مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 511 ـ 525
(511)
متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، وكما ينسطع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه (1).
    ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة تحت عنوان ( خطبة الإمام علي ( عليه السلام ) بعد قتل محمّد بن أبي بكر ) قال : روى إبراهيم ـ صاحب كتاب الغارات ـ عن رجاله ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه قال : خطب علي ( عليه السلام ) بعد فتح مصر ، وقتل محمّد بن أبي بكر ، فنقل خطبة بليغة ذكر فيها وقائع أليمة وقعت بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وذكر بعض ما كتبه لأهل مصر ، وأشار في خطبته إلى الشورى التي أمر بها عمر بن الخطاب وخرج بالنتيجة قائلا :
    فصرفوا الولاية إلى عثمان ، وأخرجوني منها ، ثمَّ قالوا : هلمَّ فبايع وإلاَّ جاهدناك ، فبايعت مستكرهاً ، وصبرت محتسباً ، فقال قائلهم : يا بن أبي طالب ! إنك على هذا الأمر لحريص ، فقلت : أنتم أحرص منّي وأبعد ، أيُّنا أحرص أنا الذي طلبت ميراثي وحقّي الذي جعلني الله ورسوله أولى به ، أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه ، وتحولون بيني وبينه ؟ فبهتوا ، والله لا يهدي القوم الظالمين (2).
    ولا أطيل عليك بعدِّ هذه الأدلّة من كلمات الإمام ( عليه السلام ) وخطبه المشهورة التي تبيِّن مظلوميَّته وسكوته عن حقّه وقعوده.
    هشام آل قطيط : هل الخطبة الشقشقيّة للإمام علي ( عليه السلام ) أم من إنشاء وأقوال الشريف الرضي الذي جمع نهج البلاغة ؟ وقد ثبت في التأريخ أنه لم يكن ناقماً على خلافة الخلفاء الراشدين قبله ، بل كان راضياً منهم ، ومن آمن لهم.
1 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 3/118 ـ 119 ، رقم الكتاب : 62 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 17/151.
2 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/96 ، الغارات ، الثقفي : 1/308.


(512)
    سماحة السيد ! إعطني دليلا على أن نهج البلاغة من أقوال الإمام علي ( عليه السلام ) وكرَّم الله وجهه ، وإلاَّ هذه الأقوال والخطب مردودة.
    السيِّد البدري : الشارحون لنهج البلاغة من علمائكم يا أستاذ ، ابن أبي الحديد المعتزلي لم يكن شيعيّاً ، هذا أوّلا.
    ثانياً : الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصرية له شرح على نهج البلاغة ، ويثبت أنه من أقوال الإمام علي ( عليه السلام ).
    ثالثاً : الشيخ محمّد الخضري من أعلام السنة ، وله كتاب بعنوان ، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ، صفحة : 27 ، وقد صرَّح أن الخطبة الشقشقيّة من بيان الإمام علي ( عليه السلام ) ، وهناك أكثر من أربعين عالماً من الفريقين السني والشيعي قد صرَّحوا بأن الخطبة الشقشقيّة من كلام الإمام علي ( عليه السلام ) ; لأنها على نسق خطبه الأخرى في النهج.
    وقد نقل لنا ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة الشقشقيَّة عن ابن الخشاب قال : أنّى للرضيِّ ولغير الرضيِّ هذا النفس وهذا الأسلوب ، قد وقفنا على رسائل الرضيِّ وعرفنا طريقته وفنَّه في الكلام المنثور.
    الخطبة الشقشقيّة موجودة قبل ولادة الرضي ، وقد ذكر ابن الخشاب وغيره أنهم وجدوا هذه الخطبة في الكتب منتشرة قبل أن يولد الشريف الرضيّ ، وقبل أن يولد أبوه أبو أحمد النقيب ـ نقيب الطالبيين ، فقد نقل ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة ، عن الشيخ عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشاب أنه قال : في كتب صنِّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، أعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.


(513)
    ثمَّ قال ابن أبي الحديد : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة.
    ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبه ـ أحد متكلِّمي الإماميّة ـ المشهور المعروف بكتاب ( الإنصاف ) وكان أبو جعفر هذا من تلاميذ الشيخ أبي القاسم البلخي ( رحمه الله ) ومات في ذلك العصر قبل أن يولد الشريف الرضي (1).
    وجدتها أيضاً بخط الوزير ابن فرات ، كان قد كتبها قبل ميلاد الرضي بستين سنة.
    وقال كمال الدين ابن ميثم البحراني الحكيم المحقِّق في كتابه شرح نهج البلاغة في الخطبة : إنّي وجدت هذه الخطبة في كتاب الإنصاف لابن قبه ، وهو متوفَّى قبل أن يولد الشريف الرضي.

    اللقاء الرابع : في قضايا الخلاف وما يتعلَّق بالصحابة
    كان اللقاء الرابع محدَّداً من قبل السيِّد لتكملة الحوار والمناظرة في قضايا الخلاف ، ومعرفة الحقيقة ، حيث كنت ألحُّ على السيِّد بالنقاش.
    هشام آل قطيط : سماحة السيِّد ! أريد جواباً منكم لقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (2) ، أليس الخلفاء ممن تحدَّثت الآن عنهم من الذين كانوا أشدّاء على الكفار ، وكانوا مع رسول
1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/205 ـ 206.
2 ـ سورة الفتح ، الآية : 29.


(514)
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فهذا توجيه الآية الكريمة ومفادها ، فما هو جوابكم ؟ وما تقولون في أن الخلفاء : أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وزعماء من كان معه ، وإذا كان كذلك فهم أحقُّ الناس بما دلَّت عليه الآية من وصف المؤمنين ، والمدح لهم والثناء عليهم ، وذلك يمنع الحكم عليهم بالانحراف والخطأ.
    السيِّد البدري : أقول : أولا ـ يا أستاذ ـ إن الآية بعمومها الإطلاقي شاملة لطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة ، وأبي عبيدة عامر ابن الجرّاح ، وأبي الدرداء ، وسعد ، وسعيد ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية ، ومالك بن نويرة ، وأبي معيط ، ويزيد ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن سلول ، وغيرهم من الناس ; لأن هؤلاء كلهم كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لا خصوص الخلفاء الثلاثة فقط الذين ذكرتهم يا أستاذ ; لأن الآية الكريمة جاءت على صيغة الإطلاق العمومي لكل من كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) لم تحدِّد أو تخصِّص الآية فقط الخلفاء الثلاثة.
    وذلك فإن كل ما أوجب دخول الخلفاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في القرآن وثنائه ، فهو يقتضي بوجوب دخول كل من ذكرنا في الآية ; لأن هؤلاء كلهم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكانوا جميعاً من الذين معه ، وكان لأكثرهم من الجهاد بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والنصرة للإسلام ما لم يكن شيء منه للخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، فكيف يتسنَّى لأحد تخصيص الآية بالخلفاء وحدهم ؟
    وبماذا ياترى اختصَّ الخلفاء الثلاثة بما خرج عنه أولئك ، والجميع بمستوى واحد ، وفي ميزان واحد ؟ وهل تجد لذلك ـ يا أخي ـ وجهاً إلاَّ


(515)
التخصيص بلا مخصِّص ، والترجيح بلا مرجِّح ، الباطلين عقلا ؟!
    فإن قلت لي : إن الآية تريد كل من كان مع النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الزمان أو المكان ، أو بظاهر الإسلام فقد صرت إلى أمر كبير ، وهو مدح الكافرين والمنافقين الذين ( معه ) ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المكان ، وكانوا يتظاهرون له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالإسلام ، ويبطنون النفاق كما نطق به القرآن.
    هشام آل قطيط مقاطعاً السيد : نحن لا نريد أن ننتقص الصحابة ، ولكن أقبل الدليل من القرآن أو من السنة.
    السيِّد البدري : فهاك نماذج من مخالفات الصحابة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من القرآن والسنة.

    نماذج من مخالفات الصحابة للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    منها : أنهم أنكروا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صلح الحديبيّة ، وتكلَّموا بكلمات مزعجة على ما حكاه البخاري في صحيحه (1).
    منها : أنهم أسرعوا إلى رمي عفاف أمِّ المؤمنين عائشه لمَّا تأخَّرت وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق (2) حتى نزل فيهم قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ ) (3) (4).
1 ـ صحيح البخاري : 2/974 ح 2581 و 2582 ، باب الشروط في الجهاد.
2 ـ صحيح البخاري : 4/1517 ح 3910 ، باب حديث الإفك.
3 ـ سوره النور ، الآية : 11.
4 ـ جاء في تفسير القمي عليه الرحمة : 2/99 في تفسير هذه الآية الشريفة : فإن العامة رووا أنها نزلت في عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة.


(516)
    منها : أنهم تجرَّؤوا على النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنكروا عليه صلاته على ابن أبي ( المنافق ) حتى جذبوه من ردائه وهو واقف للصلاة عليه (1).
    منها : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ، ومعها من يضرب الدفّ ، ويستعمل ما حرمه الإسلام ، فتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائماً على المنبر ، وانفضُّوا عنه إلى اللهو واللعب رغبة فيه ، وزهداً في استماع مواعظه ، وما يتلو عليهم من آيات القرآن الكريم ، حتى أنزل الله تعالى فيهم : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (2).
    ومنها : أنهم قد تشاتموا مرَّة على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتضاربوا بالنعال بحضرته ، على ما أخرجه البخاري في صحيحه (3).
    وتقاتل الأوس والخزرج على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأخذوا السلاح واصطفّوا للقتال ـ كما ذكره الحلبي الشافعي في سيرته الحلبية (4) ، مع علمهم بقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) على ما حكاه البخاري في صحيحه (5) ، وعلمهم بما أوجبه الله تعالى عليهم من التأدُّب بحضرته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
1 ـ صحيح البخاري : 5/2184 ح 5460 ، باب لبس القميص.
2 ـ سورة الحجر ، الآية : 11.
3 ـ صحيح البخاري : 2/958 ح 48 ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
4 ـ راجع : صحيح البخاري : 2/107.
5 ـ صحيح البخاري : 2/958 ح 48 ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.


(517)
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) (1).
    وهناك مخالفات كثيرة وقعوا فيها مما يضيق المجال لذكرها الآن.
    هشام آل قطيط : سماحة السيِّد ! لماذا لم تذكر فضيلة الخليفة أبي بكر عندما كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الغار لتحقيق معنى الآية ؟ ولماذا تنكرون ذلك أنتم الشيعة ؟ ألم يكن له شرف الهجرة مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذه من أكبر الفضائل للخليفة الأول ؟ ألم تنزل عليه السكينة في الآية ؟ لماذا تغفل هذه الأمور ولم تناقشها ؟ ألم يكن تعصُّباً ودفاعاً عن الشيعة ؟
    السيِّد البدري : إن ما ذكره الطبري في تأريخه : إن أبا بكر ما كان يعلم بهجرة النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فجاء عند علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وسأله عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأخبره بأنه هاجر نحو المدينة ، فأسرع أبو بكر ليلتقي بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فرآه في الطريق ، فأخذه النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معه ، فالنبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما أخذ معه أبا بكر على غير ميعاد ، لا كما تقول.
    وقال بعض المحقِّقين : إن أبا بكر بعدما التقى بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الطريق اقتضت الحكمة النبويَّة أن يأخذه معه ولا يفارقه ; لأنه كان من الممكن أن يفشي أمر الهجرة ، وكان المفروض أن يكون سرّاً ، كما نوَّه به الشيخ أبو القاسم ابن الصبَّاغ ، وهو من كبار علمائكم ، قال في كتابه ( النور والبرهان ) : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر عليّاً فنام على فراشه ، وخشي من أبي بكر أن يدلَّهم عليه فأخذه معه ومضى إلى الغار.
1 ـ سوره الحجرات ، الآية : 2.

(518)
    السيِّد البدري : أسألك ـ يا أستاذ ـ أن تبيِّن لي محلَّ الشاهد من الآية الكريمة ، وتوضح الفضيلة التي سجَّلتها الآية لأبي بكر !
    هشام آل قطيط : الآية تبدأ من قوله تعالى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) ، محلُّ الشاهد ظاهر ، والفضيلة أظهر ، وهي :
    أوّلا : صحبة النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ; فإن الله تعالى يعبِّر عن الصدّيق بصاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ثانياً : جمله : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ).
    ثالثاً : نزول السكينة من عند الله سبحانه وتعالى على سيِّدنا أبي بكر. ومجموعها تثبت أفضليّة سيِّدنا الصدّيق وأحقّيّته بالخلافة ، وأنت صرَّحت ـ أيُّها السيِّد ـ لا أحد ينكر أن أبا بكر كان من كبار الصحابة ، ومن شيوخ المسلمين ، وأنه زوَّج ابنته من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    السيِّد البدري : ولكن كل هذه الأمور لا تدلّ على أحقّيتّه بالخلافة ، وكذلك كل ما ذكرت من شواهد ودلائل من الآية الكريمة لا تكون فضائل خاصة بأبي بكر ، بل لقائل أن يقول : إن صحبة الأخيار والأبرار لا تكون دليلا على البرّ والخير ، فكم من كفار كانوا في صحبة بعض المؤمنين والأنبياء وخاصة في الأسفار.
    الصحبة ليست فضيلة ، فإنّا نقرأ في سورة يوسف الصدّيق ( عليه السلام ) أنه قال : ( يَا
1 ـ سورة التوبة ، الآية : 40.

(519)
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (1).
    لقد اتّفق المفسِّرون أن صاحبي يوسف الصدَّيق ( عليه السلام ) هما ساقي الملك وطبَّاخه ، وكانا كافرين ، ودخلا معه السجن ، ولبثا خمس سنين في صحبة النبيِّ يوسف الصديق ( عليه السلام ) ، ولم يؤمنا بالله ، حتى أنهما خرجا من السجن كافرين ، فهل صحبة هذين الكافرين لنبيِّ الله يوسف ( عليه السلام ) تعدُّ منقبة وفضيلة لهما ؟!
    ثانياً : ونقرأ في سورة الكهف : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) (2).
    ذكر المفسِّرون أن المؤمن ـ كان اسمه : يهودا ـ قال لصاحبه ـ واسمه براطوس ـ وكان كافراً ، وقد نقل المفسِّرون منهم الفخر الرازي ـ محاورات هذين الصاحبين ، ولا مجال لنفيها.
    سؤال : فهل تعدُّ صحبة براطوس ليهودا فضيلة أو شرفاً يقدِّمه على أقرانه ؟! أو هل تكون دليلا على إيمان براطوس ، مع تصريح الآية : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) ؟! فالمصاحبة وحدها لا تدلُّ على فضيلة وشرف يميِّز صاحبها ويقدِّمه على الآخرين.
    وأمَّا استدلالك على أفضليّة أبي بكر بالجملة المحكية عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) فلا أجد فيها فضيلة وميزة لأحد ; لأن الله تعالى لا يكون مع المؤمنين فحسب ، بل يكون مع غير المؤمنين أيضاً ; لقوله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ
1 ـ سورة يوسف ، الآية : 39.
2 ـ سورة الكهف ، الآية : 2.


(520)
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ... ) (1) ، فبحكم هذه الآية الكريمة فإن الله عزَّوجلَّ يكون مع المؤمن والكافر والمنافق.
    هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد ! المقصود ( إن الله شاء ) أي أن الله مع الذين يعملون لطاعته وعبادته ، والألطاف والعناية ، أي تشملنا ، هذا هو المراد ، وإلاَّ في الحقيقة والواقع الله سبحانه وتعالى مع الجميع ، ويعلم ما في قلوب الجميع ، وإلاَّ هذا الاستدلال الذي أتيت به غير مقنع.
    حقائق لا بد من توضيحها وكشفها
    السيِّد البدري : أقول لك : لا مناقشة في الأمثال ; لأن الأمثال تضرب ولا تقاس ، أعطيك أمثلة على ذلك.
    1 ـ إبليس ، فإنه عبد الله تعالى عبادة قلَّ نظيرها من الملائكة ، وقد شملته الألطاف الإلهيّة والعناية الربّانيّة ، ولكن لما تمرَّد عن أمر خالقه واتّبع هواه واغتر خاطبه الله تعالى قائلا : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (2).
    2 ـ وبرصيصا في بني إسرائيل ، كان مجدّاً في عبادة الله سبحانه وتعالى حتى أصبح مع المقرَّبين ، وكانت دعوته مستجابة ، ولكن عند الامتحان أصيب بسوء العاقبة ، فترك عبادة ربِّ العالمين ، وسجد لإبليس اللعين ، وأمسى من الخاسرين ، فقال الله تعالى فيه : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلاِْنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي
1 ـ سورة المجادلة ، الآية : 7.
2 ـ سورة الحجر ، الآية : 24 ـ 25.


(521)
بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (1).
    فإذا صدر عمل حسن من إنسان فلا يدلُّ على أن ذلك الإنسان يكون حسناً إلى آخر عمره ، وأن عاقبة أمره تكون خيراً ، ولذا ورد في أدعية أهل البيت ( عليهم السلام ) : اللهم اجعل عواقب أمورنا خيراً.
    3 ـ ومثله في البشر : بلعم بن باعورا ، فإنه كما ذكر المفسِّرون في تفسير قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (2) ، قالوا : إنه تقرَّب إلى الله تعالى بعبادته له إلى أن أعطاه الاسم الأعظم ، وأصبح ببركة اسم الله سبحانه دعاؤه مستجاباً ، وعلى أثر دعائه تاه موسى وبني إسرائيل وأممٌ كثيرة في الوادي ، ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان ، واتّبع الشيطان ، وخالف الرحمن ، وسلك سبيل البغي والطغيان ، وصار في المخلَّدين في النيران ، ومن أحبَّ تفصيل قصّته فليراجع تفسير الفخر الرازي : 4/462 ، فإنه يروي ( قصته ) عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل.
    هشام آل قطيط : استأذنت بالخروج من الجلسة ، وما عدت أتحمَّل الحوار ، ولا الإصغاء إلى هذا الكلام القاسي بحقّ تشبيهه الخلفاء وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإبليس وبرصيصا وبلعم بن باعورا ، ووقفت ووصلت إلى الباب ، فركض سماحة السيِّد خلفي ، وقال : ألم أقل لك : اصبر ، اصبر يا أخي.
    فقلت له : من فضلك تغيِّر محور النقاش سماحة السيِّد الجليل.
1 ـ سوره الحشر ، الآية : 16.
2 ـ سورة الأعراف ، الآية : 175.


(522)
    السيِّد البدري : أنا انتهيت من هذه القصص ، ألم أقل لك في بداية الجلسة على أن الأمثال تضرب ولا تقاس ، ولا مناقشة في الأمثال ؟ ولكن يا أخي ! إن الأمثلة تضرب لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان ، وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من جميع الجهات ، بل يكفي تشابههما من جهة واحدة ، وهي التي يرتكز عليها موضوع الحوار ، وإني أشهد الله ـ يا أخي ! ـ بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد ، بل البحث والحوار يقتضي في بعض المواقع أن أذكر شاهداً لكلامي ، وأبيِّن المطلب والمراد والمقصود.
    هشام آل قطيط : إذا كنت ـ سماحة السيد ! ـ قد بيَّنت لي في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) وشرحت أن المقصود من أن الله سبحانه تعالى مع الكافر والمؤمن والمنافق فأين تذهب بهذا الدليل القاطع الذي يعدُّ منقبة وفضيلة عظيمة لسيِّدنا أبي بكر ، ألا وهو قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) فإن الضمير في ( عليه ) يرجع لأبي بكر الصدّيق ، وهذا شرف من الله ، ومقام عظيم قد كرَّمه به ، فلماذا تحاول طمس هذه الحقيقة ؟
    السيّد البدري : الضمير التي ذكرته في هذه الكلمة يرجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وليس لأبي بكر ، وبقرينة الجملة التالية في الآية : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) وقد صرَّح جميع المفسرين : أن المؤيَّد بجنود الله سبحانه هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    هشام آل قطيط : ونحن نقول : إن المؤيَّد بالجنود النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لا شك بذلك ، ولكن أبا بكر كان مؤيَّداً مع النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمصاحبته في الغار.
    السيِّد البدري : إذا كان الأمر كما تقول يا أستاذ ، وقلت لي في أول الجلسة بأنك تدرس اللغة العربيّة ، لجاءت الضمائر في الآية الكريمة بالتثنية ، بينما الضمائر كلُّها جاءت مفردة ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يقول : إن الألطاف


(523)
والعنايات الإلهيّة ـ كالنصرة والسكينة ـ شملت أبا بكر دون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فينحصر القول بأنها شملت رسول الله دون صاحبه.
    هشام آل قطيط : سماحة السيِّد ! إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس بحاجة إلى السكينة ; لأن السكينة موجودة معه ولا تفارقه ، ولكنَّ سيِّدنا أبا بكر كان بحاجة ماسّة إلى السكينة فأنزلها الله عليه.
    السيِّد البدري : يا أخي ! لماذا تضيع الوقت بتكرار الكلام ؟ وبأيِّ دليل تقول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يحتاج إلى السكينة الإلهيّة ؟! بينما الله سبحانه وتعالى يقول : ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ) (1) وذلك في غزوة حنين ، ويقول الله تعالى في آية أخرى : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) (2) وذلك في فتح مكة المكرمة.
    لاحظ ـ أيُّها الأستاذ الكريم ـ أن الله تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويذكر بعده المؤمنين ، فلو كان أبو بكر في آية الغار من المؤمنين الذين تشملهم السكينة الإلهيّة لكان الله عزَّوجلَّ قد ذكره بعد ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو قال تعالى : فأنزل الله سكينته عليهما.
    هذا وقد صرَّح كثير من كبار علمائكم بأن ضمير ( عليه ) في الآية الكريمة يرجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لا إلى أبي بكر ، راجع كتاب : ( نقض العثمانيّة ) للعلامة الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، وهو أستاذ ابن أبي الحديد ، وقد كتب ذلك الكتاب القيِّم في ردِّ وجواب أباطيل أبي عثمان الجاحظ.
1 ـ سورة التوبة ، الآية : 26.
2 ـ سوره الفتح ، الآية : 26.


(524)
    وأزيدك أدلّة أخرى أيُّها الأستاذ المحاور ، إنا نجد في الآية الكريمة جملة تناقض قولك !
    سؤال : قال تعالى في محكم كتابه : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ ) (1) فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هنا ينهى صاحبه عن الحزن ، فالسؤال الذي أوجِّهه إليك أيُّها المحاور : هل أن حزن أبي بكر كان طاعة لله ولرسوله أم معصية ؟!
    هشام آل قطيط : طبعاً حزن سيِّدنا أبي بكر كان طاعة لله فكيف يكون معصية ؟ معاذ الله !
    السيِّد البدري : ما دام حزن الخليفة أبي بكر طاعة لله كما ذكرت فلماذا نهاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن هذه الطاعة وقال له : لا تحزن ؟ و ( لا ) هنا للنهي ، والنهي يأتي عن المعصية وليس عن الطاعة ، فالآية لم تكن في فضل أبي بكر ومدحه ، بل تكون في ذمِّه وقدحه ! وصاحب السوء لا تشمله العناية والسكينة الإلهيَّة ; لأنهما تختصَّان بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين ، وهم أولياء الله الذين لا يخشون أحداً إلاَّ الله سبحانه ، ومن أهم علامات الأولياء كما في قوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).
    ولمَّا وصلنا إلى هذه النقطة كان الوقت ما يقرب من أذان صلاة المغرب ، وأجِّلت الجلسة بسبب تعب الطرفين ; لأن هناك تكملة لبحوث أخرى.
1 ـ سورة التوبة ، الآية : 40.
2 ـ سورة يونس ، الآية : 62.


(525)
    اللقاء الخامس : مناقشة الأدلّة التي يستدلّ بها على خلافة أبي بكر
    هشام آل قطيط : بعد أن ذكرت وبيَّنت ـ سماحة السيِّد ! ـ موضوع آية : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) وآية الغار ، لديَّ أدلّة جديدة ، ونصوص صريحة ، أثبت من خلالها أحقّيّة سيِّدنا أبي بكر بالخلافة من بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهي :
    أولا : مروا أبا بكر فليصلِّ بالمسلمين ( حديث رواه البخاري ) (1).
    ثانياً : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ( حديث رواه البخاري ) (2).
    ثالثاً : عن عائشة قالت : دخل عليَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في اليوم الذي بدأ فيه فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى الله والمسلمون إلاَّ أبا بكر (3).

    حوار في النصوص المدعاة على أحقّيّة الخليفة أبي بكر بالخلافة
    السيِّد البدري : أقول : لو سلَّمت لك جدلا أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس في مرضه الذي توفِّي فيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن ماذا تقول لو قال قائل ممن لا يقول بقولك : ألم يقل جمهور الصحابة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مرضه : هجر رسول
1 ـ سوف يأتي قريباً مع مصادره.
2 ـ سوف يأتي قريباً أيضاً مع مصادره.
3 ـ راجع مسند أحمد بن حنبل : 6/144 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 8/153.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس