|
|||||||||
(661)
تحتّم دخول الرسول معهم ـ وهو الحاكم المطاع ـ فتخرج الشورى حينها عن موضوع تعيين الحاكم كما تقدَّم في الآية الأولى ، فتكون الآية حثَّت على الشورى فيما يمتُّ إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمرهم.
أمَّا كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهذا هو أوَّل الكلام ، وعلى أقل تقدير إذ لا ندري هل أن أمر الإمام هو من شؤون المؤمنين أم من شؤون الله سبحانه ، ومع هذا الترديد لا يصحُّ التمسُّك بالآية. فهذه الآيات التي ذكرتيها لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور بين المؤمنين في أمورهم ، كما أن التشاور لا يمكن أن يكون في القضايا التي ورد فيها تحديد شرعيٌّ ، فليس لأحد صلاحيَّة في قبالة تشريعات الله ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) ، وقال : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ) (2). ... فالآيتان أجنبيَّتان تماماً عن موضوع القيادة ، وبالتالي دليلك هذا ساقط ، ولا ينهض بأيِّ حال من الأحوال لإثبات المدَّعى .. أليس كذلك ؟! قلت : هذا الكلام يبدو في ظاهره وجيهاً ، مع أنّه يشوبه نوع من الغرابة ، فلم أسمع من قبل بمثل هذا الاستدلال ، ولكن كل ما أفهمه أنّ اختلاف أمَّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رحمة. 1 ـ سورة القصص ، الآية : 67. 2 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 36. (662)
حديث اختلاف أمَّتي رحمة
عذراً يا عزيزتي ! إنّ الحديث الذي ذكرتيه ليس بهذا الفهم ، والوارد في تفسيره عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ـ كما جاء في كتاب اسمه علل الشرائع ـ أنه قيل للإمام الصادق ( عليه السلام ) : إن قوماً يروون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : اختلاف أمَّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقيل : إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال ( عليه السلام ) : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول الله عزَّ وجلَّ : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) واختلاف أهل البلدان إلى نبيِّهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمَّ من عنده إلى بلادهم رحمة .. فالاختلاف في البلدان لا في الدين ، لأن الدين واحد (2). وهذا ما تؤكِّده كتب اللغة ، فقد جاء في المنجد : اختلف إلى المكان : تردّد ; أي جاء المرَّة بعد الأخرى ، وهذا ما يقبله العقل والشرع ، قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (3) ، وقوله تعالى : ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (4) ، وقال : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (5) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (6). 1 ـ سورة التوبة ، الآية : 122. 2 ـ علل الشرائع ، الصدوق : 1/85 ح 4 ، معاني الأخبار ، الصدوق : 157 ح 1. 3 ـ سورة آل عمران ، الآية : 103. 4 ـ سورة الأنفال ، الآية : 46. 5 ـ سورة الصف ، الآية : 4. 6 ـ سورة الحجرات ، الآية : 4. (663)
الديمقراطيَّة مبدأ إسلاميٌّ وعقلائيٌّ
قلت : حسناً يا خالي ! إذاً أنتم الشيعة الإماميّة لا تعترفون بمبدأ الشورى في الفكر الإسلاميِّ ، وإذا كان الأمر كذلك فلم المصلحون والمجدِّدون يقولون : إن بنيان الحكم في الإسلام مبنيٌّ على أسس الديمقراطيَّة ، وحريَّة الرأي والتعبير ، ولم يكن ذلك من فراغ ، وإنما استناداً للطريق الذي شرَّعه الإسلام لانتخاب الحاكم بالشورى والاختيار الحرِّ ، وهذا ما أجمع عليه كل العقلاء ، مسلمون وغير مسلمين ؟ خالي : أوَّلا : إنّ الديمقراطية بصورتها الحاليَّة لم تكن هي المبدأ الذي اتفق عليه كل العقلاء. وثانياً : إنّ الديمقراطيَّة بالفهم الإسلاميِّ هي رقابة مشتركة بين الحاكم والرعيَّة من أجل تطبيق قيم ومبادئ سامية ، وليست هي الفوضى التي تنتج من الاتباع المطلق لرغبات الشعب ، وإنما هي مساعي مشتركة بين الحاكم والرعيَّة لتطبيق شرع الله. ثالثاً : إنّ الديمقراطية يمكن أن تقبل في إطار خاص وليس مطلقاً ، أي في الأمور التي تعتبر من اختصاصات البشر ، لا في الأمور التي هي من شأن الله سبحانه وتعالى ، فالحاكميَّة الحقيقيَّة لله تعالى ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) ، والله هو الخالق ، والخالق مالك ، والمالك هو الحاكم ، ولا يجوز للمملوك أن يتصرَّف في حقِّ المالك إلاّ بإذن المالك ، وقد جرت سنّة الله سبحانه وتعالى باصطفاء الخلفاء 1 ـ سورة الأنعام ، الآية : 57. (664)
والحكّام الذين يمثلِّون حكومته في الأرض ، قال تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2) وقال : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وهذا غير الآيات التي تحدَّثت عن اصطفاء الله للخلفاء ، فأمر الحكم هو من اختصاص الله عزّ وجلَّ ، فلا تجري فيه الديمقراطيَّة.
الديمقراطيَّة لا تصلح في المجتمع القبلي رابعاً : ولو سلّمنا جدلا أنّ الديمقراطيَّة يمكن أن تكون طريقاً لاختيار الحاكم ، لكنّها لا تفيد مع ذلك المجتمع الجاهلي الذي لم يعرف في طول تأريخه معنى الشورى ، فإنّ الأنظمة التي كانت سائدة هي الأنظمة القبليّة ، والتقسيمات العشائريّة ، التي لا تعترف إلاَّ بقانون القوَّة. قلت : لكنَّ النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سعى سعياً حثيثاً لمحو الروح القبليّة ، وإذابة الفوارق العشائريّة ، وجمع ذلك الشتات في بوتقة الإيمان الموحّد. خالي : نعم هذا صحيح ، ولكن ليس من الممكن أن ينقلب النظام القبلي في مدّة ثلاثة وعشرين عاماً إلى نظام موحَّد إسلاميٍّ ، فقد كان لا يرى إلاّ الانتساب إلى القبليَّة فخراً له ، والأدلة على ذلك كثيرة ، فقد نقل البخاري في صحيحه : ( تنازع مهاجريٌّ مع أنصاريٍّ ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار ! وصرخ المهاجري : يا معشر المهاجرين ! ولمَّا سمع النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : دعوها فإنّها 1 ـ سورة البقرة ، الآية : 30. 2 ـ سورة الأنبياء ، الآية : 73. 3 ـ سورة البقرة ، الآية : 124. (665)
منتنة (1).
ولولا قيادته الحكيمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ، وكم حدثت أمثال تلك الحوادث ، حتى قال فيهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا معشر المسلمين ! أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم (2) وحتّى تتأكَّد ممَّا قلته لك ارجع إلى أيِّ كتاب في التأريخ ، لترى الصورة الحقيقيَّة للمجتمع الأول ، ولا تفهم من ذلك أنّي أشكِّك في مجتمع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكل ما أقصده أنّ النظرة المثاليّة ليست واقعيّة. قلت : ليس كلّ ما جاء في كتب التأريخ حقيقة. خالي : عفواً ! لا تعتمدي على الكلمات المطلقة ، ليس كل ما في التأريخ حقيقة ، هذا الكلام عليك وليس معك ; لأنّ السلف الذين تدافعين عنهم أنتِ لم تعيشىِّ معهم ، وكل ما تعرفينه عنهم هو عبر التأريخ ، هذا أوَّلا. وثانياً : إنّ هنالك روايات في الصحاح التي تعترفون بصحّتها تكشف أن المجتمع الأول لم يكن مثاليّاً كما تتخيَّلين ، وإليك هذه الحادثة التي جاءت في صحيح البخاري في قصة الإفك كمثال وليس حصراً : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو على المنبر : يا معشر المسلمين ! من يعذرني في رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلاَّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلاَّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاَّ معي. قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال : أنا ـ يا 1 ـ صحيح البخاري : 4/160 و 6/65 ـ66. 2 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 1/149 ، سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ابن هشام : 2/397 ، فتح القدير ، الشوكاني : 1/368. (666)
رسول الله ـ أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.
قالت عائشة : فقام رجل من الخزرج ، وهو سعد بن عبادة ، وهو سيِّد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن احتملته الحميَّة ، فقال سعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقال أسيد بن حضير ـ وهو ابن عم سعد بن معاذ ـ لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ، لتقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت عائشة : فصار الحيَّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائم على المنبر ، ولم يزل رسول الله يخفضهم ( أي يهدِّئهم ) حتى سكتوا (1). فعليك أن تتدبَّر ، هذا هو الحال ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينهم ، فكيف الحال بعد وفاته ؟! واسمحي لىِّ أن أتجاسر قليلا وأقول لك : إنّ فرض الديمقراطية في مثل هذا المجتمع هرطقة فاضحة. وذلك لأنَّ العمليّات الانتخابيّة التي يفترض إجراؤها تحت مظلّة الديمقراطيَّة تستلزم وعياً ، ونظراً للمصالح والمفاسد ، وتقويماً للطرق السليمة التي تفيد المجتمع في ارتقائه وتكامله ، وتجربة في الحياة السياسيّة ، وهذا كلُّه يستدعي أرضيَّة ثقافيَّة وفكريَّة نشطة لدى أبناء الشعب ، وفي غير تلك الصورة 1 ـ صحيح البخاري : 5/58 و 6/7 ـ 8. (667)
يكون فرض الديمقراطيَّة ضرباً من اللاواقعيَّة.
قلت : بقدر ما أنك تجد شواهد على بدويَّة ذلك المجتمع ، فإنّ الشواهد على وجود نماذج طيِّبة كثيرة جداً في التأريخ ، وليس من الإنصاف أن تتمسَّك بالشواهد السلبيَّة دون الإيجابيَّة ، فمجرَّد وجود تلك النماذج الإيجابيَّة كاف لصيرورة نظام الشورى. خالي : أنا لا أنكر تلك النماذج الإيجابيَّة ، بل أفتخر بها ، ولكن ليس هذا مربط الفرس ، فإن القضيَّة تدور مدار الشرعيَّة للشورى ، والمدَّعى قائم على نفي الشرعيَّة عنها ; إذ لا يعقل أن تكون الشورى هي الطريق الذي حدَّده الشرع ، في حين أنه لا توجد رواية واحدة عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتحدَّث فيها عن الشورى ، وهذا خلاف المفترض ، حيث كان من اللازم أن يبيّن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كيفيَّة الشورى وحدودها وآلياتها ، في حين أنّ الأحاديث التي تتحدَّث عن السواك وفوائده لا تقلُّ عن الخمسة والثلاثين حديثاً. خلافة أبي بكر والإجماع قلت : في كلامك نسبة كبيرة من الوجاهة ، وقد يصل إلى حدِّ الإقناع لو لا أنه معارض بإجماع الصحابة الذين استقرَّ رأيهم على خلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، وقد أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا الإجماع الشرعيَّة بقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تجتمع أمَّتي على الخطأ (1). خالي : بغضّ النّظر عن الكلام حول حجّيّة الإجماع والنقاش الدائر حوله ، 1 ـ تقدمت تخريجاته. (668)
فإن إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر لا يخلو من إشكال ; لأنّ القدر المتيقّن من حجّيّة الإجماع هو الإجماع غير المخروق ; أي الإجماع الذي لم يخالفه مخالف ، وهذا غير متحقّق.
قلت : إنّ الإجماع ينعقد برؤوس القوم وزعمائهم ، وهذا متحقِّق ، ولا عبرة بغيرهم. خالي : إنّ الذين تخلَّفوا عن بيعة أبي بكر لم يكونوا من صغار القوم كما زعمت ، بل هم أعاظم الصحابة (1) ، وإليك منهم على سبيل المثال لا الحصر : 1 ـ قال اليعقوبي في تأريخه : 2/124 في الأحداث التي جرت بعدما بويع لأبي بكر : وجاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم وقال : يا معشر بني هاشم ! بويع أبو بكر ، فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمّد ، فقال العباس : فعلوها وربِّ الكعبة. وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في عليٍّ ، فلمَّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس ـ وكان لسان قريش ـ فقال : يا معشر قريش ! إنه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال :
فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي ؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم ، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ، إلى أن قال : فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً ، فوليت ذلك .. ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عمَّ رسول الله .. وقال عمر بن الخطاب : إي والله ، وأخرى أنا لم نأتكم لحاجة إليكم ، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم. فردَّ عليه العباس ، فكان من كلامه له : فإن كنت برسول الله فحقاً أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، فما تقدمنا في أمرك ، ولا حللنا وسطاً ، ولا برحنا سخطاً ، وإن كان هذا الأمر إنَّما وجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين ، إلى أن قال : فأمَّا ما قلت إنّك تجعله لي ، فإن كان حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض ، وعلى رسلك ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها ، فخرجوا من عنده. (669)
فروة بن عمرو ، وهو ممّن تخلّف عن بيعة أبي بكر ، وكان ممّن جاهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان يتصدّق من نخله بألف ساق كل عام ، وكان سيِّداً ، وهو من أصحاب علي ، وممّن شهد معه يوم الجمل .. (1) ، وجاء في أسد الغابة : شهد العقبة وبدراً وما بعدهما (2).
وممّن تخلّف أيضاً خالد بن سعيد الأموي ، وهو ممَّن أسلم قديماً فكان ثالثاً أو رابعاً ، وقيل : خامس من أسلم ، وقال ابن قتيبة في المعارف : أسلم قبل إسلام أبي بكر (3) .. وسعد بن عبادة ، وحذيفة بن اليمان ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو بريدة الأسلمي ، وسهل بن حنيف ، وقيس بن سعد ، وأبو أيوب الأنصاري ، وجابر بن عبدالله .. وغيرهم ، وكل هؤلاء من الصحابة العظماء كما تعلم ، هذا بالإضافة إلى أبي ذر وسلمان والزبير وأبيّ بن كعب والمقداد بن الأسود (4). 1 ـ وقد ذكر ذلك الزبير بن بكار في الموفقيات : 590. 2 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/178. 3 ـ المعارف ، ابن قتيبة : 128. 4 ـ قال اليعقوبي في تأريخه : 126 : وكان فيمن تخلَّف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب ، وقال : أرضيتم ـ يا بني عبد مناف ـ أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم ؟ وقال لعلي بن أبي طالب : امدد يدك أبايعك ، وعلي معه قصي ، وقال :
واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له ، فقال لهم : اغدوا محلِّقين الرؤوس ، فلم يغد عليه إلاَّ ثلاثة نفر. (670)
بيعة علي ( عليه السلام ) لأبي بكر
قلت : كلامك مقنع ، وقد تفاجأت فعلا بهذه الأسماء ، ولكنه معارض بمبايعة علي ( عليه السلام ) لأبي بكر ، وهذا كاف ; لأنه مدار الخلاف. خالي : لم تكن مبايعة علي ( عليه السلام ) لأبي بكر متفق عليها ، فقد تواتر في كتب التأريخ والصحاح والمسانيد تخلُّف علي ( عليه السلام ) ومن معه عن بيعة أبي بكر ، وتحصُّنهم بدار فاطمة ( عليها السلام ) (1). ومن ذلك ما رواه البلاذري ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي ( عليه السلام ) حين قعد عن بيعته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمَّا أتاه جرى بينهم كلام ، فقال عليٌّ ( عليه السلام ) لعمر : احلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته 1 ـ قال اليعقوبي في تأريخه : 126 : وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار ، وخرج عليٌّ ( عليه السلام ) ومعه السيف ، فلقيه عمر ، ودخلوا الدار ، فخرجت فاطمة فقالت : والله لتخرجنَّ أو لأكشفنَّ شعري ولأعجّنَّ إلى الله ! فخرجوا وخرج من كان في الدار. (671)
اليوم إلاَّ ليؤثرك غداً (1).
لذلك قال أبو بكر في مرض موته : أما إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاَّ على ثلاث فعلتهن وددت أنّي تركتهن ، إلى قوله : فأمّا الثالثة التي فعلتها فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد أغلقوه على حرب (2). وقد ذكر المؤرِّخون ممَّن دخل في دار فاطمة ( عليها السلام ) : 1 ـ عمر بن الخطاب. 2 ـ خالد بن الوليد. 3 ـ عبدالرحمن بن عوف. 4 ـ ثابت بن قيس. 5 ـ زياد بن لبيد. 6 ـ محمّد بن مسلمة. 7 ـ زيد بن ثابت. 8 ـ سلمة بن أسلم. 9 ـ أسيد بن حضير. وقد ذكروا في كيفيَّة كشف بيت فاطمة ( عليها السلام ) أنه : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر ، منهم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) والزبير ، فدخلا بيت 1 ـ أنساب الأشراف ، البلاذري : 1/587. 2 ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : 75 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20/24 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/62 ، ح 43 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/418 ـ 422 ، تأريخ الطبري : 2/619 ، ميزان الاعتدال ، الذهبي : 3/109 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 4/189 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 5/631 ـ 632 ح 14113. (672)
فاطمة ( عليها السلام ) ومعهما السلاح .. (1).
وذكر المؤرِّخون أيضاً : قد بلغ أبا بكر وعمر أنّ جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليّاً ( عليه السلام ) ، فبعث إليهم أبو بكر عمر ليخرجهم من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم. فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يا بن الخطاب ! أجئت لتحرق دارنا ؟! قال عمر : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمَّة (2). وفي أنساب الأشراف : فتلقّته فاطمة ( عليها السلام ) على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب ! أتراك محرِّقاً عليَّ بابي ؟! قال عمر : نعم (3). وعلى ذلك أنشد حافظ إبراهيم شاعر النيل قائلا :
1 ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : 46 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/50 و 6/47. 2 ـ العقد الفريد ، ابن عبد ربِّه الأندلسي : 3/63 ـ 64 ط. الثانية ، وفي ط. أخرى : 5/13. 3 ـ أنساب الأشراف : 1/586. 4 ـ ديوان حافظ إبراهيم : 1/82 ، تحت عنوان : عمر وعلي ( عليه السلام ). (673)
يتجاوز أن يكون موقفاً مخالفاً لموقف الصحابة الذين اجتمعوا في السقيفة ، وارتأوا الشورى حلاًّ ، وهذا ليس كافياً لسلب صحّة الشورى ، وأهل السنّة على هذا الرأي.
أحداث السقيفة خالي : إن الكلام كان عن الإجماع ، وما ذكرته لك كاف لإبطاله ، هذا أوَّلا. وثانياً : إنّ الشورى بما هي شورى ليست حجّةً وغير ملزمة ، كما أثبتنا ذلك في أول الكلام. وثالثاً : إن الشورى لم تكن موجودة على المستوى العملي : فإنّ مجريات الأحداث لا توحي بوجود شورى. وإليك ما جاء في السقيفة من رواية عمر بن الخطاب ، قال : إنّه كان من خبرنا حين توفِّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا عليٌّ ( عليه السلام ) والزبير ومن معهما ، فقلتُ لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار ، فانطلقنا حتى أتيناهم ، فإذا رجل مزمّل ، فقالوا : هذا سعد بن عبادة يوعك .. فلمَّا جلسنا قليلا تشهّد خطيبهم فأثنى على الله ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط .. فأراد عمر أن يتكلَّم عند ما سمع خطيب سعد بن عبادة ، لكنَّ أبا بكر منعه ، فتكلَّم هو ، يقول عمر : والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاَّ قال في بديهته مثلها أو أفضل ، حيث قال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يصرف عنكم هذا الأمر لهذا الحيِّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ; أي عمر وأبي عبيدة ، فبايعوا أيَّهما شئتم. (674)
وأخذ أبو بكر بيد عمر وبيد أبي عبيدة ، فقال قائلٌ من الأنصار : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجَّب .. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ..
فكثر اللغط وارتفعت الأصوات. فخاف عمر من الاختلاف ، فقال لأبي بكر : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون ، ثمَّ بايعته الأنصار (1) ، وهذا مختصر ما جرى في السقيفة (2). عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ والأمر الأهمُّ من ذلك أنّ علياً ( عليه السلام ) لم يكن طرفاً في قبالة أهل الشورى كما زعمتِ ; لأنّ علياً ( عليه السلام ) ركن الحق والحقيقة ، والحق يدور معه حيثما دار. قلت : ولماذا الحق يدور مع علي حيثما دار ؟ هذا الكلام في غاية التهافت ، ولا يمكن أن يقبله جاهل فضلا عن عالم ، كيف يدور الحق مدار إنسان ، فإذا قبل هذا الكلام يمكن أن يقبل للرسل الذين عصمهم الله ، أمَّا في غيرهم فمخالف للشرع ، كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون (3) ، 1 ـ راجع : صحيح البخاري : 8/26 ـ 27 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 8/142 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/55 ـ 56 ، صحيح ابن حبان : 2/155 ـ 157 ، البداية والنهاية ، ابن كثير ، 15/266 ـ 267 ، سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ابن هشام : 4/1073 ـ 1074 ، تأريخ الطبري : 2/446 ـ 447 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/26 ـ 28 ، تأريخ اليعقوبي : 123. 2 ـ جاء في الهامش : وللتفصيل ارجعي إلى كتب التاريخ ، مثل الطبري في ذكره حوادث بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وابن الأثير ، ج2 ، ص 125 ، وتاريخ الخلفاء لابن قتيبة ، ج1 ، ص 5 ، وسيرة ابن هشام ، ج4 ، ص 336 ، وغيرها مثل : الطبقات ، وكنز العمال ، والعقد الفريد ، وتاريخ الذهبي ، واليعقوبي ، والموفقيات للزبير بن بكار ، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري ، وشرح نهج البلاغة. 3 ـ تقدَّمت تخريجاته. (675)
وهذا من المسلّمات العقليَّة قبل الشرعيّة ، فإنّ العقلاء يجوِّزون الخطأ حتى على الرجال الذين بلغوا مستوى من الكمال البشرى.
خالي : أولا : يا عزيزتي ! إنّ هذا الكلام ليس متهافتاً كما تفضّلت ; لأن العقل لا يمانع أن يكون الحق يدور مدار إنسان ، بل حتى الإمكان العلمي والعملي لا يخالف ذلك ، أمَّا على المستوى العقلي فإن العقل لا يحكم باستحالة شيء إلاَّ إذا رجع لمبدأ التناقض ، وهذه منتفية بالضرورة ، وأمَّا على المستوى العلمي فالعلم يقول إنّ في الإنسان قوَّة عقليَّة تدلّه للصواب ، وغرائز وشهوات تجرُّه للخطأ ، فإذا غلّب الإنسان قوَّته العقليَّة لا يمكن أن يرتكب الخطأ ، وأمَّا من الناحية العمليَّة يكفيك الأنبياء والرسل ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ، فليس في الأمر تهافت. وثانياً : إنّ هذا الكلام لا يخالف الشرع كما تفضَّلت ، قال تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ) (1) فإنّ الله يحاسب الإنسان على مثقال ذرة ـ وهي أصغر ما يمكن أن يعبَّر بها ـ من الشرّ ، فإذا كان الإنسان ليس قادراً على أن لا يرتكب مثقال ذرَّه فلماذا يحاسبه الله ؟ قال تعالى : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وسَعَها ) (2). فمعنى ذلك أن عدم ارتكاب الذرّة من الخطأ هي من سعة الإنسان واستطاعته ، وهذا دليل على أن كل إنسان يمكن أن يكون معصوماً ، وإذا سلَّمت بذلك كما هو واضح ، فهل ياترى لم يتحقَّق ذلك أبداً في طول التأريخ الإسلامي ؟ 1 ـ سورة الزلزلة ، الآية : 8. 2 ـ سورة البقرة ، الآية : 286. |
|||||||||
|