|
|||
(616)
سواءً كانت ماديّة أو غيبيّة ، أمَّا إذا كان باعتبار أنها قائمة بالله تعالى وبإذنه فهذا هو عين التوحيد ، وأقرِّب لكم هذه الصورة بمثال : إذا مرض إنسان فمن الطبيعي أنه سيذهب إلى الطبيب ، فإذا كان ينظر له بأنه قادر على شفائه بقدرة ذاتيّة منفصلة عن الله كان مشركاً ، ولا يشك في ذلك اثنان ، أمَّا أنه يشفي المريض بقدرة الله وإرادته فلا إشكال في ذلك ، بل هو عين التوحيد.
فمن هنا نعرف أن السنة والسبب ليس لها اعتبار بعنوان أنه ماديّ أو غيبيّ ، وأن مدار الكلام هو الاعتقاد باستقلاليّة هذه الأسباب أو عدم استقلاليّتها ، وتحت هذه القاعدة يمكن أن نقيس كل موضوع ، سواء كان طلب إحضار كأس من الماء ، أو طلب الذرِّيَّة والولد من وليٍّ من أولياء الله ، وكلاهما محكومٌ بالقاعدة. أمَّا قولك : لا يقدر عليها إلاَّ الله ، بهذا المعنى الذي أطلقته لا يوجد شيء في صفحة الوجود يقدر على فعل شيء ، وإنّما القادر الحقيقيُّ هو الله ، ولكنَّ المسألة لا تؤخذ بهذا الإطلاق ، كما أنّ الله أعطى الإنسان القدرة على فعل بعض الأشياء بإذنه ومشيئته ، أعطى عباداً من عباده أسراراً وقدرات لم يعطها لغيرهم ، مثلما كان عند الأنبياء من إحياء الموتى ، وشفاء المرضى ، بل حتى ما كان عند أتباع الأنبياء مثل إحضار عرش بلقيس ، والأمثلة كثيرة في القرآن الكريم. وقبل أن أبدأ بالكلام في مسألة الصفات الإلهيّة وبعد الوهابيَّة عن معرفتها ، جاء المتحدِّث الوهابي وأخذ منّي لاقطة الصوت بقوَّة ، فلم أستجب لاستفزازه ، وسلَّمتها له بكل هدوء حتى أضمن لنفسي فرصة جديدة ، وأنا أعلم يقيناً أنه لا يستطيع أن يردَّ على كلمة واحدة ممَّا ذكرت. فبدأ حديثه قائلا : شيعة أم شيوعيّة ! آه تذكَّرت ، قد كان لي صديق في (617)
الجامعة في نفس الغرفة التي أسكن فيها ، وكان شيعيّاً متعصّباً ، يؤمن بأنّ القرآن محرّف ، وكان عنده مصحف اسمه مصحف فاطمة ( عليها السلام ) ، وكانت طبعته أجمل من طبعة الملك فهد ، والذي يعجبني فيه أنه يعلن كل عقائده بصراحة ، فهو يعتقد بكفر كل الصحابة ، وأنّ مؤسّسهم هو عبدالله بن سبأ ، وإنّه يعبد الحجر.
هؤلاء سذَّج لا يعرفون التشيُّع ، قد خدعهم الشيعة ، ولم يعرّفوهم على العقائد الحقيقيّة ، والشيعة لا يعرفون إلاَّ السفسطة والفلسفة ، وبدأ بالسبِّ والشتم. أمَّا كلامي فردَّ عليه بكلمة واحدة وكأنه أبطل كل حججي : أمَّا المتحدِّث الشيعي فننصحه بأن يتصفَّح أيَّ كتاب في أصول الفقه ، حتى يجد أن شرع من كان قبلنا ليس واجباً علينا ، فلا يستدلُّ بسجود إخوة يوسف ( عليه السلام ). رفعت يدي مصرّاً لتتاح لي الفرصة ، حتى أتحدَّث عن أساليب الحوار ، والتعاطي مع الطرف الآخر ، وعن أهمّيّة البرهان ، على ضوء المنهج القرآني ، الذي فتح الباب على مصراعيه للحرّيّة الفكريَّة التي عبَّر عنها بقوله : ( قل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1). وأردت أبيّن أنّ كلامه خارج ـ تخصصّاً ـ عن محل البحث ، فما دخل هذا الكلام فيما طرحته من أدلّة على بطلان نظرة الوهابيَّة للتوحيد ؟!! فهو كالذي يقول : أحلى العسل أم أطول الشجر ؟ وكان كل خوفي أن ننزل نحن إلى مستواهم من سبّ وشتم وتشتيت المواضيع ، ولكن للأسف لم تتح لي فرصة إلى آخر ركن النقاش ، بل لم تتح 1 ـ سورة البقرة ، الآية : 111. (618)
الفرصة لأيِّ شيعي ، وفي المقابل كان الباب مفتوحاً للوهابيّة الذين لم يزيدوا غير السباب.
وعندما أتيحت الفرصة لأحد الطلبة ـ وهو من جماعة الإخوان المسلمين ـ استبشرنا بذلك ، فلعلّه يكون منصفاً ، ولكنه لم يختلف عنهم كثيراً. فبدأ حديثه قائلا : إنّنا لا نستطيع أن نكفّر أحداً بعينه ، ولكن يمكننا أن نكفّر منهجاً ، ورفع صوته صارخاً : فالتشيُّع كفر في منهجه وتوجّهه وكل تعليماته ، فأشعل بذلك حماس الوهابيّة ، فتعالت صرخاتهم بالتكبير وبشعارات البراءة من الشيعة ، فقرّروا وجوب مقاطعتهم في الجامعة ، فلا يجوز لأيِّ مسلم سنّي أن يتعامل معهم أياً كان نوع التعامل ، فلا يجوز السلام عليهم ، كما لا يجب ردّ سلامهم ، فتوتَّر الجوُّ إلى أبعد الحدود. ولكن ـ وبحمد الله ـ لم ينجحوا في ذلك ، فإنّ طلبة الجامعة كانوا أكثر تحرُّراً وعقلانية ، فلم يستجيبوا لمحظوراتهم التي شرعوها ، وكأنهم مراجع الأمَّة الإسلاميَّة ، وإن كان هنالك نجاح ، فإنني منعت من الدخول إلى الجامعة بعد تلك الأحداث بداعي أمن الجامعة. الجلسة الثانية مع الدكتور عمر مسعود يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد هذه الأحداث الساخنة زرت الدكتور في مكتبه في كلّيّة التجارة ، وسألني ما دار بيننا وبين الوهابيَّة ، وقد كانت الأخبار عنده بالتفصيل. قال : إنّ المشكلة التي تعيشها الوهابيّة هي الجهل المركَّب من مصادرة للآراء والاتهام بالباطل ، فنحن كنّا نسمع أنّ الشيعة يقولون : إنّ الرسالة كانت (619)
يفترض أن تأتي لعليِّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ولكن عندما بحثنا لم نجد لذلك أثراً ، وكنا نسمع أنّ للشيعة مصحفاً اسمه ( مصحف فاطمة ( عليها السلام ) ) ولكن لا واقع له ، وكنّا نسمع أنّ عبدالله بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فبحثنا فوجدنا أنه شخصيّة خرافيّة ، فما بال الوهابيَّة يردّدون هذه الاتّهامات الباطلة ؟ وبأيِّ حق يتحدَّثون عن الشيعة ؟!
فقد طلب منّي قبل أيام أنا والدكتور علوان والدكتور أبشر وأحد مشايخ الوهابيّة ، إقامة ندوة عن الشيعة في الجامعة ، ولكنّي اعتذرت ، وعلى ما يبدو اعتذر الدكتور علوان ، والدكتور أبشر ، وقلت لهم : بأيِّ حق أتحدَّث عن الشيعة فأكون الحاكم والقاضي والجلاَّد ، فأقول : الشيعة يقولون كذا ، وحكمهم كذا ؟ فهذه مصادرة ، فكل صاحب مذهب يجب أن يسأل عن مذهبه ، هذه هي المنهجيّة العلميّة ، فلا يمكن بداعي خلافي مع الوهابيَّة ألصق بهم ما ليس فيهم. فمثلا : كنّا نسمع أن محمّد بن عبدالوهاب ، كان يقول : إنّ عصاي أفضل من محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن عند البحث العلمي تبيَّن أن هذه المقولة ليست ثابتة ، فلا يجوز أن أنسبها له ، وكثير من الكتب التي ألَّفت ضدَّهم ، فليس كل ما فيها حقاً وصواباً. وأذكر أنّي كنت في سفرة إلى الخرطوم ، فجاءني أحد الإخوان الأعزّاء بكتاب ، وقال : إن هذا الكتاب يردُّ كيد الوهابيَّة ، وإذا هو كتاب ( مذكِّرات مستر همفر ) وبعد قراءته قلت له : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن أستفيد منه شيئاً ، فهو خارج عن المنهج العلميِّ ، وهو أقرب للافتراء من الحقِّ. وأيضاً ليس ما يقوله الوهابيّة في جماعتنا التيجانيّة بحق ، وأذكر أنّ أحد مشايخنا وعلماءنا الكبار ـ وهو الحافظ المصري ـ التقى بأحد الوهابيّة ، فسأله (620)
الوهابي عند مذهبه ، فقال : تيجاني.
فقال الوهابي : أعوذ بالله. فقال له : إنّ الذي استعذت منه ليس نحن. قال : كيف ؟ ألستم تقولون : إنّ صلاة الفاتح أفضل من القرآن. قال : لا. قال : ألستم تقولون كذا ؟ قال : لا. قال : ألستم تقولون كذا وكذا وكذا ؟ قال : لا. فتعجَّب ، فقال له : إنكم تحملون صورة في أذهانكم لا تمتُّ إلى الواقع بصلة. كما أنّه ذكر لي قصّة مفصَّلة من لقاءاته مع المسيحيّة ، وقال : إنه استدعي إلى الخرطوم لمناقشة مجموعة من علماء المسيحيّة ، الذين حضروا من الغرب ، وأنه كيف عجز الآخرون عن ردِّهم ، لأنهم لم يسألوهم عن اعتقاداتهم ، بل كانوا يهاجمونهم وهم ينفون الاتهام ، ولم يفحموا إلاَّ بعد ما طلبت منهم أن يتحدَّثوا عن أنفسهم. وقد فصَّل كثيراً في منهجيَّة التعامل مع الأطراف المخالفة ، ولم يطرح في هذه الجلسة موضوع للنقاش بيننا رغم أنها طالت أربع ساعات ، وقد سررت بكلامه ; لأننا بهذا الحديث أمنّا هجومه علينا ، وخاصة أنه شخصيّة مرموقة اجتماعياً ، وله أتباع ومريدون ، وكلمته مسموعة ، فحرصت أن لا أثيره بأيِّ موضوع. (621)
وبعد هذه الجلسة ، ذهبت معه في سيارته إلى مدينة عطبره ، حيث يوجد مجموعة من إخواننا الشيعة ، حتى أنقل لهم هذه الأخبار السارّة.
ولكن سرعان ما صدمت عندما أخبروني أن هنالك مناظرة بينهم وبين الدكتور عمر مسعود ، موضوع المناظرة : عصمة الأئمة ( عليهم السلام ). قلت : نحن مستعدُّون أن نناظر في أيِّ مبحث من عقائدنا ، ونفحم أيَّ طرف بالدليل ، ولكن الذي يحيِّرني أنه مضت ساعات من لقائي مع الدكتور ولم يذكر لي هذا الأمر ، فلعله لا يدري ! قالوا : لا ، بل هو الذي دعا ، وقد وزِّعت الإعلانات في كل مكان ، ومكتوب عليها ( حوار ساخن بين الشيعة والدكتور عمر مسعود ). فصمَّمنا أن نستوفي كل الأدلة عن عصمة الأئمة ( عليهم السلام ) ، ونردُّ على كل الإشكاليّات ، ورشَّحني الإخوة على أن أدير النقاش معه. وبعدما حان وقت الموعد انطلقنا إلى دار التيجانيّة ، وقد اكتظَّت بالحضور ، وما إن رآني الدكتور حتى بدت علامات التردُّد عليه ، فقال لي : هل جاء الإخوة الذين سوف يحاوروني ، وكأنه لا يريدني أن أتدخَّل ، بل هو كذلك. والدليل عليه أننا أول ما جلسنا كنّا بمحاذاته من الجهة اليمنى ، فقال : لا يمكن أن ألتفت على يميني دائماً ، فالذي يريد مناقشتي فليجلس أمامي ، فقمنا ، ولكنه أمسك بيدي ، وقال : اجلس أنت بالقرب منّي ، وكأنني لم أكن مقصوداً بالنقاش. وبعد تلاوة من آيات الذكر الحكيم ، قدَّموا ممثِّل الشيعة للحديث عن عصمة الأئمة ( عليهم السلام ). فحمدت الله ، وصلّيت على خاتم الأنبياء ، وأهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) ، (622)
فأظهر الدكتور عدم ارتياحه من تدخُّلي.
قلت : قبل أن أبدأ حديثي عن مسألة العصمة وأدلّتها من القرآن والسنّة والعقل ، أحبُّ أن أبدي هذه الملاحظة ، وهي : من الذي دعا إلى هذا الحوار ؟ إذا كان إخواننا الشيعة فعلى الدكتور أن يحدِّد محاور النقاش ، ولا غضاضة في ذلك ، أمَّا إذا كان هو الداعي فعلينا تحديد محاور النقاش ; لأنّ مسألة العصمة ليست عقيدة مجرَّدة ، وإنما ترتبط بواقع عقائديٍّ متكامل ، فالمسألة التي يجب أن تناقش هي الإمامة ، وضرورتها ، وشروطها ، على ضوء المنهج القرآني والعقلي ، فتأتي تبعاً لذلك مسألة العصمة ، فأنا أسأل أستاذي الدكتور ، هل كان هو الذي دعا الشيعة للحوار ؟ بدأ حديثه بعد الحمد والصلاة قائلا : أنا من طبيعتي الذاتيّة وتكوين شخصيتي ، إنسان يمكن أن تسمِّيني منعزل ومنطوي ، فليس أنا من دعاة المناظرات ، ولا الحوارات والمحاضرات (1) ، والدليل على ذلك أن الأستاذ معتصم جلس معي هذا اليوم أربع ساعات ، ثمَّ ذكر ما دار بيننا ، وقال : إني لم أتخيَّل أنّ الأستاذ معتصم سيتدخَّل في هذا الحوار ; لأنه لا توجد بيننا حواجز ، ومكتبي مفتوحٌ له طول اليوم ، وهذا هو أمامكم ، اسألوه عن العلاقة التي بيننا ، فالمفروض منه أن يختبر في مثل هذه الجلسة جماعته من الشيعة ، وهل هم استوعبوا الدروس التي تلقَّوها منه ، ثمَّ قال : أدعو لرفع هذه الجلسة. فشكرته ، وقلت : نحن أيضاً ليس من عادتنا أن نطرق الأبواب ، وندعو 1 ـ جاء في الهامش : مع العلم أنه في نفس تلك الأيام دارت بينه وبين الوهابيّة مجموعة من المناظرات بعنوان ( ابن تيمية صوفي ). (623)
أهلها للمناظرات ، وما دمت دعوت لرفع الجلسة فنحن لا نصرّ عليها.
وفي هذا الحين تدخَّل أحد الحضور ، ووجه لي سؤالا قائلا : أسألك سؤال مستفهم مستفسر ، وليس مناظر عن رأي الشيعة في مسألة العصمة وأدلّتهم على ذلك. قلت له : إنّ الأدلة متعدِّدة ، ولكن ليس المكان مكاني ، ولا المجلس مجلسي ، فإذا أذن لي الدكتور .. فقاطعني الدكتور قائلا : لقد دعوتكم لرفع هذه الجلسة. وبهذا انتهت المناظرة ورفعت الجلسة. (624)
المناظرة الثامنة والثمانون
مناظرة
يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد تلك الأحداث مباشرةً ، سافرت إلى شمال السودان ، مدينة ( مروي ) وأول ما لاحظته في تلك المنطقة النشاط الوهابي المتزايد ، وبعد ما استطلعت الأمر وجدت أنّ المؤثِّر الأول في ذلك النشاط هو شيخ يسمّى ( مصطفى دنقلا ) ، وهو يسكن في منطقة بالقرب من مروي تسمّى ( الدبيبة ) فسعيت للوصول إليه ، وذات مرَّة ذهبت إلى سوق شعبيٍّ في منطقة تسمّى ( تنقاسي ) فأشار لي أحد الإخوان ـ وكان مرافقاً لي ـ أن ذلك الرجل هو ( مصطفى دنقلا ) الذي تسأل عنه ، فأسرعت إليه ، وبعد السلام قلت له : أنا شخص غريب عن هذه المنطقة ، وهدفي الوحيد في هذه الحياة هو البحث عن الحقيقة ، وسمعت أنك من أكبر المشايخ في المنطقة ، فأحببت أن أستفيد من علمك.
الشيخ معتصم السوداني مع شيخ السلفيّة في صفات الله تعالى والطريق الذي يجب أن تسلكه الأمّة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاستبشر بذلك ، وأمسك يدي وقال : تعال ولا داعي للمواعيد ، وجلسنا في منطقة هادئة من السوق. (625)
فقلت له قبل الدخول في البحث : في أيِّ موضوع يجب أن نتفق على أساليب الحوار ، والأخذ والعطاء ، فإن أسلوب التلقين ليس مجدياً في حقي ، فإنّ العقيدة التي تقوم على الحوار والنقاش ، والدليل والبرهان ، عقيدة صلبة لا تزلزلها العواصب.
قاطعني قائلا : وهذا ما ندعو إليه. فقلت : إذن ، ما هي نظرة الإنسان الباحث للإسلام ؟ هل يعتبر أنّ الإسلام هو ذلك الذي يكون في بيئته ومجتمعه ، أم أنه أوسع من ذلك فيشمل الإسلام بشتّى مدارسه ومذاهبه الحاضرة أو التي كانت في التاريخ ؟ وهذه النظرة الشاملة ، هي التي تكسب الإنسان نوعاً من الحرّيّة ، تمكِّنه من معرفة الطائفة المحقّة ; لأنها المقدِّمة للتحرّر من كل قيود البيئة والمجتمع ، كما أن هذه النظرة تكسب الإنسان نوعاً من الإنصاف ، في التعاطي مع الأطراف المتعدِّدة ، ومن هنا أطلب منك أن لا تحاكمني بمسلَّماتك باعتبار أنها حقيقة ; لأنّها لابد أن تثبت بالدليل أوَّلا ، ثمَّ تكون صالحة للمحاكمة ، كما يقولون ( ثبِّت العرش ، ثم انقش عليه ) كما أنني لا أقبل منك أن تجعل الموروث الديني والحالة الدينيّة في المجتمع هي الحاكم بيننا ; لأن المجتمع السوداني وإن كان مجتمعاً متدِّيناً ، إلاَّ أنه لا يكون ممثِّلا لكل المذاهب الإسلاميّة ، فما هو إلاَّ حالة واحدة من تلك الحالات المتعدِّدة ، وهي نفسها لا تدّعي أن مجتمعنا قد استوعبها بشكل كامل. إذن لابد أن نحدِّد مقاييس ثابتة تكون هي مدار حجّتنا ، وملزمة للطرفين ، وعلى ما يبدو أنّنا يمكن أن نتفق على القرآن والسنّة والعقل ، رغم أنّ السنّة (626)
حجّيّتها ليست مكتملة ; لأننا سوف نعتمد على مرويَّات مدرسة واحدة ، وهم أهل السنّة ، مع العلم أنّ هناك مدارس أخرى لها مرويَّاتها الخاصة ، ولكن من أجل الوصول إلى الفائدة يمكن أن نعتمد على مصادرهم.
استغرب الوهابي كثيراً من هذا الكلام ، وهو لا يدري إلى أيِّ طريق أسلك به ، ولكنه وافق على ما قلت ، مع علمي الكامل أنه لا يلتزم به. فقلت له : إذن نبدأ البحث ، وسوف ينحصر في التوحيد وصفات الله ، ثمَّ في الطريق الذي يجب أن تسلكه الأمَّة من بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإذا تكرّمت شيخنا ، وبدأت بالكلام. فابتدأ الشيخ قائلا : إنّ الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، وإنّ شرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار ، وأصلّي وأسلّم على سيِّدنا محمّد ، وعلى أهله ، وأصحابه أجمعين ، وبعد ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، فقيل : ما هي يا رسول الله ؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (1). وقد بيّن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا الحديث أنّ الفرقة الناجية هي واحدة ، وباقي الفرق كلُّها في ضلال ، وإلى النار ، وكما بيّن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ الفرقة الناجية هي ما كان عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ، وهذا بيان صريح من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أن الفرقة الناجية هم السلف الصالح ومن تبع نهجهم ، وهذا كاف لنا كمكلَّفين أن 1 ـ تقدَّمت تخريجاته. (627)
نتبع منهج السلف ، ولا نهتمُّ بمذاهب الضلال ، فالطائفة المحقّة هم أهل السنّة والجماعة ، وهم أكثلسنّة والجماعة ، وهم أكثر الطوائف اعتدالا ; لأنها سلّمت بما جاء به الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصحابته الكرام ، ولا نريد أن نخوض في الطوائف الأخرى ، ونوضح مدى ضلالها ، فمجرَّد معرفة الطائفة المحقّة كاف للحكم على البقيَّة بالضلالة.
أمَّا صفات الله سبحانه وتعالى ، فعلى حسب قول الطائفة المحقّة ، إنّ هذه الصفّات التي أخبر بها القرآن ، نجريها كما جاءت من غير تأويل ، فمثلا قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) فلا يمكن أن نؤوِّل معنى اليد ، وفي الوقت نفسه لا نثبت لها معنى خاصاً ، فلا نقول إنّ يد الله تعني قدرته ; لأنه لا دليل على ذلك ، وإنما نثبت لله يداً من غير كف ، وهذا ما قال به السلف الصالح ، فلم يرو منهم على الإطلاق رأي مخالف لما قلناه ، وهذا دليل على صواب هذا الرأي ; لأن السلف أقرب الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأعلم الناس بالقرآن ، وعدم اختلافهم دليل على صدق قولهم ، أمَّا الطوائف الأخرى فقد ذهبت بعيداً في آيات الصفات ، فكل طائفة تؤوِّلها على حسب هواها ، فالقائلون بالتأويل لم يتفقوا على معنى معيَّن ، وهذا وحده دليل على البطلان ، فيتحتَّم أن يكون الطريق أمامنا هو إجراء هذه الصفات كما جاءت من غير تأويل ، وكما قال السلف في مثل هذا المقام : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) ولا أعتقد أن إنساناً يخاف الله ويطلب الحق يجادل في هذه المسألة. استفزّتني هذه الكلمة ، فقاطعته قائلا : أولا : إنّ الطائفة المحقّة هم أهل السنّة ; لأنهم ساروا على منهج السلف ، 1 ـ سوره الفتح ، الآية : 10. (628)
وذلك لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّ الفرقة الناجية « ما كنت عليه أنا وأصحابي » ، فإنّ الموضوع أوسع من المدّعى ، وبصورة أخرى : إن الصغرى غير تامّة ، فمن الذي يقول : إنّ الذي عليه أنتم هو نفس ما كان عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ؟!
وكون أهل السنة هم الطائفة الوحيدة ، التي جسَّدت ما كان عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ، هذه مصادرة من غير دليل ; لأن كل الطوائف تدّعي وصلا بليلى. وثانياً : الاختلافات الكبيرة جدّاً بين أهل السنّة هي دليل على بطلان ما تدّعي ، فليس هناك في الواقع مذهب واحد متكامل يسمَّى أهل السنّة ، وكل ما هنالك عنوان يسمّى أهل السنة ، تنطوي تحته مجموعة من المدارس ، التي تختلف في أبسط المسائل الفقهيّة ، بل حتى في طريقة التعامل مع السلف ، فأيّ أهل السنّة والجماعة تقصد ؟ هل هم الوهابية ؟ ويوجد هنالك من يدّعون أنهم أهل السنّة ويكفِّرون الوهابيِّة ، فلا تعمّم الكلام ، ولا تحاول أن تلزمني بالعناوين الفضفاضة. أمَّا كلامك في الصفات الإلهيَّة فيكتنفه نوع من الغموض ، فما معنى أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من غير كيف ؟! فهذا التبرير لا يقبله صاحب عقل سليم ; لأنّ الجهل بالكيفيّة لا يغيّر عنوان القضيّة ، وهو لا يتعدَّى أنّ يكون إبهاماً وألغازاً ; لأنّ إثبات هذه الألفاظ هو عين إثبات معانيها الحقيقيّة ، وصرفها عن معناها الحقيقي هو عين التأويل الذي أنكرته ، وإثبات المعنى الحقيقي لها لا ينسجم مع عدم الكيفيّة ; لأن الألفاظ قائمة بمعانيها ، والمعاني قائمة بالكيفيّة ، وإجراء هذه الصفات بمعانيها المتعارفة هو عين التجسيم والتشبيه ، والاعتذار بقولك : ( بلا كيف ) لا يتعدّى أن يكون لقلقة لسان ، وإذا كانت هذه الألفاظ الجوفاء تكفي (629)
لإثبات التنزيه لله عزّ وجلَّ فلا إشكال على من يقول : إن لله : جسماً بلا كيف ، ولا كالأجسام ، وله دم بلا كيف ، ولحم وشعر و ... بلا كيف ، كما قال أحد الحشوية : ( إنما استحييت عن إثبات الفرج واللحية ، واعفوني عنهما ، واسألوني عمَّا وراء ذلك ) كما ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل.
وإنَّما مشكلتكم هي التقليد في العقائد من غير تفكير ، مع أن التقليد في باب العقائد لا يجوز ، فإذا فكَّرت جيِّداً فيما نسبته للسلف من قولهم : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) تجد أنّ هذا الكلام متهافت لأبعد الحدود ; لأنّ الاستواء إذا كان معلوماً فالكيف بالتالي يكون معلوماً ، وإذا كان الكيف مجهولا فكذلك الاستواء يكون مجهولا ، ولا ينفصل عنه ، فالعلم بالاستواء هو عين العلم بالكيفيّة ، والعقل لا يفرِّق بين وصف الشيء وبين كيفيّته ; لأنهما شيء واحد ، فإذا قلت : فلان جالس فعلمك بجلوسه هو علمك بكيفيّته ، فعندما تقول : الاستواء معلوم فنفس العلم بالاستواء هو العلم بالكيفيّة ، وإلاَّ فيكون في كلامك تناقض ، بل هو التناقض بعينه ، فكل تبرير بعدم الكيف مع إجراء المعاني الحقيقيَّة للألفاظ هو تناقض وتهافت ، فقولك : إن لله يداً بلا كيف ، كلام ينقض آخره أوَّله ، والعكس ; لأن اليد بالمعنى الحقيقي لها تلك الكيفيّة المعلومة ، ونفي الكيفيّة منها هو نفي لحقيقتها. قاطعني قائلا : ماذا نفهم من هذا الكلام ؟ هل تخالف السلف الصالح ، وتؤوِّل هذه الآيات ؟ قلت : أولا : إنّ مجرَّد نسبة هذه الأفكار إلى السلف لا يكسبها قدسيّة يمنعها من النقاش. ثانياً : إن السلف الذين تدّعي اتباعهم لم يقولوا ما قلت ، بل كانوا يوجِّهون (630)
تلك الآيات القرآنيّة التي جاءت في باب الصفات غير توجيهكم ، وفي الواقع إن نسبة هذه الأفكار إلى ابن تيمية وابن عبد الوهاب أقرب وأصدق من نسبتها إلى السلف ، وحتى تتأكَّد من ذلك ارجع إلى أيِّ تفسير من التفاسير المأثورة في باب الصفات ، لتجد تأويلات السلف واضحة لهذه الآيات.
جاء في تفسير الطبري ، في تفسر قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (1) التي اعتبرها ابن تيمية من أعظم آيات الصفات ، نجد أن الطبري يروي حديثين بإسناد إلى ابن عباس قال : اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي ، فقال بعضهم : هو علم الله تعالى ذكره ، وذكر من قال ذلك بإسناده أن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ورواية أخرى بإسناده عن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ألا ترى : ( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) (2). وفي تفسير الطبري نفسه ، ينقل في تفسر قوله تعالى : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) يقول : اختلف أهل البحث في معنى قوله : وهو العليُّ العظيم ، فقال بعضهم : يعني بذلك هو عليٌّ عن النظير والأشباه ، وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو : العلي المكان ، وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا يعني بوصفه بعلوِّ المكان ; لأن ذلك وصف بأنه في مكان دون مكان. وإليك شاهداً آخر في تفسير قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (3) وقوله : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ ) (4). 1 ـ سورة البقرة ، الآية : 255. 2 ـ تفسير الطبري : 3/927. 3 ـ سورة القصص ، الآية : 88. 4 ـ سورة الرحمن ، الآية : 27. |
|||
|