معرفة النفس ::: 106 ـ 120
(106)
قمة الخشوع والتبتل .. « واجعل اوقاتي من اليل والنهار بذكرك معمورة » ، « واجعل لساني بذكرك لهجا وقلبي بحبك متيما ».
    3 ـ الانقياد لاوامر الله :
    ان الانسان المحب لله سبحانه وتعالى والقريب منه لايمكن ان يعصيه او يخالف احكامه ، وانما ينقاد لاوامره انقياد العارف بقدر الله سبحانه وتعالى.
    وفيما اوصى الله تعالى الى داود ( عليه السلام ) : « يا داود من احب حبيباً صدق قوله ومن رضى بحبيب رضى فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ومن اشتاق الى حبيب جد في السير اليه » (1). وفي الحديث « من آنس بحبيب قبل قوله ورضى فعله » (2).
    وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « ما احب الله عزوجل من عصاه ثم تمثل فقال :
تعصي الاله وانت تظهر حبه لو كان حبك صادقاً لاطعتـه هذا محال في الفعال بديـع ان المحب لمن يحب مطيع
    4 ـ الشوق لله والتضحية في سبيله :
    كما ان الانسان المحب لاخر لابد وان يشتاق للقائه والاجتماع به ويستعد لذلك اللقاء ويعمل قصارى جهده من اجل انجاح ذلك اللقاء ولو كلفه الكثير من المصروفات والعناء ، كذلك من يحب الله فانه يشتاق الله ويرغب في ملاقاته ، ولذلك تجده يعد للآخرة ويزرع لما بعد الحياة ليلقي الله سعيداً ولذلك ايضاً هو يشتاق الى لقاء الله ولايخاف من الموت.
1 و 2 ـ المصدر السابق.

(107)
    ان احد الاولياء يوصي اصدقائه بان يهنؤه عن موته لقدومه على الله سبحانه فيقول :
اذا ما صار فرشي من تراب فهنوني اصحـابي وقولـوا وبت مجاور الرب الرحيـم لك البشرى قدمت على كريم
    وفي الدعاء للامام الصادق ( عليه السلام ) : « سيدي انا من حبك جائع لا اشبع ، ان من حبك ظمآن لا اروى ، واشوقاه الى من يراني ولا اراه ... » (1)
    وفيما اوصى الى داود ( عليه السلام ) : يا داود : ذكري للذاكرين وجنتي للمطيعين وحبي للمشتاقين وانا خاصة للمحبين » (2).
    وفي الدعاء للامام زين العابدين ( عليه السلام ) ؛ « اللهم اني اسئلك ان تملأ قلبي حباً وخشية منك وتصديقاَ لك وايماناَ وفرقاَ منك ، وشوقاً اليك » (3).
    وفي الدعاء ايضا للرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « اللهم اجعل حبك احب الاشياء الي واجعل خشيتك اخوف الاشياء عندي واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق الى لقائك » (4).
    ان الانسان المؤمن الذي يحب الله قد يلاقي اذى كثيراً في جنب الله ويكابد المشاق والمعاناة ولكنه مع ذلك يشعر ان ذلك الاذى له لذة كبيرة جداً تنسيه التعب اكثر لذة من ذلك الاب الذي يعمل من اجل ان يصرف على
1 و 2 و 3 و 4 ـ ميزان الحكمة : ج 2 ص 213.

(108)
عياله ويرتاح لذلك.
    والتاريخ ينقل لنا نماذج فذة احبت الله فامتلكها الشوق للقائه واستقبلت الآلام والاخطار بسرور وارتياح في سبيل الله ، فهذا عمار بن ياسر ( رضوان الله عليه ) في يوم صفين وهو يخوض غمرات الحرب كان يخاطب الله سبحانه وتعالى قائلاً : « اللهم انك تعلم اني لو اعمل رضاك في ان اقذف بنفسي في هذا النهر لفعلت ، اللهم انت تعلم اني لو اعلم ان رضاك في ان اضع ظبة سيفي في بطني ثم انحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهم اني اعلم مما علمتني اني لا اعمل عملا صالحا هذا اليوم هو ارضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو اعلم اليوم عملاً هو ارضى لك منه لفعلته » (1).
    وآخر في معركة كربلاء وهو عابس بن ابي شبيب الشاكري قبل ان يلج المعركة كان يقول للامام الحسين ( عليه السلام ) : « يا ابا عبد الله اما والله ما امسى على ظهر الارض قريب ولا بعيد اعز علي ولا احب الي منك ، ولو قدرت على ان ادفع عنك الضيم والقتل بشيء اعز علي من نفسي ودمي لفعلته ، السلام عليكم يا ابا عبد الله ، اشهد الله اني على هديك هدي ابيك ».
    ثم مشى بالسيف مصلتاً نحوهم ـ نحو الاعداء ـ وبه ضربة على جبينه قال ابو مخنف : حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم ، قال : لما رأيته مقبلاً عرفته ، وقد شاهدته في المغازي وكان اشجع الناس ، فقلت : ايها الناس هذا اسد الاسود ، هذا ابن ابي شبيب لايخرجن اليه احد منكم ، فاخذ ينادي الا رجل لرجل !. فقال عمر بن سعد ارضخوه بالحجارة قال : فرمي بالحجارة من كل جانب
1 ـ حليف مخزوم : ص 240.

(109)
فلما رأى ذلك القى درعه ومغفره ، ثم شد على الناس ، فوالله لرايته يكر اكثر من مائتين من الناس ، ثم انهم انعطفوا عليه من كل جانب فقتل » (1).
    وثالث في معركة بدر الكبرى وهو معاذ بن عمرو بن الجموح كان يبارز ابا جهل وعندما ضربه ضربة اطاح بها رجله من الساق اخذت ابنه عكرمه الحمية فضرب معاذ على عاتقه فطرح يده من العاتق وبقيت معلقة بجلده فذهب يسحبها بتلك الجلدة ولما آذته وضع عليها رجله ثم تمطى عليها فقطها. وواصل القتال ، فهل كان ذلك يؤلمه ؟ كلا انه كان يتلذذ بهذا الاذى بحبه لله.
    وهذا الامام الحسين ( عليه السلام ) الذي يتجسد فيه حب الله بكل ابعاده قد قدم في يوم عاشوراء كله اهله واصحابه في سبيل الله ، بل وقد اعز ابن له وهو علي الاكبر الذي كان يحبه حباً جماً الا ان حب الله كان هو الاكثر على شخصيته ، وحتى طفله الصغير قدمه قرباناً في سبيل الله ، فحينما اصابه سهم مشؤوم من قبل الاعداء وهو على صدره تلقى الحسين دم وليده بيده ورمى به نحو السماء وهو يقول : « هو علي ما نزل بي انه بعينك التي لا تنام »
    وهو القائل في آخر لحظة من حياته وهوعلى رمضاء كربلاء والدماء تنزف من جسمه الشريف :
تركت الخلق طراً في هواك فلو قطعتني في الحب أرباً وأيتمت العيال لكي اراك لما مال الفؤاد الى سواك

1 ـ عابس ابن ابي شبيب الشاكري : ص 22 ـ 23.

(110)
    5 ـ بغض الكافرين والمفسدين :
    ومن دلائل حب الانسان لربه انه يبغض من يبغضه الله سبحانه وتعالى ، فعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « طلبت حب الله عزوجل فوجدته في بغض اهل المعاصي » (1).
    وعن الامام الباقر ( عليه السلام ) : « ... اعلم رحمك الله انا لاننال محبة الله الا ببغض كثير من الناس ولا ولايته الا بمعاداتهم ... » (2).
    وقال تعالى في كتابه الكريم : ( لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتاها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه اولئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون ) (3).
    6 ـ مساعدة المؤمنين :
    الانسان الذي يحب الله سبحانه وتعالى فانه يحب عباده المؤمنين ، فكما اننا في حياتنا الاجتماعية نكرم ابناء واقرباء اصدقائنا واعزتنا فكذلك يجب ان نكرم المؤمنين من عباد الله اكراماً لله وتقديراً للايمان به.
    وقد وردت احاديث كثيرة توضح اهمية مساعدة الفقراء والمحتاجين من المؤمنين وقد اعتبر الله الانسان المعين للعباد من افضل عباده واحبهم واقربهم اليه ، فعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « الا وان احب المؤمنين الى الله من اعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ، ومن اعان ونفع ودفع
1 ـ ميزان الحكمة : ج 2 ص 216.
2 ـ المصدر السابق : ج 2 ص 215.
3 ـ سورة المجادلة : ـ 22.


(111)
المكروه عن المؤمنين » (1).
    بين الحب والخوف ..
    وهناك فرق شاسع بين حب الله والخوف منه ، بين ان يحب الانسان ربه سبحانه وتعالى لذاته ولصفاته ولاهليته ، وبين من يعبد الله خوفاً من ناره او طمعاً في جنته.
    وقد صنف الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) العباد على انواع ثلاثة فقال :
    « ان قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وان قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الاحرار وهي افضل العبادة » (2).
    وروى ان عيسى ( عليه السلام ) مر بثلاثة نفر قد نحلت ابدانهم وتغير الوانهم فقال لهم ما الذي بلغ بكم ما ارى ؟ فقالوا : الخوف من النار فقال حق على الله ان يؤمن الخائف ، ثم جاوزهم الى ثلاثة اخرى ، فاذا هم اشد نحولاً وتغيراً ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم ما ارى ؟ فقالوا : الشوق الى الجنة ، فقال حق على الله ان يعطيكم ما ترجون ، ثم جاوزهم الى ثلاثة اخرى ، فاذا هم اشد نحولاً وتغيراً ، كأن على وجوههم المرايا من النور ، فقال : ما الذي بلغ بكم ما ارى ؟ قالوا : حب الله عزوجل فقال انتم المقربون » (3).
    عن الامام الرضا ( عليه السلام ) : لم لم يخوف الله الناس بجنة ونار
1 ـ ميزان الحكمة : ج 2 ص 218.
2 ـ ميزان الحكمة : ج 6 ص 17.
3 ـ جامع السعادات : ج 3 ص 151.


(112)
لكان الواجب عليهم ان يطيعوه ولا يعصوه لتفضله عليهم واحسانه اليهم ، وما بداهم به من انعامه الذي ما استحقوه » (1).
    الامام علي ( عليه السلام ) يقول مخاطباً ربه عزوجل : « وعزتك وجلالك ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكن وجدتك اهلاً للعبادة فعبدتك » (2).
    اذن هناك فرق كما اوضحته الاحاديث والروايات بين الحب وبين الخوف والطمع ، اذ ينطلق الحب من العلاقة القوية والمتينة والمعرفة الثاقبة بالله سبحانه وتعالى بغض النظر عن الجنة والنار فيصبح الخضوع لله سبحانه والالتزام باوامره هواية ولذة وليس واجباً وتكليفاً فحينما تستضيف حبيباً عزيزاً على قلبك فانك تبذل كل جهد ممكن لخدمته وضيافته دون احساس بالتعب او الانزعاج بل ترتاح نفسيا بذلك وتشكره لانه اتاح لك فرصة خدمته اليس كذلك ؟ وهكذا احباء الله يلتذون بخدمته ويبحثون عن فرص طاعته ولا يشعرون بالملل والتعب من طل العبادة ونصبها وفي هذه المرتبة حتى لو ضمن المحب لله الجنة وتأكد من نجاته من النار فانه لن يتوقف او يخفف من عبادته لربه ، فرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما سئل عن سبب كثرة عبادته مع ان الله قد غفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه ؟
    قال : اولا اكون عبداً شكورا ؟ .. وقديما قال الشاعر :
واذا حلت الهداية قلباً نشطت للعبادة الاعضاء

1 و 2 ـ ميزان الحكمة : ج 6 ص 18.

(113)
الامام الصادق ( عليه السلام ) : « الحب افضل من الخوف » (1).
    ومما جاء في صحيفة ادريس : « طوبى لقوم عبدوني حباً واتخذوني الها ورباً وسهروا الليل ، وادوا النهار طلبا لوجهي ، من غير رهبة ولا رغبة ولا لنار ولا جنة بل للمحبة الصحيحة والارادة الصريحة والانقطاع عن الكل لي » (2).
    هل تريد ان يحبك الله ؟
    قد يسأل شخص ، كيف اعرف ان الله يحبني ؟ والجواب ان الله لن يحبك الا اذا اخلصت حبك له وهاك ستة احاديث ان طبقتها احبك الله ..
    (1) « فيما اوحى الله تعالى الى داود » يا داود! ابلغ اهل ارضي اني حبيب من احبني وجليس من جالسني ومونس لمن آنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن طاعني وما احبني احد اعلم ذلك يقيناً من قلبه الا قبلته لنفسي ، واحببته حباً لا يتقدمه احد من خلقي ، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني ، فارفضوا يا اهل الارض ، ما انتم عليه من غرورها وهلموا الى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني اؤنسكم واسارع الى محبتكم » (3).
    (2) وعن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « الخلق عيال الله فاحب الخلق الى الله من نفع عيال الله ، وادخل على اهل بيت سروراً » (4)
    (3) وعن الامام علي ( عليه السلام ) : « ان من احب عباد الله اليه
1 ـ ميزان الحكمة : ج 2 ص 214.
2 ـ بحار الانوار : ج 95 ص 467.
3 ـ ميزان الحكمة : ج 2 ص 222.
4 ـ ميزان الحكمة : ج 6 ص 219.


(114)
عبداً اعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه » (1).
    (4) وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اذا تخلى المؤمن عن الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله وكان عند اهل الدنيا كأنه قد خولط وانما خالط القوم حلاوة حب الله فلم يشتغلوا بغيره » (2).
    (5) وسأل رجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله فقال : « احب ان اكون من احباء الله ورسوله ؟ قال : احب الله ورسوله وابغض مابغض الله ورسوله » (3).
    (6) وعن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « وجبت محبة الله على من اغضب فحلم » (4).
    كيف تتحبب الى الله تعالى :
    والان كيف يتحبب الانسان لربه ؟ وما هي الاساليب والممارسات التي تدخله في حظيرة حب الله ؟.
    بالاضافة الى ما سبق نؤكد على الامرين التاليين :
    1 ـ الدعاء ..
    فهو المعراج الى حب الله سبحانه وتعالى والتقرب اليه ، ذلك ان الدعاء من احب الاعمال الى الله ، فعن الامام على ( عليه السلام ) : « احب الاعمال الى الله عزوجل في الارض الدعاء » (5)
1 ـ ميزان الحكمة : ج 2 ص 218.
2 و 3 ـ نفس المصدر : ص 216.
4 ـ نفس المصدر : ص 15.
5 ـ ميزان الحكمة : ج 3 ص 245.


(115)
    ولا بد ان نقرأ الادعية التي تحببنا الى الله وتذكرنا بنعم الله ورحمته ونتدبر فيها ، ونشير في هذا المضمار الى الصحيفة السجادية التي هي بحق وسيلة عظيمة للتقرب الى الله سبحانه وتعالى ، ففي مناجاة الخائفين يقول الامام زين العابدين ( عليه السلام ) :
    « الهي اتراك بعد الايمان بك تعذبني ام بعد حبي اياك تبعدني ام مع رجائي لرحمتك وصفحك تحرمني ام مع استجارتي لعفوك تسلمني حاشا لوجهك الكريم ان تخيبني .. » ثم يقول : « الهي لا تغلق على موحديك ابواب رحمتك ولا تحجب مشتاقيك عن النظر الى جميل رؤيتك ».
    وفي مناجاة المريدين يقول :
    « والحقنا بعبادك الذين هم بالبدار اليك يسارعون وبابك على الدوام يطرقون واياك في الليل والنهار يعبدون وهم من هيبتك مشفقون الذين صفيت لهم المشارب وبلغتهم الرغائب وانجحت لهم المطالب وقضيت لهم من فضلك المآرب وملأت لهم ضمائرهم من حبك ورويتهم من صافي شربك فبك الى لذيذ مناجاتك وصلوا ومنك اقصى مقاصدهم حصلوا ».
    وفي مناجاة العارفين يقول :
    « الهي قصرت الالسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك وعجزت العقول عن ادراك كنه جمالك وانحسرت الابصار دون النظر الى سبحات وجهك ولم تجعل للخلق طريقا الى معرفتك الا بالعجز عن معرفتك ، الهي فاجعلنا من الذين ترسخت اشجار الشوق اليك في حدائق صدورهم واخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم فهم الى اوكار الافكار يأوون وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ومن حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون وشرايع المصافات يردون قد كشف الغطاء عن ابصارهم وانجلت ظلمة الريب عن


(116)
عقائدهم وضمائرهم وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم وعلت لسبق السعادة في الزهادة هممهم وعذب في معين المعاملة شربهم وطاب في مجالس الانس سرهم وامن في مواطن المخافة سربهم واطمأنت بالرجوع الى رب الارباب انفسهم وتيقنت بالفوز والفلاح ارواحهم وقرت بالنظر الى محبوبهم اعينهم واستقر بادراك السؤل ونيل المأمول قرارهم وربحت في بيع الدنيا بالاخرة تجارتهم ، الهي ما الذي خواطر الالهام بذكرك على القلوب ...
    وفي مناجاة الزاهدين يقول :
    « واغرس في افئدتنا اشجار محبتك واتمم لنا انوار معرفتك واذقنا حلاوة عفوك ولذة مغفرتك ... ».
    وكم هو رائع دعاء الافتتاح انه قطعة فريدة من الثناء والمدح تكرس في نفس الانسان حب الله والشوق اليه تستحق ان تكتب بماء الذهب.
    « فلم ار مولى كريما اصبر على عبد لئيم منك علي يا رب انك تدعوني فأولي عنك وتتحبب الي فأتبغض اليك وتتودد الي فلا اقبل منك كأن لي التطول عليك ثم لم يمنعك ذلك من الرحمة لي والاحسان الي والتفضل علي بجودك وكرمك .. ».
    فعلينا ان نقرأ الادعية المروية عن المعصومين ( عليهم السلام ) ونناجي الله سبحانه وتعالى بها ونتأمل فقرات الادعية ونتدبر فيها ونعايشها فانها تراث عظيم علمنا به ائمتنا ( عليهم السلام ) اللغة التي يجب ان نتفاهم بهما مع الله ، لان الانسان يعجز ان يدعو ربه كما يليق بالرب العظيم ، واقرب مثال لذلك تعالى الله عن الامثال انك عندما تريد ان تذهب الى شخصية مهمة قبل ان تذهب تسأل الاخرين عن كيفية التحدث وماذا تقول له ؟ وكثير من


(117)
الناس كما تعلمون عندما يريد ان يكتب رسالة الى حاكم او سلطكان فانه يكتبها بعد تمعن وتفكير او يستعين بمن يعرف كيفية كتابة الرسائل الرسيمة حيث انها تحتاج الى لفاظ مهذبة وموزونة وكلام مضبوط ، والائمة ( عليهم السلام ) يعلموننا كيفية التخاطب مع الله ومناجات الرب سبحانه وتعالى ، فلنتدبر فيها ، فانها تكرس في نفوسنا حب الل وتقديره.
    2 ـ النوافل وقيام الليل :
    اواخر الليل وقرب الفجر من الذ اوقات النوم والراحة ، فحتى الذين يسهرون اوائل الليل لا يستطعيون مقاومة جاذبية النوم اواخره ، اما النائم فعمق نومه وذروته يكون في هذه الفترة ...
    ولا يغادر الانسان فراش نومه ويتخلى عن راحته في هذا الوقت الا لامر لازم ومهم كالام التي تهب لارضاع طفلها ورعايته مقاومة اغراء الراحة وجاذبية النوم ويعتبر ذلك من المظاهر المهمة لعطف الامومة والتضحية من اجل الولد .. او حينما يحدث شيء طارئ للانسان يضطره للسهر في ذلك الوقت ..
    ولكن الانسان المؤمن يقوم من طوعه واختياره تاركاً نومه وراحته ليس استثناء وفي بعض الليالي وانما هو برنامجه الليلي الثابت .. فحين يغط الناس في سبات عميق ويلف الظلام الحياة والاشياء ويسيطر الهدوء والسكون على الاجواء وقبل ان تبدأمعركة خطيوط نور الفجر مع ظلمة الليل يكون المؤمن على موعد مع الله للخلوة به ومناجاته ..
    انه لقاء الهي خاص لا يحظى به الا المحبون لله الصادقون في حبهم .. وهل يكون صادقاً في حبه من يرفض اللقاء والخلوة بحبيبه .. يقول الله تعالى في حديث قدسي اوحاه الى نبيه موسى بن عمران ( عليه السلام ) :


(117)
    « يا ابن عمران! لو رأيت الذين يصلون لي في الدجى ، وقد مثلت نفسي بين اعينهم ، وهم يخاطبوني ـ وقد جليت عن المشاهدة ـ ويكلمونني ـ وقد تعززت عن الحضور ـ.
    يا ابن عمران! كذب من زعم : انه يحبني ، فاذا جنه الليل نام عيني ، اليس كل محب يحب خلوة حبيبه ؟ (1).
    ولصلاة الليل وقيام السحر فضل كبير وشأن عظيم تتحدث عنه الايات والروايات وهذه لقطات منها :
    ـ قال تعالى : ( ان ناشئة الليل هي اشد وطأ واقوم قيلا ) (2) ،
    فقد يكون سهلاً على الانسان في غمرة نشاطه اليومي اداء عدة ركعات ولكن ان يفارق فراش نومه في اعز اوقات الراحة والنوم ليؤدي صلاة الليل انها اشد وطأ على النفس وهي بذلك اصدق مظهر للايمان.
    ـ ومن ابرز صفات المتقين التي استحقوا بها نعيم الجنة احياء الليل بالعبادة ومناجاة الله في السحر يقول تعالى :
    ( ان المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون ) (3).
    ـ وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « خير وقت دعوتم الله فيه الاسحار » (4).
1 ـ كلمة الله : ص 270.
2 ـ سورة المزمل : ـ 7.
3 ـ سورة الذاريات : 15 ـ 18.
4 ـ سفينة البحار : ج 1 ص 604.


(119)
    ـ وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : « ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ولولا ان اشق علي امتي لفرضتها عليهم » (1).
    ـ وقال ( صلى الله عليه وآله ) : « عليكم بقيام الليل فانه دأب الصالحين قبلكم وان قيام الليل قربة الى الله تعالى وتكفير للذنوب ومطردة للداء عن الجسد ومنهاة عن الاثم » (2).
    فالله الغفور الرحيم ينظر الى عبده قائماً بين يديه في جنح الظلام يسأله العفو عن ذنبه الا يغفر له ؟ بلى ان قيام الليل تكفير للذنوب وخلافاً لما يظنه الانسان من اصابه جسمه بالتعب والعناء لقيام الليل فان الحديث الشريف يعتبره سبباً للصحة وازالة المرض « مطردة للداء عن الجسد » ومن يغسل قلبله بالتوبة كل ليلة بين يدي الله ويحاسب نفسه على ماعمل هل يقترب نحو الاثام والذنوب ؟ كلا ان قيام الليل منهاة عن الاثم.
    وفي وصيته ( صلى الله عليه وآله ) لابي ذر الغفاري ( رضوان الله عليه ) قال : « وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور » (3).
    ان يعمر ظلام الليل بعبادة الله ويشق سكونه الموحش بمناجاة الله فان الله الكريم سيكافئه بانارة قبره ورفع الوحشة عنه هناك .. فهل فكرنا في ظلمة قبورنا ووحشتها ؟ وهل نسعى لاضاءة الشموع في لحودنا ؟ ولتوفير اجواء المسرة والانس فيها ؟ ان كل ركعة نصليها في جوف الليل في حياتنا نوقد بها شمعة نور في قبورنا .. وان كل مناجاة تخشع بها قلوبنا في عتمة السحر ستصبح منبع راحة وهناء لنا تحت طبقات الارض بعد الموت ..
    ـ ولمحبة الله لعبده المؤمن ورغبته في لقائه فانه يوجه له العتاب الشديد ان
1 ـ المحجة البيضاء : ج 1 ص 388.
2 و 3 ـ المصدر السابق : ص 389.


(120)
تغيب ليلة عن حضور اللقاء .. كما يعاتب الواحد منا صديقه العزيز عليه ان تأخر عن اجابة دعوته .. فقد روى ان نبي الله يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) شبع ليلة من خبز شعير فنام عن ورده حتى اصبح فاوحى الله اليه : يا يحيى اوجدت داراً خيراً لك من داري ؟ اوجدت جواراً خيراً لك من جواري ؟.
    فوعزتي يايحيى لو اطلعت الى الفردوس اطلاعة لذاب شحمك ولزهقت نفسك اشتياقاً ، ولو اطلعت الى جهنم اطلاعة لذاب شحمك ولبكيت الصديد بعد الدموع ولبست الحديد بعد المسوح » (1).
    ـ ولا يكفي المؤمن بقيامه هو وحده بل يشجع عائلته على قيام ليشركهم في برنامجه الروحي ، وليريبهم على العبادة والخضوع يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « من استيقظ من الليل وايقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات » (2).
    ـ واذا كان مقياس الوجاهة والشرف في دنيا المادة القدرة المالية للانسان وقربه من مواقع السلطة والحكم فان مستوى شرف المؤمن ووجاهته عند الله مدى تبتله لله في جوف الليل فقد قال جبرئيل ( عليه السلام ) في موعظته لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « شرف المؤمن صلاته بالليل » (3).
    ـ روى فضيل بن يسار عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : « ان البيوت التي يصلي فيها بالليل بتلاوة القرآن ، تضيء لاهل السماء كما تضيء نجوم السماء لاهل الارض » (4).
    ما اعظم كرم الله واجل لطفه انه يدعونا لعبادته ثم يوفقنا لاداء تلك
1 و 2 و 3 ـ المصدر السابق : ص 390.
4 ـ المصدر السابق : ص 392.
معرفة النفس ::: فهرس