معرفة النفس ::: 211 ـ 220
(211)
    واحياناً اخرى يمارس الفرد اعمالاً بديئة في المجتمع ولكن بعد فترة يتوب الا ان الاخرين كأنهم لا يقبلون توبته اذ يقومن بتعييره على اعماله السابقة مما يولد في ذلك الانسان الشعور بالحقارة اذ ان فعلته ما زالت تلاحقه وكم من انسان عاد الى سالف عهده في الجريمة بعد ان تاب وذلك لعدم احترام المجتمع له.
    وقد حذر الاسلام من فعل ذلك فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( اذا زنت خادم احدكم فليجلدها ولا يعيرها ) (1).
    ولان الاسلام يريد ان يحافظ على كيانات الافراد وشخصيتهم ويمنعها من السقوط في وحل الحقارة والدناءة ، لذلك يأمر الاسلام المجتمع لمساعدتهم على ذلك وليس العكس.
    4 / الامراض والعاهات ..
    يصاب بعض الافراد بأمراض وعاهات قبل الولادة وتظل مصاحبة له وغير قابلة للعلاج في كثير من الاحيان ، وربما يصاب الانسان بعاهة اثناء حياته وفي كلتا الحالتين يتعرض الانسان الى عقدة الحقارة جراء ذلك حيث تتكون عنده الاستعدادات لهذا الشعور بسبب ما يرى في المحيط الخارجي من افراد معافين وسالمين بينما هو فاقد لعضو من اعضائه كأن يكون اعمى او اصم او ابكم او ما شابه.
    وخاصة في المجتمعات المتخلفة حيث تنعدم فرص التقدم والعمل امام ذوي العاهات فلا تتوفر لهم المدارس والمعاهد الخاصة او الاعمال المناسبة ، فيعيش المصاب جاهلاً وعاطلاً وعالة على الاخرين وقد يعامله المجتمع بالسخرية والاحتقار ..
1 ـ ميزان الحكمة : ج 7 ص 155.

(212)
    لهذا فقد نبه الاسلام الى ضرورة عدم النظر الى المصابين بالعاهات نظرات تشعرهم بنقصهم وتذكيرهم بعاهاتهم ، هذا فضلا عن عدم تعييرهم لان الاسلام يهدف الى اسعاد جميع افراد المجتمع دون استثناء.
    فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا تديموا النظر الى اهل البلاء والمجذومين فان ذلك يحزنهم ) (1).
    وعنه عليه السلام : ( اسماع الاصم من غير تضجر صدقة هنيئة ) (3).
    وعنه عليه السلام ايضاً : ( من نظر الى ذي عاهة ، او من قد مثل به ، او صاحب بلاء فليقل سراً في نفسه من غير ان يسمعه ، الحمد لله الذي عافاني ) (4).
    ان المجتمع غير الواعي بالحالات النفسية عند الافراد المصابين سوف يضاعف تأثير العاهة في نفسية الافراد ، بينما المجتمع المؤمن الواعي يهون على الافراد المصابين مصيبتهم.
    فعن الامام الصادق عليه السلام : ( ان المؤمن ليسكن الى المؤمن كما يسكن الظمآن الى الماء البارد ) (5).
    ومما لا شك فيه ان الامراض والعاهات قد تكون عامل دفع للانسان وتقدم ، اذ لا يعني قولنا بأنها احد اسباب العقدة النفسية ، انها سبب حتمي
1 ـ بحار الانوار : ج 16 ص 122.
2 و 3 ـ بحار الانوار : ج 16 ص 123 / ص 111.
4 ـ وسائل الشيعة للحر العاملي : ج 3 ص 209.
5 ـ الكافي : ج 2 ص 247.


(213)
كلا وانما توجد في الانسان الاستعدادات لعقدة الحقارة.
    وما يجب ان يفهمه المصاب بعاهة ان اعضاء جسمه ليست هي كل شيء في شخصيته فاذا ما فقد شيئا منها انعدمت امامه فرص التقدم والرقي .. فهناك بعدان آخران في شخصية الانسان هما البعد الروحي والعقلي فبامكانه التحليق في آفاق السمو الروحي والاقتراب من الله سبحانه وتعالى ليرتفع بالتقوى الى اعلى ذرى الكمال ويصبح اكرم وافضل عند الله ولدى المجتمع المؤمن من اصحاب الجسم وذوي الجمال يقول تعالى : ( ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) (1).
    واذا ما فجر طاقاته العقلية ومواهبه الفكرية فسينتزع دوره في المجتمع وسيفرض شخصيته على الاخرين وفي تراجم العظماء نجد اسماء كثيرة كانوا مصابين في اجسامهم بعاهات وامراض مزمنة لكنها لم تقعد بهم عن الرقي في سلم العظمة والمجد ..
    فهذا الجاحظ الاديب والكاتب المشهور والذي كتب ما يزيد على ثلاثمائة وستين مؤلفاً في شتى ألوان المعرفة ، انما لقب بالجاحظ لانه كان مشوه الخلق جاحظ العنين ـ اي بارزهما ـ وكان يقال له الحدقي ايضا لانه كان ناتئ الحدقيتن .. وقد قال يوماً لتلاميذه انه لم يخجلني طيلة عمري احج كما فعلت امرأة ثرية فقد لقيت امرأة في بعض الطرق وسألتني في ان اصحبها ففعلت حتى اتت بي الى محل صائغ للتماثيل وقالت له مشيرة الي : كهذا فوقفت حائراً من امرها ، ولما انصرفت سألت الصائغ عن القصة :
    فقال : لقد استعملتني هذه المرأة لاصوغ لها تمثالاً لشيطان.
    فقلت لها : اني لم ار الشيطان كي اصوغ تمثاله ، فطلبت مني ان انتظر
1 ـ سورة الحجرات : ـ 13.

(214)
حتى جيء لي بتماثله .. واليوم جاءت بك الي وامرتني ان اصوغه طبق منظرك !!
    ان سوء منظر الجاحظ ودمامة شكله لم تقعد به عن التقدم العلمي والادبي وقد كان مقصدا للعلماء والادباء وكان مقرباً من الحكام العباسيين لكفائته ولمواقفه المناوئة لاهل البيت عليهم السلام.
    وذاك ابو العلاء المعري ، كان مكفوف البصر ولكن ذلك لم يمنعه من احراز مرتبة عالية في مجال الفلسفة والادب حتى عد من اكابر شعراء اللغة العربية.
    5 / الصدمات النفسية ..
    يلاقي بعض الافراد في بدايات حياتهم عقبات ومشاكل تعترض طريقهم فقد يفشل انسان في حل مشكلة تواجهه او يفشل في الدراسة ، او في عمل من الاعمال فتصبح عنده قناعة داخلية بأنه انسان غير قادر على النجاح وهذا نوع من اليأس والجهل بمعادلات الحياة.
    6 / الافكار الانهزامية ..
    هناك بعض الافكار تفقد الانسان الثقة بنفسه وتشعره بالحقارة والضعف حيث توحي للانسان بأنه عاجز عن مقاومة واقعه وتغيير اوضاعه وكأن الواقع المعاش مفروض من قبل الله ..
    وتسعى الحكومات الطاغوتية الى ترسيخ هذه الفكرة لدى ابناء الشعب لكي لا يفكروا في الثورة والتحرك ولا تنمو في نفوسهم الطموحات العالية.
    والصحيح ان واقع الناس تصنعه نفسياتهم ومواقفهم يقول تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ) (1).
1 ـ سورة الروم : ـ 41.

(215)
    فللحياة الاجتماعية قوانينها ومعادلاتها ومن ابرز السنن الاجتماعية سنة التغيير والتحول في المجتمعات والتي ترتبط بوجود فئة تعمل من اجل التغيير وان كانت قليلة العدد الا ان اخلاصها وعطاءها يقربها من النصر يقول تعالى : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة باذن الله والله مع الصابرين ) (1).
    ان الحكومات المسيطرة على شعوبنا ضعيفة وهشة ولكن المشكلة تكمن في ان الشعوب لم تكتشف ذاتها ولم تمتلك الثقة بقدراتها بسبب الافكار السلبية الانهزامية التي تزرع عقدة الحقارة على صعيد الافراد والمجتمعات.
    7 / السلطات الطاغوتية ..
    يسعى الحكام الجائرون الى اضعاف ثقة الناس بأنفسهم واشعارهم بالحقارة والضعة والعجز عبر وسائل الارهاب والقمع فكل قانون وكل ممارسة لهذه السلطات يقوم على اساس اذلال المواطن وتحقيره فالحريات مصادرة والقانون معدوم وسياسة البلد يقررها الحكام وحدهم ويهان المواطن عند مراجعة الدوائر الحكومية وتوضع امامه الاف القوانين والعقبات التي تكبل حريته في العمل والتحرك ..
    واذا ما تجرأ المواطن على مخالفة السلطة فسيكون لعبة بيد الجلاوزة والمعذبين والمحققين يمارسون معه ابشع اساليب الاهانة والتنكيل ..
    وقد تزيد السلطة من قمعها واضطهادها لطائفة من الشع وتمارس ضدها التمييز العنصري او القومي او المذهبي وبختلف الوسائل لاذلال ابنائها وتحقيرهم ..
    وفي ظل هذه السلطات يفقد الناس الثقة بأنفسهم ويحتقرون قدراتهم ان لم يتوفر لهم الوعي والثقافة الرسالية ..
1 ـ سورة البقرة : ـ 249.

(216)
    قال تعالى : ( ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحي نسآءهم انه كان من المفسدين ) (1).
1 ـ سورة القصص : ـ 4.

(217)
    وجود حالة من الحالات النفسية في شخصية الانسان وحياته لا تعني حتمية اصابته بعقدة الحقارة وانما تعني وجود الارضية والاستعداد النفسي لنمو جرثومة هذا المرض الخطير ..
    وحتى اذ ما ابتلي الانسان بهذا المرض فانه ليس مرضاً ثابتاً يستحيل علاجه .. وبامكان الانسان ان يتغلب على هذا المرض اذا ما اراد ذلك وصمم على الالتزام بأساليب الوقاية والعلاج.
    والحديث الان عن بعض وسائل العلاج واساليب الوقاية :
    1 / الوعي الصحيح ..
    الانسان الذي لديه وعي صحيح لذاته ومكانته عند الله لا يقبل لنفسه الذل والهوان ، ولا يستسلم للضعف الحاصل فيه وانما يفتش عن مكامن القوة في شخصيته ويستعين بالله في الاستفادة منها ، وهذا في الواقع ما يمييز الانسان المؤمن عن الانسان الكافر الذي يتعامل مع الحياة بمنظار مادي بحت ، فالمؤمن الذي يؤمن بالغيب امله في التقدم يكون اكبر.
    عندما تحدث الانسان نفسه بأنه اقل من الاخرين ينبغي عليه ان يبعد تلك الوساوس ويقرأ الايات والاحاديث التي تعرفه نفسه وتلفت نظره الى ما اودع الله فيه من قدرات ومواهب.


(218)
    وعن الامام علي عليه السلام قال :
اتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر
    وليقارن الانسان بينه وبين الاخرين في اصل خلفتهم واستعدادتهم وليتساءل مع نفسه هل اولئك احسن مني ؟ هل يمتلكون قدرات اكبر مني ؟ اوليس الرب الذي قد خلقني ؟
    واذا رأى الانسان الحياة بنظرة واقعية فانه سوف يرى من هم اقل منه منزلة وطاقة واصعب منه ظروفاً واوضاعاً ، لكنهم استطاعوا ان يقودوا العالم ويصنعوا المعجزات ويتجاوزون النواقص.
    2 / الايحاء الذاتي ..
    ليوحي الانسان لذاته يومياً عشرات المرات بانه كبير وعظيم ويمتلك القدرات الجمة والطاقات الغزار ، وليرتبط بالله اكثر ويدعوه فان في الدعاء ايحاءات جميلة ومهمة لعلاج الامراض التي تعجز عنها الحلول الاخرى ، وليتغافل الانسان عن النواقص التي تعيقه عن التقدم ولا يركز عليها كثيراً لكي لا يصاب بالتشاؤم وينظر الى نقاط القوة في شخصيته ويركز عليها ويوحي لنفسه انه بها سوف يتقدم ، فالذين تقدموا ليسوا بأفضل منه.
    3 / قراءة حياة العظماء ..
    والاسماء اللامعة في تاريخ البشرية من العباقرة والعلماء والقادة ينبغي قراءة حياتهم وخاصة في بداياتهم فهم لم يولدوا عظماء. يقول تعالى : ( والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون ) (4) ، واكثرهم لم تتوفر له الظروف الملائمة للتقدم
1 ـ سورة النحل : ـ 78.

(219)
او كان يعاني بعض المشاكل والصعوبات ..
    الناس جميعهم جاءوا الى الدنيا بمستوى واحد ولكن بعضهم توفرت له فرص التقدم والبعض الاخر لم تتوفر او توفرت له ولكن لم يستغلها وبامكان الانسان ان يستغل الفرص القادمة ..
    والحمد لله هناك كتب كثيرة تتحدث عن حياة العظماء وكيف اصحبوا عظماء ، كما ان قسماً لا بأس به منهم كتب مذكرات لمسيرة حياته بامكان اي انسان الرجوع لها والاستفادة من عبر حياتهم وتجاربهم.
    4 / المحيط الصالح ..
    الانسان الذي يعاني من عقدة الحقارة عليه ان لا ينعزل عن الناس فليس كل الناس اشراراً يشمتون بضعفك وعجزك ، وانما هناك الكثير منهم صالح وما عليك الا ان تبحث عن محيط صالح من الناس المؤمنين وحتماً سوف يساعدونك على تجاوز مشكلتك.
    والحمد لله نعيش في هذا الوقت صحوة اسلامية عظيمة افرزت تجمعات


(220)
ايمانية تساعد الانسان على تفجير طاقاته وكفاءاته ، فعلى الانسان ان يبحث عن تلك التجمعات ويبتعد عن التجمعات السيئة التي تزيد من عقدة الحقارة عنده ، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الاسلام مثل اخ يستفيده في الله ) (1).
1 ـ ميزان الحكمة : ج 2 ص 191.
معرفة النفس ::: فهرس