مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 301 ـ 315
(301)
ألم يسمع قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) الآية ؟ فمن جاءه ووقف ببابه وتوسَّل به وجد الله توَّاباً رحيماً ، لأن الله منزَّه عن خلف الميعاد ، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه ، وسأله واستغفر ربَّه ، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلاَّ جاحد للدين ، معاند لله ولرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ونعوذ بالله من الحرمان (1).

    كلام الصالحي الشامي في مشروعيَّة زيارة النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    قال الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد : الباب الثاني في الدليل على مشروعيَّة السفر وشدِّ الرحل لزيارة سيِّدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، استدلَّ العلماء على مشروعيَّة زيارته وشدِّ الرحل لذلك بالكتاب ، والسنَّة ، والإجماع ، والقياس.
    أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (2) ، وجه الدلالة من هذه الآية مبنيٌّ على شيئين :
    أحدهما : أن نبيَّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيٌّ كما يثبت ذلك في بابه.
    الثاني : أن أعمال أمته معروضة عليه كما يثبت ذلك في بابه.
    فإذا عرف ذلك فوجه الاحتجاج بها حينئذ أن الله تعالى أخبر أن من ظلم نفسه ، ثمَّ جاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاستغفر الله تعالى ، واستغفر له الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنه
1 ـ الغدير ، الشيخ الأميني : 5/111 ـ 112.
2 ـ سورة النساء ، الآية : 64.


(302)
يجد الله تواباً رحيماً ، وهذا عام في الأحوال والأزمان ; للتعليق على الشرط ، وبعد تقرير أن نبيِّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد موته عارف بمن يجيء إليه ، سامع الصلاة ممن يصلي عليه ، وسلام من يسلِّم عليه ، ويردُّ عليه السلام ، فهذه حالة الحياة ، فإذا سأله العبد استغفر له ; لأن هذه الحالة ثابتة له في الدنيا والآخرة ، فإنه شفيع المذنبين ، وموجبها في الدارين الحياة والإدراك مع النبوَّة.
    وهذه الأمور ثابتة له في البرزخ أيضاً ، فتصحُّ الدلالة حينئذ وفاء بمقتضى الشرط.
    وقد استدلَّ الإمام مالك على ذلك بهذه الآية كما ذكرته في باب مشروعيّة التوسُّل به ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وحكى المصنِّفون في المناسك من أرباب المذاهب عن أبي عبد الرحمن محمّد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب العتبي ، أحد أصحاب سفيان بن عيينة ، قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثمَّ قال : يا خير الرسل ; إن الله تعالى أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) وإني جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربّي ، ثمَّ بكى وأنشد :
يَا خَيْرَ مَنْ دفِنَتْ بِالْقَاع أَعْظُمُهُ نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبر أَنْتَ سَاكِنُهُ فَطَابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأُكُمُ فِهِ العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالْكَرَمُ
    ثمَّ استغفر وانصرف.
    قال العتبي : فرقدت فرأيت النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في النوم وهو يقول : الحق الأعرابي ، وبشِّره بأن الله غفر له بشفاعتي ، فأستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده.


(303)
    ورويت هذه القصة من غير طريق العتبي ، رواها ابن عساكر في ( تأريخه ) وابن الجوزي في ( الوفاء ) عن محمّد بن حرب الهلالي.
    وقد خمَّس هذه الأبيات جماعة منهم الشيخ أبو عبدالله محمّد بن أحمد الأقفسهي.
    وروى الحافظ ابن النعمان في ( مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام ) من طريق الحافظ ابن السمعاني ، بسنده عن علي ( عليه السلام ) قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بثلاثة أيام ، فرمى نفسه على القبر الشريف ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول الله ! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله تعالى ووعينا عنك ، وكان فيما أنزل عليك ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) وقد ظلمت نفسي ، وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك.
    والآية دالّة على الحثّ على المجيء إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والاستغفار عنده ، واستغفاره لهم ، وهذه رتبة لا تنقطع بموته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والعلماء ( رضي الله عنه ) فهموا من الآية العموم بحالتي الموت والحياة ، واستحبُّوا لمن أتى القبر الشريف أن يتلوها ويستغفر الله تعالى.
    وأمَّا السنة فما ذكر في الكتب وما ثبت من خروج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة لزيارة قبر الشهداء ، وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر كذلك ، وإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد ، وحينئذ فقبره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أولى.
    وقد وقع الإجماع على ذلك ; لإطباق السلف والخلف ، قال القاضي عياض : زيارة قبر النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سنَّة بين المسلمين ، ومجمع عليها ، وفضيلة مرغَّب فيها ، وأجمع العلماء على زيارة القبور للرجال والنساء كما حكاه النووي ، بل


(304)
قال بعض الظاهريَّة بوجوبه ، واختلفوا في النساء ، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلّة الخاصة به كما سبق.
    قال السبكي : ولهذا أقول : لا فرق بين الرجال والنساء وأمّا القياس فعلى ما ثبت من زيارته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأهل البقيع وشهداء أحد ، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أولى ; لما له من الحقّ ووجوب التعظيم ، وليست زيارته إلاَّ لتعظيمه والتبرُّك به ، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة الحافّين به ، وذلك من الدعاء المشروع له .. إلخ.
    وقال : الباب الثالث في الردّ على من زعم أن شدَّ الرحل لزيارته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معصية ، قد تقدَّم أنه انعقد الإجماع على تأكُّد زيارته.
    إلى أن قال : قال العلامة زين الدين المراغي : وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قربة ; للأحاديث الواردة في ذلك ، ولقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ) الآية ، لأن تعظيمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا ينقطع بموته ، ولا يقال إن استغفار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهم إنما هو في حال حياته ، وليست الزيارة كذلك ; لما قد أجاب به بعض أئمّة المحقِّقين من أن الآية دلَّت على تعليق وجدان الله توّاباً رحيماً بثلاثة أمور : المجيء ، واستغفارهم ، واستغفار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهم ، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين ; لأنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد استغفر للجميع ، قال الله تعالى : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) (1) فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكاملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته.
    ومشروعيَّة السفر لزيارة قبر النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد ألَّف فيها الشيخ تقي الدين
1 ـ سورة محمّد ، الآية : 19.

(305)
السبكي ، والشيخ جمال الدين بن الزملكاني ، والشيخ داود أبو سليمان المالكي ، وابن جملة ، وغيرهم من الأئمّة ، وردُّوا على عصريِّهم الشيخ تقي الدين بن تيمية ، فإنه قد أتى في ذلك بشيء منكر لا تغسله البحار ، والله وليُّ التوفيق ، ربُّ السماوات والأرض وما بينهما ، العزيز الغفَّار (1).
    قول صارم : وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به ؟
    أقول : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) (2) ، أيقال في حق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه الكلمة ، وهو الذي يسلِّم عليه كل مسلم في صلاته خمس مرَّات في اليوم والليلة ؟! فإذا كان بموته لا ينتفع منه فلماذا إذن نسلِّم عليه ونصلّي عليه ؟ وصارم يعلم جيِّداً نحن لا نستشفع إلاَّ بالأنبياء والأولياء ، وحتى لو كانوا موتى فإنهم مقرَّبون عند الله تعالى ولهم شأن عظيم ، وبموتهم لا ينقطع هذا الشأن وهذا القرب من الله تعالى ، فليست منزلة الشهداء عند الله تعالى بأرفع مقاماً عند الله منهم ، أو أكثر جاهاً منهم ، وقد أثبت لهم الحياة عنده تعالى.
    وقد درج هذا الفكر المتخلِّف على الاستهانة بالأنبياء والأولياء ، وأنهم إذا ماتوا لا ينتفع أحد منهم لابدعاء ولا استشفاع وما شاكل ذلك ، وما هذا إلاَّ استخفافاً بالدين باسم التوحيد ، وتنقيته من شائبة الشرك ، ولعمري إذا جاز التوسُّل بالحيِّ جاز أيضاً بالنسبة للميِّت ; إذ أنه يتوسَّل به لشأنه وجاهه ومنزلته عند الله تعالى ، وهي حاصلة عنده أيضاً بعد الموت بلا فرق.
1 ـ سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : 12/380 ـ 384.
2 ـ سورة الكهف ، الآية : 5.


(306)
    فما تمثَّل به صارم من فعل الخليفة عمر بن الخطاب ، وأنه توسَّل بالعباس عمِّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنه لم يتوسّل بالنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنه ميِّت ، واستدلَّ به على عدم جواز التوسُّل بالموتى فنقول :
    أولا : عدم فعل الخليفة عمر أو فعله للشيء ليس بحجَّة شرعيّة.
    ثانياً : سيرة المسلمين ـ إلاَّ من شذ منهم ـ قائمة على عدم التفريق في التوسّل والاستشفاع بالأنبياء ، سواء في حال حياتهم أو بعد موتهم ، بلا فرق في ذلك عندهم ، وإلاَّ لو كانوا يفرِّقون بين الموت والحياة لظهر ذلك في كلمات الأعلام وغيرهم ، وما يدَّعى أن التوسُّل بهم كان جائزاً في حياتهم ، وما بعد موتهم يكون شركاً فهذا خطل في القول ; إذ لو كان التوسُّل بهم شركاً في حال موتهم فلا يفرَّق بين الحياة والموت ; إذ الشيء لا ينقلب عمَّا هو عليه.


(307)
    المناظرة السابعة والخمسون
مناظرة
الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي مع جماعة من أهل السنّة
    قال الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي ( رحمه الله ) : وفي الليلة الخامسة من شهر رمضان المبارك سنة 1371 هـ ، بينما أنا مشتغل في مكتبتي بكتابة كتاب : ( الشيعة وحجّتهم في التشيُّع ) إذ وفد عليَّ جماعة يبلغ عددهم نحو خمسة عشر شخصاً ، أو أكثر ، وفيهم العلماء وغير العلماء ، فتلقَّيتهم بالترحاب ، وبصدر رحب ، وقلب ملؤه السرور ، وما إن اطمأنَّ بهم الجلوس حتى فاتحوني بالبحث العلميّ ، يريدون الإيضاح عن مذهب الشيعة ، وعن اعتقادهم في الخلافة ، وما يدور حولها.
    فبادرت إلى الجواب ، وهم صامتون يصغون إلى ما أورد عليهم من الأدلّة الواضحة ، والحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ، القائمة لدينا ولديهم حتى مضى علينا أكثر من ثلثي الليل ، وبعد انتهائنا من البحث قاموا ، فمنهم الشاكر ،


(308)
ومنهم المنكر.
    ومن جملة ما أفدت عليهم ، قلت : لا شك في أن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعلم أن أمّته الجديدة القريبة العهد بالإسلام ، وما هي عليه من الرغبة في الخلافة ، ويعلم أنه سينقلب الكثير منهم على الأعقاب (1) ، ولا يسلم منهم إلاَّ مثل همل النعم (2) عند ورودهم على الحوض ـ كما جاء في البخاري في حديث الحوض (3) ، ويعلم علم اليقين أن أصحابه كانوا يضمرون الشرَّ لوصيِّه وخليفته من بعده علي ( عليه السلام ) ، وأنهم فور موته يحدثون حدثاً.
    إذن ، فلابد أن يكون قد وضع للخلافة حلاًّ لها ، يوقف من تدعوه نفسه إلى الخلافة ، ولا يخفى عليه أمر أصحابه ، إذ أنه قد سبرهم ، وعرف المستقيم منهم والملتوي ، وهو القائل لهم : ستتبعون سنن من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه (4) ، وكان شيخنا العلامة الشيخ ( أحمد أفندي الطويل الأنطاكي ) يرويه لنا في أثناء الدرس ، وعلى المنبر ، ويقول في ختام الحديث : ولو جامع أحدهم امرأته في السوق لفعلتموه !! وهو القائل : من
1 ـ قال تعالى في سورة آل عمران ، الآية : 144 : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ).
2 ـ قال ابن الأثير في النهاية : 5/274 : في حديث الحوض : ( فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم ) الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها هامل ; أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة.
3 ـ صحيح البخاري : 7/208 ـ 209.
4 ـ صحيح البخاري : 4/144 ـ 145 و 8/151 ، صحيح مسلم : 8/57 ، صحيح ابن حبان : 15/95 ، مسند أحمد بن حنبل : 2/327 و 511 ، المستدرك ، الحاكم : 4/455 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/261.


(309)
لم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية (1) أي كفر.
    إذن ، فلابد أن يضع للخلافة حلاًّ يوقفهم عند حدِّهم ، ونحن ما دمنا نعتقد أنه نبيٌّ مرسل من الله ، ويعلم أنه الذي ختم الرسل ، وأن رسالته مستمرة إلى آخر الدنيا ، فلا يبقى له أن يترك أمّته فوضى مع علمه أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كما في الحديث (2).
    هذا ودعوى إيكال أمر الخلافة إلى الأمة باطلة لأمور :
    أوّلا : إن أهل الحلِّ والعقد ، أو الانتخاب ، أو ذوي الشورى لا يتمُّ الأمر بما أوكل إليهم إلى مدى الدهر ، بل هو عين إيقاع الأمة في الفوضى التي توقع الأمة في هوَّة ساحقة لا حدَّ لها ولا قرار ، لهذا نرى الأمّة لا زالت تمخر في بحور من الدماء من ذلك اليوم إلى يومنا هذا ، ثمَّ إلى انتهاء حياة البشر يوم البعث والنشور.
    ثانياً : مما لا خفاء فيه أن الناس مختلفون في معتقداتهم ، ومتباينون في آرائهم ، ونرى أنه لا يتفق اثنان في الرأي ، بل الانسان نفسه لا يتفق له أن يستمرَّ على رأي دائم ، بل يتقلَّب رأيه في كل لحظة ، فكيف يمكن أن يكون الأمر موكولا إلى أهل الحلِّ والعقد ؟! وهذا يأباه العقل والوجدان.
    ثالثاً : يستحيل أن يحصل الاتفاق بإيكال الأمر إلى أهل الحلِّ والعقد ، فلابدَّ من وقوع اضطراب شديد بين الشعوب والقبائل ، ووقوع القتل والسلب والنهب ، وغيرها ممّا هو موجود ، كما هو موجود في كل عصر ومصر ، ولم يمكن لرئيس أن يتمَّ على يده نظام حياة الإنسان إلاَّ بالقوَّة القاهرة ، وهذه مؤقَّتة زائلة ،
1 ـ راجع : شرح النهج لابن أبي الحديد : 9/155 و 13/242. وسوف يأتي الحديث نفسه أيضاً مع مصادر أخرى.
2 ـ سوف يأتي مع تخريجاته.


(310)
ومتى زالت رجع كل واحد إلى ما كان عليه من الأعمال الضارّة بالسكان.
    لهذا قلنا مكرَّراً : إن الله لا يدع أمراً من أمور الدين للأمَّة تتجاذبه أهواؤهم ، بل لابدَّ من أن يوكل الأمر إلى أربابه ممن له أهليّة كاملة في العلم الغزير الذي كان عند الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) ، والشجاعة ، والحكم ، والكرم ، والزهد ، والتقى ، والفراسة ، والإعجاز ، وأهمُّها العصمة ، وغير ذلك مما يكون الوصيُّ الذي يقوم مقام الرسول في حاجة إليه في إدارة دفّة الحكم ، وهذا لا يمكن أن يتمكَّن منه أحد إلاَّ الله العالم بما تكنُّه الصدور ، ويعلم السرَّ وأخفى ، والرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بيَّن بصراحة في كل مناسبة أن الوصيَّ والخليفة من بعده : علي ( عليه السلام ).
    كما وإن هناك أدلّة كثيرة أخرى ترشدك إلى ما تقوم به الحجة ، زيادة على ما قدَّمنا ، مما هو ثابت لدنيا معاشر الشيعة ، والكتاب والسنة بُنيتا على ذلك.
    ثمَّ استحسن جميعهم ما أفدت عليهم ، وطلبوا مني بعض مؤلَّفات الشيعة ، فأعطيتهم بعض ما كانت عندي ، فقاموا وحمدوا الله تعالى على هذه النعمة (2).
1 ـ قال الأنطاكي في الهامش : كحديث : أنا مدينة العلم وعلي بابها.
2 ـ لماذا اخترت مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الأنطاكي : 450 ـ 453.


(311)
    المناظرة الثامنة والخمسون
مناظرة
الدكتور التيجاني مع طه المصري (1) في حديث الثقلين
    يقول الدكتور التيجاني في رحلته إلى مصر : وصادف ذات يوم أن دخلنا إلى مسجد سيِّدنا الحسين ( عليه السلام ) لأداء صلاة الظهر ، وما أنهيت الصلاة ورفعت رأسي أقرأ الكتابات والنقوش الدائرة على جدران المسجد حتى شدَّني حديث الثقلين المكتوب قرب المحراب ، وفيه إضاءة كهربائيّة ، ناديت طه وطلبت منه قراءة الحديث ، قرأ : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي (2) ، فصاح يقول : مش معقول ، أنت ـ يا تيجاني ـ جئت بهذا الحديث وعلَّقته هنا ؟!
    وزادني استغراب طه فرحاً وسروراً ; لأنه طالما جادلني في مضمون هذا الحديث ، وأنكر أن يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كتاب الله وعترتي ، بل كان دائماً يردِّد : كتاب الله وسنّتي ، وادّعى أنه ما سمع طيلة عمره أحداً يحدِّث بحديث : كتاب الله
1 ـ أكمل دراسته في النمسا ، وهو شابٌّ له اطّلاع وثقافة واسعة ، وقد تبع التيجاني في تجولاته في مصر وقت زيارته لها سنة 1985 م.
2 ـ تقدمت تخريجاته.


(312)
وعترتي ..
    أخرجته من المسجد ، ثمَّ اتّجهت به إلى الأزهر الشريف حيث كان هناك معرض للكتاب ، قلت له : يا طه ! اتق الله ولا تتكبَّر ، فأنا ما جئت بشيء من عندي ، وإن كان الحديث المكتوب في المسجد قد علَّقته أنا في هذه الأيام ، فما هو ردُّك على صحيح مسلم الذي بين يديك الآن ، وهو يباع في معرض الكتاب ، وهو من أقدم الكتب الإسلاميّة ؟
    قال : وهل فيه حديث : عترتي ؟
    فتحت له باب فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) وأطلعته على الحديث (1) ، فقرأه مرَّتين أو ثلاثاً ، فسكت طويلا وكأنه يفكِّر ، مصفرّاً وجهه ، وكأنه يعيد أنفاسه.
    قلت : هذا غيض من فيض ، فلو أردت سأطلعك على عشرات الأحاديث التي تؤيِّد هذا المعنى ، وكلها من صحاح السنة.
    قال بصوت خافت : الآن تشيَّعت ، واقتنعت بكل أقوالك في حقّ أهل البيت ( عليهم السلام ).
    وعمل طه في السهرات المتتالية على إقناع من تبقَّى من المجموعة ، وكان يؤيِّد كل ما أقول بالشواهد والأدلّة ، ويتحمَّس لها ، فتشيَّع بقية الشبّان ، وعددهم ثمانية (2).
1 ـ جاء في صحيح مسلم : 7/122 ـ 123 عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكَّر ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، ألا أيُّها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه ، ثمَّ قال : وأهل بيتي ، أذكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي.
2 ـ كتاب : فسيروا في الأرض فانظروا ، التيجاني السماوي : 18 ـ 19.


(313)
    المناظرة التاسعة والخمسون
مناظرة
الدكتور التيجاني التونسي مع بعض مرافقيه
في تايلاند فيما جرى للأمّة بعد النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    يقول الدكتور التيجاني في حديثه عن زيارته إلى تايلاند ـ بعد أن ذكر زيارته لمفتي جمهورية تايلاند ـ : وخرجت من عنده ، وركبت السيارة مع الأخ عبد الله النجفي ، وأنا أنظر إلى البنايات العالية وناطحات السحاب ، وأستحضر في خاطري عدد السكان في تايلاند ، الذي يتعدَّى الستين مليون نسمة ، منهم أكثر من أربعين مليون يعبدون الأصنام ، ويقيمون في كل مكان تمثالا لبوذا ، وما عبد فيها من الأصنام ، ثمَّ أستحضر عدد البوذيين في العالم ، وعدد الملحدين ، وعدد النصارى واليهود ، ثمَّ أستعرض عدد المظلَّلين من أمَّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأقول بصوت باك : ماذا ستلقى عند ربِّك يابن الخطاب ؟
    قال أحد المرافقين : وما دخل ابن الخطاب في هذا ؟
    قلت : إنّه هو المسؤول عن كل ضلالة حدثت بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال : عجيب ! بشر واحد يتسبَّب في ضلالة أمَّة كاملة ؟
    قلت : وما العجيب في ذلك ؟ لقد حكى لنا القرآن الكريم أن رجلا واحداً


(314)
اسمه السامري تسبَّب في ضلالة بني إسرائيل إلاَّ القليل القليل ، وهي أمَّة بأسرها ، كل ذلك مع وجود رسول الله موسى ( عليه السلام ) ، وفيهم هارون ( عليه السلام ) ، وغياب موسى ( عليه السلام ) ، فما بالك بأمَّة توفِّي نبيُّها ، وأبعد وليُّها وصيُّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنها حتى كادوا يقتلونه لو لا سكوته ؟
    فأنا أؤمن متيقِّناً أنه لو لا وقوف عمر تلك الوقفة الجريئة على الله ورسوله ، ومنعه الناس أن يدخلوا بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وادّعائه أن محمّداً لم يمت ، وتهديده بالقتل من يقول بذلك.
    أقول : لولا الوقفتان لما اختلف الناس ووقعوا في الضلالة.
    قال مرافقي : فهمنا موقفه من رزيَّة يوم الخميس (1) ، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لما اختلف من الأمَّة اثنان كما قال ابن عباس (2) ، ولكن لم نفهم موقفه من
1 ـ والذي سمَّاها رزيّة هو ابن عباس ، وذلك لمَّا منع عمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كتابة الكتاب ، وقد رواها البخاري ، فقد روى أنَّ عبيد الله قال : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. صحيح البخاري : 7/9 و 8/161 ، صحيح مسلم : 5/76 وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث في مناظرة السيِّد الرضوي مع الدكتور طه حسين.
2 ـ روى أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس قال : إنّي كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ، وعنده رهط من الشيعة ، قال : فذكروا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وموته ، فبكى ابن عباس ، وقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الاثنين ـ وهو اليوم الذي قبض فيه ـ وحوله أهل بيته وثلاثون رجلا من أصحابه : ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلُّوا بعدي ، ولن تختلفوا بعدي ، فمنعهم ( فلان ) فقال : إن رسول الله يهجر ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : إني أراكم تخالفوني وأنا حيٌّ ، فكيف بعد موتي ؟ فترك الكتف.
    قال سليم : ثمَّ أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم ! لو لا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضلُّ أحد ولا يختلف ، فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل ؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم ، فقال : هو عمر ، فقلت : صدقت ، قد سمعت عليّاً ( عليه السلام ) وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : إنه عمر ، فقال : يا سليم ! اكتم إلاَّ ممن تثق بهم من إخوانك ، فإن قلوب هذه الأمَّة .. إلخ.
    كتاب سليم بن قيس ، تحقيق محمّد باقر الأنصاري : 324 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 22/497 ـ 498 ح 44.


(315)
منع الناس أن يدخلوا بيت النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد وفاته ، وقوله : بأنه لم يمت ، فهل عندك تفسير لذلك ؟
    قلت : طبعاً ، الأمر واضح وضوح الشمس ، لأن عمر أدرك بدهائه أن الصحابة إذا ما دخلوا إلى البيت النبويِّ ، ورأوه ميِّتاً وإلى جانبه الإمام علي ( عليه السلام ) فسيبايعونه على الفور ، وإذا ما بايع جمع من الصحابة عليّاً ( عليه السلام ) فسيكون من المستحيل بعدها مبايعة خليفة ثان.
    قال مرافقي عند سماعه هذا التحليل : الله أكبر ! من يفكر بهذا التفكير ؟ .. إلخ (1).

    لماذا لم يدعُ أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) الناس إلى بيعته ولم يغتنم الفرصة ؟
    ولعلّه يقول قائل : إذا كان الخليفة إنّما فعل ما فعل ليحول بين الناس وبين بيعة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) فهذه الخطّة إذن لم تكن لتخفى على أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فلماذا لم يخرج إلى الناس ويخبرهم بحقيقة الأمر ، ويدعوهم للبيعة لنفسه ؟
    والجواب على ذلك نفهمه من خلال كلام أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) مع عمِّه العباس ابن عبد المطلب ، فقد روى الشيخ المفيد عليه الرحمة أن العباس قال لعلي ( عليه السلام ) في اليوم الذي قبض فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك ـ يا
1 ـ فسيروا في الأرض فانظروا ، الدكتور محمّد التيجاني : 313 ـ 315.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس