محاضرات عقائدية ::: 46 ـ 60
(46)
فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ » (1) أبي القاسم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

    إعلم يا أخي الحبيب : أنّ سُنة الله في الأرض وفي المخلوقات ـ وحتى الفلاسفة وعلماء الطبيعيات يقولون ـ أنّ الحياة دائماً إلى الأفضل ، أرجو أن نلتفت إلى هذه النقطة : الحياة في مجموعها دائماً إلى الأفضل ، لماذا؟ لأنّ الله تبارك وتعالى ربّ الحياة ، وهو ينمّيها ويجلّيها باعتبارها مظهراً لقدرته.
    يعني الملك القادر ـ الملك البشري ـ لمّا يبدي من فنون قدرته حداً معيناً لتتوقّف عند هذا الحدّ وأصبحت قدرته عاجزة عن الإبداع فيما بعد ، يثبت محدوديته وعجزه عن أن يأتي بجديد.
    أمّا الله فمن أسمائه وصفاته بديع السماوات والأرض ، وما دام هو بديع فلا يزال مبدعاً ، وما دام لا يزال مبدعاً لا يزال الكون متقدّماً إلى الأفضل ، الأفضل في نوع البشر والأفضل في أنماط الحياة ، كيف وما الدليل من القرآن؟
    إنّ الله تعالى علّمنا في القرآن أنّ مواكب الأُمم لمّا توافدت على الأرض كانت كلّ أمة يأتيها نبي تكفر به ، فيهلك الكافرين ويستبقي الصالحين ، والدليل على هذا ما جرى في سفينة نوح :


1 - الأعراف : 156 ـ 157.

(47)
« قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَينِ وَأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ » (1) ، وبدليل قول الله تعالى عن نوح ( عليه السلام ) في سورة الصافات : « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ » (2) .
    ألا يعني هذا تطوير الحياة إلى الأفضل في النوع أو لا؟ يعني أنّ البشر الذين بعد نوح هم أبناء أفضل مَن كان في السفينة وهكذا دواليك عند عاد وعند قوم صالح يهلك الطالحون ويبقى الصالحون.
    كذلك الإنسانية في مجموعها ما زالت تكتشف قيماًأخلاقية ، وأرجو أن نكون أوفياء للإحساس بإبداع الله في الإنسان ، الإنسان مخلوق غريب جداً! قدراته وأخلاقياته عجيبة بإبداع الله فيه!
    يعني من إبداع الله في الانسان أنّ قوماً كافرين كأهل الغرب بمقياس الإيمان والكفر ، لكنهم بمقياس العطاء الإنساني قدّموا للإنسانية ممّا ابتكروه واستحدثوه ما تستفيد به كل الإنسانية ـ بما فيها المسلمون وبما فيها نشر كتاب الله ـ وآخرها الإنترنيت الذي نبثّ فيه ما نستطيع أن نبثّه ، كما وجد في الغرب التسامي الإنساني ، حيث ارتقاء النوع ضروري إذ وجد مَن ينتصف للمظلوم حتى ولو كان بأهواء!
    فأيُّ صورة هذه التي تجعل عشرات الألوف من العراقيين ومن غير العراقيين من أجناس الأرض تضيق بهم أراضيهم ويضيق
1 - هود : 40.
2 ـ الصافات : 77.


(48)
بهم أهلوهم فيجدون في كنف هؤلاء ملاذاً وحريةً؟!
    لقد استطعت أن أتكلم في لندن وفي أميركا بما لا أستطيع الكلام به في القاهرة!!
    الخلاصة : فأيُّ دلالة في هذا؟
    إنّ الإنسانية تتقدّم ، وما دامت تتقدّم في مجموعها يبقى اختيار الإمامة لازم ومتساوق مع هذا التقدّم ، بمعنى أن يظل حِجر الإمامة قادر على أن يقود الإنسانية في ذروة تقدّمها ولا يتخلّف عن ركبها.

    فالاختيار الذي انتهى إلى بني إسرائيل ثمّ نسخ باختيار محمد وآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، سأوجز حديثي فيه بين يدي سورة الشورى ، لأنّ سورة الشورى هي التي صنعت المنعطف الذي بيّن تسلسل الاختيار وبدء الإمامة في ذرية الزهراء ( عليها السلام ).
    الحق تبارك وتعالى يقول في سورة الشورى : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحَاً وَالَّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » (1) .
    أول شيء يقول الحقّ مخاطباً عبده ورسوله محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا
1 - الشورى : 13.

(49)
عبدي ورسولي محمد ، هاقد آل إليك ميراث النبيين جميعاً ، هاقد آلت إليك أنوار الأنبياء جميعاً ، ووصاياي لهم جميعاً أصبحت وصاياي لك ولأمتك.
    ماهو جوهر الوصايا؟

    « أَنْ أَقِيمُؤا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » (1) ، لأنّ التفرّق لو وقع سيكون ناشئاً بسبب البغي ، فربنا يقول : « وَمَا تَفَرَّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ » (2) ، فالتفرّق إذا وقع لا يكون إلاّ بسبب البغي الذي يمثّل رفض الاختيار الإلهي.
    ومعنى البغي بينهم : أنّ واحداً منهم لا يروقه اختيار الله للثاني ، وهذا هو معنى قول جاهلية قريش : « وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرآنُ عَلَى رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٌ » (3) ، فالحق يقول : « وَمَا تَفَرّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ » ، بمعنى أنّه غير مقبول في دين الله أن يتفرّق المسلمون في أركان الإيمان ـ والإمامة على رأسها ـ ولا أن يعتذّروا في تفرّقهم بمقولة : إنّ مَن اجتهد فأخطأ فله أجر ومَن تأوّل فأصاب فله أجران ، لأنّ هذه المقولة يدحضها الوحي
1 - الشورى : 13.
2 ـ الشورى : 14.
3 ـ الزخرف : 31.


(50)
وينفي أن يكون التفرّق إلاّ عن بغي ولا يكون عن حسن ظن : « وَمَا تَفَرَّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ » (1) .
    ثمّ يقول الحقّ بخصوص بغيهم هذا : لولا كلمة سبقت لعاقبناهم فوراً على بغيهم ، « وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أجَل مُسَمَّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ » (2) ، علِمَ الله لولا هذه الكلمة التي سبقت من ربّنا لشُلَّ الصنم عمر وهو يجتري على رسول الله فيقول : إنّه يهجر (3) ، لولا الكلمة التي سبقت! فهذه الكلمة رهيبة!
    بدأ التفرق بغياً بينهم وقد جاءهم العلم في خطبة الغدير وما قبلها .. جاءهم العلم في كل المناسبات.
    إنّ ختام هذه الآية خطير جداً! بحيث أصبح القرآن وأحكام القرآن وعبادات الرسول محل شكّ! لدرجة أنّ المسلمين لا يعرفون كيف توضأ الرسول.
    أستاذنا الجليل الشيخ الكوراني بالأمس ألفت نظري وقال لي : الرسول يتوضأ على مسمع ومرآى من المسلمين طوال حياته ، ويُختلف في الوضوء! ، يقع الريب في الوضوء ، كيف يتوضأ رسول الله؟!
1 - آل عمران : 19.
2 ـ الشورى : 14.
3 ـ أنظر : صحيح مسلم : 3/1259 ( 1637 ) ، مسند أحمد : 1/355 ( 3336 ).


(51)
    إنّ ختام الآية يقول : إنّ نتيجة التفرق القائم على البغي تؤدّي إلى الريب في الكتاب فيقع الاضطراب : « وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيب » (1) ، صار الناس في شكّ ، ماذا فعل رسول الله وماذا لم يفعل؟ وما معنى هذه الآية وما معنى تلك؟ كل هذا لنقضهم عروة الإمامة بغياً فتفرقوا.

    سورة الشورى ، الآية 15 منها ـ التي سأتشرف بتلاوتها ـ غاية في العجب!! فالحقّ بعد ما يبيّن لرسوله أنّ كل هدىً آل إليك ، لا يزايد عليك أحد ، يا محمد ، لا يجوز لليهودي ولا للنصراني ولا لتابع لعيسى وموسى أو من صحف إبراهيم أن يقول : عندي هدىً غير هداك!! فقد آل كل هدىً إليك وأصبحت أنت عنوان الهدى ، وأيّ تفرّق عنك بغي ، وليس عنك وحدك بل وعن الأئمة.
    وهذا ما أوحت به الآية التالية : « فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ » ، أي : فلوحدة الدين وعدم التفرق فيه « فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَاب
1 - الشورى : 14.

(52)
وَأُمِرْتُ لاَِعْدِلَ بَيْنَكُمْ » (1) .
    قف يا أخي عند هذا التكلّم الشريف من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأمر الله ، الرسول يتكلّم ويقول : « قُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَاب » ، يتكلّم بصيغة المتكلّم المفرد ، « وَأُمِرْتُ لاَِعْدِلَ بَيْنَكُمْ » ، أيضاً بصيغة المتكلّم المفرد ، ثم ينتقل إلى المتكلم بجمع بعدما ثبّت قاعدة الإيمان بالكتاب وعدم التفرق ، والإيمان بالكتاب وأن وظيفته العدل : « وَأُمِرْتُ لاَِعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ » (2) ، ومقتضى التكلّم مفرداً كأن يقول : وأمرت لأعدل بينكم الله ربي وربكم لي عملي ولكم أعمالكم.
    نحن نعلم أن للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صفتين : التبليغ والإمامة في حياته ، لأن إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إنّما كانت إمامة مرجأة لبعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فالرسول بعدما بيّن الأركان الأساسية في الإيمان ـ الكتاب والعدل ـ قال : إنّ هذا سيستمر طالما نحن جمع.
    وأدعو السادة العلماء أن يراجعوا ـ وهنا في اعتذار كان يجب أن أبدأ به ، فأنا مستبصر مبتدىء متعلم ، وعندما أتحدث في حضرتكم لكي أتثبت لا لكي أُعلّم ، لكي أتثبت ممّا لدي بتفضلكم ومراجعتكم ، فأرجوكم أن تسمعوني بروح الناقد البصير ـ أنّ الله
1 - الشورى : 15.
2 ـ الشورى : 15.


(53)
تبارك وتعالى يقول : « اللهُ يَجمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ » (1) ، يكاد يلوح للمتدبر في الآية أنّ الجمع هذا قبل يوم القيامة ، وأنّ « وَإلَيْهِ المَصِيرُ » هو يوم القيامة ، يعني مرحلتين للجمع ، فالجمع الأوّل هنا يوم ظهور الإمام صلوات الله عليه ، يوم تحقق الرجعة التي ينكرونها ، وهذا قول في طريق الرجعة « اللهُ يَجمَعُ بَينَنَا وَإِلَيهِ المَصِيرُ » ، وطالما جاء كلمة « وَإلَيهِ المَصِيرُ » بعد وجود جمع ، لأنّ الجمع يوم القيامة ، المصير جامع للجمع ولا يحتاج لنصّ خاصّ ، « اللهُ يَجمَعُ بَيْنَنَا وَإلَيهِ المَصِيرُ » وهو مرحلة أخرى.
    وإذا سرت مع سورة الشورى ، وفيها آية المودّة كما تعلمون ، وفي خواتيمها العجب العجاب عن الإمامة!
    نحن قلنا : إنّ الإمامة بدأت في بني إسرائيل بخطاب سارة ، وفي آل عمران ، وآل عمران هؤلاء يتلخصون في مريم بنت عمران ، يعني الله تعالى جعل من مريم سبباً للآل وجعل سارة سبباً للآل ، وسترون في سورة الشورى أنه يجعل من الزهراء صلوات الله عليها سبباً للآل ، أنْ خلقها الله وصوّرها بضعة من أبيها يريبها ما يريبه (2) ، لكي يجعل من رحمها مستودعاً لأطهر النطف ، ولكي ينبثق منها نور الإمامة.
1 ـ الشورى : 15.
2 ـ انظر : فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : 78 ، السنن الكبرى للنسائي : 5/97 ( 8370 ).


(54)
    الحقّ تبارك وتعالى في سورة الشورى يقول : « اللهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَالمِيزَانِ » ، والميزان هو الإمامة ، ماهو الدليل؟
    كل حقيقة تحتاج إلى وسم لمعرفة أحقيتها وأصالتها ومداها ، والميزان هنا الإمام الذي يكون مع الكتاب وضامناً لعدم تحريفه وعدم أن يضرب بعضه ببعض.
     « اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَالمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ » ، هذا استطراد ، فالآية تواسي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقول له : مهلا فالساعة قريبة وسيلقون جزاءهم على عبثهم بالميزان ، « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحَقُّ ألاَ إنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَل بَعِيد » إلى قول الحقّ تبارك وتعالى : « تَرَى الظَّالِمينَ » (1) .
    لاحظوا تعبير الظلم ، الظلم ينطوي على كفر ، ولكن الظلم هنا كفر بعد إيمان ، الظلم والفسق كفر بعد إيمان ، بدليل قوله تعالى : « وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إنَّهُ لاَيُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » (2) ، يعني يوجد إيمان تمّ فيه بغي أضفى وصف الظلم على الظالمين ، « تَرَى الظَّالِمينَ مُشْفِقينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُو وَاقِعٌ
1 - الشورى : 17 ـ 23.
2 ـ الأنعام : 21.


(55)
بِهِمْ » (1) ، يعني قبل ذلك لم يحسبوا حسابه رغم أنه كان واضح لهم وهو واقع بهم حال كون « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُمْ مَايَشَاؤونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القَرْبَى » (2) .
    يعني : بعد أن بيّن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ هدى الله استقر فيه وفي الأئمة من بعده ، وأنّ الأئمة هم الميزان مع الكتاب ، فهذا أمر الله ، والخروج عن هذا الميزان ظلم ، ونتيجة الظلم الخلود في النار ، ويومها لا ينجو إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
    فلمّا تمت البشرى لهم جاء طلب الأجر بالمودّة : « قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنَاً إنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإنْ يَشَأ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » (3) .
    في بعض الروايات عند السنة ـ لاحظوا قولهم ـ « أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً » في أيّ شيء هنا؟ لمّا بلّغهم بالإمامة وبيّن لهم
1 - الشورى : 22.
2 ـ الشورى : 22 ـ 23.
3 ـ الشورى : 23 ـ 24.


(56)
وجوب المودة بما تنطوي عليه من تسليم لاختيار الله ، لمّا بيّن لهم ذلك قال بعضهم : لعلّ هذا من عند رسول الله. وفي بعض الروايات : أنّ عمر عوتبفي منعه رسول الله ـ لا أقول منعه رسول الله ولا يستطيع أن يمنع .. أستغفر الله ـ في اعتراضه على ما همّ به رسول الله أن يكتب كتاباً ، والحديث وارد في البخاري عند أهل السنة ومتنه : « يوم الخميس وما يوم الخميس؟! اشتد برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجعه ، فقال : إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تظلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما شأنه أهجر؟ » (1) ، البخاري لم يصرّح هنا! ولكن غيره يصرّح باسم الشقي ، وقال عمر : « حسبنا كتاب الله » (2) .
    ولما عوتب بُعيد ذلك قال : ما تظنون كان سيكتب رسول الله؟ كان سيكتب الأمر لعلي بن أبي طالب (3) .
    قوله هذا إن لم يكن قد صحّ إسناداً فهو ممّا يفترض في سلوكه ـ يعني هو ليس محتاج لقول ـ الذي حاك في صدره هو أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيوصي كتابة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فإمّا أنّه ظنّ أنّ رسول الله يفتري على الله فيكون قد كفر ، أو ظن أنّ هذا من أمر الله ولكنّه لا يريد أمر الله والحال واحد.
1 ـ البخاري : 5 / 137.
2 ـ صحيح مسلم : 5 / 76 ، سنن النسائي : 3 / 433 ، مسند أحمد : 1 / 325 ، فتح الباري : 1/186.
3 ـ أنظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 12/78 و79 ، المسترشد : 681.


(57)
    حسناً ، ما الذي يدلّ على أنّ الهبة ـ هبة الإمامة ـ مرتبطة بأنوار الزهراء صلوات الله عليها؟
    ها هي سورة الشورى تتحدّث عن اختيار الأنبياء بدءاً من نوح ( عليه السلام ) إلى اختيار الأئمة وفرض المودّة ، ثمّ تختم بأنّ الله عزّ وجلّ لا يُنازع في ملكه ولا يُعترض عليه في قضائه وقدره لا يُقدّم عليه ولا يؤخر عليه ، لقوله تعالى : « للهِِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثَاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورُ * أوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرانَاً وَإنَاثَاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إنَّهُ عَليمٌ قَديرٌ » (1) .
    الهبة هنا بدأت بالإناث ، ثمّ قال : « وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورُ » ، أي : يهب لمن يشاء الذكور المناسبين للإناث ، لأنّ الإناث هنّ التربة ، هنّ المستودع الذي تستودع فيه النطف ، ولذلك قلنا : إنّ سارة ارتبط بها آل البيت ، مريم بنت عمران التي يصفها الحقّ بقوله : « وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرانَ الَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ » (2) .
    اعلموا يا أحباب : إنّ من أقوى الأدلّة العقلية والنقلية على
1 - الشورى : 49 ـ 50.
2 ـ التحريم : 12.


(58)
جفاف ينابيع الخير في بني إسرائيل أنّه لا يوجد أحد من ذكور بني إسرائيل أهلا لمريم الطاهرة البتول ، والتي شهد الله لها بذلك ، ويبدو لي أنّ الله تعالى أراد أن يبيّن همزة الوصل بين انتهاء إمامة بني إسرائيل وبدء إمامة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إذ جاء عيسى ( عليه السلام ) وهو كما يصفه القرآن همزة وصل فعلا : « وَإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » (1) ، ما معنى هذا؟
    بنو إسرائيل كانوا لا يتصورون أن يكون نبي من غيرهم!
    مريم مشهود لها صلوات الله عليها ، فقد قرأت خبراً عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في مجمع البيان ، وقرأت تصديقه في الإنجيل صحيح « مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ » (2) .
    إنّ مريم البتول الطاهرة العذراء لمّا جاءها ملك الربّ وتمثل لها وهي في خلوة ، وفي الإنجيل أنها اعتزلت تغتسل فبرز لها ملك الربّ بشراً سويّاً فاشتد فزعها! آيات إنجيل متى تقول : فزعت البتول ممّا ترى ولم تجد شيئاً تستتر به ، إلى أن تقول : أعوذ بك إن كنت تعرف الربّ ، « قَالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَّحمنِ مِنكَ إنْ كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إنَّما أنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلامَاً زَكِيّاً » (3) .
1 ـ الصف : 6.
2 ـ المائدة : 48.
3 ـ مريم : 18 ـ 19.


(59)
    أهل السنة يظنّون أن مريم حملت بعيسى حملا عادياً إستمر تسعة أشهر ووضعت وضعاً عادياً وجاءت قومها به ، لكن سياق الآيات في سورة مريم ترد هكذا : « فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانَاً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخلَةِ » (1) فـ .. فـ .. فـ .. ، يعني : هي لم تغادر المكان الذي كانت فيه بين الحمل والوضع.
    وفي الإنجيل أنها غداة وعشي وولد يسوع ، والذي قرأته مسنداً إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّ حملها استمر تسع ساعات (2) .
    إذن عيسى ( عليه السلام ) ينادي : نضب الخير فيكم يا بني إسرائيل ، من يستحق أن يكون فيكم زوجاً لمريم؟
    وفي نفس الوقت لا زال في تقدير الله رسول ، حتى لا يقول اليهود عندما يبعث ـ لاحظ التمييز لرسول الله ـ « وَمُبَشِّراً بِرَسول يَأتِي مِنْ بَعدِي اسمُهُ أحَمَدٌ » (3) ، لأنّ اليهود عندهم اعتقاد ونصوص أنهم أبناء الأنبياء والنبي منهم ، فحتّى لا يحتجّوا على الرسول محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويقولون لا يمكن أن يكون رسول إلاّ من بني إسرائيل ، فيجاب عليهم كيف وقد انتهيتم؟! فإنّ عيسى بغير أب منكم ، حتى أنّ عيسى في خطابه لا يقول لبني إسرائيل يا قومي أبداً ، عيسى بن مريم رسولا إلى بني إسرائيل ، فيجاب عليهم كيف
1 - مريم : 22 ـ 23.
2 ـ أنظر : مجمع البيان : 6 / 417.
3 ـ الصف : 6.


(60)
تقولون ليس نبياً منكم وأنتم جفّت ينابيعكم أن تكون فيها نطفة طاهرة.
    الأُنثى الطاهرة في سورة النور ، يقدم الله ذكر الطيّبات على الطيبين يقول : « الطَيِّبَاتُ لِلطَّيِّبينَ » كما يقول « الخَبِيثَاتُ لِلخَبيثينَ » (1) ، يقدّم ذكر الأُنثى ثمّ يأتي بذكر الذكر ، إشارة إلى أنّه إذا نظف الرحم وطهر المستودع كان قميناً بأن ينجب الرجال ، ولذلك صحّ القول المأثور : « ما كان لفاطمة كفو غير علي » (2) .
    هذا خلق من أجلها ، وهذا هو الاختيار!

    وكما بدأت حديثي معكم بأنّ الاختيار موجود في كل الكائنات جماداً ونباتاً وحيواناً ، أقول لكم : أنتهي أيضاً إلى التأكيد على أنّ الذي يمارس الاختيار في الإنسان عليه أن يتأمّل في مملكة النحل ومملكة النمل والهدهد!
    أيها الأحباب ، آيات في كتاب الله غريبة المأخذ والمنتهى ولا تقف عند حدّ لو تأملنا فيها ، الله يقول : « وَمَامِنْ دَابَّة فِي الأرضِ وَلاَ طَائِر يَطيرُ بِجَنَاحَيهِ إلاّ أُمَمٌ أمثَالُكُمْ مَا فَرَّطنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيء
1 - النور : 26.
2 ـ روضة الواعظين : 146 ، مناقب ابن شهر آشوب : 2 / 29 ، بحار الأنوار : 43 / 101 ، وانظر : نفس المصدر : 43 / 92 و 107 بألفاظ أخرى.
محاضرات عقائدية ::: فهرس