مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 631 ـ 645
(631)
    قال الطبري : واختلف في معنى قوله : ( إلاَّ وجهه ) ، فقال بعضهم : كل شيء هالك إلاَّ هو ، وقال آخرون : معنى ذلك : إلاَّ ما أريد به وجهه ، واستشهدوا بقول الشاعر :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه ربّ العباد إليه الوجه والعمل
    وقال أبو البغوي : إلاّ وجهه ; أي إلاَّ هو ، وقيل : إلاَّ ملكه ، قال أبو العالية : إلاَّ ما أريد به وجهه.
    وفي الدرّ المنثور للسيوطي عن ابن عباس قال : المعنى : إلاّ ما يريد به وجهه ، وعن مجاهد : إلاّ ما أريد به وجهه ، وعن سفيان : إلاَّ ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة (1).
    هذا قول السلف ، وأنا لم أخالف قولهم ، بل أنتم الذين تخالفونهم ، وتنسبون لهم ما ليس فيهم.
    ثالثاً : نحن لا ندعو إلى التأويل في مثل هذه الآيات ، فلا يجوز صرف ظاهر الكتاب والسنّة بحجّة أنها تخالف العقل ، فلا يوجد في القرآن والسنّة ما يخالف العقل ، وما يتبادر من الظاهر أنه مخالف ليس بظاهر ، وإنما يتخيَّلونه ظاهراً.
    ولتوضيح ذلك لابد أنّ تفهم أن اللغة في مدلولها تنقسم إلى قسمين :
    1 ـ دلالة إفراديّة.
    2 ـ دلاله تركيبيّة.
    أو كما يسمّيها علماء المنطق والأصول دلالة تصوُّريَّة ودلالة تصديقيّة.
1 ـ الدرّ المنثور ، السيوطي : 5/140.

(632)
    فقد يختلف المعنى الإفرادي عن المعنى التركيبي في الكلمة الواحدة ، إذا وجدت قرائن في الجملة تصرفها عن معناها الإفرادي ، فمثلا : عندما أقول : ( أسد ) ينصرف الذهن إلى الحيوان ، ولكن عندما أقول : أسد يقود سيارة فإن الذهن سينصرف إلى الرجل الشجاع ، فمعنى أيِّ كلمة لابد أن يلاحظ فيه السياق والقرائن المتصلة والمنفصلة ، وهذا هو ديدن العرب في فهم الكلام ، ولذلك الذي يفهم بهذه الطريقة لا يسمَّى مؤوِّلا للنصّ ، خارجاً عن الظاهر ، وهكذا الحال في مثل هذه الآيات ، ففي قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) فيكون المعنى الظاهر من اليد هي القدرة والتأييد الإلهي من غير تأويل ، كالذي يقول : البلد في يد السلطان ، أي تحت تصرفه وإدارته ، ويصح هذا القول وإن كان السلطان مقطوع اليد ، وكذلك في بقيَّة الآيات فلا يمكن أن تثبت معنى الكلمة من غير ملاحظة السياق ، وهذا هو الأخذ بالظاهر بعينه.
    بدأت الحيرة على وجه الوهابي ، وهو لا يدري ماذا يقول ، إلاَّ أنه قاطعني قائلا : هذا الكلام فيه تكلُّف ومراوغة ، فالإسلام دين يسر ، ولا يحتمل هذه السفسطة ، فقد خاطب علماؤنا المسلمين بأبسط الكلمات من غير تعقيد وتكلُّف ، وقد أجمع المسلمون على فضلهم وأعلميَّتهم ، مثل : الإمام أحمد بن حنبل ، وشيخ الإسلام ابن تيميّة ، فإنهم بتوفيق الله ردُّوا على أصحاب المذاهب الباطلة بأوضح البراهين ، ولم يقولوا كلمة واحدة مما قلت ، مع أنهم لا يجرأ على مخالفتهم أحد.
    فمن أنت ؟ وما هو مذهبك ؟ فإنّي لا أراك إلاَّ من المعتزلة الذين يتمنطقون بالكلام.
    يا شيخنا ! ألم أقل لك إنّك تجترُّ ما قاله ابن تيميّة ، وابن عبد الوهاب ، من


(633)
غير تدبر ؟ فإن هؤلاء كلامهم لا يتجاوزهم ، وهو حجّة عليهم لا علينا ، وخصَّ الله سبحانه كل إنسان بعقل ، ولا يحاكمنا بعقولهم ، هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء لم يكونوا موضع إجماع الأمّة ، فقد خالفهم جلُّ علماء المسلمين ، وكان أكثر مخالفيهم من علماء أهل السنّة والجماعة.
    قال الذهبي في رسالته لابن تيمية : يا خيبة من اتّبعك ، فإنه معرَّض للزندقة والانحلال ، ولا سيَّما إذا كان قليل العلم والدين ، باطنيّاً شهوانيّاً ، فهل أتباعك إلاَّ قعيد مربوط خفيف العقل ، أو عاميٌّ كذَّاب بليد الذهن ، أو غريب واجم قويُّ المكر ، أو ناشف طالح عديم الفهم ؟ فإن لم تصدِّقني ففتِّشهم وزنهم بالعدل ) (1).
    وجاء في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني : ج1 ص 141 : ( فمن هنا وهناك ردوّا عليه ـ يعني ابن تيمية ـ ما ابتدعته يده الأثيمة من المخاريق التافهة ، والآراء المحدثة الشاذّة عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، ونودي عليه بدمشق : ممن اعتقد عقيدة ابن تيمية حلَّ دمه وماله ).
    هذا ، غير عشرات الكتب التي ردَّت على ابن تيميَّة وكشفت عقائده الباطلة ، مثل كتاب ( الدرر المضيّة في الردِّ على ابن تيمية ) للحافظ عبدالكافي السبكي.
    ويكفيك في هذا المقام ما قاله الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيثمي في ترجمته لابن تيمية : ( ابن تيمية عبدٌ خذله الله ، وأضلّه ، وأعماه وأصمّه وأذلّه ،
1 ـ السيف الصقيل ، السبكي : 218 ، التوفيق الرباني : 206 ، ذيل تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 320 ( في الهامش ).

(634)
بذلك صرَّح الأئمة الذين بيَّنوا فساد أحواله ، وكذّبوا أقواله ).
    هذا غيضٌ من فيض من علماء أهل السنة في ابن تيمية ، أمَّا الطوائف الأخرى فمجمعون على ضلاله وسخافة رأيه.
    أمَّا ابن عبد الوهاب فإنه لا يمثّل شيئاً حتى يخصّ بالكلام.
    وهنا رفع صوته صارخاً : من أين تأتي بهذا الكلام ؟! ... وأنا لا أسمح لك أبداً أن تتحدَّث بهذه الطريقة عن علمائنا العظام ، وما أنت إلاَّ رجل مجادل تماري العلماء ، فمن تكون أنت مقابل شيخ الإسلام ابن تيمية ؟!
    فاسمع : إذا كنت صادقاً فيما تقول تعال لنتباهل ، وانتصب واقفاً وقال : قم أيُّها المفتري ، قم حتى تباهلني ، والله إني أراك وقد خسف الله بك الأرض.
    وهو على هذا الصراخ حتى اجتمع الناس حولنا ، وهو يقول : إنّه رافضيٌ ، إنّه شيعيٌّ ، وقد خدعني بعدما ظننت فيه الخير.
    قلت : اهدأ أيُّها الشيخ ، والله إنّي لا أراك إلاَّ هارباً من الحوار ، فلم نتحدَّث بعد عن عدالة الصحابة.
    قال : اسكت ، إنّ الصحابة عدالتهم أوضح وأكبر من أن نختلف فيها ، وإن كنت تؤمن بما تقول قم وباهلني.
    قلت : أنا موافق على المباهلة ، ولكن قبلها أريد أن أطلب منك طلباً أمام كل الحضور ، وهو أن تقيم معي مناظرة علنيّة أمام جميع أهل هذه البلد ، حتى لا يبقى لوجودك ولا لوجود أمثالك أثر.
    أمَّا المباهلة ، أتهدّدني أنت بالمباهلة وقد باهل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأئمتي نصارى نجران ؟ والله لو أقسمت على الله بحقّهم لمسخت قرداً يلعب بك الصبيان ، ولكن نحن لا نختبر ربَّنا ، إنما الله هو الذي يختبرنا.


(635)
    ووقفت قائماً وقلت : هيَّا ابدأ بالمباهلة ، فبدأ الخوف على وجهه.
    ابدأ ، لماذا سكتَّ ؟
    قال : أباهلك على البخاري ومسلم ، فضحكت ، وانتهرته .. يا أحمق ، ما البخاري ومسلم ، حتى نتباهل حولهم ؟ وإنما أباهلك بأن مذهب التشيُّع ـ مذهب أهل البيت ، الأئمة الاثني عشر ( عليه السلام ) ـ هو الحق ، وما غيره باطل.
    فسكت ثمَّ قال : أنا لا أباهلك في أهل البيت ( عليهم السلام ).
    وعلى أيِّ شيء نتحدّث ؟ أعلى غير إمامة أهل البيت ( عليه السلام ) ؟
    قال : أنا لا أباهلك رحمةً بك ، وانصرف.
    قلت : سبحان الله ! فإن الراحم هو الله ، كيف ترحمني وعندكم هذا من مصاديق الشرك ؟


(636)
     المناظرة التاسعة والثمانون
مناظرة
الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود
في صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) وحديث الثقلين
    قال الشيخ معتصم السوداني : بعد رجوعي من مدينة ( مروي ) وأنا في طريقي إلى الخرطوم ، مررت بجامعة وادي النيل ، كلّيّة التجارة ، فالتقيت بالدكتور عمر مسعود ، ودار بيني وبينه حوار حول صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية.
    الدكتور : أنتم تقولون : إنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) معصوم ، ونحن نقول : إنه من الصحابة العظام ، ومرتبته عالية عند كل المسلمين ، ولكنه غير معصوم ، وهذه هي النظرة الصحيحة ; لأنّ القول بعصمة الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع أنه صالح معاوية فيكون هذا الصلح أعطى الشرعيّة لمعاوية .. أمَّا إذا قلنا ـ على حسب ما نرى ـ إنه رجلٌ مجتهد اجتهد وأخطأ ، فله أجر الاجتهاد ، ولا يستلزم ذلك أن نحمِّله ما جرى ، وهذا يدلُّ على أن أهل السنّة تقدِّس الإمام الحسن ( عليه السلام ) أكثر من الشيعة ..
    قال الشيخ معتصم : لم أفهم ما هو وجه الملازمة بين أن يكون الإنسان معصوماً ، وبين أن نحمِّله ذنب الآخرين.


(637)
    قال الدكتور عمر مسعود : أنا لم أقل ذلك على إطلاقه ، وإنما بخصوص حادثة محدودة ، وهذه الحادثة غيَّرت مسار الأمّة الإسلاميّة ، فالملازمة موجودة ، فإذا لم يصالح الإمام الحسن ( عليه السلام ) وثار كما ثار أخوه الحسين ( عليه السلام ) لكان مصير الأمَّة غير الذي كانت عليه ، بل كان بإمكانه أن يجلس في بيته كما فعل عبدالله بن عمر وغيره ، ولا يصالح ولا يبايع.
    قال الشيخ معتصم : أولا : هذا الكلام خلاف الفرض ، فإذا ثبتت عصمته فيكون كل ما يفعله هو عين الصواب ، سواء صالح أو حارب ، والمعصوم لا يحاسب.
    ثانياً : هناك مهم وأهم ، وتزاحم في المصالح ، فحكم الإمام الحسن ( عليه السلام ) مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة ، فصلح الإمام ( عليه السلام ) هو تقديم مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة حكمه (1) ، خاصة أن الظروف كانت تعاكسه تماماً بعد أن خذله جماعته ، وهرب منه قادة جيشه ، كما حدث لنبيِّ الله هارون ( عليه السلام ) عندما جعله موسى ( عليه السلام ) خليفة على بني إسرائيل ، فأضلّهم السامريُّ ، وعبدوا العجل ، فصبر هارون على ذلك لمصلحة عدم التفريق بين بني إسرائيل ، قال تعالى : ( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) (2).
1 ـ روى أبو الحسن المدائني ، قال : خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن ( عليه السلام ) له ، فأرسل معاوية إلى الحسن ( عليه السلام ) يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج ، فقال الحسن : سبحان الله ! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمَّة وألفتهم ، أفتراني أقاتل معك ! راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/14.
2 ـ سورة طه ، الآية : 94.


(638)
    قال الدكتور : هذا الكلام ضعيف جداً ، ويمكن أن يقال كتبرير لاجتهاده الخاطئ إذا قلنا بالرأي الثاني ، إنّه اجتهد وأخطأ ، وسبب اجتهاده وخطأه هو ما ذكرته ، فكلامك ينسجم مع القول الثاني لا القول بالعصمة.
    قال الشيخ معصتم : .. ولكن هذا لا ينفي أن يكون معصوماً ، خاصة أنّ عصمته ثابتة بالقرآن والسنة وبحكم العقل ، وبعد ثبوت العصمة لا يمكن أن يقدح فيها لوجود حادثة لم تفهم مقاصدها ، وإلاَّ يعتبر خلفاً.
    قال الدكتور : خُلف بالنسبة لكم ، أمَّا نحن فلا نسلِّم بالعصمة.
    قال الشيخ معتصم : إذن يتحدَّد النقاش ويتعيَّن في مسألة العصمة والأدلّة عليها ، أمَّا صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) فلا يكون كافياً لإثبات العصمة أو نفيها ، وخاصَّة أنه كان صلح المغلوب على أمره ، وليس هو كعبد الله بن عمر ، فإنّ عبدالله لا يشكِّل خطراً على الدولة الأمويّة كالإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ولذلك كان أخذ البيعة منه من أهمِّ الأمور ، حتى وإن لم يبايع كل المسلمين ، فبالتالي لا يكون هنالك ملازمة بين صلحه وما جرى على المسلمين في العهد الأموي ; لأنه لا خيار غيره.
    قال الدكتور : هذا الكلام غير مقنع وكاف ، وكل الشيعة يقولون بالظروف.
    وفي هذه الأثناء دخل عينا الدكتور أبشر العوض ، وهو متخصِّص في علم الحديث ، وقد كان أستاذي في الجامعة في علم مصطلح الحديث ، فما إن رآني حتى سلَّم عليَّ ببشاشة ، وقال : أين هذه الغيبة الطويلة ؟
    وقبل أن أجيب تدخَّل الدكتور عمر قائلا : معتصم الآن صار من الشيعة الكبار ، وقد درس في الحوزة العلميّة ، وله كتاب اسمه « الحقيقة الضائعة ».
    قال الدكتور أبشر : وما هي المواضيع التي تناقشها في هذا الكتاب ؟


(639)
    قلت : موضوعه هو الخلاف بين السنّة والشيعة ، وقد أثبتُّ فيه ممَّا لا يدع مجالا للشك أن الشيعة هي الطائفة المحقّة ، وغيرها باطل وضلال.
    وهنا تدخَّل الدكتور عمر قائلا : أيّ فرقة في الشيعة تقصد ؟ الزيديّة ، أم الإماميّة ، أم الإسماعيليّة ؟ فالفرق الشيعيّة متعدِّدة ، فأيُّها الحقُّ ؟
    قال الشيخ معتصم : سماحة الدكتور ! بغضّ النظر عن هذه التفاصيل ، فنحن الآن أمام إطار عام وعناوين مجرّدة ، وبعد تجاوزها يكون المجال مفتوحاً لمناقشة التفاصيل ، والإطار العام هو وجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) والأخذ عنهم ، ويمكننا أن نثبت هذا الإطار بشتّى الطرق ، سواء كان قرآناً أو سنّة ، ويكفيك مفارقة واحدة بين السنّة والشيعة ، وهو أخذ الشيعة بحديث : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي (1) ، وتمسّك أهل السنة بحديث « كتاب الله وسنّتي » وهذا الشاهد كاف في الحكم بأحقّيّة الشيعة ، وبطلان أهل السنّة في هذه الحيثيّة ، وهكذا يمكن أن نتدرَّج في بقيَّة المسائل.
    وهنا واصل الدكتور عمر قائلا : إنّ حديث العترة نؤمن به ، ولكن لا نفهم منه ما فهمته الشيعة ، فإنّ الحديث يدلّ على التمسُّك بالقرآن فحسب.
    قال الشيخ معتصم : قلت : سبحان الله ! إنّ واو العطف في الحديث واضحة « كتاب الله وعترتي » هذا بالإضافة إلى قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الثقلين » ، « ما إن تمسَّكتم بهما ».
    عارضني قائلا : ليس كل واو دالة على العطف ، فإن للواو معاني عدَّة ، ولقد
1 ـ تقدَّمت تخريجاته.

(640)
كتبت رسالة خاصة في هذا المورد.
    قال الشيخ معتصم : لا خلاف في ذلك ، ولكن معنى كل حرف يعرف من خلال السياق العام للجملة ، فسياق الحديث واضح في العطف في قوله « الثقلين » ، و « ما إن تمسَّكتم بهما » كافية لإثبات المدّعى ، وهو وجوب اتباع أهل البيت ( عليهم السلام ).
    قال الدكتور : على العموم ، ليس لنا اعتراض على مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ونحن نعتقد أنّه الحقُّ ، ولكنّه لم يتعيَّن لنا ، ولو تعيَّن لكنت أول الناس اتّباعاً له.
    قال الشيخ معتصم : قلت : لماذا تتبعه ؟
    قال الدكتور : لأنّه الحقُّ.
    قال الشيخ معتصم : قلت : وما عليه أنت الآن ؟! فإذا كان مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) فقد تعيَّن لك ، وإن كان لا ، فإذن أنت على ضلالة ، بحكمك على نفسك.
    قال : هذه سفسطة !
    وفي هذه الأثناء استأذن الدكتور أبشر ، وأخذ يتحدَّث مع الدكتور عمر في موضوع جانبيٍّ ، فاستأذنته وخرجت ; لعلمي أنّه ليس هناك فائدة (1).

     كلمة في صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) وشروطه
    قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة : وأمَّا جنايات معاوية على ذلك الإمام
1 ـ هذه المناظرات أخذناها من كتاب ( حوارات ) للكاتب السوداني المستبصر ، الفاضل الشيخ معتصم السيّد أحمد السوداني.

(641)
المطهَّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام ، فهو الذي باينه وحاربه ، وانتزع حقَّه الثابت له بالنصِّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام ( عليه السلام ) له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين. إلى أن قال :
    فعهد إليه ( عليه السلام ) أن لا يسبَّ أباه ( عليه السلام ) على منابر المسلمين ، وقد سبَّه وجعله سنّة متبعة في الحواضر الإسلاميّة كلِّها ، وعهد إليه أن لا يتعرَّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتلهم تقتيلا ، واستقرأهم في البلاد تحت كل حجر ومدر ، فطنَّب عليهم الخوف في كل النواحي ، بحيث لو كان يقذف الشيعيُّ باليهوديَّة لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام الله عليه.أبي تراب سلام الله عليه.
    وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده ...
    ولمَّا تصالحا كتب به الحسن ( عليه السلام ) كتاباً لمعاوية صورته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي ( عليهما السلام ) معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنَّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، إلى أن قال : وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم و أموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى بالله


(642)
شهيداً (1).
    فلمَّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة ! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ؟ وقد علمت أنكم تصلُّون وتزكُّون وتحجُّون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ) : وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين (2) (3).
1 ـ الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 209 ـ 210 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 2/425 ـ 426 ح 193 ، كشف الغمّة ، الإربلي : 2/193.
2 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/14 ـ 15 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 45.
3 ـ الغدير : الأميني : 11/5.


(643)
     المناظرة التسعون
مناظرة
أم محمّد علي المعتصم السودانيّة
مع خالها وقصّة تشيُّعها
    وطرق التشيُّع بابنا
    الأستاذة السيِّدة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة تحكي عبر هذا الحوار العلميِّ والموضوعيِّ والشيِّق مع خالها الشيعي قصة تشيُّعها وأخذها بمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حاكية في بداية البحث ما انتابها من الهواجس والتفكير والحيرة في شأن التعرُّف على العقيدة الحقّة واتّخاذ القرار.
    قالت في كتابها القيِّم ( من حقّي أن أكون شيعيّة ) : وفي غمرة تلك الهواجس التي تتزاحم على خاطري كان في بيتنا ازدحام من نوع آخر ، فقد بدأ الأهل بحزم أغراضهم بقصد السفر إلى قريتنا في شمال السودان ، فهناك مناسبة زواج ابن عمّي ، وفي تلك المناسبة تجتمع كل العائلة قادمة من كل مدن السودان ، فظروف العمل تفرّق البيت الواحد ، وتفصل الأحبّة عن الأحبّة ، خاصّة أن المسافات في السودان بين المدن كبيرة ، ويتعسّر على الأهل مقابلة بعضهم إلاَّ في بعض المناسبات.


(644)
    ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في أعماقي ، وأزهرت الحياة من جديد في ناظري ، وفي طول الطريق لم أفكِّر إلاَّ في أخوالي وأعمامي وخالاتي وعمَّاتي ، لعلَّ بين أحضانهم الدافئة أطفي آلام الألم والشك والحيرة ، ولعلَّ ذكريات الطفولة بين بيوتات القرية االقديمة الواقعة بين ضفاف النيل وخضرة النخيل ، وبين السلسلة الجبليّة كأنه عقد التفَّ حول عنقها ليجعل منها عروساً للنيل ، أو يجعلها آية لسحر الطبيعة الفاتنة التي تجلَّى الباري في صنعها ، فلعل روحي تعشق جمال الخالق ، وتسرح به بعيداً فتنتابها جذبة صوفيٍّ تنكشف معه الحقيقة.
    ثمَّ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وانكسرت تلك الريشة التي كادت أن ترسم لي عطلة بعيدة عن كل ما يهيج نفسي ، فصراع الأديان وصراع النفس مع الاختيار لم أكن أتوقَّع أن يلحقني في تلك القرية النائية ويطرق باب بيتنا ، ومن الطارق ياترى ؟ شيء غير مألوف .. وشخص غير معروف .. من .. ؟ الشيعة .. نحن في السودان ، ليس في النجف أو طهران ... أم مع تغيُّر الزمان تتغيَّر أيضاً البلدان ؟
    لا .. لم تتغيَّر البلدان ، والطارق من السودان ، فهو خالي ، ومجموعة أخرى من أقاربي ، فقد كان صادق إحساسي ، فالتغيُّر الذي لا حظته في خالي في سلوكه وكلامه لم يكن معهوداً ، فقد كان شابّاً عصريّاً منفتحاً على الحياة ، كل ما كان يشغله دراسته الجامعيّة ، فتبدّلت تلك الصورة بهذه الصورة ناسكاً عابداً ، لا يتحدَّث إلاَّ في أمر الدين.
    فقلت : أصدقني القول يا خالي ، أهو الدين الذي غيَّر ذاك الحال ؟
    قال : الشيعة.
    قلت : ماذا ؟


(645)
    قال : الشيعة.
    نعم. الشيعة .. فكانت تلك الكلمات هي صوت دقَّات الباب.

     من هم الشيعة
    استرسل خالي في الحديث مبِّيناً من هم الشيعة ، واضعاً إصبعه على أسس الخلاف بينهم وبين أهل السنّة ، ومدى أحقّيّتهم في هذا الخلاف ، فقد كنت لا أعرف عنهم إلاَّ أنهم هم الذين يدّعون بأن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد وفاته لم يترك الأمر شورى ، وإنّما قام بتعيين الإمام علي ( عليه السلام ) الشرعي.
    فقد أكَّد خالي أنّ الخلاف المذهبي هو خلاف في عمق آليات الفهم الدينيِّ ، ولذا كان إيمان الشيعة بأهل البيت ( عليهم السلام ) كمرجعيَّة معصومة لقطع الطريق أمام دواعي الخلاف الدينيِّ ، فالضرورة العقليّة قاضية بأن وحدة المرجعيَّة هي كفيلة بجمع الصفوف وحلِّ التباين ، فإذا كان الله حريصاً على هداية الناس ـ وهو كذلك ـ فقد أرسل الأنبياء والرسل وأيَّدهم بمعجزاته حرصاً على هداية الناس ، فلمَّا تجاهل هذه الحقيقة العقليَّة الحاكمة بضرورة وجود مرجعيَّة معصومة ، ألا يكون لنا حجَّة يوم القيامة إذا سألنا عن سبب تفرُّقنا إلى مذاهب ; بأن نقول : لم تجعل لنا علماً هادياً نقتدي به ونلجأ إليه ، كما كان يفعل الصحابة في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    فجوهر الخلاف بين السنّة والشيعة في هذه النقطة المحوريّة ، حيث يدّعي الشيعة أن حكمة الله تقتضي أن ينصب لنا الله إماماً من بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ألا تجدين في نفسك إن كان هناك ـ مثلا ـ عشرة أشخاص ينوون القيام بعمل ما ، فإن كان هناك قائد من بينهم يلجأون إليه ، ويأتمرون بأمره ، ألا يكفل
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس