مناظرات المستبصرين ::: 511 ـ 525
(511)
كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتُم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (1).

    احتجاج السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
    تجمَّد فكري ، وعقدت الحيرة لساني ، فوضعت كلتا يديّ على رأسي ، ثمَّ قلت : كل هذا ونحن لا ندري ، أمرٌ لا يصدَّق.
    فلم يدعني خالي أرتاح قليلا ... حتى أنعش أعصابي فبادرني قائلا : هذا فيما يتعلّق باحتجاج أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ودعيني أقرأ عليك ممّا جاء عن احتجاج الزهراء ( عليها السلام ).
    خالي : بغضّ النّظر عمَّا جاء في المصادر الشيعيّة من استنكار أهل بيت العصمة والطهارة ( عليه السلام ) ، فقد ذكر أبو الفضل أحمد بن طيفور (2) ، وجاء في شرح ابن أبي الحديد في المجلَّد الرابع (3) ، وفي أعلام النساء لعمر رضا كحالة (4) ، قالت ( عليها السلام ) في خطبتها ـ التي كان أهل البيت ( عليهم السلام ) يلزمون أولادهم بحفظها كما يلزمونهم بحفظ القرآن ـ :
    « ويحهم ، أنّى زحزحوها (5) عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوَّة ، ومهبط
1 ـ نهج البلاغة : 1/30 ، رقم الخطبة : 3 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/162.
2 ـ بلاغات النساء ، ابن طيفور : 20 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 120.
3 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/233.
4 ـ ج 3 ، ص 1208.
5 ـ أي الخلافة.


(512)
الروح الأمين ، والطبين (1) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين .. ومانقموا من أبي الحسن ؟! نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ، وتالله لو تكافأوا (2) على زمام نبذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليه لاعتلقه ، لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه (3) ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويّاً فضفاضاً (4) تطفح ضفّتاه ، ولا يترنّم جانباه ، ولأصدرهم بطاناً (5) ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ، غير متحلٍّ منهم بطائل ، إلاَّ بغمر الناهل (6) ، وردعه سورة الساغب (7) ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، ألا هلمَّ فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ، إلى أيِّ لجأ استندوا ؟! وبأيِّ عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن
1 ـ أي الخبير.
2 ـ التكافؤ : التساوي ، والزمام الذي نبذه إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ أي ألقاه إليه ـ في أمور دينها ودنياها ، والمعنى أنهم لو تساووا جميعاً في الانقياد بذلك الزمام والاستسلام إلى ذلك القائد العام ، لا عتلقه أي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح.
3 ـ سار بهم سيراً سجحاً أي سيراً سهلا ؛ ولا يكلم خشاشة أي لا يجرح أنف البعير ، والخشاش : عود يجعل في أنف البعير يشدُّ به الزمام ، ولا يتعتع راكبه ، أي لا يصيبه أذى.
4 ـ أي يفيض منه الماء.
5 ـ أي شبعانين.
6 ـ أي ريّ الظمآن.
7 ـ أي كسر شدّة الجوع.


(513)
يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ... إلى آخر الخطبة.
    بينما هو يقرأ أحسست برعشة تسري إلى جميع أجزاء بدني ، وجرت دمعة على خدّي .. وكيف لا أبكي وقد أحسست بأنفاس الزهراء الطاهرة ( عليها السلام ) تتسرَّب مع أنفاسي إلى أعماق نفسي ، فكانت تلك الكلمات حروفاً من نور تشعُّ في وجداني ، وربّ السماء والأرض لو أنكر أهل الدنيا جميعاً هذه الكلمات لعشت بها وحيدة في فيافي الأرض وقفارها ، أترنّم بأجراس كلماتها ، وترقص نفسي طرباً بأزيز أنغامها ، وهنا يكون العشق والحبُّ ، وتهيم الروح سكراً بلبِّ معناها.
    كفكفت دمعي ، وتوسَّلت بخالي أن لا يقطع الحوار بسبب اضطرابي ... دعاني إلى النوم لكي تهدأ أعصابي ، قلت : كم هي الليالي التي لم نستفد منها إلاَّ النوم ، فإن كانت ليلة القدر خيراً من ألف شهر فهذه الليلة خير من ألف يوم ، فتلك الليلة تكتب فيها الأقدار ، وهذه الليلة تبعث فيها الأرواح.
    وبعد إلحاح قال خالي : أختم لك هذه الليلة بحوار عمر مع جدِّنا عبد الله بن العباس ـ الذي نتشرَّف بالانتساب إليه ـ كما جاء في الكامل لابن الأثير (2) ، وشرح النهج لابن أبي الحديد (3) ، وتاريخ الطبري (4).
    قال عمر : أتدري ما منع قومكم بعد محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه ، فقلت له : إن لم أكن أدري فإن
1 ـ سورة يونس ، الآية : 35.
2 ـ ج3 ، ص 63.
3 ـ شرح نهج البلاغة : 12/53.
4 ـ تأريخ الطبري : 3/289.


(514)
أميرالمؤمنين يدري !
    فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً (1) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.
    عندها قال ابن عباس : يا أميرالمؤمنين ! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب ، تكلَّمت ..
    قال : تكلَّم.
    فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت ، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإنّ الله عزّ وجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (2).
    قال عمر : هيهات يا ابن عباس ! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.
    فقال ابن عباس : ما هي يا أميرالمؤمنين ؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
    قال عمر : بلغني أنك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسداً وبغياً وظلماً.
    فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أميرالمؤمنين ـ : ظلماً ، فقد تبيَّن للجاهل والحليم ، وأمَّا قولك : حسداً ، فإن آدم حُسدَ ، ونحن ولده المحسودون.
1 ـ التبجُّح بالشي ، أي الفرح به.
2 ـ سورة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الآية : 47.


(515)
    فقال عمر : هيهات ، هيهات ، أبت والله قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلاَّ حسداً لا يزول.
    فقال ابن عباس : مهلا يا أميرالمؤمنين ! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً.
    خالي : والدليل على أنّ أهل البيت ( عليهم السلام ) محسودون على المكانة التي خصّهم بها الله قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (1) ، والتدبُّر في هذه الآية يكشف لنا أنّ الحسد وقع على هؤلاء الناس بسبب عطاء ربِّك لهم ( الكتاب والحكمة والملك العظيم ) لأنّ المعلوم والمحكم في هذه الآية أنّ الله أعطى آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم ، والمتشابه علينا في هذه الآية هو من المقصود بالناس في هذه الآية ؟ وما هو الفضل الذي أُعطي لهم ؟ ولاستجلاء المعنى المقصود لابد من إجراء المقابلة ، فالناس يقابلهم آل إبراهيم ، والفضل يقابله الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فهل ياترى من هؤلاء الناس في أمَّة محمّد يقابلون آل إبراهيم ؟ هل تجدين غير آل محمّد كفؤاً ونظيراً لآل إبراهيم ؟ فيتضح بذلك أنّ الناس المقصودين في هذه الآية هم آل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2).
    أمَّا الفضل الذي أُعطي لهم فهو الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فيكون
1 ـ سورة النساء ، الآية : 54.
2 ـ روى الحاكم الحسكاني ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) قال : نحن المحسودون. شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1/183 ح 195 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2/369 ح 52 ، عن المناقب لابن المغازلي : 267 حديث 314.


(516)
معنى الآية : أم يحسدون آل محمّد على ما آتاهم الله من الكتاب والحكمة والملك العظيم ، ولقد آتينا آل إبراهيم مثل ما أعطيناهم من الكتاب والملك العظيم ، فهل عرفت بذلك السبب الذي جعلهم يزيلون آل محمّد عن مراتبهم التي رتبهم الله بها ؟.
    يا عزيزتي ! قد تبيَّن للجاهل قبل العالم ، وإياك أن تحيدي عن قوم أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
    قلت : كل ما ذكرته مقنع ، ومستند على الأدلّة والبراهين الساطعة ، وهذا خلاف ما كنّا نعرفه عن الشيعة الذين كانوا في تصوُّرنا أبعد الناس عن الحقِّ ، وكل ما يمكن أن أجزم به الآن ـ حتى لا أكون متعجِّلة بالحكم بأحقّيّة مذهبكم ـ أنَّ الشيعة طائفة إسلاميَّة يجب أن تحترم ، وإن كانوا يختلفون مع عامّة المسلمين من أهل السنّة في بعض الأمور التي يمكن تجاوزها في سبيل الوحدة الإسلاميّة ، وللإنصاف ـ يا خالي ـ لقد سررت جداً بهذا الحوار ، وقد تعلَّمت منه درساً لن أنساه أبداً ، وهو عدم الحكم على الآخرين بالأفكار المسبقة ، والرجوع إليهم لا إلى من يخالفهم ، وأنا أعتقد أنّ من أعظم المصائب التي تعيشها أمتنا هي فقدانها لأرضيَّة الحوار.
    ولكن عفواً يا خالي ! ما زال هناك سؤال يراودني ، هل غاب هذا عن العلماء ؟ ولماذا لم يتوصَّل أحد منهم لما ذكرت ؟
    خالي : لقد أثلجت صدري بهذا الكلام الذي ينمُّ عن وعي وشعور كاملين بالمسؤولية ، التي أمرنا القرآن الكريم أن نتحلّى بها من معرفة المنهج القرآنيِّ في المباحثة والمناظرة العلميّة الذي يعترف بالطرفين ، قال تعالى معلِّماً رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم )


(517)
مخاطبة الكفار والمشركين : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُّبِين ) (1) ، فانظري إلى هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم : إني على حق وأنتم على ضلال ، بل قال : إمَّا نحن أو أنتم على حق أو على باطل .. فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرّيّة المناقشة قائلا : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2) ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسمع براهينهم ويردُّها بالتي هي أحسن ، وقد سجَّل القرآن نماذج كثيرةً سواء كانت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو مع الأنبياء السابقين ، ففي قصّة إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ، ولم يجوّز لمسلم أن يمسَّها من غير وضوء بناء على الفقه الشيعي ، فأين هؤلاء الذين يشنِّعون ويفترون على الشيعة بكل ما هو باطل من هذا المنهج القرآني الأصيل (3) ؟
    أمَّا قولك : لماذا لم يتوصَّل أحد لما ذكرت ؟
    قال تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (4) ، وقال : ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (5) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (6) ، ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
1 ـ سورة سبأ ، الآية : 24.
2 ـ سورة النمل ، الآية : 64.
3 ـ راجع كتاب الحقيقة الضائعة ، لمعتصم سيد أحمد ، ص 30 تحت عنوان : ملاحظات للباحث لابد منها ، وص 218 مع إحسان إلهي ظهير.
4 ـ سورة المؤمنون ، الآية : 70.
5 ـ سورة الأعراف ، الآية : 187.
6 ـ سورة يوسف ، الآية : 38.


(518)
بِمُؤْمِنِينَ ) (1) ، ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (2) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (3) .. هذا أوَّلا.
    ثانياً : هناك من هو مصداق قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (4).
    ثالثاً : هنالك مجموعة من نخبة السنّة وعلمائها من كسر الأغلال ، وتعدَّى حواجز الكبت الإعلامي ، والتحقوا بركب التشيٌّع في كل أنحاء العالم ، فتمسُّك بعض العلماء بموقفهم ليس دليلا على بطلان مذهب آل البيت ( عليهم السلام ) وإلاَّ حكمنا ببطلان مذهب أهل السنّة أيضاً لتمسّك علماء الطوائف الأخرى بعقيدتهم.

    مسح الأرجل في الوضوء
    لو سمحت لي ـ يا خالي ـ بآخر سؤال : لقد رأيتك تمسح على رجليك في الوضوء بدلا عن الغسل ، فما هو السبب ؟ أليس الغسل أنظف وآمن للنجاسة من المسح ؟
    خالي وهو مستغرب لهذا الانتقال المفاجئ : نعم الغسل أنظف ، ولكن الله أعرف ، ثم ابتسم.
    قلت : ولكن لم يأمر الله بالمسح ؟
    خالي : صبراً عليَّ : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
1 ـ سورة يوسف ، الآية : 103.
2 ـ سورة الإسراء ، الآية : 89.
3 ـ سورة الرعد ، الآية : 1.
4 ـ سورة النمل ، الآية : 14.


(519)
فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (1) ، فقوله : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) دال على وجوب المسح بكلتا القراءتين : بالكسر أو بالفتح ، أمَّا الكسر فواضح ؛ لأنها معطوفة على الرأس ، وأمَّا النصب فإنه يدل على المسح أيضاً ، وذلك لأنه معطوف على موضع الرؤوس لوقوع المسح عليهما ، ولا يمكن العطف على الأيدي ، وذلك لوجود فاصل أجنبيٍّ وهو المسح ، فلا يجوز العطف على البعيد مع إمكانيَّة العطف على القريب.
    وهذا ما أكَّدت عليه روايات أهل بيت العصمة والطهارة ( عليهم السلام ) ، بل هنالك أحاديث من مصادر أهل السنة تؤيِّد المسح ، وممَّن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم ، قال ابن عباس وأنس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، كما جاء في الدر المنثور (2) ، وقال عكرمة : ليس على الرجلين غسل ، إنما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ، ويلغي ما كان مسحاً (3) ، وروى أوس بن أوس ، قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) توضَّأ ومسح على رجليه (4) ، ووصف ابن عباس وضوء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّه مسح على رجليه ، وقال : إنّ في كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلاَّ الغسل (5).
1 ـ سورة المائدة ، الآية : 6.
2 ـ الدر المنثور : 2/262.
3 ـ نفس المصدر : 262.
4 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 1/217.
5 ـ مجمع البيان ، الطبرسي : 3/284 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9/432 ح 26837.


(520)
    وجاء أيضاً في كنز العمال عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضَّأ ، ثم ضحك فقال : ألا تسألوني ممَّ أضحك ؟ قالوا : يا أميرالمؤمنين ! ما أضحكك ؟ قال : رأيتُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) توضَّأ كما توضَّأت ، فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه (1).
    وفي سنن ابن ماجة فقال : إنّها لا تتُّم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين (2).
    ألا يكفي هذه دلالة على وجوب المسح ؟
    قلت : عجيب ! ولماذا يغسل أهل السنّة إذاً ؟
    خالي : أنت سألتيني لماذا يمسح الشيعة فأجبتك ، وبقي عليك أن تجيبي على سؤالك لماذا يغسل أهل السنّة ؟
    ثمَّ اعتذر وانصرف لنومه.

    أكذوبة المذاهب الأربعة
    وبعد ذلك الحوار وجلسات أخرى متفرِّقة مع خالي ، اهتزّت كل قناعاتي بالموروث الديني السنّي ، وتكشَّفت أمام ناظري مجموعة من الحقائق ، بعدما وقفت على عمق الخلافات المذهبيَّة ، وعندما أتى خالي لزيارتنا في بيتنا عاجلته بالسؤال : وما هو رأيكم في المذاهب الأربعة ؟
1 ـ كنز العمال : 436 ح 26863.
2 ـ سنن ابن ماجة : 1/156 ح 469.


(521)
    فتبسّم خالي قائلا : أما زلت في حيرة من أمرك ، فإنّ الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكلِّفاك باتّباع أحد منهم ، وأنا أتحدَّى كل علماء السنة الماضين منهم والباقين أن يستدلُّوا بدليل واحد على وجوب تقليدهم ، فدعي عنك تلك الوساوس ، وتوجَّهي إلى أئمّة الهدى من آل البيت ( عليهم السلام ) ، فهم موضع الحكمة والرسالة ، جعلهم الله لنا عصمة وملاذاً ، ألم يقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي (1) .. ولم يقل : كتاب الله وأئمَّة المذاهب الأربعة.
    فقاطعته قائلة : ولكن قال : ( كتاب الله وسنّتي ) ممَّا يفتح الباب واسعاً أمام اجتهاد الأمة.
    خالي : أوَّلا : إنّ حديث : كتاب الله وسنّتي غير صحيح فلم يروه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وكل الصحاح الستة ، فكيف نرتكز على حديث غير ثابت عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهذا الحديث لم يروه إلاَّ مالك في الموطأ من غير سند ، فقد جاء في الموطأ أن مالك بلغه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( تركت فيكم كتاب الله وسنّتي ) (2) ، فكيف ياترى بلغ مالكاً هذا الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!! ومن المعلوم أن الفاصل بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومالك يحتاج فيه الحديث إلى سند طويل ، يعني : حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن الصحابي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا الحديث من غير سند ، ممَّا يعني أنه حديث في غاية الضعف.
1 ـ تقدَّمت تخريجاته في المناظرة الخامسة.
2 ـ كتاب الموطأ ، مالك : 2/899 ح 3 ، ولفظ الحديث : وحدَّثني عن مالك أنّه بلغه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما مسكتم بهما : كتاب الله وسنّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).


(522)
    أمَّا حديث : تركت فيكم كتاب الله وعترتي فقد رواه مسلم في صحيحه بعدّة طرق (1) ، وروته كل الصحاح الستة ما عدا البخاري ، وعدد الرواة الذين نقلوا الحديث من الصحابة يتجاوز الثلاثين راوياً ، ممَّا يعني أنّه حديث متواتر مقطوع الصدور عند السنّة والشيعة ، فكيف نتنازل عنه من أجل حديث لا سند له ؟ ومن هنا كان من الواجب على كل مسلم أن يتبع أهل البيت ( عليهم السلام ) في كل أمور دينه.
    قلت : هناك حديث آخر يقول : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ (2) ، فنستفيد من هذا الحديث أوَّلا التمسُّك بسنّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وسنَّة الخلفاء ثانياً.
    خالي : هذه إسقاطات لا يقبلها النص ، أولا ـ بعيداً عن مناقشة سند الحديث الذي استفرد بنقله أبو داود وابن ماجة والترمذي ، وتجاوزنا عن تضعيف بعض الرواة في أسانيده ـ فإنّ هذا الحديث لا يتحمَّل أكثر من دعم رأي الشيعة ، وذلك أنّ كلمة الخلفاء هنا لا تعني الخلفاء الأربعة ، أو الذين حكموا في التأريخ ؛ لأن هذا إسقاط تأويلي متأخِّر عن النص ، فتسمية الخلفاء الراشدين للأربعة الذين حكموا ليست هي تسمية شرعيّة ، وإنّما تسمية المؤرِّخين الذين حكموا على فترة حكم الخلفاء بالرشد ، فبالتالي لا يكون الخلفاء مصداقاً لهذا الحديث لمجَّرد اشتراك التسمية ، فيكون التفسير الأقرب أن الخلفاء المقصودين هم أئمة أهل البيت الاثنا عشر ( عليهم السلام ) ، وذلك لقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في البخاري في باب الخلافة ، ومسلم وغيرهما من الصحاح عشرين رواية ـ كما جعلها
1 ـ صحيح مسلم : 7/123. وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث المتواتر.
2 ـ سنن ابن ماجة : 1/16 ح 42 ، شرح معاني الآثار ، ابن سلمة : 1/81 ، أحكام القرآن ، الجصاص : 1/530.


(523)
القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ـ أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إن الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة (1).
    فجاء في رواية : كلهم من قريش ، وفي رواية : كلهم من بني هاشم ، وهذا الترديد في نقل الراوي لا يؤثِّر في الاستدلال بهذا الحديث على إمامة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وذلك بأن الفرقة الإسلاميّة الوحيدة التي توالي اثني عشر إماماً هم الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة ، كلهم من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإذا ثبت ـ وهو كذلك ـ حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : عليكم بكتاب الله وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ثمَّ جاء حديث آخر يقول : الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة ، تعيَّن أن يكون هؤلاء من أهل البيت ( عليهم السلام ) ؛ لأنه يستحيل عقلا أن يأمرنا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باتّباع أهل البيت ، وفي نفس الوقت يأمرنا باتّباع خلفاء من غير أهل البيت ، ممَّا يحدث تناقضاً وتضارباً ، فتعيَّن أن يكون الخلفاء المقصودون في الحديث هم الأئمة من آل البيت ( عليهم السلام ) ، وللأسف لم يكن الخلفاء الذين حكموا في التأريخ ولا أئمّة المذاهب الأربعة من آل البيت ( عليهم السلام ) ، وهذا كاف في إبعادهم عن ساحة الحوار.
    قلت : ولكن من أين جاءت فكرة المذاهب الأربعة ؟
    خالي : فكرة المذاهب الأربعة خدعة نسجت خيوطها سياسات الكبت الأمويّة والعباسيّة ، وإلاَّ لم يكن الفقهاء الأربعة هم أعلم أهل زمانهم ، فهناك من كان أكثر علماً منهم ، وكان لهم مذاهبهم الخاصة ، كسفيان الثوري وابن عيينة
1 ـ راجع : صحيح البخاري : 8/127 ، صحيح مسلم : 6/3 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/86 ـ 93 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/617 ـ 618.

(524)
والأوزاعي وغيرهم ، انقرضت مذاهبهم عندما لم تجد دعماً سياسيّاً من السلطة ، ممَّا يعني أن للسلطة مآرب معيَّنة لتمرير أسماء الأربعة ، ومن ثمَّ سدّ الطريق عن غيرهم ، والأمر واضح وهو خلق قيادات فقهيّة بديلة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) لكي يلتفَّ حولها عامة المسلمين.
    أو ليس من العجيب فعلا أن كل ما جاء في أهل البيت ( عليهم السلام ) من آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة كاشفة عن مكانة عظيمة ومرتبة رفيعة إذا لم نقل بالعصمة ، ألا تؤهِّلهم في نظر أهل السنّة ليتسلَّم أهل البيت ( عليهم السلام ) زمام الفتيا ، أو على أقل تقدير يختارون واحداً من أهل البيت ليكون من بين الأئمّة الأربعة ، حتى يأتي شيخ الأزهر شلتوت ليتصدَّق على أهل البيت ( عليهم السلام ) في القرن العشرين بأن يجعل الإمام الصادق ( عليه السلام ) إماماً خامساً مع الأئمة الأربعة ، مع أن أهل البيت ( عليهم السلام ) لا يقبلون الصدقة.
    لقد تعجَّبت فعلا عندما ردَّدت أسماءهم في نفسي ( مالك ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ) فمعظمهم مشكوك في عروبته ، ناهيك عن كونه من آل البيت ، ثمَّ نتباهى بحبِّ ذرِّيَّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أيُّ حب هذا الذي لم يورثنا الثقة في علمهم وجدارتهم ؟ ومن الغريب أيضاً أننا لم نقبل حقَّ أهل البيت ( عليهم السلام ) في الخلافة ، متمسِّكين بأنّ الحق لا يثبت بمجرِّد القرابة ، فإن كان الحق لا يثبت بالقرابة فالحبُّ لا يكون أيضاً لمجرِّد القرابة ، إلاَّ إذا كان حبُّنا مجرَّد ادّعاء أجوف ، أمَّا إذا اعترفنا بأن هنالك مكانة خاصة ومرتبة رفيعة تؤهِّلهم للحبِّ غير قرابتهم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهو نفسه يؤهّلهم إلى مرتبة الإمامة ، هذا مع أنّ الواقع التأريخي يثبت أنّ أئمة المذاهب الأربعة ـ بدءاً من مالك وانتهاءاً بابن حنبل ـ يدينون بالفضل والأعلميّة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإن كان للأربعة علم فهو من نفحات


(525)
أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ممَّا يكشف لنا مأساة التأريخ الأعمى الذي لا ينظر إلاَّ بعيون السلطة ، فإن كان بنظر أهل السنّة لا يوجد في أهل البيت فقهاء ، ألا يوجد فيهم علماء في العقائد والحديث ومعارف القرآن ؟ فمن أئمّة العقائد والتفسير والحديث عندنا ؟ ... لا يوجد من بينهم واحد من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فهل يحقُّ لأهل السنّة بعد ذلك أن يدّعوا أنهم محبُّون لأهل البيت ( عليهم السلام ) ؟

    الشعائر الحسينيّة
    حسمت لي تلك النقاشات مع بعض الاطلاع أحقّيّة المذهب الشيعي بجدارة ، ولم يكن بيني وبين الالتزام الكامل إلاَّ بعض الإشكالات الطفيفة التي لا تمسُّ بالجوهر ، مثل بعض الممارسات الشيعيّة في شهر محرَّم ؛ من اللطم على الصدور ، وضرب الرؤوس بالسيوف ، فسألت خالي وأنا مستنكرة لهذا الأمر : كيف يجوِّز الشيعة فعل ذلك ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ليس منّا من شقّ الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوة الجاهلية (1) ؟
    خالي : أولا : هذا نقاش فقهيٌّ داخل الدائرة الشيعيّة ، ممَّا يعني أن الشيعة ملزمون باستنباط أحكامهم الشرعيّة فيما ورد عندهم من الأحاديث المرويَّة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل البيت ( عليهم السلام ) ، والحديث الذي ذكرته هو من أحاديث أهل السنة ، فهو ملزم لهم وليس للشيعة ، كما تقول القاعدة : ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.
    وثانياً : إذا سلَّمنا بهذا الحديث فهو بعيد كلَّ البعد عن مورد الاستدلال
1 ـ مسند أحمد بن حنبل : 1/432.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس