعالى ومن النفس يردع الانسان عن الانحراف الخفي وغير المعلن ، والحياء من المجتمع والقانون يردعه عن الانحراف العلني والمخفي معاً خوفاً من انكشافه أمام الملأ.
     والحياء له دوران : الأول الصد عن العمل القبيح والشائن ، والثاني التخلق بالأخلاق الحسنة والصالحة وخصوصاً في العلاقات الاجتماعية ، وبه ترعى حقوق الآخرين.

2 ـ تنمية الضمير
     الضمير هو الرادع الداخلي الذي يقدر ما هو حسن وما هو قبيح ، فيساعد الانسان على اتخاذ السلوك والقرار الصالح والسليم ، والتخلي عن السلوك والقرار المخالف للقواعد الصالحة والضوابط الاجتماعية السليمة.
     ويرى الباحثون في حقول التربية وعلم النفس أنه (لا الفكر ولا المنطق يأمران الانسان بالتصرف ، هما أداتان تمكنان الانسان من الوصول الى هدف ما ، الضمير هو الآمر ، والفكر هو المنفّذ ... ويرى نيومن انّ الانسان يفضل التصرّف الخاطئ على الصواب إذا رضي ضميره ، ولو دلّه المنطق إلى خطأ عمله وأرشده إلى الصواب) (1).
     وانّ الضمير عند « فروم » هو (المستودع الرئيسي للميراث الاجتماعي والثقافي في تكوين الشخصية. وهو القوة المحركة التي تدفع الانسان الى أداء سلوك معين أو عدم أدائه لهذا السلوك حسب متطلبات المجتمع ، ويتكون
1 ـ الأسس البيولوجية لسلوك الانسان : ص 271 ، 273.

(54)
الضمير من خلال التأثيرات الاجتماعية والثقافية وتجارب الطفولة مع الآخرين ، فالضمير يتكون على شاكلة ضميري الأب والأم ، ولا يوجد ضمير واحد للفرد ، فهو يمتلك مجموعة من الضمائر تؤلف الضمير الكلي للفرد) (1).
     والضمير هو الواعظ الداخلي للانسان الذي يردعه عن القبيح ويدفعه إلى عمل الحسن والصالح ، وهو الرقيب عليه في جميع الأحوال والظروف سرية كانت أم علنية.
     قال الامام محمد الباقر عليه السلام : « من لم يجعل الله له من نفسه واعظاً فانّ مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً » (2).
     وقال الامام زين العابدين عليه السلام : « ابن آدم إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك ، وما كانت المحاسبة لها من همّك » (3).
     وقال الاِمام محمد الجواد عليه السلام : « المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممّن ينصحه » (4).
     والضمير ينمو باتجاه الاستقامة من خلال التربية المتواصلة والتوجيه الدائم من قبل الوالدين والمعلمين وعلماء الدين ، ومن خلال توجيه الانظار إلى احترام القواعد السلوكية للمجتمع ، وينمو عن طريق الايحاء والتلقين ، ومن خلال ملاحظة القدوة الحسنة ، فاعتراف الكبار بالخطأ الذي يرتكبونه يقوّي في أعماق الطفل القدرة على ضبط سلوكه وسيرته.
1 ـ التحليل النفسي للشخصية : ص 180.
2 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 214.
3 ـ الأمالي / الشيخ المفيد : ص 110.
4 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 340.


(55)
    ومن العوامل المساعدة على تنمية الضمير أن يتعامل مع الطفل على أساس انّه شخصية مستقلة ، لأن ذلك ينمي في داخله الاحساس بالمسؤولية ومعرفة الخطأ والصواب وتمييز الانحراف عن الاستقامة.
     والأهم من جميع ذلك فانّ الارتباط بالغيب هو الأساس في تنمية الضمير ليؤدي دوره في التوجيه والتهذيب والردع ، لأنّه يشعر بالرقابة الغيبية التي تراقبه وتتابعه وتحصي عليه سكناته وحركاته.
     وفي جميع الظروف والأحوال لابدّ من تمكين الانسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة من تكوين ضمير سليم لا متزمت ولا متساهل بل ضمير معتدل متوازن.

3 ـ اثارة الوجدان
     ادراك الفرد لحقائق السنن التي تتحكم في العلاقات والمسيرة الاجتماعية وآثارها الايجابية والسلبية التي تسهم في تجنب الموبقات والتوجه للكمال والسمو.
     ومن السنن المؤثرة في الوجدان الانساني سنة الصيانة أو التعرض لأعراض الناس ، فمن صان نفسه عن التعرض فسيصان عرضه من الانحراف والدنس ومن اعتداء الآخرين ، ومن اعتدى على أعراض الناس اعتدي على عرضه ، فاذا انغرست هذه السنن في وجدان الانسان فانها ستنتقل من مرحلة التأثر الوجداني إلى مرحلة العمل الايجابي ، فلا تبقى مجرد حقيقة وجدانية راكدة ومعطلة وانما ستكون ذات حيوية متحركة في الواقع بعمل وحركة وسلوك يحصن الانسان من الانحراف والاعتداء الذي يعود ضرره عليه وعلى ذويه.



(56)
    قال أمير المؤمنين عليه السلام : « من زنى زني به » (1).
     وقال عليه السلام : « ما زنى غيور قط » (2).
     وقال الاِمام جعفر الصادق عليه السلام : « برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم ، وعفّوا عن نساء الناس تعفُّ نساؤكم » (3).
     وذكر أهل البيت عليهم السلام كثيراً من القصص في اثارة الوجدان وبيان دوره في الاستغفار والتوبة وتجنّب الانحراف ، والتسامي نحو الكمال ، والآثار المترتبة على الانحراف تتحقق بتحقق أسبابها الطبيعية ، فالمنحرف أو المعتدي على أعراض الناس يشارك في تهيئة أجواء الانحراف لذويه ، ويكون أقل مراقبة لهم ، اضافة إلى تأثرهم بسلوكه من خلال المحاكاة والمشاهدات الحسية.

4 ـ التقييم الذاتي ومحاسبة النفس
     التقييم الذاتي للنفس عمل هام وضرورة نفسية واجتماعية ، به يتعرف الانسان على صفاته وقدراته العقلية والعاطفية والخلقية ، ويرى في نفسه عوامل القوة والضعف ، وفكرة المرء عن نفسه من خلال التقييم الصحيح والواقعي ، لها الأثر الأكبر في تعيين سلوكه ومستوى طموحه ، وفكرة المرء عن نفسه هي (التي توجهه في اختيار أعماله وأصدقائه وزوجته ومهنته وملابسه ... كما تسهم في رسم مستوى طموحه ، وهي التي تبين له ضروب السلوك التي هو جدير بها ، وتكفه عن فعل ما يمس احترامه لنفسه ...) (4).
1 ـ شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد 20 : 323.
2 ـ نهج البلاغة ، الحكمة : 305.
3 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 267.
4 ـ اُصول علم النفس : ص 126.


(57)
    وأكدت الروايات على أهمية معرفة النفس ومعرفة قدرها وطاقاتها ، ومعرفة درجة قربها وبعدها من الاستقامة والصلاح. قال أمير المؤمنين عليه السلام : « الخير كلّه فيمن عرف قدر نفسه ، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدر نفسه » (1).
     وقال عليه السلام : « ما هلك امرؤ عرف قدره » (2).
     وقال عليه السلام : « رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدّ طوره » (3).
     ومن معرفة النفس معرفة عيوبها ، وهي ظاهرة ايجابية وصحية ، فمن خلال معرفة عيوب النفس ينشغل الانسان عن عيوب غيره ، ويتوجه إلى إصلاح عيوبه بالطرق والأساليب المتاحة ، ويتعاون مع غيره إن عجز بمفرده ، وقد دلّت الروايات على الآثار الايجابية لذلك.
     قال أمير المؤمنين عليه السلام : « من عرف عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره » (4).
     وقال الاِمام الصادق عليه السلام : « أنفع الأشياء للمرء سبقه الناس إلى عيب نفسه » (5).
     وبعد التقييم الذاتي ومعرفة النفس يأتي دور المحاسبة لها ، وهي تسهم في إيقاف الانحراف ، والتوجه إلى الاصلاح والتكامل والبناء التربوي الصالح للفرد نفسه ولذويه وللمجتمع.
1 ـ مجموعة ورّام : 2 / 115.
2 ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام / الشيخ الصدوق : 2 / 54.
3 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 233.
4 ـ أعلام الدين / الديلمي : ص 186.
5 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 273.


(58)
    قال أمير المؤمنين عليه السلام : « من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر » (1).
     وقال الاِمام جعفر الصادق عليه السلام : « حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه ، فيكون محاسب نفسه ، فاذا رأى حسنة استزاد منها ، وإن رأى سيئة استغفر منها ، لئلا يخزى يوم القيامة » (2).
     وقال الاِمام موسى بن جعفر عليه السلام : « ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسناً استزاد الله ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه » (3).
     ومحاسبة النفس تتم على أساس عرض السيرة والممارسة على الموازين والمعايير الثابتة ، فهي الميزان والمعيار في التقييم الذاتي ومعرفة النفس ومحاسبتها.

5 ـ التقييم الاجتماعي
     معرفة النفس وتقييمها تنشأ ذاتياً من داخلها ، ولها مناشئ اخرى ، وهي فكرة المجتمع عنها أو تقييم المجتمع لها ، وتنشأ أيضاً من موازنة الانسان نفسه بغيره من أفراد المجتمع سواء كانوا صالحين أم طالحين.
     ومن خلال التقييم الاجتماعي يتعرف الانسان على نواحي القوة والضعف في نفسه وسلوكه ، وعلى امكانات خافية أو غير معلومة ، وعلى الأغراض والدوافع التي تقوم وراء سلوكه.
1 ـ نهج البلاغة : 506.
2 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 221.
3 ـ الكافي / الكليني : 2 / 453.


(59)
    قال أمير المؤمنين عليه السلام : « المرآة التي ينظر الإنسان فيها إلى أخلاقه هي الناس ، لأنّه يرى محاسنه من أوليائه منهم ، ومساويه من أعدائه فيهم » (1)‌.
     وقال الإمام محمد الجواد عليه السلام : « المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممّن ينصحه » (2).
     وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « أحبّ اخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي » (3).
     وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ » (4).
     والتقييم الاجتماعي قد يكون علنياً أو سرّياً ، وبما أن الإنسان دائماً يعتز بنفسه ورأيه ، فانّه لا يتنازل عن رأيه أو موقفه إلاّ إذا اطمأنّ انّ الناصح له مخلص في نصيحته ويريد له الصلاح والخير ، وهذا الاطمئنان غالباً ما يتأتى إذا كان الناصح رفيقاً به ينصحه باسلوب شيّق وجذّاب ، أو ينصحه سرّاً لا أمام الناس ، لأنّ النصح أمام الناس كشف للأخطاء وأحياناً يكون إهانة وتشهيراً له ، وبهذا الاُسلوب لا يحقّق المصلح أيّ تقدّم ملحوظ.
     قال أمير المؤمنين عليه السلام : « النصح بين الملأ تقريع » (5).
     وقال الإمام الحسن العسكري عليه السلام : « من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ، ومن
1 ـ شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : 20 / 271.
2 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 340.
3 ـ المصدر السابق نفسه : ص 273.
4 ـ الكافي / الكليني : 8 / 22.
5 ـ شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : 20 / 341.


(60)
وعظه علانية فقد شانه » (1).
     فالتقييم غير العلني يحفظ للاِنسان كرامته ، بل يشعره بأنّ الناصح له مخلص وصادق في نصحه لا يريد خدش كرامته أو ترذيله أو تقبيحه ، وهذا الشعور يسهم في دخول النصيحة إلى العقل والقلب بصورة يتفاعل معها المراد اصلاحه أو تغييره أو تربيته.
     وعلى العموم فانّ التقييم الاجتماعي يؤثر في تقييم الإنسان لذاته ، ويؤثر على ممارساته العملية ، فمثلاً الطفل الذي يسمع من الآخرين ألفاظ جبان أو كذّاب أو سارق قد ينشأ على تقييم نفسه على ضوء هذه الألفاظ ، بل قد يصبح بالفعل جباناً أو كذّاباً أو سارقاً كرد فعل للتقييم الخاطئ له ، أو التقييم المتسرع الذي اعتمد على ظاهرة واحدة أو ممارسة واحدة قد تكون غير مقصودة.
1 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 368.
ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام ::: فهرس