محاضرات عقائدية ::: 31 ـ 45
(31)
المحاضرة الثانية :
« الإمامة في كتاب الله الحكيم »


(32)

(33)
    الحمد لله ، وسلام على عباده الّذين اصطفى ، وعلى النبي الخاتم وآله الطاهرين أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
    أمّا بعد : فيا أيّها الإخوة الأحباب سلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
    لعلّي لا أبالغ إذا قلت لكم : إنّ أهمّ وأشرف موضوع خليق بأن تجنّد له العقول والأبصار والألباب وتتوفّر العقول على بحثه والتثبّت منه هو موضوع الإمامة ، ذلك أنّها تمثّل في شجرة الإيمان الثمرة.
    إنّ الشجرة المباركة التي جعل الله أصلها ثابت في الأرض بلا إله إلاّ الله وفرعها منبثق في السماء برسول الله إنّما ثمرتها الحقيقية الإمامة ، وإذا تجرّدت الشجرة من الثمرة فقدت وظيفتها وأصبحت عالة على الأرض التي تستقل بها.
    أيها الأحباب ، أهمّية الإمامة تأتي كذلك ، باعتبار مظلوميتها


(34)
لدى المسلمين ، فهي الركن المظلوم عبر التاريخ من بين أركان الإيمان ، والتي بظلمها تهدمت باقي أركان الإيمان.
    فتعالوا نردّ على تحدّي من طبع الله على قلوبهم وجعل في آذانهم وقراً ، نردّ على تحدّيهم بأن نعيش مع كتاب الله في بيان الإمامة ، « يُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَايَشَاءُ » (1) .
    فتعالوا بالقول الثابت نتعرّف على النظرية العامّة في القرآن حول الركنين الأساسيين الربوبيّة والعبوديّة.

    إنّ قصّة الخلق تدور حول الربوبية والعبودية : ربٌّ خلق وعبدٌ مخلوق مطلوب منه أن يعبد الذي خلقه ، وهو لكي يعبده لابدّ أن يكون على بيان من مراد المعبود بياناً قطعيّاً لا مظنّة فيه.
    إذن ، فالقضيّة أصلها حقوق الربوبية وواجبات العبودية :
    ففي حقوق الربوبية ـ إعلم يا أخي ـ أنّ الله ليس ربّ البشر فقط ، ولا ربّ الإنس والجن فقط ، ولا ربّ الشجر والحجر والحيوان ، بل هو ربّ كل شيء ، ولذلك فإنّ الإمامة التي يجحدها الناس في عالم البشر هي في الحقيقة تسري في كل المخلوقات.
1 ـ إبراهيم : 27.

(35)
    ولكي نعرف حتمية الإمامة تعالوا نستعرضها في القرآن ، لنرى وفق أيّ مفهوم تسري في كل المخلوقات؟

    مفهوم أنّ كلّ مخلوق خُلق على قاعدة الإختيار الإلهي له ، يعني ليس مخلوق عبثاً ، لأنّ العبثية في المخلوقات ممتنعة ، « أَفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً » (1) ، فكلّ المخلوقات خلقت بتقدير واختيار بما يستطيع الباحث المدقّق معه أن يسجّل هذه السُنة : سُنة الخلق مقرونة بسُنة الإختيار.
    فما من خلق إلاّ مصحوب باختيار ، لقول الحقّ تبارك وتعالى : « وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَايَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَاكَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ » (2) .
    إذن حيثما يوجد خلق يوجد اختيار.

    فتعالوا نرى كيف أشار القرآن إلى أنّ الاختيار يشمل العوالم الثلاثة : عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان ، كلّ هذا اختيار.
     « وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُختَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرابِيبُ سُودٌ
1 - المؤمنون : 115.
2 ـ القصص : 68.


(36)
* وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ والأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ » (1) ، إشارة إلى مَن الذي جعل جبلا أبيضاً وجبلا أسوداً وجبلا أحمراً.
    إذن هناك اختيار ، والناس كذلك ، وهذا الإختيار يتعاظم ويدخل في مرحلة تفصيلية كلّما ارتقت المجموعة أو الجنس.
    فالاختيار في الجماد دقيق ، وأدقّ منه الاختيار في النبات ، فما أعجب ما ترى في النبات؟!

    كلّ نبات له زهرة معينة ، فهل تستطيع زهرة نبات ما ـ كالرمان مثلا ـ أن تنتج برتقالا أو تنتج ليموناً؟!
    لقد اختيرت وصمّمت على أن تنتج الرمان ، وكم في النبات من عجائب؟

    وإذا دخلنا عالم الإنسان أو عالم الحيوان ككلّ ، والإنسان نوع من هذا الجنس الذي يجمعه قول ربنا تعالى : « وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة مِنْ مَاء فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَع يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ » (2) ، وهذا
1 - فاطر : 27 ـ 28.
2 ـ النور : 45.


(37)
اختيار ، إذ لا تستطيع ذوات الأربع أن تقوم بوظيفة من يمشي على رجلين ، ولا تستطيع التي تمشي على بطنها أن تنافس من تمشي على أربع.
    فإذا جئنا للمخلوق الذي يمشي على رجلين فما قصته في الاختيار؟
    هذا هو الاختيار الأدقّ ، هذا هو الاختيار الذي تجلّت فيه الربوبية بكامل إبداعها وتقديرها ، تجلّت تحدياً وإثباتاً للقدرة ، وعند نقطة التحدي بدأت المشكلة في رفض الاختيار ، فما هي نقطة التحدي؟

    إنّ الله تبارك وتعالى العليم بخلقه ، لمّا خلق الجنّ وأسكنهم الأرض التي نحن فيها الآن ، وكانت لهم فيها سيادة ، وكانت لهم فيها قدرات تزيد على قدرات الإنس ، قدرات خالية من الأذواق ، قدرات مردة الجن ، عفاريت الجن ، هؤلاء الجن المعمرين واحدمنهم أحسن العبودية لله فدخل عليه تحسين إلهي واختيار إلهي آخر ، وهو إبليس الذي يصفه الله عز وجل في سورة الكهف تعليلا لاستكباره عن السجود لآدم حيث يقول : « إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ » (1) .
1 ـ الكهف : 50.

(38)
    لمّا اختار الله عزّ وجلّ أن يخلق بشراً من صلصال ، وأنبأ الملائكة بمشيئته ، وتحقّقت هذه المشيئة ، وخلق الإنسان ، وجاء وقت الإذعان لمشيئة الرحمن بالسجود له.
    نحن قلنا : إنّ الربوبية ـ الألوهية ـ تتكوّن من عنصرين : القدرة على الخلق ، والقدرة على الإختيار ، فالإله هو الذي يخلق ، ولهذا يقول الحق : « أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ » (1) ، ويقول : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ » (2) .
    فالخالق يقترن بقدرته على الخلق ، لا أقول قدرته في الإختيار ، بل وحقه في الاختيار أنّه خلق ، أليس مِن حق مَن خلق ملك ، ومَن ملك تصرّف ، والتصرّف اختيار ، يختار ما شاء؟
    اختار آدم لاستخلافه وليهيّئه للإستخلاف بحيث علّمه ما لا تعلم الملائكة ـ من دون تفصيل ، والوقت لا يتسع لأن نتساءل ما الذي علّمه لآدم ـ علّمه الأسماء كلها ، وهذا التعليم أجّج غيرة إبليس ، فبدل أن يقول : سبحان الذي يَخلق ولا يُخلق ويَقدر ولا يُقدر عليه ويَختار ولا يُختار عليه ، فهو بدل أن يقول كذلك قال : أنا أؤمن بأنك الخالق ، لكن أنازع في اختيارك آدم.
1 ـ الطور : 35 ـ 36.
2 ـ الزخرف : 9.


(39)
    انتبهوا ، لأنّ مدخل إبليس إلى الكفر هو مدخل كثيرين دون أن يشعروا.
    إنّ إبليس لم يكفر بالله خالقاً ولا كفر بالله رازقاً ولا كفر بالله فاطراً ، فقد قال لربّه : « خَلَقْتَني مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين » (1) ، « أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً » (2) .
    إذن منازعة إبليس في نقطة الاختيار ، فطُرد إبليس.
    إعلم يا أخي ، إنّ الله عزّ وجلّ موازينه لا تختل ، فالأُستاذ العادل في الفصل الدراسي عندما يريد أن يزن تلاميذه ويعطيهم الدرجة التي يستحقّونها ـ إذا كانوا قد درسوا منهجاً واحداً أو ساعات دراسية واحدة ولقوا عناية واحدة ـ يوجّه لهم سؤالا واحداً كي يقيس قدراتهم ، يوجّه سؤالا واحداً ولا يعطي أسئلة متناقضة ، فلا يعطي تلميذاً سؤالا سهلا والثاني سؤالا صعباً!
    فالله الخالق الذي وجّه الى الملائكة ومن بينهم إبليس الخطاب : « إنّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين * فَإذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ » (3) .
    لمّا فشل إبليس في الامتحان وحاق به جزاء الرفض بالطرد من الجنّة وكان الطرد مقروناً بتعليم واحد ، قال ربّنا لإبليس أخرج
1 - الأعراف : 12.
2 ـ الإسراء : 61.
3 ـ ص : 71 ـ 72.


(40)
من الجنة ، لماذا؟ فهو لم يقل له لأنك لم تعبدن ، ولا لأنّك لم تذكر أنّي خالقك ، ولا لأنّك تصوّرت نفسك إلهاً ، وإنّما قال له : « فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ » (1) ، يعني الاستكبار على أمر الله في الاختيار مصيره الطرد.
    لقد ألمح الطبري في تفسيره إلى أنّ إبليس عندما طُرد من الجنّة جأر إلى الله محتجّاً وشاكياً ومتحدياً (2) .
    هذا التحدي الذي سيكون سبباً لدخول الاختيار على بني آدم ، تحدى بأي شيء؟
    قال : يا ربّ أنا عبدتك في الأرض وعبدتك في السماء حتى ابتليتني بهذا المخلوق الذي خلقته من طين وأمرتني بالسجود له ، فعظُم عليّ أن أسجد للطين ، هلاّ ابتليت ذريته بما ابتليتني به ففضّلت بعضهم على بعض لترى كيف يفعلون ببعضهم؟
    وعن هذا تتحدث الآية في السُنة الكونية ، يقول الحق : « وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض لِيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ » (3) .
    الله تعالى وجد أنّ احتجاج إبليس احتجاج وجيه ، وبعدله وبتقديره في الأزل أجرى الاختيار على ابني آدم منذ فجر الخليقة.
1 ـ الأعراف : 13.
2 ـ تفسير الطبري : 8 / 172 ـ 175.
3 ـ الأنعام : 53.


(41)
    إعلم يا أخي ، أنّ الإمامة جُعلت لآدم عندما أصبح له ابنان ، لأنّ سياق الآية في سورة المائدة يدلّ على أنّه وقت وقوع حادث ابني آدم لم يكن له غير هذين الابنين : « وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ » (1) .
    أبوهم مستخلف ، ثمّ عندما يصبحوا أكثر من واحد تتحرك سُنة الاختيار لكي يتبيّن من يرضى باختيار الله.
    كما أنّ ابني آدم قبل الاختيار كانا مسلمين ، إذ ما زالا قريبا عهد بأبيهم المُهبط من الجنة.
    ما الدليل على إسلامهم؟ الدليل هو أنّهما قرّبا لله قرباناً ، فلو كان أحدهما كافراً محضاً ومنكراً فإنّه لا يقدّم قرباناً ، « وَاتلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إذ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ » (2) .
    رفض ابن آدم الشقي الاختيار ، رغم أنّه قبل ذلك كان يقدّم قرباناً ، أي : أنّه عارف بالله مؤمن به ، لكنّه رفض الاختيار ، فطُرد وأصبح شقياً مطروداً وارتكب جريمة القتل لأخيه.
1 و 3 ـ المائدة : 27.

(42)
    إنّ إبليس فرح مع أول دفقة دم لابن آدم على يد أخيه ، وقال : ها لقد نجحت في التحدي!! لأنّ هو تحدى كما يقصّ القرآن : « قَالَ أَرَأَيتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أخَّرتَنِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَتَهُ إلاّ قَلِيلا » (1) ، فإبليس يقول : إنّك إن أخرتني يا ربّ ، فهو أيضاً معترف بالله وبالبعث ، هذا إبليس يؤمن بالله ربّاً خالقاً وبالبعث ، لكن سقط في امتحان الاختيار وبدأ يتحدّى ويقول : إن أخرتني ليوم القيامة سوف آخذ أبناء آدم منك ، أي من عبوديتهم لك ، ليكونوا عبادي أنا! ولهذا يقول الحق عن إبليس : « أفَتَتخِذُونَهُ وَذُرِّيَتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَالِمينَ بَدَلا » (2) .
    بدأت سُنة الاختيار تصبح من سنن الله التي لا تجد لها تبديلا ولا تحويلا لمّا تكاثر البشر وبدأت النبوّات.

    ربّنا يعبّر عن إرسال نبيه نوح ( عليه السلام ) أبو البشر الثاني بتعبير يمثّل روح الإمامة ، أنظروا إلى نور الإمامة بدأ يشرق متمثّلا بالإصطفاء : « إنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحَاً » (3) ، والإصطفاء يعني الصفوة ، وهو
1 - الإسراء : 62.
2 ـ الكهف : 50.
3 ـ آل عمران : 33.


(43)
ليس مجرد اختيار ، بل اختيار عن علم وبصيرة واقتدار وتصفية.

    ثمّ دخل على الاصطفاء تطوّر جديد ، ما هو؟
    سببه إبراهيم ( عليه السلام ) : « إنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وآلَ إبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ » (1) ، فهو تعالى لم يقل : إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وإبراهيم ، بل قال : « وَآلَ إبْرَاهيمَ ».
    الله تبارك وتعالى لمّا أكرم إبراهيم وابتلاه بكلمات وأتمّهنّ وخوطب بالبشرى : « إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً » ، وتقبّل البشرى طامعاً في سعة رحمة الله وفي استدامة هذا النور في ذريته ، « قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتي » ، أُجيب جواب المثبت للإمامة من حيث المبدأ المستبعد للظالمين منها ، « قَالَ لاَيَنَالُ عَهدِي الظَّالِمينَ » (2) أي : بلى يا إبراهيم يكون من ذريتك أئمة مع استبعاد الظالمين ، لماذا؟
    لكي تظلّ سُنّة الاختيار مقرونةً بأسباب موضوعية ، وهي الفصل بين الظالم والصالح ، البارّ والفاجر.
    لقد جعل الله قاعدةً في كتابه مفادها : أنّ النعم لا تغيّرها إلاّ المعاصي ، ذلك لأن الله إذا أنعم على عبد بنعمة « لَمْ يَكُ مُغَيِّراً
1 - آل عمران : 33.
2 ـ البقرة : 124.


(44)
نِعمَةً أنْعَمَها عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّروا مَا بِأَنْفُسِهِمْ » (1) ، فقد أنعم الله النعمة على آل إبراهيم ، وجاء في تأسيس هذه النعمة نكتة غريبة ملفتة للنظر ، وهي أنّ النعمة جاءت مقرونةً بخطاب الملائكة ليس لإبراهيم.
    فالخطاب أوّلا لإبراهيم بالإمامة كمبدأ واستدامتها في الذرية ، فأُجيب مع استبعاد الظالمين.
    لكن عند التحقيق العملي نجد أن الملائكة جاءوا إلى إبراهيم ( عليه السلام ) بشأن قوم لوط ، فأخذ يجادلهم في قوم لوط ، وكانت امرأة إبراهيم البارّة الصالحة سارة عميدة أهل بيت الأنبياء قبل الزهراء ( عليها السلام ) ـ قبلها وليست مثلها ، وهذه قبلية في المرور التاريخي ـ يقول الوحي : « وَامْرأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذا بَعْلِي شَيْخاً إنَّ هَذَا لَشَيءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ » (2) .
    وهنا بخلَّة إبراهيم مع الله أصبح لله بيتاً في الأرض ، وبوّأ الله بيته لإبراهيم ليرفع قواعده ، فأصبح هناك بيتاً ولابدّ للبيت من أهل : « وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً » (3) ،
1 - الأنفال : 53.
2 ـ هود : 71 ـ 73.
3 ـ الحج : 26.


(45)
« وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ » (1) .
    بدأت مرحلة أهل البيت ، فالله أصبح له في الأرض بيت ، وللبيت أهل ، ولا يمكن أن يكون الأهل أناساً مجهولين ، كما لا يمكن أن يوجد بيت أهله من غير اختيار ربّ البيت.
    الله تعالى منذ أن رفع إبراهيم القواعد من البيت صار أهل البيت إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، حتى استتم بنوا إسرائيل مواكب أنبيائهم وكانت القاعدة فيهم ، فهم يتوافدون نبياً بعد نبي ، حتى إذا غيّر بنوا إسرائيل ما بأنفسهم غيّر الله ما أنعم عليهم.
    وجاء التغيير في سورة الأعراف لمّا أرادوا أن يستديموا اختيارهم وقالوا « إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ » أي انقدْنا إليك ، وهدنا هذه هي على الراجح السبب في تسميتهم يهود ، فأجيبوا : « قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ » (2) ، فالله العظيم الرحيم يردّ عليهم : أنتم مستوجبين العذاب بما فعلتم وبدّلتم ، ولهذا قدّم العذاب على الرحمة هنا ، لأنّه في مقام الردّ على مستحقي العذاب ، لكن رحمتي واسعة ولها سبب ولها باب ولها مدخل : « وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِنْدَهُمْ
1 - البقرة : 127.
2 ـ الأعراف : 156.
محاضرات عقائدية ::: فهرس