مناظرات المستبصرين ::: 346 ـ 360
(346)
وإلى نوح في خشيته ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى يعقوب في حزنه ، وإلى يوسف في جماله ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى أيوب في صبره ، وإلى يحيى في زهده ، وإلى عيسى في عبادته ، وإلى يونس في ورعه ، وإلى محمّد في حسبه وخلقه ، فلينظر إلى عليٍّ ، فإن فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء جمعها الله فيه ، ولم يجمعها في أحد غيره (1).
    هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيد ! أنت هنا وصلت بي إلى مقايسة عليٍّ ـ كرَّم الله وجهه ـ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهذا مشكل منكم ؟
    السيِّد البدري : اسمع ـ يا أخي ـ لأروي لك ما نقله بعض من المؤرِّخين ، إذا الأدلّة لم تقنع فناقشني وحاورني.

    مقايسة علي ( عليه السلام ) بالأنبياء ( عليهم السلام )
    لقد حدَّثنا المؤرِّخون والمحدِّثون أنه ( عليه السلام ) في آخر يوم من حياته الكريمة ، حينما كان على فراش الموت والشهادة حضر عنده جماعة من أصحابه لعيادته ، وكان ممَّن حضر صعصعة بن صوحان ، وهو من كبار الشيعة في الكوفة ، وكان خطيباً بارعاً ، ومتكلِّماً لامعاً ، وهو من الرواة الثقات حتى عند أصحاب الصحاح الستة عندكم وأصحاب المسانيد ، فإنّهم يروون عنه ما ينقله عن الإمام علي ( عليه السلام ) ، وقد ترجم له كثير من أعلامكم مثل : ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وابن سعد في الطبقات الكبرى ، وابن قتيبة في المعارف ، وغيرهم ، فكتبوا أنه كان عالماً صادقاً ، وملتزماً بالدين ، ومن خاصة أصحاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، في ذلك اليوم سأل صعصعة الإمام عليّاً ( عليه السلام ) قائلا : يا أميرالمؤمنين !
1 ـ ينابيع المودة ، القندوزي : 2/306 ـ 307 ح 874.

(347)
أخبرني أنت أفضل أم آدم ( عليه السلام ) ؟
    فقال الإمام ( عليه السلام ) : يا صعصعة ! تزكية المرء نفسه قبيح ، ولولا قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (1) ما أجبت ، يا صعصعة ! أنا أفضل من آدم ؛ لأن الله تعالى أباح لآدم كلَّ الطيِّبات المتوفِّرة في الجنة ، ونهاه عن أكل الحنطة فحسب ، ولكنَّه عصى ربَّه وأكل منها ! وأنا لم يمنعني ربّي من الطيِّبات ، وما نهاني عن أكل الحنطة ، فأعرضت عنها رغبة وطوعاً.
    فقال صعصعة : أنت أفضل أم نوح ؟
    فقال ( عليه السلام ) : أنا أفضل من نوح ؛ لأنه تحمَّل ما تحمَّل من قومه ، ولمَّا رأى منهم العناد دعا عليهم ، وما صبر على أذاهم ، فقال : ( رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (2) ، ولكنّي بعد حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحمَّلت أذى قومي وعنادهم ، فظلموني كثيراً ، فصبرت وما دعوت عليهم (3).
    فقال صعصعة : أنت أفضل أم إبراهيم ؟
    فقال ( عليه السلام ) : أنا أفضل ، لأن إبراهيم قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (4) ، ولكنّي قلت وأقول : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.
    قال صعصعة : أنت أفضل أم موسى ؟
    قال ( عليه السلام ) : أنا أفضل من موسى ؛ لأن الله تعالى لمَّا أمره أن يذهب إلى فرعون
1 ـ سورة الضحى ، الآية : 11.
2 ـ سورة نوح ، الآية : 26.
3 ـ راجع : نهج البلاغة ـ الخطبة الشقشقية حيث يصف ( عليه السلام ) فيها جانباً من الوضع الذي قاساه فصبر.
4 ـ سورة البقرة ، الآية : 260.


(348)
ويبلِّغ رسالته قال : ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ) (1) ، ولكنّي حين أمرني حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأمر الله عزَّوجلَّ حتى أبلِّغ أهل مكة المشركين سورة براءة ، وأنا قاتل كثير من رجالهم وأعيانهم ! مع ذلك أسرعت غير مكترث ، وذهبت وحدي بلا خوف ولا وجل ، فوقفت في جمعهم رافعاً صوتي ، وتلوت الآيات من سورة براءة وهم يسمعون !!
    قال صعصعة : أنت أفضل أم عيسى ؟
    قال ( عليه السلام ) : أنا أفضل ؛ لأن مريم بنت عمران لمَّا أرادت أن تضع عيسى كانت في بيت المقدس ، جاءها النداء : يا مريم ! اخرجي من البيت ، هاهنا محلُّ عبادة ، لا محلُّ ولادة ، فخرجت ( فَأَجَاءهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) (2) ، ولكنَّ أمّي فاطمة بنت أسد لمَّا قرب مولدي جاءت إلى بيت الله الحرام ، والتجأت إلى الكعبة ، وسألت ربَّها أن يسهِّل عليها الولادة ، فانشقَّ لها جدار البيت الحرام ، وسمعت النداء : يا فاطمة ! ادخلي ، فدخلت وردَّ الجدار على حاله ، فولدتني في حرم الله وبيته (3).
    وانتهى اللقاء ، وعشت في دوَّامة أكثر ، وأحدِّث نفسي : تابع البحث ، إياك والملل !!

    اللقاء السادس : خبر منع عمر النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كتابة الكتاب
    هشام آل قطيط : لقد فاتنا ـ سماحة السيِّد البدري ! ـ المناقشة في الحديث
1 ـ سورة القصص ، الآية : 33.
2 ـ سورة مريم ، الآية : 23.
3 ـ راجع : الأنوار النعمانية : 1/27.


(349)
الشريف الذي يقول : عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى الله والمسلمون إلاَّ أبا بكر (1).
    فهذا الحديث أفهم منه أن هناك عزيمة وتصميم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للتوصية بالخليفة أبي بكر من بعده ، والذي يدلّني أكثر أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يريد أن يكتب كتاباً ، ويؤكِّد من خلال فعل الأمر الذي يبدأ به الحديث.
    السيِّد البدري : ألم يكن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عازماً على أن يكتب كتاباً ومنعه الخليفة عمر بن الخطاب ، وقال : إن رسول الله غلبه الوجع ، وإنَّه هجر ، أي بمعنى يهذي ، والرسول المعصوم لا يمكن أن يهجر أو يهذي أيُّها الأستاذ ، وقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قوموا عنّي ، لا ينبغي عند نبيٍّ تنازع (2) ؛ لأنه لو أصرَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على كتابة الكتاب لقالوا : إنه هجر ؟
    ثمَّ إن هذا الحديث وضع مقابل الحديث المشهور ، عندما أراد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يكتب الكتاب ، حيث قال : أعطوني دواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعدي ـ ولمَّا واجهه القوم بتلك الكلمة القارصة والعبارة الجارحة ـ خاصّة وهو في آخر أيامه من الدنيا ـ رأى أن من الحكمة والمصلحة أن يعدل عن كتابته حفاظاً على الدين ، وقياماً بما أوجبه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تقديمه الأهمَّ على
1 ـ قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : إن البكريّة وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو : ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان ، ثمَّ قال : يأبى الله تعالى والمسلمون إلاَّ أبا بكر ؛ فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المرويِّ عنه في مرضه : ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلُّون بعده ابداً ، فاختلفوا عنده ( شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/49 ).
2 ـ صحيح البخاري : 4/31 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 6/57 ح 9992 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 4/298 ح 2409 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/242 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8/101 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5/247.


