|
|||
(481)
الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالخلافة لعلي ( عليه السلام ) ، وإذا لم يوصِّ فالرسول فيه نقص ، وكلامه مخالف للقرآن.
فقلت له : حاشا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يخالف القرآن. قال لي : أنت متأكِّد أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يخالف القرآن ؟ فقلت له : نعم ، أنا متأكِّد. فقال : إذن : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (1) لا يعقل أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يموت بلا وصيَّة ويخالف القرآن ، والقرآن يقول : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (2). وبعدها قال لصاحب دار النشر : أعطيه كتاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) والمذاهب الأربعة (3) هديَّة ، وأنا أحاسبك به ، واقرأ في الجزء الثاني رسالة للجاحظ ، تأمَّل بها وتدبَّر فسوف تعرف الحقيقة ، وأنا مشغول ، أريد الذهاب ، في أمان الله. فقلت له : أين أراك ؟ فقال لي : سجِّل رقم هاتفي في دمشق ، فسجَّلته ، وقلت له : في أمان الله .. وخرجت من الدار ذاهباً لزيارة صديق لي ، وبعد أن أنهيت الزيارة رجعت مبكِّراً لقراءة هذه الرسالة التي أشار إليها الشيخ الهويدي ، وهذه هي الرسالة. رسالة الجاحظ رسالة الجاحظ (4) التي أرشدني إليها الشيخ الهويدي في تفضيل علي ( عليه السلام ). 1 ـ سورة البقرة ، الآية : 180. 2 ـ سورة الحشر ، الآية : 7. 3 ـ وهو لمؤلِّفه المرحوم المحقِّق الأستاذ الشيخ أسد حيدر النجفي. 4 ـ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر : 2/94. (482)
قال : هذا كتاب من اعتزل الشك والظنّ ، والدعوى والأهواء ، وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبإجماع الأمَّة بعد نبيِّها ( عليه السلام ) ممَّا يتضمَّنه الكتاب والسنّة ، وترك القول بالآراء ، فإنَّها تخطئ وتصيب ; لأنَّ الأمَّة أجمعت أن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاور أصحابه في الأسرى ببدر ، واتّفق على قبول الفداء منهم ، فأنزل الله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) (1).
فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ، ولا يعطي اليقين ، وإنّما الحجّة لله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما أجمعت عليه الأمّة من كتاب الله وسنّة نبيِّها ، ونحن لم ندرك النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الأمّة في أحقِّهم ، فنعلم أيّهم أولى ونكون معهم ، كما قال تعالى : ( وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) (2) ، ونعلم أيّهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (3) حتى أدركنا العلم ، فطلبنا معرفة الدين وأهله ، وأهل الصدق والحقّ ، فوجدنا الناس مختلفين ، يبرأ بعضهم من بعض ، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان : أحدهما قالوا : إن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مات ولم يستخلف أحداً ، وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه ، فاختاروا أبا بكر ، والآخرون قالوا : إن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استخلف عليّاً ، فجعله إماماً للمسلمين بعده ، وادّعى كل فريق منهم الحقَّ. فلمَّا رأينا ذلك وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقَّ من المبطل ، فسألناهم جميعاً : هل للناس من وال يقيم أعيادهم ، ويجبي زكاتهم ، ويفرِّقها على مستحقيها ، ويقضي بينهم ، ويأخذ لضعيفهم من قويِّهم ، ويقيم حدودهم ؟ 1 ـ سورة الأنفال ، الآية : 67. 2 ـ سورة التوبة ، الآيه : 119. 3 ـ سورة النحل ، الآية : 78. (483)
فقالوا : لابدَّ من ذلك.
فقلنا : هل لأحد أن يختار أحداً ، فيولّيه بغير نظر من كتاب الله وسنّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقالوا : لا يجوز ذلك إلاَّ بالنظر. فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر الله به ، فقالوا : إنه الشهادتان ، والإقرار بما جاء من عند الله ، والصلاة ، والصوم ، والحج ـ بشرط الاستطاعة ـ والعمل بالقرآن ، يحلُّ حلاله ويحرِّم حرامه ، فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم. ثمَّ سألناهم جميعاً : هل لله خيرة من خلقه ، اصطفاهم واختارهم ؟ فقالوا : نعم. فقلنا : ما برهانكم ؟ فقالوا : قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1). فسألناهم : من الخيرة ؟ فقالوا : هم المتقون. فقلنا : ما برهانكم ؟ فقالوا : قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2). فقلنا : هل لله خيرة من المتقين ؟ قالوا : نعم ، المجاهدون بأموالهم ، بدليل قوله تعالى : ( فَضَّلَ اللّهُ الُْمجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ) (3). 1 ـ سورة القصص ، الآية : 68. 2 ـ سورة الحجرات ، الآية : 13. 3 ـ سورة النساء ، الآية 95. (484)
فقلنا : هل لله خيرة من المجاهدين ؟
قالوا جميعاً : نعم ، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد ، بدليل قوله تعالى : ( لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) (1). فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه ، وعلمنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد. ثم قلنا : هل لله منهم خيرة ؟ قالوا : نعم. قلنا : من هم ؟ قالوا : أكثرهم عناء في الجهاد ، وطعناً وحرباً وقتلا في سبيل الله ، بدليل قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ ) (2) ( وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ ) (3). فقبلنا منهم ذلك ، وعلمنا وعرفنا : أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء ، وأبذلهم لنفسه في طاعة الله ، وأقتلهم لعدوِّه ، فسألناهم عن هذين الرجلين ـ علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) وأبي بكر ـ أيُّهما كان أكثر عناء في الحرب ، وأحسن بلاء في سبيل الله ؟ فأجمع الفريقان على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أنه كان أكثر طعناً وحرباً ، وأشدَّ قتالا ، وأذبَّ عن دين الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فثبت بما ذكرنا من إجماع الفريقين ، ودلالة الكتاب والسنة أن عليّاً ( عليه السلام ) أفضل. 1 ـ سورة الحديد ، الآية : 10. 2 ـ سورة الزلزلة ، الآية : 7. 3 ـ سورة البقرة ، الآية : 110. (485)
وسألناهم ـ ثانياً ـ عن خيرته من المتقين ، فقالوا : هم الخاشعون ، بدليل قوله تعالى : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْب مُّنِيب ) (1) ، وقال تعالى : ( وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ) (2).
ثم سألناهم : من الخاشعون ؟ فقالوا : هم العلماء ، لقوله تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (3). ثم سألناهم جميعاً : من أعلم الناس ؟ قالوا : أعلمهم بالقول ، وأهداهم إلى الحق ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ ) (4). فجعل الحكومة لأهل العدل. فقبلنا ذلك منهم ، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو ؟ قالوا : أدلُّهم عليه. قلنا : فمن أدلُّ الناس عليه ؟ قالوا : أهداهم إلى الحقِّ ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) (5) ، فدلَّ كتاب الله وسنَّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإجماع : أن أفضل الأمّة بعد نبيِّها أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) ، لأنه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم ، وإذا كان أتقاهم كان 1 ـ سورة ق ، الآية : 31 ـ 33. 2 ـ سورة الأنبياء ، الآية : 48 ـ 49. 3 ـ سورة فاطر ، الآية : 128. 4 ـ سورة المائدة ، الآية : 95. 5 ـ سورة يونس ، الآية : 35. (486)
أخشاهم ، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم ، وإذا كان أعلمهم كان أدلَّ على العدل ، وإذا كان أدلَّ على العدل كان أهدى الأمّة إلى الحقِّ ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً ، وأن يكون حاكماً ، لا تابعاً ولا محكوماً.
وأجمعت الأمّة بعد نبيِّها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه خلَّف كتاب الله تعالى ذكره ، وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر ، وإلى سنّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فيتدبَّرونهما ، ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه ، فإذا قرأ قارئكم : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ) (1) ، فيقال له : أثبتها ، ثمَّ يقرأ : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2) ، وفي قراءة ابن مسعود : إنَّ خيْرَكُم عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ، ثمَّ يقرأ : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ) (3) فدلَّت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشون. ثمَّ يقرأ فإذا بلغ قوله : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (4) فيقال له : اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا ؟ فإذا بلغ قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (5) علم أن العلماء أفضل من غيرهم. ثمَّ يقال : اقرأ ، فإذا بلغ إلى قوله : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات ) (6) قيل : قد دلَّت هذه الآية على أن الله قد اختار العلماء ، وفضَّلهم ورفعهم درجات ، وقد أجمعت الأمّة على أن العلماء من أصحاب رسول 1 ـ سورة القصص ، الآية : 68. 2 ـ سورة الحجرات ، الآية : 13. 3 ـ سورة ق ، الآية : 31 ـ 33. 4 ـ سورة فاطر ، الآية : 28. 5 ـ سورة الزمر ، الآية : 9. 6 ـ سورة المجادلة ، الآية : 11. (487)
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة : علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وعبد الله بن العبّاس ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت.
وقالت طائفة : عمر ، فسألنا الأمّة : من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة ؟ فقالوا : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : يؤمُّ القوم أقرؤهم ، ثمَّ أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر. ثمَّ سألنا الأمَّة : أيُّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله ، وأفقه لدينه فاختلفوا ، فأوقفناهم حتى نعلم ، ثمَّ سألناهم : أيُّهم أولى بالإمامة ؟ فأجمعوا على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سنّاً وأقدمهما هجرة ، فسقط عبدالله بن العبّاس ، وبقي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فيكون أحقَّ بالإمامة ; لما أجمعت عليه الأمّة ، ولدلالة الكتاب والسنة عليه. انتهى (1). وبعد أن أنهيت هذه الرسالة القيِّمة من القراءة أصبح لديَّ اليقين القاطع بأحقّيّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وبخلافة الإمام علي ( عليه السلام ) بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). ولكنَّ متابعة البحث ضروريٌّ للردِّ على كلِ التساؤلات التي تثار ، فاتّصلت تلفونياً بالشيخ الهويدي ، وحدَّدنا موعداً بمقام السيِّدة زينب ( عليها السلام ). وجاء الموعد ، واقترب اللقاء ، وبعد أن جلسنا وتحادثنا وتحاورنا قال لي : هل تعرف الحوزة العلميّة الزينبية ؟ فقلت له : لا أعرفها ، فقال لي : تخرج من 1 ـ ذكر هذه الرسالة الإربلي في كشف الغمة : 1/37 ـ 40 ، وقال : إنها نسخت عن مجموع للأمير أبي محمّد الحسن بن عيسى المقتدر بالله. (488)
المقام ، وتمشي مع الطريق الذي يذهب إلى دمشق .. مقابل قسم الأمن الجنائي ، تسأل عن شيخ اسمه ( جلال المعاش ) تقول له : يسلِّم عليك الشيخ الهويدي .. وترشدني إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري.
وأخذت منه العنوان ، وكتبه لي على قصاصة من ورق .. وودَّعته وخرجت ، وعاودتني دوَّامة التساؤل بعد أن ودَّعت الشيخ الهويدي ، وخرجت من مقام السيِّدة زينب ( عليها السلام ) ، وأنا في الطريق أسمع سائق ( السرفيس ) يصيح بصوت عال : ( رقيّة رقيّة ). فلفت نظري تساؤل : هل هناك منطقة في دمشق اسمها ( رقيَّة ) فدفعني الفضول لأسأله : أين تقع هذه المنطقة ؟ فسألته .. فقال لي : من أين أنت فأجبته : من القامشلي. فقال : أوه !! في آخر سوريا .. قال لي : يا أخي ! الإيرانيّون واللبنانيّون والخليجيّون يقدِّسون هذه المقامات ، فأنا أصيح حتى أشتغل ، وهذا موسمهم ، لأنّه كل صيفيّة يأتون إلى هنا لزيارة هذه المقامات ، وفعلا عزمت على الذهاب مع السائق لأرى هذه المنطقة التي أجهلها. ومشت السيارة ، وأنا أتساءل لأوَّل وهلة أسمع هذا النداء وأسمع بهذه المنطقة ، فوصلت إلى هذا المقام الشريف ، ولم أستطع الدخول من شدّة الزحمة ، أمَّة من البشر !! الله أكبر ! ما هذه الزحمة ؟ من أين أتت كل هذه الجموع الغفيرة ؟ وبعد انتظار ساعة من الوقت استطعت الدخول ، ورأيت الناس يلطمون على صدورهم ويصيحون يا حسين .. يا حسين ، يا رقية يا رقية .. الظليمة .. الظليمة .. فدخلت إلى داخل المقام ، ووصلت إلى الضريح ، وقرأت الفاتحة ، وصلَّيت قربة إلى الله ركعتين زيارة لهذه السيِّدة ، دون أن أعرفها بنت من ؟ لكن (489)
عندما رأيت الناس تدخل وتزور وتقبِّل هذا الضريح فعلت مثلهم ، فعرفت أن هنا مقاماً لسيِّدة فاضلة.
فاقتربت من أحد الشباب الذين يلطمون على رؤوسهم وصدورهم ، حيث يضع شريطاً أسوداً مربوطاً برأسه ، وعلى جبينه مكتوب ( يا حسين ) .. فقلت له : إذا سمحت .. السيِّدة رقيّة بنت من ؟ فضحك هذا الشابّ من سؤالي ، واستغرب !! وقال لي : من أين أنت ؟ فأجبته : من القامشلي. فقال لي : أين تقع مدينة القامشلي ؟ فقلت له : تبعد من هنا ما يقارب 1000 كم ، وقال : أنت من سوريا ولا تعرف هذا المقام لمن ؟ فقال لي : أنت سنّيٌّ ؟ فأجبته : نعم. فقال لي : حقّك لا تعلم ، هذه السيِّدة رقيَّة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، عندما جاءوا بأهل البيت سبايا من العراق إلى الشام ، والحسين رأسه محمول على الرمح من هناك إلى هنا ، وعندما وصلوا إلى الجامع الأموي وضعوا رأس الحسين ( عليه السلام ) في المسجد أمام اللعين يزيد ، وبدأ يزيد يرغي ويزبد ويصيح : أتينا برأس زعيم الخوارج الحسين بن علي بن أبي طالب. فقاطعته الحديث ، الحسين سيِّد شباب أهل الجنّة يحملون رأسه على الرمح ويأتون به إلى الشام ؟ ماذا تقول يا أخي ؟ أليس الشيعة هم الذين قتلوه ، وهم الآن يبكون ويندبون ويلطمون ندماً وحزناً لأنهم هم الذين قتلوه ؟ قاطعني الشابُّ بحماس ، وقال لي : أنت متعلِّم ؟ (490)
فقلت له : نعم .. وأنهيت الدراسة الجامعيّة ، لكن والله العظيم لم أسمع بهذه الأحداث ; لأن هذه القضايا ليست من اختصاصي ، فالصدفة أتت بي إلى هنا.
فقال لي : يا أخي ! أعذرك كلَّ العذر ; لأن الإنسان عدوُّ ما يجهل ، وأنا لم أفرض عليك اعتقاداتي وقناعاتي .. ولكن أنت ابحث بنفسك عن هذه الحقائق ، وقال لي : إذا أردت أن تزور رأس الحسين ( عليه السلام ) مقامه في الجامع الأموي. وشطَّ بنا الحديث وتفرَّع ، ورجعنا في الحديث عن السيِّدة رقية ، فقال لي : هذه السيِّدة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وعندما توفِّيت كان عمرها ثلاث سنوات تقريباً .. أهل البيت ( عليهم السلام ) عندما جاءوا بهم إلى الشام كانت هذه الطفلة مع عمّتها زينب ( عليها السلام ) ، أتعرف مقام السيِّدة زينب ( عليها السلام ) أخت الإمام الحسين ( عليه السلام ) ؟ فأجبته : نعم ، الآن جئت من هناك. فقال : عندما وضعوا رأس الحسين ( عليه السلام ) في طشت كانت هذه الطفلة تصيح وتبكي ، طفلة تبكي تريد أباها ، فقال يزيد اللعين : خذوا هذا الرأس ، وضعوه أمام الطفلة لكي ترى أباها ، فعندما شاهدت الطفلة رأس والدها انكبَّت على وجهها ، فلم تطق الطفلة ذلك الموقف إلى أن فارقت الحياة فوق رأس والدها. ماذا تحكي يا أخي ؟ ماذا تقول ؟ هل هذا صحيح ؟ فضيَّعني كلام هذا الشابّ الشيعيّ. وسألت آخر وآخر .. وكنت في كلِّ مرّة أحصل على نفس الجواب ، فرجعت مرَّة أخرى إلى القفص ، ففاضت دموعي بالبكاء ، وصرت أصيح وأسأل. : بنت الحسين سيِّد شباب أهل الجنة هكذا قتلت ؟ هكذا ماتت ؟ فصرت أردِّد بدون شعور كما تردِّد الشيعة : الظليمة الظليمة ، يا رقيّة ! يا رقية ! ثمَّ بعد هذا ودَّعتها متّجهاً إلى الجامع الأمويّ ، وشاهدت الحشود والجموع تتّجه باتّجاه (491)
الشرق ، وتصيح وتلطم : يا حسين ! يا حسين ! لعن الله من ظلمك ، لعن الله من قتلك ، لعن الله يزيد .. فوصلت إلى الباب ، ودخلت بقوَّة من شدّة الازدحام ، حيث وصلت إلى مكان رأس الحسين ( عليه السلام ) فقبَّلته ، وانهارت دموعي بالبكاء ، فصرت أحدِّث نفسي : ما الذي حصل ؟ ما الأمر ؟ ما القضيَّة ؟ ما الذي حدث ؟ هذا الأخ الشيعي يقول لي : يزيد الذي قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وليس الشيعة ـ كما يقول أحد علمائنا في المنطقة الشرقية !!
فعاودني الصراع السابق الذي عشته ، ورجعت إليَّ دوّامة التساؤل والحيرة ، هل الشيعة بريئون من دم الحسين ؟ هل صحيح أن الشيعة لم يقتلوا الحسين ؟ فإذن لماذا يلطمون ويبكون ويصيحون يا حسين يا حسين ؟ وصرت أفكِّر بكلام الشيخ عندنا عندما كان يحذِّرنا من الجلوس مع الشيعة ، وعدم محاورة الشيعة ، والشيعة هم الذين قتلوا الحسين ، فخرجت من مقام رأس الحسين ( عليه السلام ) لزيارة النبيِّ يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) في قلب الجامع الأمويِّ. وعندما وصلت الضريح قبَّلته وصلَّيت ركعتين ، ولم أستطع أن أكمل من شدّة الصياح واللطم والبكاء ، فحاولت مرَّة ثانية إعادة صلاتي ، وأنهيتها بعد الجهد ، وشاهدت بعد الصلاة شيخاً يبدو أنه عراقيٌّ من خلال اللهجة والبحّة ، يصيح ويخطب بالناس : يا موالين ! يا شيعة ! اليوم قتل إمامكم ، اليوم ـ الظليمة الظليمة ـ بقي الحسين ثلاث ساعات ملقياً على وجه الأرض ، قد صنع وسادة من الرمل ، فظنَّ بعض العسكر أن الحسين ( عليه السلام ) قد صنع لهم مكيدة ، فقالوا : إن الحسين لا يمكنه فعل شيء ، وقال بعضهم : إنه مثخن بالجراح ، ولا يقوى على القيام ، وقال بعضهم : إن الرجل غيور ، إذا أردتم أن تعرفوا حاله فاهجموا على المخيَّم ، فهجموا على المخيَّم ، وروَّعوا النساء والأطفال ، فخرجت الحوراء (492)
زينب ووقفت على التلّ ، ثمَّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا ابن أمي يا حسين ! يا حبيبي يا حسين ! إن كنت حيّاً فأدركنا ، فهذه الخيل قد هجمت علينا ، وإن كنت ميّتاً فأمرنا وأمرك إلى الله ، فلمَّا سمع الحسين صوت أخته قام ووقع على وجهه ، ثمَّ قام ووقع على وجهه ثانية ، ثمَّ قام ثالثة ووقع على وجهه ، عند ذلك صاح : يا شيعة آل أبي سفيان ! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون ، فنادى الشمر : ما تقول يا ابن فاطمة ؟ قال : أنا الذي أقاتلكم ، والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وأشراركم عن التعرُّض لحرمي ما دمت حيّاً ، قال الشمر : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه ، فانكفأت الخيل والرجال على أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ).
وانتهى الشيخ من كلامه وبدأ يخطب ويتكلَّم ، والناس تضجّ وتبكي ، وهو يقول : وهم في طريقهم إلى الشام نزلوا منزلا فيه دير راهب ، فرفعوا الرأس على قناة طويلة ( رأس الحسين ) إلى جانب دير الراهب ، فلمَّا عسعس الليل سمع الراهب للرأس دويّاً كدويِّ النحل ، وتسبيحاً وتقديساً ، فنظر إلى الرأس وإذا هو يسطع نوراً ، قد لحق النور بعنان السماء ، ونظر إلى باب قد فتح من السماء ، والملائكة ينزلون كتائب كتائب ويقولون : السلام عليك يا أبا عبدالله ، السلام عليك يا ابن رسول الله ، فجزع الراهب جزعاً شديداً وقال للعسكر : وما الذي معكم ؟ فقالوا : رأس خارجيٍّ خرج بأرض العراق فقتله عبيد الله بن زياد ، فقال : ما اسمه ؟ قالوا : اسمه الحسين بن علي ، فقال : الراهب : ابن فاطمة بنت نبيّكم وابن عمِّ نبيِّكم ؟ قالوا : نعم ، قال : تبّاً لكم !! والله لو كان لعيسى ابن مريم ابن لحملناه على أحداقنا ، وأنتم قتلتم ابن بنت نبيِّكم ! ثمَّ قال : صدقت الأخبار في (493)
قولها : إذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً عبيطاً ، ولا يكون هذا إلاَّ في قتل نبيٍّ أو وصيّ نبيٍّ ، ثمَّ قال : لي إليكم حاجة ، قالوا : وما هي ؟ قال : قولوا لرئيسكم : عندي عشرة آلاف درهم ، ورثتها عن آبائي ، يأخذها مني ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل ، فإذا رحل رددته إليه ، فوافق عمر بن سعد ، فأخذ الرأس وأعطاهم الدراهم ، وأخذ الرأس فغسله ونظَّفه وطيَّبه بمسك ، ثمَّ جعله في حريرة ووضعه في حجره ، ولم يزل ينوح ويبكي وهو يقول : أيُّها الرأس المبارك ! كلِّمني بحقِّ الله عليك ، فتكلَّم الرأس وقال : ما تريد مني ؟ قال : من أنت ؟ قال : أنا ابن محمّد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا المقتول بكربلاء ، أنا الغريب العطشان بين الملا ، فبكى الراهب بكاء شديداً ، وقال : سيدي ! يعزُّ والله أن لا أكون أوَّل قتيل بين يديك ، فلم يزل يبكي حتى نادوه وطلبوا منه الرأس ، فقال : يا رأس ! والله لا أملك إلاَّ نفسي ، فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدِّك محمّد أني أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله ، أسلمت على يدك وأنا مولاك.
فبدأ يصيح الشيخ بصوت حزين يقرح القلوب : مسيحيُّ أسلم ، مسيحىٌّ آوى رأس إمامكم ، وأنتم تدّعون أنكم من الإسلام !! فأخذني البكاء الشديد ، وصرت أكفكف بدموعي ، وأنظر من حولي لئلا يراني أحد ، وأنا مكابر .. وأسأل : رأس ابن بنت النبيِّ يحمل على الرمح ؟ يمثَّل به ؟ من بلد إلى بلد ؟ ويزيد يدّعي الإسلام !! مسيحيٌّ راهب آمن من وراء معجزة رأس الحسين وأنا مكابر ؟ يا إلهي !! السماء تمطر دماً ؟ ورأس الحسين يطاف به من بلد إلى بلد ؟ فتذكَّرت حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تمثِّلوا ولو بكلب عقور ، فأين هذه الأمّة من الإسلام ؟ فصرت ألعن يزيد ومن عيَّن يزيد. (494)
فصرت أسأل : من الذي عيَّن يزيد ؟ معاوية ؟ من الذي عيَّن معاوية ؟ تساؤلات لا تنتهي.
أثَّرت في نفسي قصّة الراهب ودخوله الإسلام ، أثرت في نفسي الجموع الغفيرة وهي تبكي وتلطم ، يا إلهي ! ما الخطب ؟ ما الأمر ؟ ما الذي جرى على الأمّة ؟ فخرجت من المسجد ودوَّامة الصراع لا تتركني. أين شيخنا في القرية الذي يحذِّرني من هؤلاء الشيعة ، ويقول لي : هم الذين قتلوا الحسين ( عليه السلام ) ؟ ما هذه المأساة التي حلَّت بالأمَّة ؟ ما هذه الظليمة ؟ فخرجت من الجامع الأمويّ متّجهاً باتجاه منطقة السيِّدة زينب ( عليها السلام ) ، وفي الطريق أفكِّر هل كلام الشيخ عندنا صحيح ؟ أم كلام هذا الشابّ الشيعي ؟ الراهب يدخل إلى الإسلام ؟ ويبكي وينوح ؟ ويقول : اشهد لي يا رأس ! أسلمت على يدك ، اشهد لي عند جدِّك محمّد ؟ كلَّما أهدأ وأتخلَّص من دوَّامة بعض التساؤلات تأتيني عاصفة جديدة من التساؤلات ، يا إلهي !! لماذا لا أعلم كل هذه الأمور ؟ يا إلهي ! متى أتخلَّص من هذه الدوَّامة التي حيَّرتني ؟ فدفعتني هذه الكارثة التي حلَّت بالأمَّة إلى أن أشدَّ الهمّة من جديد دون كلل أو ملل بحثاً عن الحقيقة ، لمعرفة كلام الشابّ الشيعيّ هل هو صحيح أم كلام شيخ البلد ؟ فصعدت في ( السرفيس ) متّجهاً إلى منطقة السيِّدة زينب ( عليها السلام ) ، والأفكار والتساؤلات تعصب بي كالموج ، مرَّة أهدأ ومرَّة أثور ، مرّة أهدأ .. أقول كلام الشيخ عندنا هو الصحيح ! ومرَّة أثور عندما أتذكَّر قضيّة الراهب وقضيَّة الرأس !! وقضيّة يزيد !! وماذا فعل بالأمَّة ؟ حتى أخذتني الأفكار ونسيت أن أنزل في منطقة السيِّدة زينب ، فتجاوزتها ووصلت إلى منطقة (495)
الذيابيّة ، فهدأت من التفكير ، وإذا بالسائق يصيح : ذيابيّة ذيابيّة ، من هو نازل ؟
فقلت له : على مهلك ، أنزلني ، فنزلت وعدت مرّة أخرى إلى منطقة السيِّدة زينب ( عليها السلام ) ، أسأل عن الحوزة العلميّة الزينبيّة ، وأخيراً وصلت إلى الحوزة ، فصعدت أسأل عن الشيخ جلال المعاش ، فقال لي شابٌّ : بعد صلاة المغرب يأتي. ورجعت بعد صلاة المغرب ، وصعدت أسأل عن الشيخ ، فوجدت مكتبة في الطابق الأوّل ، فقرعت الباب ، وسألت عن الشيخ ، فقال لي شاب : تفضّل اجلس ، الآن يأتي الشيخ ، وهذه غرفته ( بجوار المكتبة ). فجلست وأنا في دوَّامة ، أخمد وأثور ، وإذا بشابٍّ يفاجئني بقوله : هذا هو الشيخ جلال الذي تبحث عنه ، فصافحت الشيخ بحرارة ، وشرحت له موقفي ، ومن أرسلني إليه ، فحيَّاني ورحَّب بي ذلك الترحاب الشديد ، وأدخلني إلى غرفته ، ومن ثمَّ أدخلني إلى المكتبة ، فصرت أحادث نفسي وكأنه عرف مشكلتي .. الحمد لله. فدخلت معه إلى المكتبة ، وبدأ يجوِّلني في المكتبة ، وأنا أنظر إلى أسماء الكتب فشاهدت مباشرة صحيح البخاري ، فقرأت الطبعة وإلاَّ نفس الطبعة الموجودة عند شيخنا في البلد .. صحيح مسلم ، الترمذي ، صحيح النسائي ، كتب السنن والسيرة كلّها .. تفسير ابن كثير ، تفسير الجلالين ، تفسير القرطبي ، تفسير الفخر الرازي ، يا إلهي ! هذه مكتبة سنّيّة وليست شيعيّة ، كل كتب السنّة موجودة بالإضافة إلى كتب الشيعة !! يا إلهي ! ما هذه الحواجز ؟ ما هذه الإشاعات ؟ هل علماؤنا يعمدون التجهيل بنا ؟ هل علماؤنا مضللون ؟ هل علماؤنا لا يعرفون الحقيقة ؟ يا إلهي ! كيف كان يقول لي أحد علماؤنا : كتبهم محرَّفة ومزوَّرة |
|||
|