منهج المقال الجزء الاول ::: 121 ـ 135
(121)
    أقول : ويقرب في نظري أنّ الأصل هو الكتاب الذي جمع فيه مصنّفه الأحاديث التي رواها عن المعصوم ( عليه السلام ) أو عن الراوي ، والكتاب والمصنَّف لو كان فيهما حديث معتمد معتبر لكان مأخوذاً من الأصل غالباً. وإنّما قيدنا بالغالب لأنّه ربما كان بعض الروايات وقليلها (1) يصل معنعناً ولا يؤخذ من أصل ، وبوجود مثل هذا فيه لا يصير أصلاً ، فتدبّر.
    وأمّا النوادر فالظاهر أنّه ما اجتمع فيه أحاديث لا تضبط (2) في باب لقلّته ، بأن يكون واحداً أو متعدّداً لكن يكون قليلاً جداً ، ومن هذا قولهم في الكتب المتداولة : نوادر الصلاة ، نوادر الزكاة ، وأمثال ذلك.
    وربما يطلق النادر على الشاذ (3) ، ومن هذا قول المفيد في رسالته في الردّ على الصدوق (4) في أنّ شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من
عليّ بن جعفر : 251/662 : له كتاب في الحلال والحرام يروى تارة غير مبوّب وتارة مبوّباً. وفي ترجمة سعد بن سعد : 179/470 : له كتاب مبوّب وكتاب غير مبوّب. وقال في ترجمة محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق : 392/104 : كتاب العلل غير مبوّب.
1 ـ في « ب » : أو قليلها.
2 ـ في « أ » و « ب » و « م » و « ن » : لا تنضبط.
3 ـ اُنظر نهاية الدراية : 63 ومقباس الهداية 1 : 252.
4 ـ نفي الشيخ الصدوق كون شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً ، فبعد أن ذكر في الخصال : 531 بعض الروايات التي تؤيّد مدّعاه قال في ذيل الحديث 9 من أبواب الثلاثين وما فوقه ما لفظه :
    مذهب خواص الشيعة وأهل الاستبصار منهم في شهر رمضان أنّه لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً ، والأخبار في ذلك موافقة للكتاب ومخالفة للعامّة ، فمن ذهب من ضعفة الشيعة إلى الأخبار التي وردت للتقيّة أنّه ينقص ويصيبه ما يصيب الشهور من النقصان والتمام اتّقى كما تتقى العامة. ونحو هذا الكلام ما ذكره في الفقيه 2 : 111 في ذيل الحديث 474.
    واعترض عليه الشيخ المفيد وأجاب عن ذلك برسالة أسماها الرسالة العدديّة.


(122)
النقص : إنّ النوادر هي التي لا عمل عليها (1). مشيراً إلى رواية حذيفة (2).
    والشيخ في التهذيب قال : لا يصحّ (3) العمل بحديث حذيفة لأنّ متنها لا يوجد في شيء من الاُصول المصنّفة بل هو موجود في الشواذ من الأخبار (4).
    والمراد من الشاذ عند أهل الدراية ما رواه الراوي الثقة (5) مخالفاً لما رواه الأكثر (6) ، وهو مقابل المشهور (7). والشاذ مردود مطلقاً عند بعض ، ومقبول كذلك عند آخر.
    ومنهم من فصّل بأنّ المخالف له إنْ كان أحفظ وأضبط وأعدل فمردود وإن انعكس فلا يُرد ، لأنّ في كلّ منهما صفة راجحة ومرجوحة فيتعارضان (8).
    ونقل عن بعض أنّ النادر ما قلّ روايته وندر العمل به ، وادّعى أنّه
1 ـ الرسالة العددية ـ ضمن مصنفات الشيخ المفيد ـ 9 : 19.
2 ـ هو حذيفة بن منصور بن كثير بن سلمة الخزاعي ، ذكره الشيخ في رجاله : 192/236 والنجاشي في فهرسته : 147/383.
    والرواية في التهذيب 4 : 168/482 ، جاء فيها : ... عن حذيفة بن منصور قال : أتيت معاذ بن كثير في شهر رمضان وكان معي إسحاق بن محول ، فقال : لا والله ما نقص من شهر رمضان قط.
3 ـ في « ق » : لا يصلح.
4 ـ التهذيب 4 : 169 ذيل الحديث 482.
5 ـ الثقة ، لم ترد في « ح ».
6 ـ قال ابن الصلاح في المقدمة : 44 قال الشافعي : ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنّما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس. ونظيره قال في تدريب الراوي : 1 : 232 وغيره.
7 ـ كما في الرعاية : 115 ، والوجيزة للبهائي : 5 ، ونهاية الدراية : 63.
8 ـ الرعاية : 115/1 ، مقدّمة ابن الصلاح : 179.


(123)
الظاهر من كلام الأصحاب (1). ولا يخلو من تأمّل.
    ثمّ اعلم أنّه عند خالي (2) بل وجدّي (3) أيضاً على ما هو ببالي أنّ كون الرجل ذا أصل من أسباب الحسن.
    وعندي فيه تأمّل ، لأنّ كثيراً من مصنّفي أصحابنا وأصحاب الاُصول ينتحلون المذاهب الفاسدة وإنْ كانت كتبهم معتمدة على ما صرّح به في أوّل الفهرست (4) ، وأيضاً الحسن بن صالح بن حي بتري متروك العمل بما يختصّ بروايته على ما صرّح به في التهذيب (5) مع أنّه صاحب الأصل (6) ، وكذلك عليّ بن أبي حمزة البطائني (7) مع أنّه ذكر فيه ما ذكر (8) ... إلى غير
1 ـ نقله الشيخ ياسين بن صلاح الدين البحراني في معين النبيه في بيان رجال من لا يحضره الفقيه : 134 ( مخطوط ) عن بعض الأفاضل.
2 ـ قال المجلسي في مرآة العقول 1 : 108 : الحديث التاسع مجهول على المشهور بسعدان بن مسلم ، وربما يعدّ حسناً لأنّ الشيخ قال : له أصل.
    ( الفهرست : 140/1 ).
    وقال في 10 : 124 عند ذكر الحسن بن أيوب : وقال النجاشي : له كتاب أصل. وكون كتابه أصلاً عندي مدح عظيم ...
3 ـ قال المجلسي الأوّل في روضة المتقين 1 : 86 : فإنّك إذا تتبّعت كتب الرجال وجـدت أكثر أصحاب الاُصول الأربعمائة غير مذكور في شأنهم تعديل ولا جرح إمّا لأنّه يكفي في مدحهم وتوثيقهم أنّهم أصحاب الاُصول ... إلى آخره.
4 ـ الفهرست : 32.
5 ـ التهذيب 1 : 408/1282.
6 ـ كما صرح في الفهرست : 100/16.
7 ـ في « ك » و « م » و « ن » : عليّ بن حمزة البطائني.
8 ـ قال عنه الشيخ في الفهرست : 161/45 : واقفي المذهب له أصل. مع كثرة ما ورد فيه من ذموم ، فقد ذكر الشيخ نفسه في كتاب الغيبة : 63/65 أنّ أوّل من أظهر هذا الاعتقاد [ الوقف ] عليّ بن حمزة البطائني.


(124)
ذلك. وقد بسطنا الكلام في المقام في الرسالة (1).
    نعم المفيد ( رحمه الله ) في مقام مدح جماعة في رسالته في الردّ على الصدوق قال : وهم أصحاب الاُصول المدوّنه (2).
    لكن استفادة الحسن من هذا لا يخلو من تأمّل ، سيما بعد ملاحظة ما ذكرنا ، فتأمّل. مع أنّ في جملة تلك الجماعة أبا الجارود (3) وعمّار الساباطي (4) وسُماعة (5).
    ثمّ إنّه ظهر (6) أنّ أضعف من ذلك كون الرجل ذا كتاب من أسباب الحسن.
    قال في المعراج : كون الرجل ذا كتاب لا يخرجه عن الجهالة إلاّ عند بعض لا يعتدّ به (7).
    هذا ، والظاهر أنّ كون الرجل صاحب أصل يفيد حسناً لا (8) الحسن الاصطلاحي ، وكذا كونه كثير التصنيف ، وكذا جيّد التصنيف ، وأمثال ذلك.
    بل كونه ذا كتاب أيضاً يشير إلى حسن مّا. ولعلّ ذلك مرادهم ممّا
1 ـ اُنظر رسالة الاجتهاد والأخبار : 188 ـ 196.
2 ـ الرسالة العددية ـ ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ـ 9 : 25.
3 ـ هو زياد بن المنذر الهمداني ، زيدي المذهب ، وإليه تنسب الزيدية الجارودية. اُنظر الفهرست : 131/2 ورجال النجاشي : 170/448.
4 ـ هو عمّار بن موسى الساباطي ، كان فطحّياً. له ترجمة في الفهرست : 189/2 ورجال النجاشي : 290/779 ، وغيرهما من المصادر.
5 ـ هو سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي الواقفي. رجال الشيخ : 337/4 ، رجال النجاشي : 193/517.
6 ـ كذا في « ق » ، وفي سائر النسخ : ظاهر.
7 ـ معراج أهل الكمال : 129 / 61 ترجمة أحمد ب ن عبيد. ومراده من البعض هو المولى مراد التفريشي في تعليقته السجادية كما صرّح بذلك في الهامش.
8 ـ في « ق » : غير.


(125)
ذكروا (1).
    وسيجيء عن البلغة في الحسن بن أيّوب أنّ كون الرجل صاحب أصل يستفاد منه مدح (2) ... إلى آخره ، فلاحظ وتأمّل.

    ومنها : قولهم : مضطلع بالرواية
    أي : قويّ و (3) عال لها ومالك ، ولا يخفى إفادته المدح (4).

    ومنها : قولهم : سليم الجنبة
    قيل : معناه سليم الأحاديث وسليم الطريقة (5).

    ومنها : قولهم : خاصّي
    وقد أخذه خالي ( رحمه الله ) مدحاً (6). ولعلّه لا يخلو من تأمّل ، لاحتمال إرادة كونه من الشيعة في مقابل قولهم : عامّي ، لا أنّه من خواصّهم. وكون المراد من العامّي ما هو في مقابل الخاصّي لعلّه بعيد ، فتأمّل (7).
1 ـ في « م » زيادة : فتأمّل.
2 ـ بلغة المحدّثين : 344/14 هامش ( 3 ).
3 ـ كذا في « ك » ، وفي بقية النسخ : أو.
4 ـ قال في مقباس الهداية 2 : 238 : ولا ريب في إفادته المدح لكونه كناية عن قوته وقدرته عليها ، ولكن في إفادته المدح المعتد به تأمّل ، وأما التوثيق فلا ريب في عدم دلالته عليه.
5 ـ عدّه في توضيح المقال : 50 ضمن الألفاظ التي لا تفيد مدحاً ولا قدحاً ، ثمّ قال : نعم استفادة مطلق المدح من ذلك معلوم.
6 ـ يمكن أنْ يستفاد ذلك من وصفه أشخاصاً بالمدح قد أطلق عليهم الشيخ في رجاله كلمة ( خاصّي ) ، كما في ترجمة حيدر بن شعيب ، [ رجال الشيخ : 423/31 والوجيزة : 203/644 ] وترجمة أحمد بن الحسن الرازي ، [ رجال الشيخ : 411/38 والوجيزة : 148/78 ] ، وغيرهما.
7 ـ قال الشهيد الثاني في الرعاية : 208 : وأما الخاص فمرجع وصفه إلى الدخول مع


(126)
    ومنها : قولهم : قريب الأمر
    وقد أخذه أهل الدراية مدحاً (1) ، ويحتاج إلى التأمّل.

    ومنها : قولهم : ضعيف
    ونرى الأكثر يفهمون منه القدح في نفس الرجل ويحكمون به بسببه (2). ولا يخلو من ضعف ، لما سنذكر في داود بن كثير ، وسهل بن زياد ، وأحمد بن محمّد بن خالد ، وغيرهم.
    وفي إبراهيم بن يزيد : جُعل كثرة الارسال ذمّاً وقدحاً (3).
    وفي جعفر بن محمّد بن مالك : الرواية عن الضعفاء والمجاهيل من عيوب الضعفاء (4).
    وفي محمّد بن الحسن بن عبدالله : روى عنه البَلَوِي ، والبَلَوِي رجل ضعيف ... إلى قوله : ممّا يضعّفه (5).
إمام معيّن أو في مذهب معيّن ، وشدة التزامه به أعم من كونه ثقة في نفسه كما يدل عليه العرف.
1 ـ كالشيخ البهائي في الوجيزة : 5 ( حجري ) ، والسيّد الداماد في الرواشح : 60 الراشحة الثانية عشر.
2 ـ ممّن فهم ذاك جمع ، منهم الشهيد الثاني في الرعاية : 209 والبهائي في الوجيزة : 5 ، وعدّ الداماد في رواشحه : 60 « ضعيف » من ألفاظ الجرح والذم. وفي روضة المجلسي 14 : 396 : الحكم بالضعف ليس بجرح ، فإنّ العادل الذي لا يكون ضابط يقال له : إنّه ضعيف ، أي : ليس قوة حديثه كقوة الثقة ، بل تراهم يطلقون الضعيف على من يروي عن الضعفاء ويرسل الاخبار.
3 ـ كما عن ابن حجر في تقريب التهذيب 1 : 60/301 ، وفيه : ثقة إلاّ أنّه يرسل كثيراً.
4 ـ النصّ في الخلاصة : 330/3 نقلاً عن الغضائري ، واُنظر رجال النجاشي : 122/313.
5 ـ عن رجال النجاشي : 324/884. وفي المنتهى 6 : 18 قال أبو علي الحائري :


(127)
    وفي جابر : روى عنه جماعة غمز فيهم ... إلى آخره (1). إلى غير ذلك.
    ومثل ما في ترجمة محمّد بن عبد الله الجعفري ، والمعلّى بن خنيس ، وعبد الكريم بن عمرو ، والحسن بن راشد ، وغيرهم. فتأمّل.
    وبالجملة : كما أنّ تصحيحهم غير مقصور على العدالة فكذا تضعيفهم غير مقصور على الفسق ، وهذا غير خفيّ على من تتبّع وتأمّل.
    وقال جدّي ( رحمه الله ) : نراهم يطلقون الضعيف على من يروي عن الضعفاء ويرسل الأخبار (2) ، انتهى.
    ولعلّ من أسباب الضعف عندهم : قلّة الحافظة ، وسوء الضبط ، والرواية من غير إجازة ، والرواية عمّن لم يلقه ، واضطراب ألفاظ الرواية ، وإيراد الرواية التي ظاهرها الغلو أو التفويض أو الجبر أو التشبيه وغير ذلك ، كما هو في كتبنا المعتبرة ، بل هي مشحونة منها كالقرآن ، مع أنّ عادة المصنّفين إيرادهم جميع ما رووه كما يظهر من طريقتهم ، مضافاً إلى ما ذكره في أوّل الفقيه (3) وغيره.
    وكذا من أسبابه رواية فاسدي العقيدة عنه وعكسه ، بل وربما كان مثل الرواية بالمعنى ونظائره سبباً.
    وبالجملة : أسباب قدح القدماء كثيرة ، وسنشير إلى بعضها.
    وغير خفي أنّ اَمثال ما ذكر ليس منافياً للعدالة ، وسيجيء في ذكر
اُنظر إلى تضعيفهم ( رحمهم الله ) البرءآء لرواية الضعفاء عنهم.
1 ـ اُنظر رجال النجاشي : 128/332.
2 ـ روضة المتقين 14 : 396.
3 ـ قال ما لفضه : ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته ... الفقيه 1 : 2 مقدمة الكتاب.


(128)
الطيّارة والمفوّضة والواقفة ما يزيد ويؤكّد ويؤيّد ، وكذا في ترجمة إبراهيم ابن عمر ، وفي ذكر « مضطرب الحديث » ، وغيره.
    ثمّ اعلم أنّه فرق بيِّن ظاهر بين قولهم : « ضعيف » وقولهم : « ضعيف في الحديث » (1) ، فالحكم بالقدح منه (2) أضعف ، وسيجيء في سهل بن زياد.
    وقال جدّي ( رحمه الله ) : الغالب في إطلاقاتهم أنّه ضعيف في الحديث ، أي : يروي عن كلّ أحد (3) ، انتهى ، فتأمّل.

    ومنها : قولهم : كان من أهل (4) الطيّارة ، ومن أهل الارتفاع ، وأمثالهما.
    والمراد أنّه كان غالياً (5).
    اعلم أنّ الظاهر أنّ كثيراً من القدماء سيما القمّيّين منهم والغضائري (6)
1 ـ قال في نهاية الدراية : 431 : ولا ريب من أنّه قدح مناف للعدالة إذا قيل على الإطلاق دون التخصيص بالحديث ، لأنّ المراد في الأوّل ضعيف في نفسه وفي الثاني أنّ الضعف في روايته ، فلا تدلّ على القدح في الراوي مع الاضافة إلى الحديث.
2 ـ في « ق » بدل منه : فيه.
3 ـ روضة المتقين 14 : 55.
4 ـ أهل ، لم ترد في « أ » و « ب » و « ق ».
5 ـ قال السيد الأعرجي في العدّة : 28 : كان من الطيارة ومرتفع القول وفي مذهبه ارتفاع يريدون بذلك كلّه الغلو والتجاوز بأهل العصمة إلى ما لا يسوغ ، والمعروف في مثل هذا عدّه في القوادح.
6 ـ الغضائري هو الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم أبو عبدالله والد أحمد المصنف في الرجال ، كان كثير السماع عارفاً بالرجال ، وهو شيخ الشيخ والنجاشي ، ذكراه وترحما عليه وأجاز لهما جميع تصانيفه ، ذكر النجاشي تصانيفه في ترجمته : 69/166 ، وأشار إليها الشيخ في من لم يرو عنهم ( عليهم السلام ) : 425/52.


(129)
كانوا يعتقدون للأئّمة ( عليهم السلام ) منزلة خاصّة من الرفعة والجلالة ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم ، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها ، وكانوا يعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً (1) على حسب معتقدهم ، حتّى أنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلّواً ، بل ربما جعلوا مطلق التفويض إليهم ، أو التفويض الذي اختُلِف فيه كما سنذكر ، أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم ، أو الإغراق في شأنهم إجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص وإظهار كثير قدرة (2) لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به ، سيما بجهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلّسين.
    وبالجملة : الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الاُصوليّة أيضاً ، فربما كان شيء عند بعضهم فاسداً أو كفراً أو غلواً أو تفويضاً أو جبراً أو تشبهاً أو غير ذلك ، وكان عند آخر مما يجب اعتقاده ، أو لا هذا ولا ذاك.
    وربما كان منشأ جرحهم بالاُمور المذكورة وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم كما أشرنا آنفاً ، أو ادّعاء أرباب المذاهب كونه منهم ، أو روايتهم عنه. وربما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه ، إلى غير ذلك.
    فعلى هذا ربما يحصل التأمّل في جرحهم بأمثال الاُمور المذكورة.
    ومما ينبّه على ما ذكرنا ملاحظة ما سيذكر في تراجم كثيرة ، مثل ترجمة إبراهيم بن هاشم ، وأحمد بن محمد بن نوح ، وأحمد بن محمد بن
1 ـ في « أ » و « م » : وعلواً.
2 ـ في « ق » : كثرة قدر.


(130)
أبي نصر (1) ، ومحمّد بن جعفر بن عون (2) ، وهشام بن الحكم (3) ، والحسين بن شاذويه ، والحسين بن يزيد ، وسهل بن زياد ، وداود بن كثير ، ومحمد بن أورمة ، ونصر بن الصباح ، وإبراهيم بن عمر ، وداود بن القاسم ، ومحمد بن عيسى بن عبيد ، ومحمد بن سنان ، ومحمد بن عليّ الصيرفي ، ومفضّل بن عمر ، وصالح بن عقبة ، ومعلّى بن خنيس ، وجعفر بن محمد بن مالك ، وإسحاق بن محمد البصري ، وإسحاق بن الحسن (4) ، وجعفر بن عيسى ، ويونس بن عبد الرحمن ، وعبد الكريم بن عمرو (5) ، وغير ذلك.
    وسيجيء في إبراهيم بن عمر وغيره ضعف تضعيفات الغضائري ، فلاحظ. وفي إبراهيم بن إسحاق وسهل بن زياد ضعف تضعيف (6) أحمد بن محمّد بن عيسى ، مضافاً إلى غيرهما من التراجم ، فتأمّل.
    ثم اعلم أنّه والغضائري ربما ينسبان الراوي إلى الكذب ووضع الحديث أيضاً بعد ما نسباه إلى الغلو ، وكأنّه لروايته ما يدلّ عليه ، ولا يخفى ما فيه. وربما كان غيرهما أيضاً كذلك ، فتأمّل.

    ومنها : رميهم إلى التفويض
    وللتفويض معان ، بعضها لا تأمّل للشيعة في فساده ، وبعضها لا تأمّل لهم في صحّته ، وبعضها ليس من قبيلهما ، والفساد كفراً كان أو لا ، ظاهر الكفرية أو لا ، ونحن نشير إليها مجملاً.
1 ـ في « م » : وأحمد بن محمّد بن أبي بصير.
2 ـ في « أ » زيادة : وهشام بن عون.
3 ـ في « م » زيادة : والفضل بن شاذان.
4 ـ في « ك » و « ن » : وإسحاق بن محمد بن الحسن.
5 ـ في « ب » و « ك » و « م » : وعبد الكريم بن عمر.
6 ـ في « ك » : تضعيفات.


(131)
    الأول : سيجيء ذكره في آخر الكتاب عند ذكر الفِرَق.
    الثاني : تفويض الخلق والرزق إليهم ، ولعلّه يرجع إلى الأوّل ، وورد فساده عن الصادق والرضا ( عليهما السلام ) (1).
    الثالث : تفويض تقسيم الارزاق ، ولعلّه ممّا يطلق عليه (2).
    الرابع : تفويض الأحكام والأفعال إليه ، بأنْ يثبت ما رآه حسناً ويردّ ما رآه قبيحاً فيجيز الله تعالى إثباته وردّه ، مثل إطعام الجدّ السدس ، وإضافة الركعتين في الرباعيات ، والواحدة في المغرب ، والنوافل (3) أربعاً وثلاثين سُنّة ، و ( تحريم كلّ مسكر عند ) (4) تحريم الخمر ... إلى غير ذلك (5).
    وهذا محل إشكال عندهم ، لمنافاته ظاهر : « وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى » (6) وغير ذلك.
    لكن الكليني ( رحمه الله ) قائل به ، والأخبار الكثيرة واردة فيه (7).
    ووجّه بأنّها تثبت (8) من الوحي إلاّ أنّ الوحي تابع ومجيز ، فتأمّل.
1 ـ اُنظر اعتقادات الصدوق : 100 ( حجري ) ، وعيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 124/17.
2 ـ في بصائر الدرجات : 363/9 بسنده عن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) فيما قال لأبي حمزة : يا أبا حمزة لا تنامَنّ قبل طلوع الشمس فإنّي أكرهها لك ، إنّ الله يقسم في ذلك الوقت أرزاق العباد وعلى أيدينا يجريها.
3 ـ في « ب » و « ن » : وفي النوافل.
4 ـ ما بين القوسين لم يرد في « ك ».
5 ـ راجع بحار الأنوار 25 : 328 وما بعدها فصل في بيان التفويض ومعانيه ، وتفسير آية « 7 » من سورة الحشر قوله تعالى : « وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانْتَهُوا ».
6 ـ النجم : 3.
7 ـ اُنظر الكافي 1 : 207 باب التفويض إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإلى الأئمّة ( عليهم السلام ) في أمر الدين ، وبصائر الدرجات : 398.
8 ـ في « أ » و « م » : ثبتت.


(132)
    الخامس : تفويض الإرادة ، بأن يريد شيئاً لحسنه ولا يريد شيئاً لقبحه ، كإرادته تغيّر (1) القبلة ، فأوحى الله تعالى إليه بما أراد (2).
    السادس : تفويض القول بما هو أصلح له وللخلق وإن كان الحكم الأصلي خلافه ، لما في صورة التقيّة (3).
    السابع : تفويض أمر الخلق ، بمعنى أنّه أوجب عليهم طاعته في كلّ ما يأمر وينهى سواء علموا وجه الصحّة أم لا ، بل ولو كان بحسب ظاهر نظرهم عدم الصحّة ، بل الواجب عليهم القبول على وجه التسليم (4).
    وبعد الإحاطة بما ذكر هنا وما ذكر سابقاً عليه يظهر أنّ القدح بمجرّد رميهم إلى التفويض أيضاً لعلّه لا يخلو عن إشكال ، وسيجيء في محمّد بن سنان ما يشير إليه بخصوصه ، فتأمّل.

    ومنها : رميهم إلى الوقف
    اعلم أنّ الواقفة هم الذين وقفوا على الكاظم ( عليه السلام ) كما سيجيء في آخر الكتاب عند ذكر الفِرَق ، وربما يقال لهم : الممطورة أيضاً ، أي : الكلاب المبتلّة من المطر (5) ، كما هو الظاهر. ووجه الاطلاق ظاهر.
    وربما يطلق الوقف على من وقف على غير الكاظم ( عليه السلام ) من الأئمة (6)
1 ـ في « أ » و « ب » و « ك » و « ن » : تغيير.
2 ـ مجمع البيان 1 : 227.
3 ـ اُنظر مقباس الهداية 2 : 379 ، الرابع.
4 ـ راجع مصادر تفسير الآية « 65 » من سورة النساء قوله تعالى : « فَلاَ وَرَبِّكَ لاَيُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَر بيَنَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجاً مّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً ».
5 ـ اُنظر فرق الشيعة للنوبختي : 81.
6 ـ المصدر السابق : 82 ، حيث فيه : كلّ من مضى منهم فله واقفة قد وقفت عليه.
    وانظر كمال الدين 1 : 40 و 101.


(133)
ـ وسنشير إليه في يحيى بن القاسم ـ لكن الاطلاق ينصرف إلى من وقف على الكاظم ( عليه السلام ) ولا ينصرف إلى غيرهم إلاّ بالقرينة ، ولعلّ من جملتها عدم دركه للكاظم ( عليه السلام ) وموته قبله أوفي زمانه ، مثل سماعة بن مهران وعليّ بن حيان (1) ويحيى بن القاسم ، لكن سيجيء عن المصنف في يحيى بن القاسم جواز الوقف قبله ( عليه السلام ) وحصوله في زمانه.
    وقال جدّي ( رحمه الله ) : الواقفة صنفان : صنف منهم وقفوا عليه في زمانه بأن اعتقدوا كونه قائم آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك لشبهة حصلت لهم ممّا ورد عنه وعن أبيه ( عليهما السلام ) أنّه صاحب الأمر ، ولم يفهموا أنّ كلّ واحد منهم ( عليهم السلام ) صاحب الأمر ، يعني : أمر الإمامة ، ومنهم سماعة بن مهران لما نقل أنّه مات في زمانه صلوات الله عليه ، وغير معلوم كفر مثل هذا الشخص لأنّه عرف إمام زمانه ولم يجب عليه معرفة الامام الذي بعده ، نعم لو سمع أنّ الإمام بعده فلان ولم يعتقد (2) صار كافراً ، انتهى (3).
    ويشير إلى ما ذكره أنّ الشيعة من فرط حبّهم دولة الأئمّة صلوات الله عليهم وشدّة تمنّيهم إيّاها ، وبسبب الشدائد والمحن التي كانت عليهم وعلى أئمتهم صلوات الله عليهم من القتل والخوف وسائر الأذيّات ، وكذا من بغضهم (4) أعدائهم الذين كانوا يرون الدولة وبسط اليد والتسلّط وسائر نعم الدنيا عندهم ... إلى غير ذلك ، كانوا دائماً مشتاقين إلى دولة قائم آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) الذي يملأ الدنيا قسطاً ، متسلّين (5) أنفسهم بظهوره ، مترقّبين
1 ـ في « م » وعلي بن حسان.
2 ـ في « ك » : يعتقده.
3 ـ لم نعثر على هذا القول.
4 ـ في « ق » بدل بغضهم : بعض.
5 ـ في « ك » : مسلّين.


(134)
لوقوعه عن قريب ، وهم ( عليهم السلام ) كانوا يسلّون خاطرهم حتّى قيل : إنّ الشيعة تربّى بالأماني. ومما دلّ (1) على ذلك ما سنذكر في ترجمة يقطين ، فلاحظ.
    ومن ذلك أنّهم كانوا كثيراً ما يسألونهم ( عليهم السلام ) عن قائمهم ، فربما قال واحد منهم صلوات الله عليهم : فلان ، يعني : الذي بعد (2) ، وما كان يظهر مراده من القائم ( عليه السلام ) مصلحة لهم وتسلية لخواطرهم ، سيما بالنسبة إلى مَن عَلم عدم بقائه إلى ما بعد زمانه ، كما وقع من الباقر ( عليه السلام ) بالنسبة إلى جابر (3) في الصادق ( عليه السلام ) كما سنذكره في ترجمة عنبسة (4).
    وربما كانوا يشيرون إلى مرادهم ، وهم من فرط ميل قلوبهم وزيادة حرصهم ربما كانوا لا يتفطّنون ، ولعلّ عنبسة وبعضاً آخر كانوا كذلك ، وممّا يشير إلى ما ذكره أيضاً التأمّل فيما سيُذكر (5) في ترجمة أبي جرير القمّي وإبراهيم بن موسى بن جعفر (6) وغيرهما ، ومرّ في الفائدة الاُولى ما ينبّه على ذلك ، فتأمّل.
    هذا ، لكن سنذكر في ترجمة سماعة ويحيى بن القاسم وغيرهما أنّهم رووا أنّ الأئمة ( عليهم السلام ) اثنا عشر (7) ، ولعلّ هذا لا يلائم ما ذكره ( رحمه الله ).
    ويمكن أن يكون نسبة الوقف إلى أمثالهم من أنّ الواقفة تدّعي كونه
1 ـ في « ق » : يدل.
2 ـ في « ن » : بعده.
3 ـ جابر بن يزيد الجعفي ، والرواية عن الكافي 1 : 244/7 باب الاشارة والنص على أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق صلوات الله عليهما.
4 ـ عنبسة بن مصعب العجلي الكوفي.
5 ـ في « ق » : سنذكر.
6 ـ اُنظر الكافي 1 : 311/1 ـ 2 باب في أنّ الإمام متى يعلم أنّ الأمر قد صار إليه.
7 ـ عن الكافي 1 : 449/20 باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم ( عليهم السلام ) والخصال 2 : 478/45 وعيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 56/23.


(135)
منهم ، إذ (1) أكثروا من الرواية عنه (2) كما قلنا في قولهم : « ضعيف » ، وسيجيء في عبد الكريم بن عمرو (3) ، وامّا من روايتهم عنه ما يتضمّن الوقف لعدم فهمهم روايته كما سيجيء في سماعة وأمثال ذلك.
    وكيف كان : فالحكم بالقدح بمجرّد رميهم إلى الوقف بالنسبة إلى الجماعة الذين لم يبقوا إلى مابعد زمان الكاظم ( عليه السلام ) ومن روى أنّ الأئمة ( عليهم السلام ) اثنا عشر لا يخلو من إشكال. وكذا بالنسبة إلى من روى عن الرضا ( عليه السلام ) ومن بعده ، لما سنذكر في إبراهيم بن عبد الحميد أنّهم ما كانوا يروون عنهم ( عليهم السلام ) ... إلى غير ذلك من أمثال ما ذكر ، فتأمّل.
    وممّا ذكر ظهر أنّ الناووسية أيضاً حالهم حال الواقفة ، وسيجيء ذلك في الجملة عن المصنّف في أبان بن عثمان. ولعلّ مثل الفطحيّة أيضاً كان (4) كذلك ، لما مرّ في الفائدة الأولى.
    وبالجملة : لا بدّ في مقام القدح (5) من أن يتفطّن بأمثال ما ذكر ويتأمّل ، سيما بعد ملاحظة ما أشرنا في ذكر الطيّارة.
    ثمّ اعلم أنّهم ربما يقولون : واقفي لم يدرك أبا الحسن ( عليه السلام ) ، كما سيجيء في عليّ بن الحسان (6) ، ومثل هذا يحتمل عدم بقائه إلى زمانه كما بالنسبة إلى سماعة ومَن ماثله ، وعدم وجوده كبيراً في زمانه حتّى يصل إلى
1 ـ في « أ » و « ب » و « م » و « ن » : أو.
2 ـ في « ق » : عنهم.
3 ـ ففي الخلاصة : 381 / 5 قال ابن الغضائـري : إنّ الواقـفة تدّعيـه والغلاة تروي عـنه كثيراً.
4 ـ في « ق » : كانوا.
5 ـ في « أ » و « ح » و « ن » : المدح.
6 ـ عن رجال الكشّي : 451/851 والخلاصة : 366/14.
منهج المقال الجزء الاول ::: فهرس