(350)
المهمِّ.
    وأنقل لك ما سجَّله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ، عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تأريخ بغداد ، مسنداً عن ابن عباس أنه قال ـ في حديث طويل جرى بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب ـ قال عمر في بعض ما أجاب به ابن عبّاس ما ملخَّصه : إني لمَّا علمت أن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أراد في مرضه أن يكتب لعلي ( عليه السلام ) بالخلافة ويعهد بها إليه ، فمنعته من ذلك ، لعلمي بأن العرب تنقض عليه لبغضها له (1).
    وهذا القول ـ يا أستاذ ـ يرشدك إلى أنهم كانوا يعلمون مسبقاً بالنصِّ على علي ( عليه السلام ) ، ولكنّهم يرون أن مصلحة الأمّة ، وانتقاض العرب ، وعدم رغبتهم في اجتماع النبوّة والإمامة في أهل بيت النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

    المحاورة بين عمر وابن عباس تكشف عن لثام الحقيقة
    السيِّد البدري يتابع الحديث قائلا : هذه المحاورة تكشف لك ـ يا أخي ـ عن المؤامرة التي حصلت من الخليفة عمر بن الخطاب عمَّا كان يريده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كتابة الكتاب ، كما وردت في تأريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، فاسمع أيها المحاور ...
    قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا بن عباس ! أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدريني.
1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/21.

(351)
    فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة ، فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت.
    فقلت : يا أميرالمؤمنين ! إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلَّمت.
    قال : تكلَّم ، قلت : أمَّا قولك يا أميرالمؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت ، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوَّة والخلافة ، فإن الله عزَّوجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (1).
    فقال عمر : هيهات والله يا ابن عباس ، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرَّك عليها فتزيل منزلتك مني (2).
    ولهذا يقول عمر بن الخطاب : لقد كان ـ أي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ يربع في أمره ، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا وربِّ هذه البنيَّة ! لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتفضت عليه العرب في أقطارها ، فعلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنني علمت ما في نفسه فأمسك (3).
    هشام آل قطيط : بعد كلِّ ما طرحناه من تساؤلات ومناقشات وردود من
1 ـ سورة محمّد ، الآية : 9.
2 ـ تاريخ الطبري : 3/289 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 131 ، الكامل ، ابن الأثير : 3/62 في حوادث سنة 23 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/53.
3 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/21.


(352)
قبل سماحتكم ، إلى أين تريد أن توصلني ؟
    السيِّد البدري : يا أخي ! نحن لسنا بحاجة ، إن تشيعت أم لم تتشيَّع لدينا أكثر من 300 مليون شيعي في العالم ، ولكن الواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك بالأدلّة والبراهين أين هو الحق ، فالمسلم الواثق من عقيدته لا يهاب الحوار ، ولا تخيفه المناقشات ، لماذا الخوف من الحوار ؟ فأعطيك مثالا : أنا السيِّد علي البدري ، من سكَّان بغداد ( الكرَّادة الشرقية ) ، نشأت في بيئة سنّية ، ودرجت كما درج أهلي ( الدين عندنا عادة وليس عبادة ).
    وبعد أن أنهيت دراساتي الشرعيَّة من جامعة بغداد ، وذهبت إلى الأزهر لإكمال الدراسات العليا ، فبدأت من هناك أجري مقارنات بين العقيدة السنّيّة والعقيدة الشيعيّة ، فتوصَّلت بعد بحوث مجهدة ومعاناة طويلة إلى أن اخترت مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أو مذهب الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ، أو ما يسمُّونه اليوم بالشيعة ، أو المذهب الشيعيّ ، فأعلنت عن تشيُّعي ، وكنت وكيل زعيم الطائفة الشيعيّة السيِّد أبو القاسم الخوئي في مصر ، وحتى أصبحت داعية التشيُّع في كلِّ أقطار العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ.
    وأنا أتكلَّم من منطق الواثق من نفسه ، حيث إني درست واطّلعت على كتب الفريقين : السنّيّ والشيعيّ ، حتى توصَّلت إلى حفظ صحيح البخاري وأرقام الصفحات المهمّة بالحوار والاحتجاج ، وغيره من الصحاح وكتب التاريخ.

    كل ممنوع مرغوب
    أحكي لك هذه القصَّة : عندما كنت صغيراً في العشرينات كان أحد أساتذني يحذِّرني من قراءة كتب الشيعة.


(353)
    فقلت له : يا أستاذ ! ما دمتم تحذِّرونا من كتب الشيعة أسألك هذا السؤال : هذه الكتب المخيفة إمَّا أنها تحتوي على الحقيقة أو على الباطل ، فإن كانت الأولى فلماذا تحذِّرون من اتّباع الحقيقة ؟ وإمَّا على الباطل فلماذا لا تردُّون عليها ـ يا أستاذ ـ وتبيِّنوا لنا الشبهات التي فيها حتى لا نقع في الشبهات ؟
    فضحك الأستاذ ، وقال لي : كان والدي يحذِّرني منها.
    فقلت له : يا أستاذ ! وإلى متى نبقى على هذا الخوف والتحذير ؟
    فكان الأستاذ من خلال تحذيره لي ، تولَّد عندي نزعة شديدة لقراءة هذه الكتب ، ووصلت بحمد الله تعالى إلى ما وصلت ، فأشجِّعك ـ يا أخي ـ قربة إلى الله ، وأنا رجل مريض ، وأصبحت في آخر العمر ، ولا أعرف أكمل هذه السنة أم لا ، فتابع البحث والسؤال يا بنيَّ ؛ لأن عمدة العلم في السؤال ، ووفَّقك الله.
    وانتهت هذه الجلسة بسبب مرض السيِّد البدري.

    اللقاء السابع : المناقشة في بيعة أبي بكر وحديث الثقلين
    ذهبت في تمام الساعة العاشرة صباحاً إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري ، فطرقت الباب ، ففوجئت بحرمه الموقَّرة تبلغني نبأ مرضه الشديد ، وقالت : حصل معه ألم في القلب ، وهو في مشفى المجتهد ، في قسم العناية القلبيّة المشددة.
    فنزلت على الدرج بسرعة هائلة ، وقطعت الشارع ركضاً ، وأقلَّتني سيَّارة إلى مشفى المجتهد ، فدخلت إلى المشفى ، وأدعو له طول الطريق بطول العمر ؛ لأنه الإنسان الوحيد الذي وجدت فيه الصدق في القول والإخلاص في العمل ، رجل شيبة في الثمانينات ، ويحاور ويسافر ، ويحمل أكداس من الكتب بيده


(354)
الشريفة لينير الدرب أمام الشباب ، وسألت البوَّاب الذي يقف على باب قسم العناية القلبيّة المشدَّدة فأدخلني ، فسرت في الممرّ ، فسألت إحدى الممرِّضات عن غرفة السيِّد علي البدري ، فقالت لي : الشيخ الشيبة ؟ قلت لها : نعم ، قالت : هو في الغرفة الثالثة.
    فدخلت وقبَّلت جبينه ، وقال لي : يا بنيَّ ! لقد أتيت ، فقلت له : نعم ، فقال لي : أطلب من الله أن يطيل بعمري فقط ولو سنة حتى أوضح لك كل الشبهات التي في ذهنك ، فقلت له : عمرك طويل إن شاء الله تعالى يا سماحة السيِّد.
    السيِّد : هل تريد منّي أيَّ خدمة ؟ قال لي : اجلس هنا ، هذا السرير فارغ ، فجلست ، ورفع رأسه عن الوسادة.

    حوار في مشفى المجتهد لمدة نصف ساعة !!
    هشام آل قطيط : سماحة السيِّد الجليل ! أستطيع أن أتكلَّم معك وأسألك ؟
    السيِّد البدري : اسأل يا أخي ! ما دام فيَّ عرق ينبض سأردُّ عليك ، ويساعدني الإمام علي والزهراء ( عليهما السلام ) ، والحجّة القائم الإمام المهدي عجَّل الله فرجه الشريف.
    هشام آل قطيط : ألم يكن هناك إجماع وشورى على خلافة سيِّدنا أبي بكر بعد النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    السيِّد البدري : أرجو أن تبيِّن لي أدلّتك على صحة الإجماع والشورى.
    هشام آل قطيط : أولا : إجماع الأمّة على خلافته.
    ثانياً : كبر سنّه وشيخوخته ، والأمّة لا تقبل أن يكون الخليفة من هو أصغر سنّاً مثل الإمام علي ( كرَّم الله وجهه ) وأنتم لو أنصفتم ـ سماحة السيِّد ـ لأعطيتم


(355)
الحقَّ للمسلمين ، فلا يجوز عقلا أن يتقدَّم في هذا الأمر العظيم شابٌّ حدث السن مع وجود شيوخ قومه وكبراء أهله ، وإن تأخَّر سيِّدنا علي ( كرَّم الله وجهه ) لا يكون نقصاً له بل كمالا له ، وإن أفضليته على أقرانه ثابتة ولا ننكرها.
    ثمَّ إنني أسمع حديثاً دائماً يردِّده علماؤنا السنّة ؛ قول سيِّدنا عمر : لا تجتمع النبوَّة والملك في أهل بيت واحد.
    هذه أسباب تقدُّم أبي بكر وتأخُّر عليٍّ ( عليه السلام ) في أمر الخلافة ( ولا تجتمع أمّتي على ضلال أو على خطأ ).
    السيِّد البدري : إن أدلَّتك ـ يا أخي ـ تضحك الثكلى ، وإن مثلك كمثل الذي يغمض عينيه فيصبح كالأعمى ، فلا يرى الشمس الطالعة في الضحى ، وينكر ضوء النهار إذا تجلَّى ، فافتح عينيك ، وانظر إلى منار الهدى ، واسلك طريق الحقّ ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تغرّنّك الدنيا ، وإن الآخرة خير وأبقى.
    وأرجو منك أن تقرأ كتب الشيعة بدقّة ، وتعمِّق الفكر في أدلّتنا وبراهيننا ، أقول هذا لأني فتَّشت أسواق القاهرة والحجاز والخليج والأردن ، وأسواق الشام وأندونيسيا وتنزانيا وبومباي ، وغيرها من البلاد الإسلاميّة التي غالب سكَّانها أهل السنة ، أو حكَّامها من أهل السنّة والجماعة ، فما وجدت كتب الشيعة في مكتباتها ، فكأنكم ـ مع الأسف ـ آليتم أن لا تطالعوا كتب الشيعة ، فلا أدري هل حكمتم عليها بأنها كتب ضلال فحرَّمتم قراءتها ؟!!
    وإنّي دخلت بيوت كثير من إخواننا أهل السنّة ، علماء وغير علماء ، وخاصة الذين يهوون مطالعة الكتب ، ويملكون مكتبات شخصيّة في بيوتهم ، فوجدت فيها كتب مختلفة حتى كتب غير المسلمين من الشرقيّين والغربيّين ، ولم أجد كتاباً واحداً من كتب الشيعة !!


(356)
    بينما نحن في بلادنا نطبع كتب السنّة وننشرها ، وندعو أهل العلم والمثَّقفين من شبابنا لمطالعتها ، فهذه مدينة النجف الأشرف ، وكربلاء المقدَّسة في العراق ، وهذه مدينة مشهد ، ومدينة قم المقدسة ، وكذلك شيراز وطهران وإصفهان ، التي فيها حوزاتنا العلميّة ومراجعنا العظام ، ولا أجد مكتبة واحدة من مكتباتنا العامّة والخاصّة تخلو من صحاحكم وكتبكم ومسانيدكم وتواريخكم وتفاسيركم ، لا لحاجة منّا إليها ؛ لأن مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) غنيّة ، والأخبار المرويَّة عن العترة الطاهرة تناولت جميع جوانب الحياة ، وكل ما يحتاجه الإنسان في أمر الدين والدنيا.
    وعلاوة على ذلك ألفت نظرك إلى مسألة مهمّة جدّاً ، خذها بعين الاعتبار يا أخي ، أعطني دليلا واحداً أن هناك عالم شيعي انتقل من التشيُّع إلى التسنُّن ، لا يوجد .. أتحدَّاك ، بينما العشرات والمئات من علماء السنة ومثقَّفيهم انتقلوا من التسنُّن إلى التشيُّع .. لماذا ؟!! فكِّر في ذلك وأنصف.

    لا إجماع على خلافة أبي بكر..
    ويتابع سماحة السيِّد إجابته قائلا : أيُّها الأخ ! لو فكَّرت قليلا وأنصفت ، ثمَّ نظرت نظرة الباحث المدقِّق المتأمِّل بأحداث السقيفة وما نجم منها لأذعنت أن خلافة أبي بكر ما كانت بموافقة أهل الحلِّ والعقد ، ولم يحصل الإجماع عليها ، ولو أنك تدبَّرت قول عمر بن الخطاب في صحيح البخاري ـ أصدق صحيح عندكم ـ ما قاله بعد هذا الإجماع والبيعة في السقيفة قوله : إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وتمَّت ، ولكن الله وقى شرَّها (1) ، إلى أن قال : من بايع منكم رجلا من غير
1 ـ صحيح البخاري : 8/26 ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 38 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 8/615 ـ 616 ، تأريخ اليعقوبي : 2/158 ، كتاب الثقات ، ابن حبان : 2/156 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/31 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 6/5.

(357)
مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا ، إلى قوله : إلاَّ أن الأنصار خالفوا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا علي ( عليه السلام ) والزبير ومن معهما.
    وأزيدك أدلّة أخرى يا أستاذ ، فالإجماع الذي تزعمه نفاه كثير من علمائكم ، منهم : صاحب كتاب ( المواقف ) ، والفخر الرازي ، وجلال الدين السيوطي ، وابن أبي الحديد ، والطبري ، والبخاري ، ومسلم بن الحجاج ، وغيرهم.
    وقد ذكر العسقلاني ، والبلاذري في تأريخه ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وغير هؤلاء أيضاً ، ذكروا : أن سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وجماعة من قريش ما بايعوا أبا بكر ، وثمانية عشر من كبار الصحابة رفضوا أيضاً أن يبايعوه ، وهم شيعة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأنصاره ، ذكروا أسماءهم كمايلي :
    1 ـ سلمان الفارسي
    2 ـ أبو ذر الغفاري.
    3 ـ المقداد بن الأسود الكندي.
    4 ـ أُبي بن كعب.
    5 ـ عمار بن ياسر.
    6 ـ خالد بن سعيد بن العاص.
    7 ـ بريدة الأسلمي.
    8 ـ خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين.
    9 ـ أبو الهيثم بن التيهان.
    10 ـ سهل بن حنيف.
    11 ـ عثمان بن حنيف.
    12 ـ أبو أيوب الأنصاري.


(358)
    13 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.
    14 ـ حذيفة بن اليمان.
    15 ـ سعد بن عبادة.
    16 ـ قيس بن سعد.
    17 ـ عبد الله بن عبّاس.
    18 ـ زيد بن أرقم.
    وذكر اليعقوبي في تأريخه فقال : تخلَّف قوم من المهاجرين والأنصار عن بيعة أبي بكر ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد ، وسلمان ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبي بن كعب (1).
    أقول : ألم يكن هؤلاء من صفوة أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن المقرَّبين إليه والمكرَّمين لديه ؟! فلماذا لم يشاورهم ؟ فإن لم يكن هؤلاء الأخيار من أهل الحلِّ والعقد ، ومن ذوي البصيرة والرأي في المشورة والاختيار ، فمن يكون إذن ؟!! وإذا لم يعبأ برأي أولئك الذين كانوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشاورهم الأمور ويعتمد عليهم ، فبرأي من يعبأ ؟ ورأي من يكون ميزاناً ومعياراً لإبرام الأمور المهمّة ، وحسم قضايا الأمة ؟!

    مخالفة أهل البيت ( عليهم السلام ) لخلافة أبي بكر
    ويتابع السيِّد البدري استدلاله قائلا : أوَّل من خالف أبا بكر هم أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وهم بإجماع الأمة أفضل الصحابة ، وهم في الصفّ الأول والمتقدِّمين على أهل الحلّ والعقد ، وإن إجماع أهل البيت ( عليهم السلام ) حجّة لازمة على الأمّة ، بدليل
1 ـ تاريخ اليعقوبي : 2/124.

(359)
قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً (1).
    هشام آل قطيط : عفواً ، عفواً سماحة السيِّد ! أنت ذكرت : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لماذا لم تذكر حديث : كتاب الله وسنّة نبيِّه ؟ من أين أتيت بحديث : عترتي أهل بيتي ؟
    السيِّد البدري : أعطني دليلا على صحّة ما قلت أيُّها الأستاذ.
    هشام آل قطيط : وقفت محتاراً عن عدم الدليل ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ، إن شاء الله في جلسة أخرى سأحضر الدليل.
    السيِّد البدري : لا تعذِّب نفسك يا أخي ، راجع : مسند أحمد بن حنبل ، الجزء الثالث : ص 17 ، وأخرجه أيضاً في نفس المصدر عن أبي سعيد الخدري ص 26 ، وص 59 عن أبي سعيد الخدري حديثاً آخر ، وأخرج في الجزء الرابع ص 267 عن زيد بن أرقم حديثاً آخر ، وفي صحيح مسلم ذكره في الجزء الثاني ص 238.
    وأمَّا حديث : كتاب الله وسنَّة نبيِّه ، رواه الإمام مالك في موطَّئه ، الجزء الثاني : ص 899 ، ط دار إحياء التراث العربي ، تحقيق الدكتور محمّد فؤاد عبد الباقي المصري. وصيغة الحديث على الشكل التالي : حدَّثنا مالك أنه بلغه : ما إن تمسَّكتم بأمرين : كتاب الله وسنّة نبيِّه.
    فهذا الحديث عند علماء الجرح والتعديل عندكم والحفَّاظ حديث مرسل ولا يؤخذ به ، فاشتهر عندكم ( وكم من شهير ليس له أصل ) والصحاح الحاكمة
1 ـ تقدَّمت تخريجاته.

(360)
بوجوب التمسُّك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيّاً متظافرة ، وقد صدع بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مواقف له شتّى : تارة يوم غدير خمّ ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرَّة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : أيُّها الناس ! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلِّف فيكم كتاب الله عزَّوجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد علي ( عليه السلام ) فرفعها ، فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض .. الحديث (1).
    ثمَّ قال : أخرجه الطبراني كما في أربعين الأربعين ، وكتاب ( إحياء الميت في فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) ) للشيخ جلال الدين السيوطي.
    وانتهى الحوار في مشفى المجتهد بدمشق.

    اللقاء الثامن : تأجيل المناظرة
    ذهبت إلى منزل السيِّد البدري صباحاً ، وهنَّأته بالسلامة بعد خروجه من المشفى ، وقال لي : الآن عندي موعد مع جماعة من لبنان ، وبعد صلاة المغرب تفضَّل ـ يا أخي ـ لنكمل البحث والحوار.

    اللقاء التاسع : مسألة كبر السنّ في الخليفة ، وظلامة علي وفاطمة ( عليهما السلام )
    وبعد صلاة المغرب حضرت لإكمال البحث والحوار.
1 ـ مناقب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الشيرواني : 174 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/124 ح 56 و2/403 ح 54 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 124 ط المحمدية بمصر و75 ط الميمنية.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس