مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 691 ـ 705
(691)
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) (1) والمجيء دالٌ على أنّ الأمر بالبيعة معلَّق على مجيء المؤمنات طائعات.
    لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حق علي ( عليه السلام ) ـ كما أخرجه الطبري في الرياض النضرة ـ : يا علي ! إني أعلم ضغائن في صدور قوم سوف يخرجونها لك من بعدي ، أنت كالبيت تؤتى ولا تأتي ، إن جاءوك وبايعوك فاقبل منهم ، وإلاَّ فاصبر حتى تلقاني مظلوماً.
    فإذا كان هنالك قصور فهو من الذين لم يبايعوه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن في الأمر تزاحم مصالح ، فولاية علي ( عليه السلام ) مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة أخرى (2) ، فقدَّم عليٌّ مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة إمامته ، كما فعل نبيُّ الله هارون عندما عبد قومه العجل ، فلم يمنعهم حفاظاً على وحدة بني إسرائيل ، قال تعالى : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (3).
    قلت : إذاً بماذا تفسّر كلمة الإمام ( كرَّم الله وجهه ) التي جاءت في نهج البلاغة : وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمَّوه إماماً كان ذلك لله رضى ؟
    خالي : باختصار شديد أجيبك قائلا : إن ابن أبي الحديد المعتزلي هو أول من احتجّ بهذه الكلمة ، على أن صيغة الحكومة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مستندة إلى
1 ـ سورة الممتحنة ، الآية : 12.
2 ـ إن الدولة الإسلاميّة كانت مهدَّدة من المنافقين من جهة ، ودولة فارس والروم من جهة أخرى ، وهذا بالإضافة لما أخبر به القرآن الكريم من حوادث تقع بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كاية الانقلاب.
3 ـ سورة طه ، الآية : 94.


(692)
الاختيار ونظام الشورى ، وتبعه من تبعه ، ولكنّه غفل ـ أو بالأصحِّ تغافل ـ عن صدر الكلمة التي تعرب عن أن الاستدلال بالشورى من باب الجدل ، خضوعاً لقوله تعالى : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) فإن الإمام علياً ( عليه السلام ) بدأ كلمته ـ مخاطباً معاوية بن أبي سفيان ـ بقوله : أمَّا بعد ، فإنَّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردَّ ... إلى قوله : وإن طلحة والزبير بايعاني ثمَّ نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردِّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق ، ظهر أمر الله وهم كارهون .. فادخل فيما دخل فيه المسلمون (2).
    فقد ابتدأ أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) بخلافة الشيخين ، وذلك يعرب على أنه في مقام إسكات معاوية الذي خرج على إمام زمانه ، وقد أتمَّ ( عليه السلام ) كلمته بقوله : فإن اجتمعوا على رجل .. احتجاجاً بمعتقد معاوية ، بمعنى : ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم.
    وهذه هي الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : « أما والله لقد تقمَّصها (3) ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيّل ، ولا يرقى إليّ الطَّير (4) ، فسدلت (5) دونها ثوباً ،
1 ـ سورة النحل ، الآية : 125.
2 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/75 ، و 14/36 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 59/128 ، المناقب ، الخوارزمي : 202.
3 ـ الضمير عائد على الخلافة ، فهنا شبَّه الإمام علي ( عليه السلام ) خلافة أبي بكر كالذي لبس قميصاً ليس قميصه.
4 ـ تمثيل لسمو قدره ( عليه السلام ) ، وقربه من مهبط الوحي ، وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فإنما يتدفَّق من حوضه ، ثمَّ ينحدر عن مقامه العالي ، فيصيب منه من شاء الله.
5 ـ كناية عن غضّ نظره عن الخلافة ، وسدل الثوب : أرخاه.


(693)
وطويت عنها كشحاً (1) ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء (2) ، أو أصبر على طخية عمياء (3) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً (4) ، حتى مضى الأوَّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، ثم تمثّل بقول الأعشى :
شتّان ما يومي على كورها ويوم حيّان أخي جابر
    فيا عجباً ! بينا هو يستقيلها في حياته (5) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (6) ، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسُّها .. إلى أن يقول ( عليه السلام ) : فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيالله وللشورى ! متى اعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفُّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه (7) ، ومال الآخر لصهره (8) ، مع هن وهن (9) ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه .. (10).
1 ـ مال عن الخلافة ، وهو مثل لمن جاع ، فمن جاع طوى كشحه ، ومن شبع فقد ملأه.
2 ـ الجذّاء : المقطوعة ، ومراده ( عليه السلام ) هنا قلّة الناصر والمعين.
3 ـ الطخية : الظلمة ، ونسبة العمى إليها مجاز عقليٌّ ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.
4 ـ وهذا تأكيد منه ( عليه السلام ) بأنّ الخلافة حق ثابت له.
5 ـ إشارة لقول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم.
6 ـ وهي إشارة منه ( عليه السلام ) إلى تقسيم الخلافة بين أبي بكر وعمر.
7 ـ يشير ( عليه السلام ) إلى سعد بن أبي وقاص الذي صغى إلى ضغنه وهو عبد الرحمن بن عوف.
8 ـ يشير ( عليه السلام ) إلى عبد الرحمن بن عوف الذي مال إلى صهره وهو عثمان بن عفان.
9 ـ إشارة منه ( عليه السلام ) إلى أغراض أخر يكره ذكرها.
10 ـ يشير ( عليه السلام ) إلى عثمان وكان ثالثاً بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه ، ونافجاً حضنيه : رافعاً لهما ، والحضن : ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبِّر : جاء نافجاً حضنيه ، والنثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف ، أي أراد ( عليه السلام ) بقوله : لا همَّ له إلاَّ ما ذكره.


(694)
    إلى أن ختمها بقوله ( عليه السلام ) : أما والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتُم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (1).

     احتجاج السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
    تجمَّد فكري ، وعقدت الحيرة لساني ، فوضعت كلتا يديّ على رأسي ، ثمَّ قلت : كل هذا ونحن لا ندري ، أمرٌ لا يصدَّق.
    فلم يدعني خالي أرتاح قليلا ... حتى أنعش أعصابي فبادرني قائلا : هذا فيما يتعلّق باحتجاج أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ودعيني أقرأ عليك ممّا جاء عن احتجاج الزهراء ( عليها السلام ).
    خالي : بغضّ النّظر عمَّا جاء في المصادر الشيعيّة من استنكار أهل بيت العصمة والطهارة ( عليه السلام ) ، فقد ذكر أبو الفضل أحمد بن طيفور (2) ، وجاء في شرح ابن أبي الحديد في المجلَّد الرابع (3) ، وفي أعلام النساء لعمر رضا كحالة (4) ، قالت ( عليها السلام ) في خطبتها ـ التي كان أهل البيت ( عليهم السلام ) يلزمون أولادهم بحفظها كما يلزمونهم
1 ـ نهج البلاغة : 1/30 ، رقم الخطبة : 3 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/162.
2 ـ بلاغات النساء ، ابن طيفور : 20 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 120.
3 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/233.
4 ـ ج 3 ، ص 1208.


(695)
بحفظ القرآن ـ :
    « ويحهم ، أنّى زحزحوها (1) عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوَّة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبين (2) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين .. ومانقموا من أبي الحسن ؟! نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ، وتالله لو تكافأوا (3) على زمام نبذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليه لاعتلقه ، لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه (4) ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويّاً فضفاضاً (5) تطفح ضفّتاه ، ولا يترنّم جانباه ، ولأصدرهم بطاناً (6) ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ، غير متحلٍّ منهم بطائل ، إلاَّ بغمر الناهل (7) ، وردعه سورة الساغب (8) ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، ألا هلمَّ فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ، إلى أيِّ لجأ استندوا ؟! وبأيِّ عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا والله
1 ـ أي الخلافة.
2 ـ أي الخبير.
3 ـ التكافؤ : التساوي ، والزمام الذي نبذه إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ أي ألقاه إليه ـ في أمور دينها ودنياها ، والمعنى أنهم لو تساووا جميعاً في الانقياد بذلك الزمام والاستسلام إلى ذلك القائد العام ، لا عتلقه أي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح.
4 ـ سار بهم سيراً سجحاً أي سيراً سهلا ; ولا يكلم خشاشة أي لا يجرح أنف البعير ، والخشاش : عود يجعل في أنف البعير يشدُّ به الزمام ، ولا يتعتع راكبه ، أي لا يصيبه أذى.
5 ـ أي يفيض منه الماء.
6 ـ أي شبعانين.
7 ـ أي ريّ الظمآن.
8 ـ أي كسر شدّة الجوع.


(696)
الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ... إلى آخر الخطبة.
    بينما هو يقرأ أحسست برعشة تسري إلى جميع أجزاء بدني ، وجرت دمعة على خدّي .. وكيف لا أبكي وقد أحسست بأنفاس الزهراء الطاهرة ( عليها السلام ) تتسرَّب مع أنفاسي إلى أعماق نفسي ، فكانت تلك الكلمات حروفاً من نور تشعُّ في وجداني ، وربّ السماء والأرض لو أنكر أهل الدنيا جميعاً هذه الكلمات لعشت بها وحيدة في فيافي الأرض وقفارها ، أترنّم بأجراس كلماتها ، وترقص نفسي طرباً بأزيز أنغامها ، وهنا يكون العشق والحبُّ ، وتهيم الروح سكراً بلبِّ معناها.
    كفكفت دمعي ، وتوسَّلت بخالي أن لا يقطع الحوار بسبب اضطرابي ... دعاني إلى النوم لكي تهدأ أعصابي ، قلت : كم هي الليالي التي لم نستفد منها إلاَّ النوم ، فإن كانت ليلة القدر خيراً من ألف شهر فهذه الليلة خير من ألف يوم ، فتلك الليلة تكتب فيها الأقدار ، وهذه الليلة تبعث فيها الأرواح.
    وبعد إلحاح قال خالي : أختم لك هذه الليلة بحوار عمر مع جدِّنا عبد الله بن العباس ـ الذي نتشرَّف بالانتساب إليه ـ كما جاء في الكامل لابن الأثير (2) ، وشرح النهج لابن أبي الحديد (3) ، وتاريخ الطبري (4).
1 ـ سورة يونس ، الآية : 35.
2 ـ ج3 ، ص 63.
3 ـ شرح نهج البلاغة : 12/53.
4 ـ تأريخ الطبري : 3/289.


(697)
    قال عمر : أتدري ما منع قومكم بعد محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه ، فقلت له : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدري !
    فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً (1) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.
    عندها قال ابن عباس : يا أميرالمؤمنين ! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب ، تكلَّمت ..
    قال : تكلَّم.
    فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت ، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإنّ الله عزّ وجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (2).
    قال عمر : هيهات يا ابن عباس ! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.
    فقال ابن عباس : ما هي يا أميرالمؤمنين ؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
    قال عمر : بلغني أنك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسداً وبغياً وظلماً.
1 ـ التبجُّح بالشي ، أي الفرح به.
2 ـ سورة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الآية : 47.


(698)
    فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أميرالمؤمنين ـ : ظلماً ، فقد تبيَّن للجاهل والحليم ، وأمَّا قولك : حسداً ، فإن آدم حُسدَ ، ونحن ولده المحسودون.
    فقال عمر : هيهات ، هيهات ، أبت والله قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلاَّ حسداً لا يزول.
    فقال ابن عباس : مهلا يا أميرالمؤمنين ! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً.
    خالي : والدليل على أنّ أهل البيت ( عليهم السلام ) محسودون على المكانة التي خصّهم بها الله قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (1) ، والتدبُّر في هذه الآية يكشف لنا أنّ الحسد وقع على هؤلاء الناس بسبب عطاء ربِّك لهم ( الكتاب والحكمة والملك العظيم ) لأنّ المعلوم والمحكم في هذه الآية أنّ الله أعطى آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم ، والمتشابه علينا في هذه الآية هو من المقصود بالناس في هذه الآية ؟ وما هو الفضل الذي أُعطي لهم ؟ ولاستجلاء المعنى المقصود لابد من إجراء المقابلة ، فالناس يقابلهم آل إبراهيم ، والفضل يقابله الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فهل ياترى من هؤلاء الناس في أمَّة محمّد يقابلون آل إبراهيم ؟ هل تجدين غير آل محمّد كفؤاً ونظيراً لآل إبراهيم ؟ فيتضح بذلك أنّ الناس المقصودين في هذه الآية هم آل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2).
1 ـ سورة النساء ، الآية : 54.
2 ـ روى الحاكم الحسكاني ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) قال : نحن المحسودون. شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1/183 ح 195 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2/369 ح 52 ، عن المناقب لابن المغازلي : 267 حديث 314.


(699)
    أمَّا الفضل الذي أُعطي لهم فهو الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فيكون معنى الآية : أم يحسدون آل محمّد على ما آتاهم الله من الكتاب والحكمة والملك العظيم ، ولقد آتينا آل إبراهيم مثل ما أعطيناهم من الكتاب والملك العظيم ، فهل عرفت بذلك السبب الذي جعلهم يزيلون آل محمّد عن مراتبهم التي رتبهم الله بها ؟.
    يا عزيزتي ! قد تبيَّن للجاهل قبل العالم ، وإياك أن تحيدي عن قوم أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
    قلت : كل ما ذكرته مقنع ، ومستند على الأدلّة والبراهين الساطعة ، وهذا خلاف ما كنّا نعرفه عن الشيعة الذين كانوا في تصوُّرنا أبعد الناس عن الحقِّ ، وكل ما يمكن أن أجزم به الآن ـ حتى لا أكون متعجِّلة بالحكم بأحقّيّة مذهبكم ـ أنَّ الشيعة طائفة إسلاميَّة يجب أن تحترم ، وإن كانوا يختلفون مع عامّة المسلمين من أهل السنّة في بعض الأمور التي يمكن تجاوزها في سبيل الوحدة الإسلاميّة ، وللإنصاف ـ يا خالي ـ لقد سررت جداً بهذا الحوار ، وقد تعلَّمت منه درساً لن أنساه أبداً ، وهو عدم الحكم على الآخرين بالأفكار المسبقة ، والرجوع إليهم لا إلى من يخالفهم ، وأنا أعتقد أنّ من أعظم المصائب التي تعيشها أمتنا هي فقدانها لأرضيَّة الحوار.
    ولكن عفواً يا خالي ! ما زال هناك سؤال يراودني ، هل غاب هذا عن العلماء ؟ ولماذا لم يتوصَّل أحد منهم لما ذكرت ؟


(700)
    خالي : لقد أثلجت صدري بهذا الكلام الذي ينمُّ عن وعي وشعور كاملين بالمسؤولية ، التي أمرنا القرآن الكريم أن نتحلّى بها من معرفة المنهج القرآنيِّ في المباحثة والمناظرة العلميّة الذي يعترف بالطرفين ، قال تعالى معلِّماً رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مخاطبة الكفار والمشركين : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُّبِين ) (1) ، فانظري إلى هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم : إني على حق وأنتم على ضلال ، بل قال : إمَّا نحن أو أنتم على حق أو على باطل .. فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرّيّة المناقشة قائلا : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2) ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسمع براهينهم ويردُّها بالتي هي أحسن ، وقد سجَّل القرآن نماذج كثيرةً سواء كانت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو مع الأنبياء السابقين ، ففي قصّة إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ، ولم يجوّز لمسلم أن يمسَّها من غير وضوء بناء على الفقه الشيعي ، فأين هؤلاء الذين يشنِّعون ويفترون على الشيعة بكل ما هو باطل من هذا المنهج القرآني الأصيل (3) ؟
    أمَّا قولك : لماذا لم يتوصَّل أحد لما ذكرت ؟
    قال تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (4) ، وقال : ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
1 ـ سورة سبأ ، الآية : 24.
2 ـ سورة النمل ، الآية : 64.
3 ـ راجع كتاب الحقيقة الضائعة ، لمعتصم سيد أحمد ، ص 30 تحت عنوان : ملاحظات للباحث لابد منها ، وص 218 مع إحسان إلهي ظهير.
4 ـ سورة المؤمنون ، الآية : 70.


(701)
يَعْلَمُونَ ) (1) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (2) ، ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (3) ، ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (4) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (5) .. هذا أوَّلا.
    ثانياً : هناك من هو مصداق قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (6).
    ثالثاً : هنالك مجموعة من نخبة السنّة وعلمائها من كسر الأغلال ، وتعدَّى حواجز الكبت الإعلامي ، والتحقوا بركب التشيٌّع في كل أنحاء العالم ، فتمسُّك بعض العلماء بموقفهم ليس دليلا على بطلان مذهب آل البيت ( عليهم السلام ) وإلاَّ حكمنا ببطلان مذهب أهل السنّة أيضاً لتمسّك علماء الطوائف الأخرى بعقيدتهم.

     مسح الأرجل في الوضوء
    لو سمحت لي ـ يا خالي ـ بآخر سؤال : لقد رأيتك تمسح على رجليك في الوضوء بدلا عن الغسل ، فما هو السبب ؟ أليس الغسل أنظف وآمن للنجاسة من المسح ؟
    خالي وهو مستغرب لهذا الانتقال المفاجئ : نعم الغسل أنظف ، ولكن الله أعرف ، ثم ابتسم.
1 ـ سورة الأعراف ، الآية : 187.
2 ـ سورة يوسف ، الآية : 38.
3 ـ سورة يوسف ، الآية : 103.
4 ـ سورة الإسراء ، الآية : 89.
5 ـ سورة الرعد ، الآية : 1.
6 ـ سورة النمل ، الآية : 14.


(702)
    قلت : ولكن لم يأمر الله بالمسح ؟
    خالي : صبراً عليَّ : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (1) ، فقوله : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) دال على وجوب المسح بكلتا القراءتين : بالكسر أو بالفتح ، أمَّا الكسر فواضح ; لأنها معطوفة على الرأس ، وأمَّا النصب فإنه يدل على المسح أيضاً ، وذلك لأنه معطوف على موضع الرؤوس لوقوع المسح عليهما ، ولا يمكن العطف على الأيدي ، وذلك لوجود فاصل أجنبيٍّ وهو المسح ، فلا يجوز العطف على البعيد مع إمكانيَّة العطف على القريب.
    وهذا ما أكَّدت عليه روايات أهل بيت العصمة والطهارة ( عليهم السلام ) ، بل هنالك أحاديث من مصادر أهل السنة تؤيِّد المسح ، وممَّن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم ، قال ابن عباس وأنس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، كما جاء في الدر المنثور (2) ، وقال عكرمة : ليس على الرجلين غسل ، إنما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ، ويلغي ما كان مسحاً (3) ، وروى أوس بن أوس ، قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) توضَّأ ومسح على رجليه (4) ، ووصف ابن عباس وضوء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّه مسح على رجليه ، وقال : إنّ في كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلاَّ
1 ـ سورة المائدة ، الآية : 6.
2 ـ الدر المنثور : 2/262.
3 ـ نفس المصدر : 262.
4 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 1/217.


(703)
الغسل (1).
    وجاء أيضاً في كنز العمال عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضَّأ ، ثم ضحك فقال : ألا تسألوني ممَّ أضحك ؟ قالوا : يا أميرالمؤمنين ! ما أضحكك ؟ قال : رأيتُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) توضَّأ كما توضَّأت ، فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه (2).
    وفي سنن ابن ماجة فقال : إنّها لا تتُّم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين (3).
    ألا يكفي هذه دلالة على وجوب المسح ؟
    قلت : عجيب ! ولماذا يغسل أهل السنّة إذاً ؟
    خالي : أنت سألتيني لماذا يمسح الشيعة فأجبتك ، وبقي عليك أن تجيبي على سؤالك لماذا يغسل أهل السنّة ؟
    ثمَّ اعتذر وانصرف لنومه.

     أكذوبة المذاهب الأربعة
    وبعد ذلك الحوار وجلسات أخرى متفرِّقة مع خالي ، اهتزّت كل قناعاتي بالموروث الديني السنّي ، وتكشَّفت أمام ناظري مجموعة من الحقائق ، بعدما
1 ـ مجمع البيان ، الطبرسي : 3/284 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9/432 ح 26837.
2 ـ كنز العمال : 436 ح 26863.
3 ـ سنن ابن ماجة : 1/156 ح 469.


(704)
وقفت على عمق الخلافات المذهبيَّة ، وعندما أتى خالي لزيارتنا في بيتنا عاجلته بالسؤال : وما هو رأيكم في المذاهب الأربعة ؟
    فتبسّم خالي قائلا : أما زلت في حيرة من أمرك ، فإنّ الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكلِّفاك باتّباع أحد منهم ، وأنا أتحدَّى كل علماء السنة الماضين منهم والباقين أن يستدلُّوا بدليل واحد على وجوب تقليدهم ، فدعي عنك تلك الوساوس ، وتوجَّهي إلى أئمّة الهدى من آل البيت ( عليهم السلام ) ، فهم موضع الحكمة والرسالة ، جعلهم الله لنا عصمة وملاذاً ، ألم يقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ; كتاب الله وعترتي أهل بيتي (1) .. ولم يقل : كتاب الله وأئمَّة المذاهب الأربعة.
    فقاطعته قائلة : ولكن قال : ( كتاب الله وسنّتي ) ممَّا يفتح الباب واسعاً أمام اجتهاد الأمة.
    خالي : أوَّلا : إنّ حديث : كتاب الله وسنّتي غير صحيح فلم يروه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وكل الصحاح الستة ، فكيف نرتكز على حديث غير ثابت عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهذا الحديث لم يروه إلاَّ مالك في الموطأ من غير سند ، فقد جاء في الموطأ أن مالك بلغه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( تركت فيكم كتاب الله وسنّتي ) (2) ، فكيف ياترى بلغ مالكاً هذا الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!! ومن المعلوم أن الفاصل بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومالك يحتاج فيه الحديث إلى سند طويل ، يعني : حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن الصحابي
1 ـ تقدَّمت تخريجاته.
2 ـ كتاب الموطأ ، مالك : 2/899 ح 3 ، ولفظ الحديث : وحدَّثني عن مالك أنّه بلغه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما مسكتم بهما : كتاب الله وسنّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).


(705)
عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا الحديث من غير سند ، ممَّا يعني أنه حديث في غاية الضعف.
    أمَّا حديث : تركت فيكم كتاب الله وعترتي فقد رواه مسلم في صحيحه بعدّة طرق (1) ، وروته كل الصحاح الستة ما عدا البخاري ، وعدد الرواة الذين نقلوا الحديث من الصحابة يتجاوز الثلاثين راوياً ، ممَّا يعني أنّه حديث متواتر مقطوع الصدور عند السنّة والشيعة ، فكيف نتنازل عنه من أجل حديث لا سند له ؟ ومن هنا كان من الواجب على كل مسلم أن يتبع أهل البيت ( عليهم السلام ) في كل أمور دينه.
    قلت : هناك حديث آخر يقول : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ (2) ، فنستفيد من هذا الحديث أوَّلا التمسُّك بسنّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وسنَّة الخلفاء ثانياً.
    خالي : هذه إسقاطات لا يقبلها النص ، أولا ـ بعيداً عن مناقشة سند الحديث الذي استفرد بنقله أبو داود وابن ماجة والترمذي ، وتجاوزنا عن تضعيف بعض الرواة في أسانيده ـ فإنّ هذا الحديث لا يتحمَّل أكثر من دعم رأي الشيعة ، وذلك أنّ كلمة الخلفاء هنا لا تعني الخلفاء الأربعة ، أو الذين حكموا في التأريخ ; لأن هذا إسقاط تأويلي متأخِّر عن النص ، فتسمية الخلفاء الراشدين للأربعة الذين حكموا ليست هي تسمية شرعيّة ، وإنّما تسمية المؤرِّخين الذين حكموا على فترة حكم الخلفاء بالرشد ، فبالتالي لا يكون الخلفاء مصداقاً لهذا الحديث لمجَّرد اشتراك التسمية ، فيكون التفسير الأقرب أن الخلفاء المقصودين
1 ـ صحيح مسلم : 7/123. وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث المتواتر.
2 ـ سنن ابن ماجة : 1/16 ح 42 ، شرح معاني الآثار ، ابن سلمة : 1/81 ، أحكام القرآن ، الجصاص : 1/530.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس