مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 496 ـ 510
(496)
ومدسوسة ؟ ومن هنا كانت انطلاقة البحث ، والثورة في عالم العقائد والإلهيّات ، والانفتاح على القراءة ، ومتابعة البحث دون تردّد ، فودَّعت الشيخ ، وشكرته على ما أطلعني عليه في هذه المكتبة من كتب ، وقلت له : أُريد منك عنوان العالم العراقي الذي كان سنّيّاً وتشيَّع حتى ألتقي به ، فأعطاني العنوان وخرجت (1).
1 ـ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : 47 ـ 62.

(497)
    المناظرة الرابعة والثمانون
مناظرة
الشيخ هشام آل قطيط مع العلامة السيِّد علي البدري ( رحمه الله )
    اللقاء الأول : لقاء وتعارف
    قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الأول مع الداعية الشيعيِّ الكبير ، العلامة البدري.
    وفي اليوم الثاني بعد صلاة الظهر ذهبت إلى منزل السيِّد البدري ، وصعدت إلى الطابق الأوَّل ، أنظر إلى الجرس مكتوباً عليه منزل السيِّد علي البدري ، فقرعت الجرس وقلبي يخفق فرحاً ، يا إلهي ! يا سيِّدتي زينب ! الخلاص الخلاص من هذه الدوَّامة والقلق المستمرّ ، الغوث الغوث ، أدركيني يا بنت علي بن أبي طالب ، وعند وصولي إلى كلمة علي انفتح الباب ، وإذ برجل طويل ، عريض المنكبين ، ذي لحية كثّة طويلة ، وجهه كالنور المشعّ ، تعلوه الهيبة والوقار ، فقال لي : تفضَّل يا ابن الجزيرة ، فدخلت ، وأصبت بقشعريرة حلَّت في جسدي ، يا إلهي ! من أين له العلم أني من الجزيرة ؟ الله أكبر ! الله أكبر ! اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد !!
    فأدخلني وأجلسني في صدر المكتبة ، وقال لي : أنت مريض وقلق ،


(498)
مرضك ليس جسديّاً وليس نفسيّاً ، وإنما تعيش في دوَّامة ، بالتأكيد إنك التقيت في حياتك بشيعة ، تحاورت معهم فغلبوك في الحوار ، ورجعت إلى علمائكم السنّة ، فغيَّروا أفكارك ، فأصبحت تائهاً ومحتاراً في أفكارك ، وهذا أشدُّ مرضاً وحيرةً ، هنيئاً لك ، هنيئاً لك متابعة البحث ، فالكثير من الشباب سقطوا في البحث ، نتيجة لقائهم مع أخ شيعيٍّ يحاوره ، فيرجع إلى العالم هناك في المنطقة أو في أيِّ مسجد يحذِّره من الشيعة ، فيقف عن متابعة البحث ويصبح أشدَّ عداء للشيعة ، فمتابعة البحث ضرورية.
    إلى أن قال السيِّد البدري : أنا من منطقة الكرَّادة الشرقيَّة ( بغداد ) ، كنت سنّيّاً ، وعائلة البدري معروفة في العراق سنّيّة ، فهناك عالم مهمٌّ إذا تسمع به ، الباحث الكبير والدكتور عبد العزيز البدري ، الذي اغتاله صدام لأنّه كان معارضاً له.
    نشأت وترعرت في بيئة سنّيّة إلى أن حصلت على الجامعة كليّة الشريعة الإسلاميّة من العراق ، وبعدها التقيت بكثير من الشيعة في العراق ، وأنت تعلم أن نسبة الشيعة في العراق حوالي 65% تقريباً ، أكبر طائفة في العراق ، وبدأت أبحث وألتقي مع علماء الشيعة ، فأحرج أمامهم بالنقاش وأنا خريج جامعة ـ كليَّة الشريعة ـ.
    فتابعت البحث بكل ما يستدلُّ به الشيعة على السنّة من خلال الصحاح ، وبعد سبع سنوات من البحث أعلنت عن تشيُّعي ، وبدأت أدعو للمذهب الشيعيِّ الذي اخترته بقناعة ، فحوربت من قبل أهلي وتركت المنطقة.
    وكلِّفت من قبل زعيم الطائفة الشيعيَّة في العراق ، المرجع الكبير ، آية الله العظمى السيِّد أبو القاسم الخوئي ، وكيلا عنه للشيعة في مصر ، وتركت زوجتي


(499)
في العراق ، وتزوَّجت دكتورة مصرية خلال الخمس سنوات من إقامتي في القاهرة ، حيث تشيَّعت وهداها الله إلى مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والآن تسكن هي وأولادها في إيران ، ومن مصر رجعت إلى إيران ، ومن إيران إلى بلدكم الطيِّبة التي احتضنتنا سوريا ، بقيادة هذا الرجل الطيِّب السيِّد الرئيس حافظ الأسد ، يحترم رجال الدين ويقدِّرهم.
    وصار لي أكثر من سنة في سوريا ، وتجربتي في الدعوة من فضل الله كبيرة ، حيث أسَّست مراكز للشيعة في السودان (1) ، وفي تنزانيا ، وفي ساحل العاج ، وفي بومباي والباكستان ، وفي مصر .. رموز الشيعة هناك أمثال الشيخ حسن شحاتة من قرية أبو كبير ، والسيِّد حسين الضرغامي وكيل الشيعة في مصر حاليّاً في القاهرة ، والأستاذ محمّد عبد الحفيظ المصري ، ودكاترة من الأزهر أعلنوا عن تشيُّعهم على يدي بفضل الله وبركاته.
    وسوف أقدِّم لك كتاباً يفيدك في هذا المجال ، اسمه : ثمَّ اهتديت ، لدكتور تونسيٍّ تشيَّع ، وكتاب اسمه : الحقيقة الضائعة ، لكاتب سودانيٍّ اسمه : الشيخ معتصم سيِّد أحمد ، يكتب قصَّته ، وكيف انتقل من السنة إلى الشيعة بالأدلّة والبراهين ، وكتب أخرى في هذا المجال.
1 ـ والجدير بالذكر هنا هو ما قاله الشيخ معتصم سيِّد أحمد السوداني في حق هذا السيِّد الجليل في تجوُّله في البلدان ، واهتمامه الشديد ، وعمله الدؤوب في نشر التشيُّع ، والدعوة والإرشاد إلى ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) ، قال : وبعد وصولي إلى مدينة الخرطوم وجدت سماحة العلامة السيِّد علي البدري يعقد المحاضرات والمناظرات تثبيتاً لمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) رغم سنّه ، وكثرة الأمراض التي تعجزه عن الحركة ، ولكنه كان ذا روح عاليه تغلَّبت على ألام المرض وضعف الكبر ، فقلت في نفسي : مثل هذا السيِّد وفي بلد غير بلده يقوم بخدمة مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) أكثر منّا نحن الشباب ، فقرَّرت تأجيل سفري إلى أهلي في شمال السودان ، وأن أقوم بمساعدته. حوارات ، الشيخ معتصم السوداني : 18.

(500)
    وسوف أصوِّر لك حواريَّة إنسان مسيحيٍّ كان قسّيساً عند المسيحيّة ، وجاء إلى قبَّة الإسلام في بغداد ، وحاور علماء السنّة في المذاهب الأربعة ، واهتدى إلى الإسلام بعد كشفه التناقض في المذاهب الأربعة وأعلن عن تشيُّعه.
    وسوف أقدِّم لك كتاباً يشفي غليلك إن شاء الله تعالى ، اسمه : لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ؟ للشيخ محمّد مرعي الأنطاكي ، وهو أزهريٌّ تخرَّج من الأزهر منذ ثلاثين سنة ، وأعلن عن تشيُّعه ، وهو من مدينة حلب ، وكان قاضياً للقضاء في حلب ، وتشيَّع عن طريقه أخوه الشيخ أحمد مرعي الأنطاكي ، وكتب كتاباً في هذا الخصوص اسمه : في طريقي إلى التشيع.
    وهنالك محامي أردني تشيَّع أخيراً ، وألَّف كتاباً اسمه : نظرية عدالة الصحابة والمواجهة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال هشام قطيط بعدما أهداه فضيلة السيِّد البدري مجموعة من الكتب القيِّمة : فودَّعته شاكراً ، وقبَّلت جبينه ، وطلبت منه الدعاء ، وخرجت.

    اللقاء الثاني : تحديد موعد للمناظرة والمحاورة
    قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الثاني.
    قرعت جرس الباب في تمام الساعة العاشرة صباحاً ، ففتح لي سماحة السيِّد البدري ، وأدخلني بيته ، وأجلسني في صدر المكتبة ، إلى أن قال :
    سيِّدنا الجليل ! بكل صراحة لا أخفيك الأمر ، أنا لديَّ مجموعة كبيرة من الأسئلة ، فجمعت كل ما يطرحه عندنا العالم السنّيّ لأسأله ، لأني محتاج ومتعطِّش للاطّلاع ، فأريد منك أن تحدِّد لي جلسة للبدء في الحوار.
    فقال لي : بعد أسبوع تجهِّز ما عندك من أسئلة ، وتأتيني بعد صلاة المغرب


(501)
مباشرة لنبدأ بالحوار ، فودَّعت سماحة السيِّد ، وشكرته على رحابة صدره وتواضعه ، والقبول بكل ما أسأل ، يا إلهي ! ما أعظم هذا الرجل !!

    اللقاء الثالث : ( بداية البحث الفعلي والحوار )
    حضرت بعد صلاة المغرب مباشرة وأنا أحضر أسئلتي للحوار الذي لا يرحم ، حيث فيه تقرير المصير والوصول إلى النهاية بعد بحث ونظر.
    هشام آل قطيط : سماحة السيِّد البدري ! إذا كنتم أهل الشيعة تعتقدون بأن علياً ( عليه السلام ) هو الإمام بعد النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والخليفة دون غيره ، وأنَّه أحقُّ بها وأهلها ، فما الوجه في تقدُّم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ، وادّعائهم الإمامة دونه ، وإظهارهم أنهم أحقُّ بها منه ؟
    السيِّد البدري : إني عندما بدأت بالبحث كان أوَّل سؤال يخطر في ذهني هو هذا التساؤل ، ويسأله كل سنّيٍّ ، والإجابة عليه يا بني : إن ذلك ليس مما أعتقده أنا وأريد إقناعك به ، وإنما أراده الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجماعة المؤمنين أجمعين ، بحكم ما جاء من أدلّة ونصوص تثبت خلافة علي ( عليه السلام ) في الأحاديث الصحيحة والمتواترة عند جميع المسلمين ، والآيات الكريمة المتّفق عليها من الفريقين السنّيِّ والشيعيِّ ، فمن الأدلّة القرآنيّة التي تثبت أحقّيّة علي ( عليه السلام ) بالخلافة :
    أولا : ( آية التبليغ ) وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1).
1 ـ سورة المائدة ، الآية : 67.

(502)
    يأمر الله تعالى نبيَّه محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في واقعة غدير خم في تبليغ هذه الآية الكريمة ، وقد أجمع المفسِّرون من السنّة والشيعة على أنها نزلت في غدير خم ، في شأن علي ( عليه السلام ) ، في تحقيق أمر الخلافة والإمامة ، وأنها نصٌّ من الله سبحانه وتعالى.
    هشام آل قطيط : سماحة العلامة البدري ! بعد ذكرك لهذه الأدلّة القيِّمة التي أثبتَّ من خلالها أحقّيّة علي ( عليه السلام ) بالخلافة ، لكن لم أسمع الجواب على سؤالي بالتحديد ، وخاصّة أن الأكثريّة أجمعوا على خلافة أبي بكر.
    السيِّد البدري : أنا ذكرت لك هذا الدليل من القرآن لكي تأخذه بالاعتبار ; لأن مصدرنا التشريعي الأوَّل هو القرآن ، والثاني هو السنة النبويّة ، والآن أعطيك الجواب ، وأبيِّن لك على أن رأي الأكثريَّة ليس بحجَّة ، ولو أنك ـ يا بني ـ وقفت قليلا على ما سجَّله التاريخ الصحيح لعلمت أن عليّاً ( عليه السلام ) لم يقرَّهم على ذلك ، أو أنه رضي بذلك إلاَّ أن رضا أكثرهم لا يكون دليلا علميّاً على صوابهم وأن الحق في جانبهم ، كما صرَّحت بذلك الكثير من آيات الكتاب العزيز.
    فعل الأكثرين لا يكون دليلا على الصواب ، فمن ذلك قوله تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2) ، وقال تعالى : ( وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْد وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) (3) ، وقال تعالى : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (4) ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ
1 ـ سورة ص ، الآية : 24.
2 ـ سورة سبأ ، الآية : 17.
3 ـ سورة الأعراف ، الآية : 102.
4 ـ سورة الفرقان ، الآية : 50.


(503)
لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (1) ، وقال تعالى : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) ، وقال تعالى : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (3).
    وكل هذه الآيات تدلُّ على أن الحقَّ لا يكون دائماً بجانب الكثرة ، وإنما يكون غالباً بجانب القلّة ، ولو أنك تدبَّرت ـ يا أخي ـ لوجدت على مرّ التاريخ أن الأغلبيّة عصاة ، والمخلص المطيع منهم قليل ، والأكثر منهم جهَّال ، والعلماء منهم قليلون ، وأهل المروءة والشجاعة فيهم أقلّ ، وأهل الفضائل والمناقب أفراد ، وأن المدار في معرفة الحقّ والوقوف عليه يعتمد على الدليل والبرهان.
    أميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) له أسوة بسبعة من الأنبياء ، وأمَّا ترك علي ( عليه السلام ) جهاد المتقدِّمين بالسيف والسنان فحسبك في جوابه قوله ( عليه السلام ) فيما تضافر عنه نقله ، وحكاه ابن أبي الحديد في شرح النهج ، وغيره من مؤرِّخيكم ، حيث يقول : لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله تعالى على أولياء الأمر ، أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم ، أو سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها .. (4).
    وأنت ترى ـ يا أخي ـ أن قول علي ( عليه السلام ) هذا صريح كل الصراحة في أنه ( عليه السلام ) إنما ترك جهاد وقتال الخلفاء الثلاثة لعدم وجود الناصر ، وجاهد الناكثين أيام
1 ـ سورة يونس ، الآية 62.
2 ـ سورة النحل ، الآية : 83.
3 ـ سورة الأنبياء ، الآية : 24.
4 ـ نهج البلاغة ، خطب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : 1/36 ـ 37 ، خطبة رقم : 3 ، علل الشرائع ، الصدوق : 1/151 ح 12 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/202.


(504)
حرب الجمل ، والقاسطين أيام معاوية ، والمارقين ( أي الخوارج ) لوجود الأنصار معه ، ولأنه في قتاله المتقدِّمين عليه ذهاب الدين بأصوله وفروعه ; لأن الناس جديدو عهد بالإسلام كما لا يخفى عليك ، وعلى من له أدنى فطنة بخلاف الطوائف الثلاث.
    ولقد قال علي ( عليه السلام ) في جواب من قال : لم لم ينازع علي الخلفاء الثلاثة كما نازع طلحة والزبير ومعاوية ؟ إليك قوله ( عليه السلام ) : إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة :
    الأوَّل : نوح ( عليه السلام ) ، قال الله تعالى مخبراً عنه في سورة القمر : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (1) ، فإن قلت لي : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي كذلك فعلي ( عليه السلام ) أعذر.
    الثاني : إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، حيث حكى الله تعالى عنه قوله في سورة مريم : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (2) ، فإن قلت لي : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت لي : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ ( عليه السلام ) أعذر.
    الثالث : ابن خالة إبراهيم ، نبي الله تعالى لوط ( عليه السلام ) ، إذ قال لقومه على ما حكاه الله تعالى في سورة هود ( عليه السلام ) : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (3) ، فإن قلت لي : كان له بهم قوَّة فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ ( عليه السلام ) أعذر.
    الرابع : نبي الله يوسف ( عليه السلام ) ، فقد أخبرنا الله تعالى عنه في قوله في سورة
1 ـ سوره القمر ، الآية : 10.
2 ـ سورة مريم ، الآية : 48.
3 ـ سورة هود ، الآية : 81.


(505)
يوسف : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (1) ، فإن قلت لي : إنه دعي إلى غير مكروه يسخط الله تعالى فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنه دعي إلى ما يسخط الله فاختار السجن فعلي ( عليه السلام ) أعذر.
    الخامس : نبي الله هارون بن عمران ( عليه السلام ) ، إذ يقول على ما أخبرنا الله تعالى عنه في قوله : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (2) فإن قلت لي : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنهم استضعفوه ، وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.
    السادس : كليم الله موسى بن عمران ( عليه السلام ) ، إذ يقول على ما ذكره الله تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (3) ، فإن قلت لي : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : فرَّ منهم خوفاً فعلي ( عليه السلام ) أعذر.
    السابع : سيدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت لي : إنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنهم أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي ( عليه السلام ) أعذر (4).
    هشام آل قطيط : سماحة السيِّد ! من المعلوم لدى جميع الطوائف الإسلاميَّة وغير الإسلاميّة أن علياً ( عليه السلام ) أشجع الناس ، وتدّعون أنتم الشيعة أن
1 ـ سورة يوسف ، الآية : 22.
2 ـ سورة الأعراف ، الآية : 150.
3 ـ سورة الشعراء ، الآية : 21.
4 ـ هذا الاحتجاج الذي ساقه السيِّد البدري مأخوذ من احتجاج علي بن ميثم في مناظرته مع بعضهم ، وهي المناظرة السابعة والثلاثون ، وقد تقدَّمت في الجزء الثالث ص 191.


(506)
عليّاً معصوم ليّاً معصوم ، فلو لم تكن خلافة أبي بكر حقّة لنازعه في ذلك ، وترك المنازعة ـ سماحة السيد ـ مخلٌّ بالعصمة ، وأنتم الشيعة توجبونها في الإمام ، وتعتبرونها شرطاً في الصحّة.
    السيِّد البدري : أولا : إن ترك علي ( عليه السلام ) منازعة أبي بكر بالحرب والقتال لا يكون مخّلا بعصمته ولا بأشجعيّته ، ولا يدلُّ على صحَّة ما قام به أقوامهم ، وبطلانه واضح لا يشكُّ فيه من له عقل أو شيء من الدين.
    ثانياً : كان في توقُّف الإمام علي ( عليه السلام ) عن حربهم وقتالهم منافع عظيمة ، وفوائد جليلة ، حصرت المدارك والأفهام عن الوصول إليها ، منها : أنه لو قاتلهم لتولَّد الشك من النائين عن المدينة وغيرها من البلدان الإسلاميّة بنبَّوة النبِّي محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وذلك لعلمهم بأن القتل والقتال لا يقع إلاَّ على طلب الملك والزعامة الدنيويّة ، لا على النبوَّة والإمامة والخلافة ، فيوجب ذلك وقوع الشك في صحّة نبوَّة سيِّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لا سيّما وهم جديدو عهد بالإسلام ، خاصّة إذا لاحظت وجود من يتربَّص الدوائر بالإسلام من المنافقين ، ويريد الوقيعة فيه ، فهل تجد حينئذ فساداً أعظم من أن يخرج عن الإسلام من دخل فيه بفعل المنافقين ، وتلبيسهم ذلك الأمر على البله المغفلين ؟!
    ومنها : أن ترك قتالهم يومئذ كان سبباً لأن يكثر فيهم التشيُّع ، وفي التابعين إلى يومنا هذا.
    والدليل على ذلك يا أخي ، انظر إلى ( ميزان الذهبي ) عند ترجمته لأبان بن تغلب من جزئه الأول ، فإنكم ترونه يقول : فهذا كثير ـ يعني التشيُّع ـ في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهبت جملة من


(507)
الآثار النبوّيّة ; وهذه مفسدة بيِّنة (1).
    هشام آل قطيط مقاطعاً السيّد : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (2) أين نذهب بمفاد هذه الآية ؟
    السيِّد البدري : على كيفك ـ ( رويداً ) ـ على كيفك يا أخي ، أنتهي من إثبات الأدلّة ، وأبيِّن لك توجيه ومفاد الآية الكريمة.
    ومنها : ذهاب السنن الدالّة على إمامة الإمام علي ( عليه السلام ) ، إن هو قاتلهم وقتلهم يختفي الحقّ ملتبساً ، لا يعرف أين هو ، ولذلك ترونه قد رضي ( عليه السلام ) بالهدنة عندما رفع أهل الشام المصاحف في صفّين ، فانخدع بذلك جمٌّ غفير من أهل العراق ، فكان ( عليه السلام ) بإمكانه أن يقلب الصفَّ على الصفِّ ، لكنَّه ( عليه السلام ) آثر ذلك لأنه أهون الضررين ; لعلمه ( عليه السلام ) برجوع الكثير منهم إلى الحقِّ بعد خروجهم عليه ، فمثل هذه النتائج القيِّمة والغايات الحسنة أوجب ترك قتالهم وأوجب مهادنتهم.
    ومنها : أن ترك علي ( عليه السلام ) قتال القوم لا يوجب الرضا بتقدُّمهم عليه ، ولا يقتضي سقوط حقِّه في الخلافة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإلاَّ لزم أن يكون النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتركه قتال المشركين عام الحديبية ، ومحو اسمه من النبوّة معزولا عن النبوَّة ، وراضياً بما ارتكبه المشركون ، وكان يومئذ أربعمائة وألف رجل ـ على ما أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة الحديبية ـ على قتالهم ، فإذا صحَّ لديكم هذا ، وقلتم بسقوط حقِّ النبوَّة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صحَّ لكم ذاك ، وهذا معلوم البطلان ، وذاك منه باطل ، نعم إنما قبل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورضي به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لحكم وغايات
1 ـ ميزان الاعتدال ، الذهبي : 1/5 ، رقم : 2 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 1/59.
2 ـ سورة الفتح ، الآية : 29.


(508)
جليلة ، غابت عن ذهن الكثيرين ، ولم يهتدوا لها.
    ومنها : كراهته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للقتل والقتال وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا ، وليس في محو لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها ; لثبوتها بآياتها البيّنات ومعجزاتها النيِّرات.

    مقارنات بين محمَّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين ما اتّبعه علي ( عليه السلام )
    علم سيِّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن أكثر هؤلاء سوف يسلمون بعد فتح مكة.
    محافظته على حياة أصحابه ولو رجل منهم من غير ضرورة تدعو إلى قتالهم ; لعلمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنه سيدخل مكة المكرمة مع أصحابه في العام القادم من غير سلاح وقتال.
    إنه لو قاتلهم في عام الحديبية لم يتيسَّر له فتحها بتلك السهولة ، بل تنكَّر منه القوم ، ولجعل دعاتهم العيون في الطريق خوفاً من صولته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليهم بغتة وهم لا يشعرون.
    إنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سنَّ بذلك دستوراً جميلا ، ومنهاجاً عالياً لمن يأتي بعده ليسير عليه كل من عرض له مثل ما عرض له ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ولهذا وأضعاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ، ويقول القرآن في سورة الأنفال : ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) (1) ، لذا ترون عليّاً ( عليه السلام ) ترك قتلهم وقتالهم مقتدياً بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومتّبعاً له في شرعه ومنهاجه ، فلم يقاتل دافعيه عن حقِّه لمقاصد سامية ، أعظمها ـ كما ذكرت ـ حفظ الدين بأصوله وفروعه وقوانينه
1 ـ سورة الأنفال ، الآية : 61.

(509)
وآثاره ، الأمر الذي كان يدعوه كثيراً إلى أن يقدِّم نفسه الزكيَّة قرباناً في سبيل حفظه وبقائه واستمراره وانتشاره ، فضلا عن حقّه وتراثه.
    وجملة القول : كانت رعايته ( عليه السلام ) لصيانة الدين وحفظه أكثر من رعايته لحقّه ، وكان ضياع حقِّه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله ، وما فعله ( عليه السلام ) هو الواجب عقلا وشرعاً ; إذ أن مراعاة الأهمّ ـ وهو احتفاظه بالأمّة ، وحياطته على الملّة ـ وتقديمه على المهمّ ـ وهو احتفاظه بحقّه ـ عند التعارض من الواجب الضروريِّ في الدين الإسلاميِّ ، وميله للسلم والموادعة كان هو الأفضل في الصواب.
    هشام آل قطيط : سماحة السيد ! أدلّتك مقنعة وقويّة ، ولكن أين نذهب بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (1).
    السيِّد البدري : لماذا أنت متمسِّك بهذه الآية ؟ اتركني أنتهي من الأدلّة وأردُّ عليك إن شاء الله تعالى ، اصبر ، اصبر يا أخي .. ألم تسمع بكتاب نهج البلاغة للإمام علي ( عليه السلام ) ، إذ قال في خطبته المشهورة بالشقشقيّة :
    أما والله لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى مضى الأوَّل لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن
1 ـ سورة الفتح ، الآية : 29.

(510)
الخطاب بعده ... (1).
    ونقل ابن أبي الحديد أيضاً في شرح نهج البلاغة في 308 تحت عنوان ( خطبته عند مسيره للبصرة ) قال : روى الكلبي أنّه لمَّا أراد عليٌّ ( عليه السلام ) المسير إلى البصرة قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد الله وصلَّى على رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن الله لمَّا قبض نبيَّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقٍّ نحن أحقُّ به من الناس كافّة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلُّ خلف (2).
    ولعليٍّ ( عليه السلام ) في نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر ، بعثه مع مالك الأشتر ( رحمه الله ) ، جاء فيه : أمَّا بعد ، فإن الله سبحانه بعث محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمَّا مضى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أهل بيته ، ولا أنه نحوَّه عنّي من بعده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فما راعني إلاَّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمَّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي
1 ـ نهج البلاغة ; خطب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : 1/30 ـ 32 ، رقم : 3 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/151 ، الإرشاد ، المفيد : 1/287 ـ 288 ، الأمالي ، الطوسي : 372 ـ 373 ح 54 ، علل الشرائع ، الصدوق : 150 ـ 151 ح 12 ، معاني الأخبار ، الصدوق : 360 ـ 361 ح 1 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/48.
2 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/308 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 32/62.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس