مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 661 ـ 675
(661)
تحتّم دخول الرسول معهم ـ وهو الحاكم المطاع ـ فتخرج الشورى حينها عن موضوع تعيين الحاكم كما تقدَّم في الآية الأولى ، فتكون الآية حثَّت على الشورى فيما يمتُّ إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمرهم.
    أمَّا كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهذا هو أوَّل الكلام ، وعلى أقل تقدير إذ لا ندري هل أن أمر الإمام هو من شؤون المؤمنين أم من شؤون الله سبحانه ، ومع هذا الترديد لا يصحُّ التمسُّك بالآية.
    فهذه الآيات التي ذكرتيها لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور بين المؤمنين في أمورهم ، كما أن التشاور لا يمكن أن يكون في القضايا التي ورد فيها تحديد شرعيٌّ ، فليس لأحد صلاحيَّة في قبالة تشريعات الله ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) ، وقال : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ) (2).
     ... فالآيتان أجنبيَّتان تماماً عن موضوع القيادة ، وبالتالي دليلك هذا ساقط ، ولا ينهض بأيِّ حال من الأحوال لإثبات المدَّعى .. أليس كذلك ؟!
    قلت : هذا الكلام يبدو في ظاهره وجيهاً ، مع أنّه يشوبه نوع من الغرابة ، فلم أسمع من قبل بمثل هذا الاستدلال ، ولكن كل ما أفهمه أنّ اختلاف أمَّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رحمة.
1 ـ سورة القصص ، الآية : 67.
2 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 36.


(662)
     حديث اختلاف أمَّتي رحمة
    عذراً يا عزيزتي ! إنّ الحديث الذي ذكرتيه ليس بهذا الفهم ، والوارد في تفسيره عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ـ كما جاء في كتاب اسمه علل الشرائع ـ أنه قيل للإمام الصادق ( عليه السلام ) : إن قوماً يروون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : اختلاف أمَّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقيل : إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال ( عليه السلام ) : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول الله عزَّ وجلَّ : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) واختلاف أهل البلدان إلى نبيِّهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمَّ من عنده إلى بلادهم رحمة .. فالاختلاف في البلدان لا في الدين ، لأن الدين واحد (2).
    وهذا ما تؤكِّده كتب اللغة ، فقد جاء في المنجد : اختلف إلى المكان : تردّد ; أي جاء المرَّة بعد الأخرى ، وهذا ما يقبله العقل والشرع ، قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (3) ، وقوله تعالى : ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (4) ، وقال : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (5) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (6).
1 ـ سورة التوبة ، الآية : 122.
2 ـ علل الشرائع ، الصدوق : 1/85 ح 4 ، معاني الأخبار ، الصدوق : 157 ح 1.
3 ـ سورة آل عمران ، الآية : 103.
4 ـ سورة الأنفال ، الآية : 46.
5 ـ سورة الصف ، الآية : 4.
6 ـ سورة الحجرات ، الآية : 4.


(663)
     الديمقراطيَّة مبدأ إسلاميٌّ وعقلائيٌّ
    قلت : حسناً يا خالي ! إذاً أنتم الشيعة الإماميّة لا تعترفون بمبدأ الشورى في الفكر الإسلاميِّ ، وإذا كان الأمر كذلك فلم المصلحون والمجدِّدون يقولون : إن بنيان الحكم في الإسلام مبنيٌّ على أسس الديمقراطيَّة ، وحريَّة الرأي والتعبير ، ولم يكن ذلك من فراغ ، وإنما استناداً للطريق الذي شرَّعه الإسلام لانتخاب الحاكم بالشورى والاختيار الحرِّ ، وهذا ما أجمع عليه كل العقلاء ، مسلمون وغير مسلمين ؟
    خالي : أوَّلا : إنّ الديمقراطية بصورتها الحاليَّة لم تكن هي المبدأ الذي اتفق عليه كل العقلاء.
    وثانياً : إنّ الديمقراطيَّة بالفهم الإسلاميِّ هي رقابة مشتركة بين الحاكم والرعيَّة من أجل تطبيق قيم ومبادئ سامية ، وليست هي الفوضى التي تنتج من الاتباع المطلق لرغبات الشعب ، وإنما هي مساعي مشتركة بين الحاكم والرعيَّة لتطبيق شرع الله.
    ثالثاً : إنّ الديمقراطية يمكن أن تقبل في إطار خاص وليس مطلقاً ، أي في الأمور التي تعتبر من اختصاصات البشر ، لا في الأمور التي هي من شأن الله سبحانه وتعالى ، فالحاكميَّة الحقيقيَّة لله تعالى ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) ، والله هو الخالق ، والخالق مالك ، والمالك هو الحاكم ، ولا يجوز للمملوك أن يتصرَّف في حقِّ المالك إلاّ بإذن المالك ، وقد جرت سنّة الله سبحانه وتعالى باصطفاء الخلفاء
1 ـ سورة الأنعام ، الآية : 57.

(664)
والحكّام الذين يمثلِّون حكومته في الأرض ، قال تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2) وقال : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وهذا غير الآيات التي تحدَّثت عن اصطفاء الله للخلفاء ، فأمر الحكم هو من اختصاص الله عزّ وجلَّ ، فلا تجري فيه الديمقراطيَّة.

     الديمقراطيَّة لا تصلح في المجتمع القبلي
    رابعاً : ولو سلّمنا جدلا أنّ الديمقراطيَّة يمكن أن تكون طريقاً لاختيار الحاكم ، لكنّها لا تفيد مع ذلك المجتمع الجاهلي الذي لم يعرف في طول تأريخه معنى الشورى ، فإنّ الأنظمة التي كانت سائدة هي الأنظمة القبليّة ، والتقسيمات العشائريّة ، التي لا تعترف إلاَّ بقانون القوَّة.
    قلت : لكنَّ النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سعى سعياً حثيثاً لمحو الروح القبليّة ، وإذابة الفوارق العشائريّة ، وجمع ذلك الشتات في بوتقة الإيمان الموحّد.
    خالي : نعم هذا صحيح ، ولكن ليس من الممكن أن ينقلب النظام القبلي في مدّة ثلاثة وعشرين عاماً إلى نظام موحَّد إسلاميٍّ ، فقد كان لا يرى إلاّ الانتساب إلى القبليَّة فخراً له ، والأدلة على ذلك كثيرة ، فقد نقل البخاري في صحيحه : ( تنازع مهاجريٌّ مع أنصاريٍّ ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار ! وصرخ المهاجري : يا معشر المهاجرين ! ولمَّا سمع النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : دعوها فإنّها
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 30.
2 ـ سورة الأنبياء ، الآية : 73.
3 ـ سورة البقرة ، الآية : 124.


(665)
منتنة (1).
    ولولا قيادته الحكيمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ، وكم حدثت أمثال تلك الحوادث ، حتى قال فيهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا معشر المسلمين ! أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم (2) وحتّى تتأكَّد ممَّا قلته لك ارجع إلى أيِّ كتاب في التأريخ ، لترى الصورة الحقيقيَّة للمجتمع الأول ، ولا تفهم من ذلك أنّي أشكِّك في مجتمع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكل ما أقصده أنّ النظرة المثاليّة ليست واقعيّة.
    قلت : ليس كلّ ما جاء في كتب التأريخ حقيقة.
    خالي : عفواً ! لا تعتمدي على الكلمات المطلقة ، ليس كل ما في التأريخ حقيقة ، هذا الكلام عليك وليس معك ; لأنّ السلف الذين تدافعين عنهم أنتِ لم تعيشىِّ معهم ، وكل ما تعرفينه عنهم هو عبر التأريخ ، هذا أوَّلا.
    وثانياً : إنّ هنالك روايات في الصحاح التي تعترفون بصحّتها تكشف أن المجتمع الأول لم يكن مثاليّاً كما تتخيَّلين ، وإليك هذه الحادثة التي جاءت في صحيح البخاري في قصة الإفك كمثال وليس حصراً :
    قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو على المنبر : يا معشر المسلمين ! من يعذرني في رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلاَّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلاَّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاَّ معي.
    قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال : أنا ـ يا
1 ـ صحيح البخاري : 4/160 و 6/65 ـ66.
2 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 1/149 ، سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ابن هشام : 2/397 ، فتح القدير ، الشوكاني : 1/368.


(666)
رسول الله ـ أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.
    قالت عائشة : فقام رجل من الخزرج ، وهو سعد بن عبادة ، وهو سيِّد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن احتملته الحميَّة ، فقال سعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
    فقال أسيد بن حضير ـ وهو ابن عم سعد بن معاذ ـ لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ، لتقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
    قالت عائشة : فصار الحيَّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائم على المنبر ، ولم يزل رسول الله يخفضهم ( أي يهدِّئهم ) حتى سكتوا (1).
    فعليك أن تتدبَّر ، هذا هو الحال ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينهم ، فكيف الحال بعد وفاته ؟!
    واسمحي لىِّ أن أتجاسر قليلا وأقول لك : إنّ فرض الديمقراطية في مثل هذا المجتمع هرطقة فاضحة.
    وذلك لأنَّ العمليّات الانتخابيّة التي يفترض إجراؤها تحت مظلّة الديمقراطيَّة تستلزم وعياً ، ونظراً للمصالح والمفاسد ، وتقويماً للطرق السليمة التي تفيد المجتمع في ارتقائه وتكامله ، وتجربة في الحياة السياسيّة ، وهذا كلُّه يستدعي أرضيَّة ثقافيَّة وفكريَّة نشطة لدى أبناء الشعب ، وفي غير تلك الصورة
1 ـ صحيح البخاري : 5/58 و 6/7 ـ 8.

(667)
يكون فرض الديمقراطيَّة ضرباً من اللاواقعيَّة.
    قلت : بقدر ما أنك تجد شواهد على بدويَّة ذلك المجتمع ، فإنّ الشواهد على وجود نماذج طيِّبة كثيرة جداً في التأريخ ، وليس من الإنصاف أن تتمسَّك بالشواهد السلبيَّة دون الإيجابيَّة ، فمجرَّد وجود تلك النماذج الإيجابيَّة كاف لصيرورة نظام الشورى.
    خالي : أنا لا أنكر تلك النماذج الإيجابيَّة ، بل أفتخر بها ، ولكن ليس هذا مربط الفرس ، فإن القضيَّة تدور مدار الشرعيَّة للشورى ، والمدَّعى قائم على نفي الشرعيَّة عنها ; إذ لا يعقل أن تكون الشورى هي الطريق الذي حدَّده الشرع ، في حين أنه لا توجد رواية واحدة عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتحدَّث فيها عن الشورى ، وهذا خلاف المفترض ، حيث كان من اللازم أن يبيّن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كيفيَّة الشورى وحدودها وآلياتها ، في حين أنّ الأحاديث التي تتحدَّث عن السواك وفوائده لا تقلُّ عن الخمسة والثلاثين حديثاً.

     خلافة أبي بكر والإجماع
    قلت : في كلامك نسبة كبيرة من الوجاهة ، وقد يصل إلى حدِّ الإقناع لو لا أنه معارض بإجماع الصحابة الذين استقرَّ رأيهم على خلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، وقد أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا الإجماع الشرعيَّة بقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تجتمع أمَّتي على الخطأ (1).
    خالي : بغضّ النّظر عن الكلام حول حجّيّة الإجماع والنقاش الدائر حوله ،
1 ـ تقدمت تخريجاته.

(668)
فإن إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر لا يخلو من إشكال ; لأنّ القدر المتيقّن من حجّيّة الإجماع هو الإجماع غير المخروق ; أي الإجماع الذي لم يخالفه مخالف ، وهذا غير متحقّق.
    قلت : إنّ الإجماع ينعقد برؤوس القوم وزعمائهم ، وهذا متحقِّق ، ولا عبرة بغيرهم.
    خالي : إنّ الذين تخلَّفوا عن بيعة أبي بكر لم يكونوا من صغار القوم كما زعمت ، بل هم أعاظم الصحابة (1) ، وإليك منهم على سبيل المثال لا الحصر :
1 ـ قال اليعقوبي في تأريخه : 2/124 في الأحداث التي جرت بعدما بويع لأبي بكر : وجاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم وقال : يا معشر بني هاشم ! بويع أبو بكر ، فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمّد ، فقال العباس : فعلوها وربِّ الكعبة.
    وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في عليٍّ ، فلمَّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس ـ وكان لسان قريش ـ فقال : يا معشر قريش ! إنه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال :
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن أوَّل الناس إيماناً وسابقة وآخر الناس عهداً بالنبيِّ ومن من فيه ما فيهم لا يمترون به عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن وأعلم الناس بالقرآن والسنن جبريل عون له في الغسل والكفن وليس في القوم ما فيه من الحسن
    وتخلَّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد ابن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب.
    فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي ؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم ، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ، إلى أن قال : فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً ، فوليت ذلك .. ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عمَّ رسول الله .. وقال عمر بن الخطاب : إي والله ، وأخرى أنا لم نأتكم لحاجة إليكم ، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم.
    فردَّ عليه العباس ، فكان من كلامه له : فإن كنت برسول الله فحقاً أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، فما تقدمنا في أمرك ، ولا حللنا وسطاً ، ولا برحنا سخطاً ، وإن كان هذا الأمر إنَّما وجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين ، إلى أن قال : فأمَّا ما قلت إنّك تجعله لي ، فإن كان حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض ، وعلى رسلك ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها ، فخرجوا من عنده.


(669)
فروة بن عمرو ، وهو ممّن تخلّف عن بيعة أبي بكر ، وكان ممّن جاهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان يتصدّق من نخله بألف ساق كل عام ، وكان سيِّداً ، وهو من أصحاب علي ، وممّن شهد معه يوم الجمل .. (1) ، وجاء في أسد الغابة : شهد العقبة وبدراً وما بعدهما (2).
    وممّن تخلّف أيضاً خالد بن سعيد الأموي ، وهو ممَّن أسلم قديماً فكان ثالثاً أو رابعاً ، وقيل : خامس من أسلم ، وقال ابن قتيبة في المعارف : أسلم قبل إسلام أبي بكر (3) .. وسعد بن عبادة ، وحذيفة بن اليمان ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو بريدة الأسلمي ، وسهل بن حنيف ، وقيس بن سعد ، وأبو أيوب الأنصاري ، وجابر بن عبدالله .. وغيرهم ، وكل هؤلاء من الصحابة العظماء كما تعلم ، هذا بالإضافة إلى أبي ذر وسلمان والزبير وأبيّ بن كعب والمقداد بن الأسود (4).
1 ـ وقد ذكر ذلك الزبير بن بكار في الموفقيات : 590.
2 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/178.
3 ـ المعارف ، ابن قتيبة : 128.
4 ـ قال اليعقوبي في تأريخه : 126 : وكان فيمن تخلَّف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب ، وقال : أرضيتم ـ يا بني عبد مناف ـ أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم ؟ وقال لعلي بن أبي طالب : امدد يدك أبايعك ، وعلي معه قصي ، وقال :
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم فما الأمر إلاَّ فيكم وإليكم أبا حسن فاشدد بها كف حازم وإن امراً يرمي قصي وراءه ولا سيما تيم بن مرة أو عدي وليس لها إلاَّ أبو حسن علي فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي عزيز الحمى والناس من غالب قصي
    وكان خالد بن سعيد غائباً ، فقدم فأتى علياً فقال : هلمَّ أبايعك ، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمّد منك.
    واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له ، فقال لهم : اغدوا محلِّقين الرؤوس ، فلم يغد عليه إلاَّ ثلاثة نفر.


(670)
     بيعة علي ( عليه السلام ) لأبي بكر
    قلت : كلامك مقنع ، وقد تفاجأت فعلا بهذه الأسماء ، ولكنه معارض بمبايعة علي ( عليه السلام ) لأبي بكر ، وهذا كاف ; لأنه مدار الخلاف.
    خالي : لم تكن مبايعة علي ( عليه السلام ) لأبي بكر متفق عليها ، فقد تواتر في كتب التأريخ والصحاح والمسانيد تخلُّف علي ( عليه السلام ) ومن معه عن بيعة أبي بكر ، وتحصُّنهم بدار فاطمة ( عليها السلام ) (1).
    ومن ذلك ما رواه البلاذري ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي ( عليه السلام ) حين قعد عن بيعته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمَّا أتاه جرى بينهم كلام ، فقال عليٌّ ( عليه السلام ) لعمر : احلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته
1 ـ قال اليعقوبي في تأريخه : 126 : وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار ، وخرج عليٌّ ( عليه السلام ) ومعه السيف ، فلقيه عمر ، ودخلوا الدار ، فخرجت فاطمة فقالت : والله لتخرجنَّ أو لأكشفنَّ شعري ولأعجّنَّ إلى الله ! فخرجوا وخرج من كان في الدار.

(671)
اليوم إلاَّ ليؤثرك غداً (1).
    لذلك قال أبو بكر في مرض موته : أما إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاَّ على ثلاث فعلتهن وددت أنّي تركتهن ، إلى قوله : فأمّا الثالثة التي فعلتها فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد أغلقوه على حرب (2).
    وقد ذكر المؤرِّخون ممَّن دخل في دار فاطمة ( عليها السلام ) :
    1 ـ عمر بن الخطاب.
    2 ـ خالد بن الوليد.
    3 ـ عبدالرحمن بن عوف.
    4 ـ ثابت بن قيس.
    5 ـ زياد بن لبيد.
    6 ـ محمّد بن مسلمة.
    7 ـ زيد بن ثابت.
    8 ـ سلمة بن أسلم.
    9 ـ أسيد بن حضير.
    وقد ذكروا في كيفيَّة كشف بيت فاطمة ( عليها السلام ) أنه : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر ، منهم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) والزبير ، فدخلا بيت
1 ـ أنساب الأشراف ، البلاذري : 1/587.
2 ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : 75 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20/24 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/62 ، ح 43 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/418 ـ 422 ، تأريخ الطبري : 2/619 ، ميزان الاعتدال ، الذهبي : 3/109 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 4/189 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 5/631 ـ 632 ح 14113.


(672)
فاطمة ( عليها السلام ) ومعهما السلاح .. (1).
    وذكر المؤرِّخون أيضاً : قد بلغ أبا بكر وعمر أنّ جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليّاً ( عليه السلام ) ، فبعث إليهم أبو بكر عمر ليخرجهم من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم.
    فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يا بن الخطاب ! أجئت لتحرق دارنا ؟!
    قال عمر : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمَّة (2).
    وفي أنساب الأشراف : فتلقّته فاطمة ( عليها السلام ) على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب ! أتراك محرِّقاً عليَّ بابي ؟! قال عمر : نعم (3).
    وعلى ذلك أنشد حافظ إبراهيم شاعر النيل قائلا :
وقولة لعليٍّ قالها عمر حرَّقتُ دارك لا أبقي عليك بها ما كان غير أبي حفص يفوه بها أكرم بسامعها أعظم بملقيها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها أمام فارس عدنان وحاميها (4)
    قلت وأنا مندهشة : لم أسمع بهذا من قبل ، فهل يمكن أن تنقلب الأمَّة حتى على بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن ـ يا خالي ـ إذا تجاوزت هذه الحادثة ـ مع أنه ممّا لا يمكن تجاوزه ، وإنّما لفتح الباب أمام الحوار ـ وسلَّمتُ بما حدث ، فإنه لا
1 ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : 46 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/50 و 6/47.
2 ـ العقد الفريد ، ابن عبد ربِّه الأندلسي : 3/63 ـ 64 ط. الثانية ، وفي ط. أخرى : 5/13.
3 ـ أنساب الأشراف : 1/586.
4 ـ ديوان حافظ إبراهيم : 1/82 ، تحت عنوان : عمر وعلي ( عليه السلام ).


(673)
يتجاوز أن يكون موقفاً مخالفاً لموقف الصحابة الذين اجتمعوا في السقيفة ، وارتأوا الشورى حلاًّ ، وهذا ليس كافياً لسلب صحّة الشورى ، وأهل السنّة على هذا الرأي.

     أحداث السقيفة
    خالي : إن الكلام كان عن الإجماع ، وما ذكرته لك كاف لإبطاله ، هذا أوَّلا.
    وثانياً : إنّ الشورى بما هي شورى ليست حجّةً وغير ملزمة ، كما أثبتنا ذلك في أول الكلام.
    وثالثاً : إن الشورى لم تكن موجودة على المستوى العملي : فإنّ مجريات الأحداث لا توحي بوجود شورى.
    وإليك ما جاء في السقيفة من رواية عمر بن الخطاب ، قال : إنّه كان من خبرنا حين توفِّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا عليٌّ ( عليه السلام ) والزبير ومن معهما ، فقلتُ لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار ، فانطلقنا حتى أتيناهم ، فإذا رجل مزمّل ، فقالوا : هذا سعد بن عبادة يوعك .. فلمَّا جلسنا قليلا تشهّد خطيبهم فأثنى على الله ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ..
    فأراد عمر أن يتكلَّم عند ما سمع خطيب سعد بن عبادة ، لكنَّ أبا بكر منعه ، فتكلَّم هو ، يقول عمر : والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاَّ قال في بديهته مثلها أو أفضل ، حيث قال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يصرف عنكم هذا الأمر لهذا الحيِّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ; أي عمر وأبي عبيدة ، فبايعوا أيَّهما شئتم.


(674)
    وأخذ أبو بكر بيد عمر وبيد أبي عبيدة ، فقال قائلٌ من الأنصار : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجَّب .. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ..
    فكثر اللغط وارتفعت الأصوات.
    فخاف عمر من الاختلاف ، فقال لأبي بكر : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون ، ثمَّ بايعته الأنصار (1) ، وهذا مختصر ما جرى في السقيفة (2).

     عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ
    والأمر الأهمُّ من ذلك أنّ علياً ( عليه السلام ) لم يكن طرفاً في قبالة أهل الشورى كما زعمتِ ; لأنّ علياً ( عليه السلام ) ركن الحق والحقيقة ، والحق يدور معه حيثما دار.
    قلت : ولماذا الحق يدور مع علي حيثما دار ؟ هذا الكلام في غاية التهافت ، ولا يمكن أن يقبله جاهل فضلا عن عالم ، كيف يدور الحق مدار إنسان ، فإذا قبل هذا الكلام يمكن أن يقبل للرسل الذين عصمهم الله ، أمَّا في غيرهم فمخالف للشرع ، كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون (3) ،
1 ـ راجع : صحيح البخاري : 8/26 ـ 27 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 8/142 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/55 ـ 56 ، صحيح ابن حبان : 2/155 ـ 157 ، البداية والنهاية ، ابن كثير ، 15/266 ـ 267 ، سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ابن هشام : 4/1073 ـ 1074 ، تأريخ الطبري : 2/446 ـ 447 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/26 ـ 28 ، تأريخ اليعقوبي : 123.
2 ـ جاء في الهامش : وللتفصيل ارجعي إلى كتب التاريخ ، مثل الطبري في ذكره حوادث بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وابن الأثير ، ج2 ، ص 125 ، وتاريخ الخلفاء لابن قتيبة ، ج1 ، ص 5 ، وسيرة ابن هشام ، ج4 ، ص 336 ، وغيرها مثل : الطبقات ، وكنز العمال ، والعقد الفريد ، وتاريخ الذهبي ، واليعقوبي ، والموفقيات للزبير بن بكار ، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري ، وشرح نهج البلاغة.
3 ـ تقدَّمت تخريجاته.


(675)
وهذا من المسلّمات العقليَّة قبل الشرعيّة ، فإنّ العقلاء يجوِّزون الخطأ حتى على الرجال الذين بلغوا مستوى من الكمال البشرى.
    خالي : أولا : يا عزيزتي ! إنّ هذا الكلام ليس متهافتاً كما تفضّلت ; لأن العقل لا يمانع أن يكون الحق يدور مدار إنسان ، بل حتى الإمكان العلمي والعملي لا يخالف ذلك ، أمَّا على المستوى العقلي فإن العقل لا يحكم باستحالة شيء إلاَّ إذا رجع لمبدأ التناقض ، وهذه منتفية بالضرورة ، وأمَّا على المستوى العلمي فالعلم يقول إنّ في الإنسان قوَّة عقليَّة تدلّه للصواب ، وغرائز وشهوات تجرُّه للخطأ ، فإذا غلّب الإنسان قوَّته العقليَّة لا يمكن أن يرتكب الخطأ ، وأمَّا من الناحية العمليَّة يكفيك الأنبياء والرسل ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ، فليس في الأمر تهافت.
    وثانياً : إنّ هذا الكلام لا يخالف الشرع كما تفضَّلت ، قال تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ) (1) فإنّ الله يحاسب الإنسان على مثقال ذرة ـ وهي أصغر ما يمكن أن يعبَّر بها ـ من الشرّ ، فإذا كان الإنسان ليس قادراً على أن لا يرتكب مثقال ذرَّه فلماذا يحاسبه الله ؟ قال تعالى : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وسَعَها ) (2).
    فمعنى ذلك أن عدم ارتكاب الذرّة من الخطأ هي من سعة الإنسان واستطاعته ، وهذا دليل على أن كل إنسان يمكن أن يكون معصوماً ، وإذا سلَّمت بذلك كما هو واضح ، فهل ياترى لم يتحقَّق ذلك أبداً في طول التأريخ الإسلامي ؟
1 ـ سورة الزلزلة ، الآية : 8.
2 ـ سورة البقرة ، الآية : 286.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس