مناظرات المستبصرين ::: 106 ـ 120
(106)
مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض السنّة
في أمر بعض الصحابة
    قال الدكتور التيجاني : كنت يوماً في العاصمة التونسية (1) داخل مسجد عظيم من مساجدها ، وبعد أداء فريضة الصلاة جلس الإمام وسط حلقة من المصلّين وبدأ درسه بالتنديد والتكفير لأولئك الذين يشتمون أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) واسترسل في حديثه قائلا :
    إيّاكم من الذين يتكلّمون في أعراض الصحابة بدعوى البحث العلمي والوصول لمعرفة الحق ، فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، إنهم يريدون تشكيك الناس في دينهم ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « إذا وصل بكم الحديث إلى أصحابي فأمسكوا (2) ، فوالله لو أنفقتم مثل أحد ذهباً لما بلغتم معشار
1 ـ تونس : عاصمة الجمهورية التونسية ، وعاصمة البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية ، وهي أهم مدينة وميناء فيها ومركز صناعي في البلاد. ( المنجد ـ قسم الإعلام ـ ص 197 ).
2 ـ راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 2/96 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/202 ، كتاب المجروحين ، ابن حبان : 3/115.


(107)
أحدهم » (1).
    وقاطعه أحد المستبصرين كان يصحبني قائلا : هذا الحديث غير صحيح وهو مكذوب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) !
    وثارت ثائرة الإمام وبعض الحاضرين ! والتفتوا إلينا منكرين مشمئزين ، فتداركت الموقف متلطّفاً مع الإمام وقلت له : يا سيدي الشيخ الجليل ، ما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في القرآن قوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسولٌ قَد خَلَت من قَبلِهِ الرُّسُلُ أفإن ماتَ أو قُتِل انقَلبتُم على أَعقابِكُم ، وَمَن يَنقَلِب على عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئاً وَسَيجزي اللهُ الشاكِرين ) (2).

    الصحابة في صحيح البخاري ومسلم
    وما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : « سيؤخذ بكم يوم القيامة إلى ذات الشمال ، فأقول : إلى أين ؟ فيُقال : إلى النار والله ، فأقول : يا ربّ هؤلاء أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك إنّهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ، ولا أرى يخلصُ منهم إلاّ مثل همل النعم » (3).
    وكان الجميع يستمعون إليّ في صمت رهيب ، وسألني بعضهم : إن كنت واثقاً من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري ؟
1 ـ راجع : الشفا بتعريف حقوق المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، القاضي عياض : 2/54 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20/11.
2 ـ سورة آل عمران ، الآية : 144.
3 ـ صحيح البخاري : 7/208 ـ 209 و8/87 ، صحيح مسلم : 7/66 و8/157.


(108)
    وأجبتهم : نعم كوثوقي بأن الله واحد لا شريك له ، ومحمداً عبدهُ ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ولمّا عرف الإمام تأثيري في الحاضرين من خلال حفظي للأحاديث التي رويتها قال في هدوء : نحن قرأنا على مشايخنا رحمهم الله تعالى بأنّ الفتنة نائمة فلعن الله من أيقظها.
    فقلت : يا سيدي الفتنة عمرها ما نامت ، ولكنّا نحن النائمون ، والذي يستيقظ منّا ويفتح عينيه ليعرف الحق تتهمونه بأنّه أيقظ الفتنة ، وعلى كل حال فإنّ المسلمين مطالبون باتّباع كتاب الله وسنّة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، لا بما يقوله مشايخنا الذين يترضّون على معاوية ويزيد وابن العاص.
    وقاطعني الإمام قائلا : وهل أنت لا تترضّى عن سيدنا معاوية ، كاتب الوحي ؟
    قلت : هذا موضوع يطول شرحه ، وإذا أردت معرفة رأيي في ذلك ، فأنا أهديك كتابي « ثمّ اهتديت » (1) لعلّه يوقظك من نومك ، ويفتح عينيك على بعض الحقائق ! وتقبّل الإمام كلامي وهديّتي بشيء من التردّد ، ولكنّه وبعد شهر واحد كتب إليّ رسالة لطيفة يحمد الله فيها أن هداه إلى صراطه المستقيم وأظهر ولاءً وتعلّقاً بأهل البيت ( عليهم السلام ) وطلبتُ منه نشر رسالته في الطبعة الثالثة لما فيها من معاني الود وصفاء الرّوح التي متى ما عرفت الحق تعلّقت به وهي تعبّر عن حقيقة أكثر أهل السنّة الذين يميلون إلى الحق بمجرد رفع الستار.
1 ـ وقد شرح فيه كيفية استبصاره والأسباب التي دعته للأخذ بمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) وذلك بعد مسيرة ـ ليست قصيرة ـ من البحث والمناظرة في شتى مسائل الخلاف مع الأعلام والمحقّقين في النجف الأشرف وغيره.

(109)
    ولكنّه طلب منّي كتم الرسالة وعدم نشرها ، لأنّه لا بدّ له من الوقت الكافي حتى يُقنع المجموعة التي تصلي خلفه ، وهو يحبذ أن تكون دعوته سلمية بدون هرج ومرج حسب تعبيره (1).
1 ـ كتاب فاسألوا أهل الذكر ، الدكتور التيجاني السماوي : 115 ـ 117.

(110)
مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض علماء العامة في بومباي
في بعض المفتريات على الشيعة (1)
    قال الدكتور التيجاني في رسالته التي أرسلها إلى السيد أبي الحسن الندوي العالم الهندي ـ معتذراً له عن عدم زيارته له في الهند ـ :
    سيدي العزيز قدمتُ إلى الهند في زيارة قصيرة ، وكان أملي أن التقي بحضرتكم لما أسمعه عنكم ، ولما أعلمه بأنّكم المشار إليه بين أهل السنّة والجماعة عندكم ، ولكن عاقني عن ذلك بُعدُ المسافة وضيق الوقت ، واكتفيت بزيارة مدينة بومباي وبونة وجبل بور وبعض المدن الأخرى في كوجراتي ، وتألمت كثيراً لما شاهدته في الهند من عداوة وبغضاء بين أهل السنة والجماعة وإخوانهم المسلمين من الشيعة.
    وقد كنت أسمع بأنهم يتحاربون ويتقاتلون أحياناً ، وتُسفك دماء بريئة من الطرفين باسم الإسلام ، ولم أكن أصدق ، معتقداً بأنّه مبالغة في التشويه ، ولكنّ ما
1 ـ وسوف تأتي بعض مضامينها أيضاً في مناظرته مع المفتي عزيز الرحمان في بومباي ، وهي نفسها ذكرناهما لتفاوت مضامينهما.

(111)
شاهدته وما سمعته خلال زيارتي يبعث حقّاً على الحيرة والاستغراب ، وأيقنتُ بأنّ هناك نوايا خسيسة ، ومؤامرات خطيرة تُحاك ضد الإسلام والمسلمين ، للقضاء عليهم جميعاً سنّة وشيعة ، ومّما زاد يقيني وضوحاً وعلمي رسوخاً تلك المقابلة التي دارت بيني وبين مجموعة من علماء أهل السنّة يتقدّمهم الشيخ عزيز الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية ، وكان اللقاء في مسجدهم بـ « بومباي » وبدعوة منهم.
    وما أن حللتُ بينهم حتّى بدأ الازدراء والتهكّم والسبُّ واللّعنُ لشيعة آل البيت ( عليهم السلام ) وقد أرادوا بذلك استفزازي وإثارتي ، لعلمهم مُسبقاً بأنّي قد ألّفتُ كتاباً يدعو للتّمسك بمذهب أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ ولكنّي فهمتُ قصدهم ، وتمالكتُ أعصابي وابتسمتُ لهم قائلا : أنا ضيف عندكم ، وأنتم الذين دعوتموني فجئتكم مُسرعاً مُلبّياً ، فهل دعوتموني لتسبّوني وتشتموني ، وهل هذه هي الأخلاق التي علّمكم إيّاها الإسلام ؟؟
    فأجابوني بكل صلافة ، بأني لم أكن يوماً في حياتي مسلماً لأنني شيعي ، والشيعة ليسوا من الإسلام في شيء ، وأقسموا على ذلك.
    قلتُ : اتّقوا الله يا إخوتي ، فربُّنا واحد ونبيُّنا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة ، والشيعة يوحّدون الله ، ويعملون بالإسلام اقتداءاً بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، وهم يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويحجّون بيت الله الحرام ، فكيف يجوز لكم تكفيرهم ؟؟
    أجابوني : أنتم لا تؤمنون بالقرآن ، أنتم منافقون تعملون بالتقية ، وإمامكم قال : التقية ديني ودين آبائي (1) ، وأنتم فرقة يهودية أسّسها عبد الله بن سبأ
1 ـ المحاسن ، البرقي : 255 ح 286 ، دعائم الإسلام ، القاضي المغربي : 1/110.

(112)
اليهودي (1).
1 ـ هذه الفرية .. ألصقها أعداء الشيعة فيهم ليخرجوهم عن الإسلام ويُكرّهوا الناس فيهم !! ومما لا شك فيه أنهم يعلمون جزماً براءة الشيعة من هذه الدعوى الكاذبة المزيفة ، والتي لا أساس لها إلاّ كراهيتهم لهذا المبدأ القويم الذي أسس مبادئه النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو الذي دعى إليه وشيّد أركانه ، وإن شئت فأقرأ ما جاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيهم ، ومن ذلك قوله لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
1 ـ إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين. ( المعجم الأوسط ، الطبراني : 4/187 ، مجمع الزوائد : 9/131 ، النهاية لابن الأثير : 4/106 ).
2 ـ أنت أول داخل الجنة من أمّتي ، وأن شيعتك على منابر من نور مسرورون مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني ( مجمع الزوائد : 9/131 ، كفاية الطالب ، الكنجي الشافعي : 135 المناقب ، الخوارزمي : 129 ح 143 ).
3 ـ يا علي ، إن الله قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ولمحبّي شيعتك ( الصواعق ، ابن حجر : 161 ، 232 ، 235 ينابيع المودة : 2/452 ح 252 ).
4 ـ أنت وشيعتك في الجنة ( تاريخ بغداد/284 : 12 ).
5 ـ إذا كان يوم القيامة دُعي الناس بأسمائهم ، وأسماء اُمّهاتهم ستراً من الله عليهم إلاّ هذا ـ يعني علياً ( عليه السلام ) ـ وشيعته فإنّهم يُدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم لصحة ولادتهم ( مروج الذهب : ج 2 ص 448 دار الأندلس ، وج 3 ص 6 ط السعادة بمصر ).
وإن أردت المزيد في ذلك فراجع ما رواه المفسرون في قوله تعالى : ( إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البرية ) فقد رووا قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : هم أنت وشيعتك. ( راجع : الدر المنثور ، السيوطي : 6/379 في تفسير الآية الكريمة ).
فبعد هذا كلّه هل تجد مسوغاً لأحد أن يطعن في شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين امتدحهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبشرهم بموالاتهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ودعاهم للتمسّك به والاعتصام بحبل ولائه ، إذن ما هو ذنبهم بعدما قامت عندهم الحجة البالغة التي تأخذ بإعناقهم حتى يتفوه عليهم كلّ أفّاك أثيم بالقول الباطل والبهتان ؟ كأن لم يكن عندهم شغلٌ شاغل في الحياة الدنيا إلاّ التعرض للفرقة الناجية بالسوء والقدح فيهم.
وهنا أترك القارئ الكريم أن يقرأ هذه المقالة القيمة التي جاءت على لسان واحد من الذين نصروا أهل البيت ( عليهم السلام ) بأيديهم وقلوبهم وألسنتهم وهو العلامة الأميني عليه الرحمة في رده على ابن حزم الذي كال التهم إلى الشيعة الإمامية بلا تثبت فيما كتبه عنهم ! قال عليه الرحمة :
نعم ذنبهم الوحيد الذي لا يغفر عند ابن حزم أنّهم يوالون علياً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأولاده الأئمّة الأمناء صلوات الله عليهم إقتداءً بالكتاب والسنة ، ومن جزاء ذلك يستبيح صاحب الفصل من أعراضهم ما لا يُستباح من مسلم ، والله هو الحكم الفاصل.
وأما ما حسبه من أن مبدء التشيع كان إجابةً ممّن خذله الله لدعوة من كاد الإسلام ، وهو يريد عبدالله بن سبأ الذي قتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إحراقاً بالنار على مقالته الإلحادية وتبعته شيعته على لعنه والبراءة منه.
فمتى كان هذا الرجس من الحزب العلوي حتى تأخذ الشيعة منه مبدءَها القويم ؟! وهل تجد شيعياً في غضون أجيالها وأدوارها ينتمي إلى هذا المخذول ويمتُّ به ؟! لكن الرجل أبى إلاّ أن يقذفهم بكل مائنة وشائنة ، ولو استشفَّ الحقيقة لعلم بحق اليقين أنّ ملقي هذه البذرة ـ التشيع ـ هو مشرع الإسلام ( صلى الله عليه وآله ) يوم كان يُسمّي من يوالي علياً ( عليه السلام ) بشيعته ويضيفهم إليه ويطريهم ويدعو أمّته إلى موالاته واتباعه.
ولتفاهة هذه الكلمة لا نسهب الإفاضة في ردّه ونقتصر على كلمة ذهبيّة للأُستاذ محمد كرد علي في خطط الشام : ج 6 ص 246 قال : أما ما ذهب إليه بعض الكتاب من أنَّ أصل مذهب التشيع من بدعة عبدالله بن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهمٌ !! وقلّة علم بتحقيق مذهبهم ! ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك ، علم مبلغ هذا القول من الصواب.
الغدير : ج 3 ص 94 ـ 95 ، ولتقف أيضاً على المزيد من حقيقة هذا الإفتراء راجع نفس المصدر : ج 8 ص 380 ـ 382 ، وج 9 ص 218 ـ 222.


(113)
    قلتُ لهم مبتسماً : دعونا من الشيعة ، وتكلّموا معي أنا شخصياً ، فقد كنتُ مالكياً مثلكم ، واقتنعتُ بعد بحث طويل بأن أهل البيت ( عليهم السلام ) هم أحق وأولى بالاتباع ، فهل عندكم حجّة تجادلوني بها ، أو تسألوني ما هو دليلي وحجّتي عسى أن نفهم بعضنا بعضاً ؟
    قالوا : أهل البيت هم نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنتَ لا تعرف من القرآن شيئاً.
    قلت : فإنّ صحيح البخاري وصحيح مسلم يُفيدان غير ما ذكرتم !
    قالوا : كل ما في البخاري ومسلم ، وكتب السنة الأخرى من حجج


(114)
تحتجّون بها هي من وضع الشيعة دسّوها في كتبنا.
    أجبتهم ضاحكاً : إذا كان الشيعة وصلوا للدّس في كتبكم وفي صحاحكم فلا عبرة ولا قيمة لها ولا لمذهبكم القائم عليها !!
    فسكتوا وأُفحموا ، ولكنّ أحدهم عَمَدَ إلى التهريج والإثارة من جديد فقال : من لا يؤمن بخلافة الخلفاء الراشدين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي ( عليه السلام ) وسيدنا معاوية وسيدنا يزيد فليس بمسلم !
    ودهشت لهذا الكلام ، الذي ما سمعتُ مثله في حياتي ، وهو تكفير من لا يعتقد بخلافة معاوية وابنه يزيد ، وقلتُ في نفسي : معقول أن يترضّى المسلمون على أبي بكر وعمر وعثمان فهذا أمرٌ طبيعي ، أما على يزيد فلم أسمع ذلك إلاّ في الهند ، والتفتُّ إليهم جميعاً أسألهم : أتوافقون هذا على رأيه! فأجابوا كلّهم : نعم.
    وعند ذلك عرفتُ بأن لا فائدة في مواصلة الكلام ، وفهمتُ بأنهم إنّما يريدون إثارتي حتّى ينتقموا منّي ، وربّما يقتلوني بدعوى سبّ الصحابة فمن يدري ؟
    ورأيت في أعينهم شرّاً ، وطلبتُ من مرافقي الذي جاء بي إليهم أن يُخرجني فوراً ، فأخرجني وهو يتحسّر ويعتذر إليَّ على ما وقع ، وهذا الشخص البريء الذي كان يرمي من وراء هذا اللقاء أن يتعرّف على الحقيقة هو الشاب المهذّب شرف الدين صاحب المكتبة والمطبعة الإسلامية في « بومباي » فهو شاهد على كل ما دار بيننا من هذه المحاورة المذكورة ، ولم يُخفِ استياءه من هؤلاء الذين كان يعتقد بأنهم من أكابر العلماء (1).
1 ـ كتاب : فاسألوا أهل الذكر ، الدكتور التيجاني : 11 ـ 13.

(115)
مناظرة
الدكتور التيجاني التونسي مع طه المصري (1)
في حديث الثقلين
    يقول الدكتور التيجاني في رحلته إلى مصر : وصادف ذات يوم أن دخلنا إلى مسجد سيِّدنا الحسين ( عليه السلام ) لأداء صلاة الظهر ، وما أنهيت الصلاة ورفعت رأسي أقرأ الكتابات والنقوش الدائرة على جدران المسجد حتى شدَّني حديث الثقلين المكتوب قرب المحراب ، وفيه إضاءة كهربائيّة ، ناديت طه وطلبت منه قراءة الحديث ، قرأ : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي (2) ، فصاح يقول : مش معقول ، أنت ـ يا تيجاني ـ جئت بهذا الحديث وعلَّقته هنا ؟!
    وزادني استغراب طه فرحاً وسروراً ؛ لأنه طالما جادلني في مضمون هذا الحديث ، وأنكر أن يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كتاب الله وعترتي ، بل كان دائماً يردِّد : كتاب الله وسنّتي ، وادّعى أنه ما سمع طيلة عمره أحداً يحدِّث بحديث : كتاب الله
1 ـ أكمل دراسته في النمسا ، وهو شابٌّ له اطّلاع وثقافة واسعة ، وقد تبع التيجاني في تجولاته في مصر وقت زيارته لها سنة 1985 م.
2 ـ تقدمت تخريجاته في المناظرة الخامسة.


(116)
وعترتي ..
    أخرجته من المسجد ، ثمَّ اتّجهت به إلى الأزهر الشريف حيث كان هناك معرض للكتاب ، قلت له : يا طه ! اتق الله ولا تتكبَّر ، فأنا ما جئت بشيء من عندي ، وإن كان الحديث المكتوب في المسجد قد علَّقته أنا في هذه الأيام ، فما هو ردُّك على صحيح مسلم الذي بين يديك الآن ، وهو يباع في معرض الكتاب ، وهو من أقدم الكتب الإسلاميّة ؟
    قال : وهل فيه حديث : عترتي ؟
    فتحت له باب فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) وأطلعته على الحديث (1) ، فقرأه مرَّتين أو ثلاثاً ، فسكت طويلا وكأنه يفكِّر ، مصفرّاً وجهه ، وكأنه يعيد أنفاسه.
    قلت : هذا غيض من فيض ، فلو أردت سأطلعك على عشرات الأحاديث التي تؤيِّد هذا المعنى ، وكلها من صحاح السنة.
    قال بصوت خافت : الآن تشيَّعت ، واقتنعت بكل أقوالك في حقّ أهل البيت ( عليهم السلام ).
    وعمل طه في السهرات المتتالية على إقناع من تبقَّى من المجموعة ، وكان يؤيِّد كل ما أقول بالشواهد والأدلّة ، ويتحمَّس لها ، فتشيَّع بقية الشبّان ، وعددهم ثمانية (2).
1 ـ جاء في صحيح مسلم : 7/122 ـ 123 عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكَّر ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، ألا أيُّها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه ، ثمَّ قال : وأهل بيتي ، أذكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي.
2 ـ كتاب : فسيروا في الأرض فانظروا ، التيجاني السماوي : 18 ـ 19.


(117)
مناظرة
الدكتور التيجاني التونسي مع بعض مرافقيه
في تايلاند فيما جرى على الأُمّة بعد النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم )
ورزية يوم الخميس
    يقول الدكتور التيجاني في حديثه عن زيارته إلى تايلاند ـ بعد أن ذكر زيارته لمفتي جمهورية تايلاند ـ : وخرجت من عنده ، وركبت السيارة مع الأخ عبد الله النجفي ، وأنا أنظر إلى البنايات العالية وناطحات السحاب ، وأستحضر في خاطري عدد السكان في تايلاند ، الذي يتعدَّى الستين مليون نسمة ، منهم أكثر من أربعين مليون يعبدون الأصنام ، ويقيمون في كل مكان تمثالا لبوذا ، وما عبد فيها من الأصنام ، ثمَّ أستحضر عدد البوذيين في العالم ، وعدد الملحدين ، وعدد النصارى واليهود ، ثمَّ أستعرض عدد المظلَّلين من أمَّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأقول بصوت باك : ماذا ستلقى عند ربِّك يابن الخطاب ؟
    قال أحد المرافقين : وما دخل ابن الخطاب في هذا ؟
    قلت : إنّه هو المسؤول عن كل ضلالة حدثت بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال : عجيب ! بشر واحد يتسبَّب في ضلالة أمَّة كاملة ؟
    قلت : وما العجيب في ذلك ؟ لقد حكى لنا القرآن الكريم أن رجلا واحداً


(118)
اسمه السامري تسبَّب في ضلالة بني إسرائيل إلاَّ القليل القليل ، وهي أمَّة بأسرها ، كل ذلك مع وجود رسول الله موسى ( عليه السلام ) ، وفيهم هارون ( عليه السلام ) ، وغياب موسى ( عليه السلام ) ، فما بالك بأمَّة توفِّي نبيُّها ، وأبعد وليُّها وصيُّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنها حتى كادوا يقتلونه لو لا سكوته ؟
    فأنا أؤمن متيقِّناً أنه لو لا وقوف عمر تلك الوقفة الجريئة على الله ورسوله ، ومنعه الناس أن يدخلوا بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وادّعائه أن محمّداً لم يمت ، وتهديده بالقتل من يقول بذلك.
    أقول : لولا الوقفتان لما اختلف الناس ووقعوا في الضلالة.
    قال مرافقي : فهمنا موقفه من رزيَّة يوم الخميس (1) ، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لما اختلف من الأمَّة اثنان كما قال ابن عباس (2) ، ولكن لم نفهم موقفه من
1 ـ والذي سمَّاها رزيّة هو ابن عباس ، وذلك لمَّا منع عمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كتابة الكتاب ، وقد رواها البخاري ، فقد روى أنَّ عبيد الله قال : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. صحيح البخاري : 7/9 و8/161 ، صحيح مسلم : 5/76 وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث في مناظرة السيِّد الرضوي مع الدكتور طه حسين.
2 ـ روى أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس قال : إنّي كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ، وعنده رهط من الشيعة ، قال : فذكروا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وموته ، فبكى ابن عباس ، وقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الاثنين ـ وهو اليوم الذي قبض فيه ـ وحوله أهل بيته وثلاثون رجلا من أصحابه : ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلُّوا بعدي ، ولن تختلفوا بعدي ، فمنعهم ( فلان ) فقال : إن رسول الله يهجر ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : إني أراكم تخالفوني وأنا حيٌّ ، فكيف بعد موتي ؟ فترك الكتف.
قال سليم : ثمَّ أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم ! لو لا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضلُّ أحد ولا يختلف ، فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل ؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم ، فقال : هو عمر ، فقلت : صدقت ، قد سمعت عليّاً ( عليه السلام ) وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : إنه عمر ، فقال : يا سليم ! اكتم إلاَّ ممن تثق بهم من إخوانك ، فإن قلوب هذه الأمَّة .. إلخ.
كتاب سليم بن قيس ، تحقيق محمّد باقر الأنصاري : 324 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 22/497 ـ 498 ح 44.


(119)
منع الناس أن يدخلوا بيت النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد وفاته ، وقوله : بأنه لم يمت ، فهل عندك تفسير لذلك ؟
    قلت : طبعاً ، الأمر واضح وضوح الشمس ، لأن عمر أدرك بدهائه أن الصحابة إذا ما دخلوا إلى البيت النبويِّ ، ورأوه ميِّتاً وإلى جانبه الإمام علي ( عليه السلام ) فسيبايعونه على الفور ، وإذا ما بايع جمع من الصحابة عليّاً ( عليه السلام ) فسيكون من المستحيل بعدها مبايعة خليفة ثان.
    قال مرافقي عند سماعه هذا التحليل : الله أكبر ! من يفكر بهذا التفكير ؟ .. إلخ (1).

    لماذا لم يدعُ أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) الناس إلى بيعته ولم يغتنم الفرصة ؟
    ولعلّه يقول قائل : إذا كان الخليفة إنّما فعل ما فعل ليحول بين الناس وبين بيعة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) فهذه الخطّة إذن لم تكن لتخفى على أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فلماذا لم يخرج إلى الناس ويخبرهم بحقيقة الأمر ، ويدعوهم للبيعة لنفسه ؟
    والجواب على ذلك نفهمه من خلال كلام أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) مع عمِّه العباس ابن عبد المطلب ، فقد روى الشيخ المفيد عليه الرحمة أن العباس قال لعلي ( عليه السلام ) في اليوم الذي قبض فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك ـ يا بن أخ ـ أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك
1 ـ فسيروا في الأرض فانظروا ، الدكتور محمّد التيجاني : 313 ـ 315.

(120)
اثنان ، فقال له علي ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عهد إليَّ أن لا أدعو أحداً حتى يأتوني ، ولا أجرِّد سيفاً حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول الله شغل (1).
    وفي رواية الجوهري : قال العباس بن عبد المطلب لعليٍّ ( عليه السلام ) في حوار له معه : فلمَّا قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة ، فدعوناك إلى أن نبايعك ، وقلت لك : ابسط يدك أبايعك ، ويبايعك هذا الشيخ ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش ، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب ، فقلت : لنا بجهاز رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شغل ، وهذا الأمر فليس نخشى عليه ، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة .. (2).
    وقال المقريزي : وفي رواية : أن العباس قال لعلي ( عليه السلام ) : هلمَّ يدك أبايعك ، فقال : إن لي برسول الله شغلا ، ومن ذاك الذي ينازعنا هذا الأمر ؟ (3).
    وقال ابن قتيبة الدينورى : فلمَّا قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال العباس لعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه : ابسط يدك أبايعك ، فيقال : عمُّ رسول الله بايع ابن عمِّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويبايعك أهل بيتك ، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل ، فقال له عليٌّ كرَّم الله وجهه : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا ؟ (4).
    وعن أبي جعفر محمّد بن علي ( عليهما السلام ) أن عليّاً حمل فاطمة ( عليها السلام ) على حمار ، وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار ، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة الانتصار له ،
1 ـ الفصول المختارة ، المفيد : 341.
2 ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : 44 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/48.
3 ـ النزاع والتخاصم ، المقريزي : 78.
4 ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 21.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس