نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 16 ـ 30
(16)
بنحو يكون هذا العرض موجبا لتخصصه كالبحث عن استقامة الخط وانحنائه فهو من الاعراض الذاتية. ونحوه كلام غيره : بان الاعراض الثابتة لعناوين خاصة بخصوصيات منوعة لابد وان يبحث عنها في علم يكون هذا العنوان الخاص موضوعه ولا يبحث في علم آخر يكون موضوعه عنوانا أعم من ذلك بنحو العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد ونحو ذلك. فان مقتضى كلامهم هو عدم الاكتفاء في العرض الذاتي على مجرد عروض العارض على الشيء ولو ضمنا كما في الاعراض الثابتة للنوع العارضة على الجنس أيضا بنحو الضمنية ، ولازمه الاشكال في الاكتفاء بصرف صحة حمل العارض على الشيء بالحمل الحقيقي وصرف اتحاد معروض العرض وهي الواسطة وجودا مع ذيها مع كون تمام المعروض للعرض مستقلا هي الواسطة بطريق أولى ، فإنه إذا كان الاعراض الثابتة للنوع والمقيد والخاص بالنسبة إلى جنسه ومطلقه وعامه من الاعراض الغريبة مع صدق العروض فيها على الجنس والمطلق والعام بنحو الضمنية فكونها من الاعراض الغريبة في صورة عدم صدق العروض على ذي الواسطة ولو ضمنا انما كان بطريق أولى.
    وعليه يمكن ان يقال بدخول مثل هذه العوارض الثابتة للعناوين بجهات تقييدية كالأعراض الثابتة للنوع والمقيد بالنسبة إلى جنسه ومطلقه والاعراض الثابتة للفصل بالقياس إلى جنسه في الاعراض الغريبة ، وان تمام المدار في العرض الذاتي للشيء هو كونه ثابتا له دقة وعلى نحو استقلال ولو بجعل الخصوصيات المأخوذة فيه من الجهات التعليلية كما عرفت في مثل الفاعلية لعروض الرفع على ذات الكلمة ـ لا من الجهات التقييدية الموجبة لتخصص الموضوع بخصوصية منوعة ، من غير فرق بين ان يكون ثبوت العرض والوصف له بلا واسطة امر خارجي أو معها ، ولابين كون الامر الخارجي الذي هو الواسطة مساويا أو أعم أو أخص. كما أن المدار في العرض الغريب انما هو على صحة سلب العارض حقيقة في مقام العروض وعلى نحو الاستقلال عن ذي الواسطة ، كان تمام المعروض للعرض هو خصوص الواسطة أم لا بل كان ذوها أيضا معروضا له على نحو الضمنية ، كما في موارد كون الواسطة من الجهات التقييدية ، من غير فرق فيه أيضا بين كون الواسطة التي هي من الجهات التقييدية مساوية أو أعم أو أخص. فعلى جميع التقادير مهما كان العرض قائما حقيقة بالواسطة كان نسبته إلى ذي الواسطة من


(17)
الاعراض الغريبة.
    وحينئذ فعلى كان تقدير لا مجال للقول بالتفصيل بين كون الواسطة مساوية وبين كونها أعم أو أخص بل لابد من ملاحظة كون الواسطة من الجهات التعليلية الموجبة لعروض الشيء على شيء أو من الجهات التقييدية الموجبة لصحة سلب العروض على نحو الاستقلال عن الجامع بينها ، فعلى الأول يكون العرض المنسوب إلى الشيء من الاعراض الذاتية وعلى الثاني يكون من الاعراض الغريبة لذلك الشئ.
    وبذلك ربما ظهر أيضا دفع ما ربما يتوهم من الاشكال : بان موضوع المسائل بالقياس إلى موضوع العلم انما كان من قبيل النوع والجنس والمقيد والمطلق فعلى القول بكون العرض الثابت للنوع بالنسبة إلى جنسه عرضا غريبا يلزم كونها من الاعراض الغريبة لا الذاتية مع أنه ليس كذلك قطعا. إذ نقول : بأنه كذلك فيما لو كانت الخصوصيات المأخوذة في موضوعات المسائل من قبيل الجهات التقييدية الدخيلة في المعروض كي تكون المسألة بذلك بالنسبة إلى موضوع العلم من قبيل النوع بالنسبة إلى جنسه ، ولكنه ليس الامر كذلك بل وانما كانت الخصوصيات المأخوذة فيها من قبيل الجهات التعليلية نظير الفاعلية والمفعولية الموجبة لطرو الرفع والنصب على ذات الكلمة ، ومعه فيخرج موضوع المسائل عن النوعية. ثم إن ذلك أيضا في صورة تخريج موضوع وحداني للعلم والا فمع عدم تخريج الموضوع الوحداني ـ كما في العلوم العربية والنقلية وغيرها كما عرفت ـ فلا يضر أيضا جهة كون الخصوصية المأخوذة في موضوع المسألة من الجهات التقييدية في كون العرض عرضا ذاتيا ، إذ حينئذ ليس هناك موضوع وحداني للعلم كي يجيء الاشكال المزبور ، وانما كان الموضوع فيه عبارة عن نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها ، وفي مثله لابد من ملاحظة شخص المحمول في كل قضية قضية بالنسبة إلى شخص الموضوع في تلك القضية في ثبوته حقيقة وبالدقة على الاستقلال لشخص ذاك الموضوع أم لا ، وعليه فلا يشكل علينا في مثل الوجوب العارض للصلاة التي هي فعل المكلف بخصوصية عنوانها ، بل وانما الاشكال على القول بتخريج الموضوع الوحداني بين موضوعات المسائل وجعل موضوع الفقه عبارة عن نفس فعل المكلف ، فإنه عليه يكون نسبة الفعل إلى عنوان الصلاة من قبيل نسبة الجنس إلى نوعه فيتوجه الاشكال حينئذ من جهة عدم كون الموضوع الذي هو فعل المكلف مستقلا في مقام المعروضية للوجوب ، من جهة ما هو المفروض من كون


(18)
معروض تلك الأحكام انما هو فعل المكلف بما هو متخصص بخصوصية عنوان الصلوتية والحجية والغصبية ونحوها ، وان جهة الصلوتية والحجية أيضا كانت تحت الحكم. ومن ذلك ظهر انه لا يجديه أيضا ضم حيثية الاقتضاء والتخيير ، إذ نقول : بأنه ان أريد بذلك اقتضاء الفعل مستقلا ففساده واضح من جهة بداهة مدخلية خصوصية عنوان الصلوتية والحجية والغصبية ونحوها لعروض الوجوب أو الحرمة ، وان أريد به اقتضائه ولو بنحو الضمنية فغير مثمر ، إذ يعود حينئذ الاشكال المزبور من لزوم كون العرض بالنسبة إلى الجامع في ضمن العناوين الخاصة وهو ذات فعل المكلف من العوارض الغريبة. واما الالتزام بكفاية مجرد كون الشيء معروضا للعرض ولولا بنحو الاستقلال بل بنحو الضمنية في كونه عرضا ذاتيا له ، فمع انه مناف لما هو المصرح به في كلماتهم من كون مثله من العرض الغريب ، يلزمه ادخال مسائل العلوم السافلة في العلوم العالية التي يكون موضوعها من قبيل الجنس والمطلق بالنسبة إلى موضوع علم السافل ، كما في علم الهندسة الذي يكون الموضوع فيه وهو المقدار من قبيل الجنس للجسم التعليمي الذي هو موضوع علم المجسمات. فمن ذلك لابد من جعل العنوان المزبور من العناوين المشيرة إلى العناوين الخاصة التي هي موضوعات المسائل ، ومعه فيخرج عن الوحدة وينطبق على ما ذكرناه.

    ثم انه بعد ما اتضح ما ذكرناه نقول : بأن فن الأصول بعد أن كان عبارة عن جملة من القواعد خاصة الوافية بغرض مخصوص كان من جملة العلوم ، وان موضوعه أيضا عبارة عن نفس موضوعات مسائله على اختلافها وشتاتها ، من دون احتياج إلى اتعاب النفس في تخريج الموضوع الوحداني له ، خصوصا بعد ما يرى من عدم الطريق إلى كشف الجامع الوحداني المعنوي بينها بعد فرض كون الغرض ذا جهات عديدة ، بل وعدم امكانه أيضا مع رجوع مسائل الأصول إلى صنفين : صنف لو حظ فيها الحكاية والكشف عن الواقع وهو الامارات ، وصنف لو حظ فيه عدم الإرائة وحيث السترة للواقع وهو الأصول ، من جهة ما عرفت من عدم تصور جامع ذاتي بين هذين الصنفين باعتبار رجوعه إلى الجامع بين النقيضين.


(19)
    كعدم الاحتياج أيضا إلى اتعاب النفس بجعل الموضوع فيه عبارة عن عناوين متعددة : تارة الأدلة الأربعة فارغا عن دليليتها كما عن القوانين ، وأخرى ذوات الأدلة الأربعة كما عن الفصول ( قدس سره ) كي يورد على الأول بلزوم خروج كثير من مهمات المسائل الأصولية كمبحث حجية الكتاب وحجية الخبر الواحد ، وعلى الثاني بلزوم خروج مباحث الألفاظ طرا كالبحث عن أن الامر للوجوب والبحث عن العموم والخصوص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق أيضا ، بل وخروج مبحث حجية خبر الواحد أيضا ، نظرا إلى عدم كون البحث المزبور عن كون الامر حقيقة في الوجوب والنهى في الحرمة وعن العموم والخصوص عن الأوامر والعمومات الواردة في الكتاب والسنة ، وعدم كون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن حال السنة الواقعية التي هو قول المعصوم وفعله وتقريره. وارجاعه إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد كثبوتها بالمتواتر غير مفيد ، من جهة ان البحث عن ثبوتها حقيقة ليس من عوارضها واما تعبدا فمن عوارض مشكوكها لا من عوارض السنة الواقعية.
    كما أنه لا وجه أيضا لاتعاب النفس في تخريج الجامع الوحداني بين مسائله ببعض التكلفات. ولئن أبيت الا من لزوم جامع في البين بين المسائل ولو بنحو المشيرية لكان الأولى هو ان يقال : بأنه القواعد الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية العلمية شرعية كانت أم عقلية ، لان ذلك هو المناسب أيضا لما هو الغرض الباعث على تدوينها ، وهو استنباط الاحكام والوظائف الفعلية.
    ومن ذلك البيان ظهر الحال في تعريفه أيضا وانه لا وجه لما هو المعروف من تعريفه : بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ، وذلك لما فيه من الخلل من جهات : تارة من جهة اخذ العلم في تعريفه مع أن العلم والفن كما عرفت عبارة عن نفس القواعد الواقعية الوافية بغرض مخصوص دون العلم والتصديق بها ، بشهادة صحة إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى في قولك فلان عالم بالأصول وفلان جاهل به. وأخرى من جهة لفظ الاستنباط الظاهر في إرادة وقوع القواعد واسطة لا ثبات الواقع وسببا للعلم به ، فإنه حينئذ يلزمه خروج الأصول العلمية كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوها عن مسائل الأصول مع أنها من أهم مسائله ، من جهة ان مضمون هذه الأمور لايكون الا أحكاما ظاهرية منطبقة على مواردها ، وقضية الاستنباط فيها انما كان عبارة عن مقام تطبيقها


(20)
على مواردها بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي واليأس عنه ، وأين ذلك ومقام وقوعها طريقا وواسطة لا ثبات الحكم الشرعي. نعم ونفس تلك القواعد تكون مضامينها أحكاما كلية ظاهرية مستنبطة من الامارات الحاكية عن الواقع كالأحكام الفرعية ، ولكن ذلك غير مرتبط بمقام تطبيقها على الموارد في مقام العمل ، بل ويلزمه أيضا خروج الامارات كخبر الواحد ونحوه بناء على القول بكون مفاد دليل الحجية فيها هو تنزيل المؤذي وجعل المماثل في الظاهر ، فإنه على هذا القول أيضا يلزم خروج الامارات عن مسائل الأصول بلحاظ عدم وقوعها في مقام تشكيل القياس وسطا لا ثبات الحكم الشرعي ، نعم بناء على القول بتتميم الكشف كما هو المختار يدخل مبحث الأمارات في التعريف المزبور لوقوعها حينئذ وسطا لا ثبات الحكم الشرعي ، حيث تقع وسطا في القياس ، فيقال : ان هذا مما قام على وجوبه خبر الواحد وكل ما هو كذلك فهو منكشف ـ بحكم الشارع بكونه كاشفا فهذا منكشف ، فتكون حينئذ من القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.
    وثالثة من حيث التقييد بالشرعية ، إذ يخرج حينئذ كثير من المسائل الأصولية أيضا كالبرائة والاشتغال العقليين ومسألة الظن في حال الانسداد على تقرير الحكومة ، كما هو ظاهر.
    ومن ذلك البيان ظهر الحال في غيره من التعاريف الاخر التي أفادوها في المقام في ميزان كون المسألة أصولية ، ككونها مما يتعلق بالعمل مع الواسطة في قبال المسائل الفقهية التي تعلقها بالعمل كان بلا واسطة. وذلك لخروج المسائل العملية الأصولية أيضا على هذا الميزان بلحاظ تعلقها بالعمل بلا واسطة بانطباقها على مواردها.
    وبالجملة نقول : بان القواعد المبحوث عنها في الأصول حيثما كانت على صنفين : صنف منها لو حظ فيها جهة الكشف والحكاية عن الواقع كشفا تاما أو ناقصا وكان شأنها الوقوع في طريق استنباط الاحكام كالأمارات ، وصنف آخر منها لو حظ فيها حيث السترة وعدم الكشف والحكاية عن الواقع وكان مما ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل عند تحيره وجهله بالواقع كالقواعد العملية من نحو الاستصحاب وغيره ، وكان الصنفان كل واحد منهما دخيلا في الغرض الخاص الداعي على تدوين العلم وجمع قواعده ، فلا جرم كان الحري الحقيق هو تعريفه بما ذكرنا : بأنه القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج الاحكام الكلية الإلهية أو الوظائف العملية الفعلية عقلية كانت أم شرعية ،


(21)
ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم الشرعي الواقعي ( كما في قولك : هذا ما أخبر العادل بوجوبه واقعا وكلما كان كذلك فهو واجب كذلك ) أو الحكم الشرعي الظاهري ( كقولك بعد اثبات حجية الاستصحاب : هذا مما علم بوجوبه أو حرمته سابقا وشك لاحقا في وجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك فهو واجب في الظاهر ولا ينقض اليقين به بالشك فيه ) أو حكما عقليا ( كقولك : هذا مما لم يرد عليه نص ولا بيان وكلما كان كذلك فهو مما لا حرج في فعله وتركه أو يجب فيه الاحتياط أو يتخير بين الامرين ) نعم على هذا التعريف ينبغي التقييد بعدم اختصاصها بباب دون باب من أبواب الفقه ليخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعريف المزبور وتدخل في مسائل الفقه بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه.
    ولعله إليه أيضا يرجع سائر التعاريف كتعريف الشيخ ( قدس سره ) المسألة الأصولية بما يكون امر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلد ، قبال المسألة الفقهية التي يكون تطبيقها على الموارد مشتركا بين المجتهد والمقلد. فلا يرد عليه حينئذ بمثل قاعدة الطهارة التي هي من المسائل الفقهية في الشبهات الحكمية ومسألة الشرط المخالف للكتاب والسنة التي هي أيضا من المسائل الفقهية ، بتقريب انهما مع كونهما من المسائل الفقهية لا شبهة في أن تطبيقها على مواردها لايكون الا من وظائف المجتهد خاصة ، بملاحظة اشتراط الأول بالفحص والثاني بمعرفة الكتاب والسنة لكي يتميز بها كون الشرط مخالفا للكتاب والسنة أو غير مخالف لهما ، ولا سبيل في ذلك للعامي الذي لا يعرف ظواهر الكتاب والسنة. وهكذا غيره من التعاريف الاخر كتعريفه : بأنه صناعة يقتدر بها على استنباط الاحكام الفرعية ونحوه ، فان هذه التعاريف جميعها راجعة إلى امر واحد ولكل منها جهة مناسبة مع تلك القواعد فكل إلى ذاك الجمال يشير وحينئذ فلاينبغي النقص والابرام من جهة الطرد والعكس في مثل هذه التعاريف.
    نعم بقى في المقام اشكال يرد على ما ذكرنا من التعريف بل وعلى غيره من التعاريف الاخر أيضا فينبغي التعرض له ولدفعه ، ومحصل الاشكال : هوان ميزان كون المسألة أصولية ـ على ما عرف من وقوع نتيجتها كبرى القياس ـ ان كان على وقوعها في طريق الاستنباط المزبور بلا واسطة فيلزمه خروج مباحث الألفاظ طرا ـ كمبحث الامر والنهى والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق ونحوها مما شأنها اثبات


(22)
الوضع والظهور ـ من مسائل الأصول ، من جهة وضوح ان نتيجة هذه المباحث لا تكون الا تعيين الظهور واثبات كون الشيء ظاهرا في كذا ، كظهور هيأة الامر في الوجوب وظهور النهى في الحرمة مثلا والعام والخاص والمطلق والمقيد في كذا وكذا ، ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذه لايكاد يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد بل يحتاج في مقام انتاج الحكم الشرعي إلى تشكيل قياسين يكون نتيجة أحدهما صغرى لكبري القياس الآخر ، بان نقول في القياس الأول : هذا امر وكل امر ظاهر في الوجوب فهذا ظاهر في الوجوب ، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى لكبري في قياس آخر ، ونقول في القياس الثاني : هذا ظاهر وكل ظاهر يجب التعبد به والعمل على طبقه بمقتضى ما دل على وجوب الاخذ بكل ظاهر. وهذا بخلافه في مسألة حجية خبر الواحد ونحوها فإنه فيها لايحتاج الا إلى تشكيل قياس واحد بقولك : هذا مما أخبر العادل بوجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه فهذا يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه. وان كان ميزان كون المسألة أصولية على وقوعها في طريق الاستنباط ولو مع الواسطة ، فعليه وان اندفع الاشكال المتقدم الا انه عليه بلزوم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية ـ كالصرف والنحو واللغة ومسائل علم الرجال ـ في المسائل الأصولية ، بملاحظة وقوع نتيجتها بالآخرة في طريق الاستنباط ، وهذا كما ترى ، مع أن ديدنهم على اخراج مسائل المشتق ونحوها عن المسائل من حيث جعلهم أول المباحث مباحث الأمر والنهي ، فيبقى حينئذ سؤال الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأمر والنهي والعام والخاص الخ.
    وحاصل الدفع هو انا نختار الشق الثاني ومع ذلك نلتزم بخروج الأمور المزبورة عن مسائل الأصول ، وذلك اما أولا فلوضوح ان المهم والمقصود في العلوم الأدبية كالنحو والصرف ليس هو اثبات الظهور للكلمة والكلام بل وانما المهم فيها انما هو اثبات كون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا في ظرف الفراغ عن فاعلية الفاعل ومفعولية المفعول ، وأين ذلك ومثل مباحث الأمر والنهي والعام والخاص المتكلفة لاحراز الظهور في الكلمة والكلام ؟ وثانيا على فرض ان المقصود في العلوم الأدبية أيضا احراز الظهور في شيء كظهور المرفوع في الفاعلية والمنصوب في المفعولية ، نقول بان غاية ما يقتضيه ذلك حينئذ انما هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الاحكام لأنفسها ، والمسائل الأصولية انما كانت عبارة عن القواعد الواقعة في طريق استنباط نفس الأحكام الشرعية العملية


(23)
فيخرج حينئذ أيضا مسائل العلوم الأدبية كالنحو والصرف بل اللغة أيضا. وتوهم استلزامه لخروج مثل مباحث العام والخاص أيضا مدفوع بأنها وان لم تكن واقعة في طريق استنباط ذات الحكم الشرعي الا انها باعتبار تكفلها لا ثبات كيفية تعلق الحكم بموضوعه كانت داخلة في مسائل الأصول ، كما هو الشأن أيضا في مبحث المفهوم والمنطوق حيث إن دخوله باعتبار تكفله لبيان إناطة سنخ الحكم بشيء الذي هو في الحقيقة من أنحاء وجود الحكم وثبوته ، وهذا بخلاف المسائل الأدبية فإنها ممحضة لا ثبات موضوع الحكم بلا نظر فيها إلى كيفية تعلق الحكم أصلا. ومن ذلك البيان ظهر وجه خروج المشتقات أيضا عن مسائل الأصول ، حيث إن خروجها أيضا انما هو بلحاظ عدم تكلفها الا لاحراز موضوع الحكم وانه خصوص المتلبس الفعلي أو الأعم ، لأنفسه لا بذاته ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.
    نعم يبقى الاشكال حينئذ في خروج مسائل علم الرجال عن مسائل الأصول مع أنها كمبحث دلالة الألفاظ واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ولو بالواسطة من كون السند موثوقا به في شمول دليل التعبد له ، ويمكن الاعتذار عنه بان عدم تدوينهم إياها في الأصول حينئذ انما هو من جهة كثرة مسائلها الموجبة لافرادها بالتدوين وجعلها علما مخصوصا موسوما باسم مخصوص مستقلا عن الأصول ، فتدبر.

    فنقول : انه بعد ما لم تكن العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها ذاتية محضة بنحو يعرفها كل أحد ، يبقى الكلام في أن لها أي للألفاظ نحو مناسبة لمعانيها توجب وضعها لمعانيها بحسب الارتكاز وان لم يلتفت الواضع تفصيلا إلى تلك المناسبة ، أم لا ؟ بل تمام العلقة والارتباط بينهما كانت حاصلة بالجعل وبوضع الواضع بعد أن لم تكن بينهما علاقة وارتباط أصلا حيث إن فيه وجهين : قد يقال بالأول وان الواضع حيثما يجعل لفظا لمعنى فإنما هو من جهة الهام الباري ( عز اسمه ) إياه بل ومن ذلك أيضا أنكر استناد الجعل إلى المخلوقين فقال : بان الجاعل والواضع في الألفاظ انما هو الباري عز اسمه وانه سبحانه وتعالى يلهم كل طائفة ان يتلفظوا عند ابراز مقاصدهم بألفاظ خاصة مناسبة


(24)
لمعانيها حسب جعله سبحانه ، واستدل أيضا على مرامه من عدم كون تلك العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها مستندة إلى جعل المخلوق ووضعه بأمرين : أحدهما خلق التواريخ عن ذكره ، فإنه لو كان الامر كذلك لكان اللازم بحسب العادة ذكره في التواريخ بان الواضع للغة العرب كان هو شخص كذا كيعرب بن قحطان كما قيل ، وان الواضع للغة الفرس كان شخص كذا وهكذا بقية اللغات ، لان ذلك من الأمور المهمة التي لايمكن الغفلة عنها عادة ، مع أنه لم يرد في تاريخ ان واضع لغة العرب هو شخص كذا وواضع لغة الفرس كان شخص كذا ، وحينئذ فخلو التواريخ عن ذكر هذه القضية دليل عدم استناد وضع الألفاظ إلى أحد من المخلوقين.
    وثانيهما من جهة عدم تناهى المعاني والألفاظ حيث إن عدم تناهيها يقتضى بعد استناد وضعها إلى المخلوقين بل امتناعه ، كما هو ظاهر عند من أمعن النظر وانصف.
    أقول : وفيه ما لايخفى ، إذ نقول بأنه لو فرض من أول خلقة آدم ( على نبينا وآله وعليه السلام ) إلى زماننا هذا كل طائفة قد وضعوا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني المتداولة بينهم على قدر ابتلائهم بها في اظهار ما في ضمائرهم إلى أن انتهى الامر إلى زماننا الذي قد كثر فيه اللغات وكثرت الألفاظ والمعاني ، فأي محذور عادى أو عقلي يترتب عليه ؟ فهل تقول في مثل ذلك بلزوم ضبطه في التواريخ أو تقول بأنه من الممتنع العادي وضع الألفاظ الكثيرة الغير المتناهية لمعان كذلك بمرور الدهور والأزمنة الكثيرة من طوائف كثيرة ؟ نعم انما يتم ما ذكر فيما لو كان المدعي وضع شخص واحد أو شخصين في كل لغة وضع الألفاظ المستعملة فيها في معانيها ، ولكنه لم يدعه أحد كذلك حتى يرد عليه المحذور المزبور ، بل وانما المقصود من ذلك انما هو استناد وضع الألفاظ في اللغات إلى الواضعين ولو على نحو التدرج بحسب مرور الدهور والأزمنة بوضع كل طائفة من لدن زمان آدم إلى زماننا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني التي دار عليها ابتلائهم ، كما نشاهد ذلك بالعيان والوجدان من وجود كثير من المعاني والألفاظ المستحدثة في زماننا التي لايكون لها في سالف الزمان عين ولا اثر ، كما في كثير من الجوهريات والآلات ، ومن المعلوم انه لو ادعاه القائل باستناد الوضع إلى المخلوقين لايتوجه عليه شيء من المحذورين.
    ثم انه نقول : على قولك ( بان الباري عز اسمه هو الواضع وانه يلهم المستعملين في مقام اظهار ما في ضمائرهم ) بأنه هل تجد من نفسك عند تسميتك ولدك انه أوحى الله تعالى


(25)
إليك أو نزل إليك جبرئيل ان سمه بكذا أم لا بل أنت تضع له اسما من الأسامي وأنت الجاعل للعلقة والارتباط بجعلك اللفظة اسما له بعد أن لم يكن بينهما علاقة وارتباط ؟ لايقال : بأنه كيف ذلك مع أنه لولا قضية المناسبة الذاتية بينهما الحاصلة من تخصيص إلهي يكون تخصيص لفظ خاص من بين الألفاظ للمعنى الملحوظ ترجيحا بلا مرجح ، فإنه يقال : يكفي في الترجيح انسباق اللفظ إلى الذهن من بين الألفاظ عند إرادة الوضع ولو من جهة اقتضاء استعداده للوجود في عالم الذهن ، حيث إنه موجب لتخصيصه بالمعنى الملحوظ من بين الألفاظ ، ففي الحقيقة ما هو الموجب لتخصيص لفظ من بين الألفاظ لمعنى من بين المعاني انما هو قضية تقارنهما للوجود في عالم الذهن ، ومن المعلوم انه في ذلك لايحتاج في تخصيص أحدهما بالآخر إلى جهة مناسبة ذاتية بينهما ، كما لايخفى.

    ثم انه مما ذكرنا ظهر حال حقيقة الوضع وانه عبارة عن نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا عنه وبالقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط امر في البين ، لا انه من قبيل اختصاص الامارة لذيها كما في النصب الموضوعة في الطريق للدلالة على وجود الفرسخ ، كيف ولازمه ان يكون انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من شؤون الانتقال إلى اللفظ ولازمه كون انتقال الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث كان في الذهن انتقالان عرضيان : انتقال إلى اللفظ وانتقال منه بواسطة الملازمة إلى المعنى نظير الانتقال من الدخان إلى وجود النار ، مع أن ذلك كما ترى مما يحكم بفساده بداهة الوجدان ، ضرورة وضوح انه بالقاء اللفظ لايكاد في الذهن الا انتقال واحد إلى المعنى بلا التفات إلى شخص اللفظ الملقى بنحو كان المعنى بنفسه قد ألقى بلا توسيط لفظ ، كما هو الشأن في الكتابة أيضا فان الناظر فيها بمقتضى الارتكاز لايرى الا نفس المعنى بلا التفاته في هذا النظر إلى حيث نقوش الكتابة تفصيلا ، ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا جهة شدة العلاقة والارتباط بينهما التي أوجبت قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه. ومن جهة هذا الفناء أيضا ترى بأنه قد يسرى إلى المعنى ما للفظ من التعقيد مع أن المعنى لايكون


(26)
فيه تعقيد وانما التعقيد للفظ ، كما أنه قد يكون بالعكس فيسري إلى اللفظ ما للمعنى من الحسن والقبح ، فيرى اللفظ قبيحا وحسنا مع أن اللفظ لايكون فيه حسن ولا قبح وانما الحسن والقبح للمعنى ، كما هو واضح.
    كما أنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا انه ليست تلك العلاقة والارتباط الخاص من سنخ الإضافات الخارجية التي توجب احداث هيئة خارجية كهيئة السريرية الحاصلة من ضم الأخشاب بعضها ببعض على كيفية خاصة وكالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية التي كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا لوجودها ، ولا من سنخ الاعتباريات التي لايكون صقعها الا الذهن كما في النسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية في مثل الانسان والحيوان الناطق ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين ، فكانت سنخها من قبيل الاعتباريات التي كان الخارج موطن منشأ اعتبارها ، كما نظيره في الملكية والزوجية ونحوهما من الاعتباريات مما لايكون الخارج موطن نفسها بل موطن مصحح اعتبارها من الانشاء القولي أو الفعلي ، ولكن مع ذلك لها واقعية بمعنى ان صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وان لا يكن الا الذهن الا انها بنحو ينال العقل خارجيتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضية الحقيقية بأنه لو وجد اللفظ وجد العلاقة والارتباط بينه وبين المعنى نظير الملازمات كالملازمة بين النار والحرارة ، فكما ان صقع هذه الملازمة قبل وجود النار في الخارج لايكون الا الذهن وبوجود النار وتحققها تصير الملازمة تبعا لوجود طرفها خارجية ، كذلك تلك العلاقة والارتباط الخاص بين اللفظ والمعنى ، فان العلقة الحاصلة بينهما بالجعل لما كانت بين الطبيعتين ، يعنى طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى ، فقبل وجود طرفيها خارجا لايكون صقعها الا الذهن ولكن بعد وجود طرفيها تبعا لهما تصير الملازمة بينهما أيضا خارجية فكلما وجد اللفظ في الخارج يتحقق العلقة والارتباط بينه وبين المعنى ، ويكفي في خارجيتها كون الخارج ظرفا لمنشأ انتزاعها.
    وبالجملة المقصود من هذا التطويل هو بيان ان هذا النحو من الإضافة والارتباط مما لها واقعية في نفسها وانها لا تكون من سنخ الاعتباريات المحضة التي لايكون صقعها الا الذهن ولا كان الخارج ظرفا لمنشأ اعتبارها ، ولا من سنخ الإضافات الخارجية الموجبة لاحداث هيئة في الخارج ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين فلها واقعية يعتبرها العقل عن منشأ صحيح خارجي ، ولئن أبيت عن تسميتك هذه إضافة وتقول بان


(27)
المصطلح منها هي الإضافات المغيرة للهيئة في الخارج فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت ، إذ لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.
    وكيف كان فبعد ما عرفت ذلك نقول : بأنه لا شبهة في أن مثل هذا النحو من الإضافات النحوية في غاية خفة المؤنة حيث لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة فيكفي في تحققها أدنى ملابسة فتحصل بمجرد الجعل كما في قولك : المال لزيد والغلام لعمرو والجل للفرس ، حيث إنه بنفس تخصيصك المال بزيد والجل بالفرس يتحقق بينهما تلك الإضافة والاختصاص ، بل ربما تتحقق بمجرد نسبة شيء إلى شيء من دون منشأ خارجي لذلك ، كما في اعتبارك غولا ونسبة أنياب إليه ، غايته انه من جهة عدم وجود منشأ صحيح خارجي له لايكون من الاعتباريات الصحيحة القابلة لإضافتها إلى الخارج ، كما هو واضح.
    ومن ذلك البيان ظهر فساد ما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتعهد وانكار استناد العلقة والارتباط التي بين اللفظ والمعنى إلى جعل الجاعل ووضعه ، والعمدة في ذلك انما هو تخيل قصر الإضافة بالإضافات الخارجية والملازمات الواقعية الذاتية ، فإنه من هذه الجهة أنكر استناد العلقة والارتباط المزبور إلى جعل الجاعل ووضعه بل ادعى استحالته وقال : بأنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين الامرين اللذين لا علاقة بينهما بحيث تكون تلك العلقة مجعولا ابتدائيا للجاعل تكوينا بدون جعل طرفيها أو تغيير وضع فيهما. ثم انه بعد انكاره لذلك التزم بالتعهد وقال : بان ما يمكن تعقله ويبنى عليه هو ان يلتزم الواضع ويتعهد تعهدا كليا بأنه من أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تلفظ بلفظ كذا ، لان ما هو الممكن انما هو جعل الارتباط بين إرادة المعنى وإرادة التلفظ بلفظ كذائي لا جعل الارتباط تكوينا بين اللفظ والمعنى ، فإذا التفت المخاطب حينئذ إلى هذا الالتزام والتعهد المزبور الذي مرجعه إلى الاعلام بإرادة المعنى الكذائي عند التكلم بلفظ كذا وعلم به ، فلا جرم ينتقل ذهنه إلى ذلك المعنى عند سماع اللفظ منه ، وحينئذ فكان مرجع الوضع إلى مثل هذا الالتزام والتعهد الكلى وكانت العلقة المزبورة بين اللفظ والمعنى نتيجة لذلك التعهد ، لا انها مجعولة تكوينا ابتداء للواضع بوضعه وجعله. ثم انه من هذا الأساس أيضا أنكر الجعل في الوضعيات والتزم بأنه ليس في البين في ذلك المقام أيضا الا الأحكام التكليفية والإرادات الخاصة وانها انما كانت منتزعة عن الاحكام


(28)
التكليفية ، فكان مثل الملكية منتزعة عن حكم الشارع بجواز تصرف شخص في عين وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه ورضاه ، والزوجية منتزعة عن حكمه بجواز وطي شخص امرأة وعدم جواز وطيها على غيره بمثل قوله : من عقد على امرأة يجوز له وطيها ولايجوز لغيره ذلك ، حيث كان العقل ينتزع في الأول من حكم الشارع نحو إضافة بين المال وبين الشخص نعبر عنها بالملكية ، وفى الثاني إضافة بين الشخصين يعبر عنها بالزوجية ، وهكذا غيرهما من الوضعيات ، فكان الكل منتزعا عن الأحكام التكليفية بلا كونها مجعولة بوجه أصلا ، هذا.
    وتوضيح الفساد يظهر مما قدمناه من وجه الفرق بين نحوي الإضافة وعدم كون العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى من سنخ الإضافات الخارجية بين الامرين الخارجيين من نحو الفوقية والتحتية ونحوهما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها ، بل وانها من سنخ الاعتباريات التي تحققها كان بالجعل كالملكية والزوجية ، على أن ارجاع الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيم ، فإنه بعد أن كان مرجع التعهد المزبور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول بأنه يسأل عنه بان تلك الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو : اما ان تكون إرادة نفسية ، واما ان تكون إرادة غيرية توصلية إلى ابراز المعنى باللفظ نظرا إلى قالبية اللفظ له ، وعلى الأول فاما ان يكون الغرض من تلك الإرادة ايجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة ، واما ان لايكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل وانما الغرض من توجيه الإرادة إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى. فان كان المقصود هو هذا الأخير فلا سبيل إلى دعواه فإنه مع منافاته لما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لا من جهة مطلوبية التلفظ به نفسا ـ مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ، لان لازم البيان المزبور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان : انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير الانتقال من اللازم إلى ملزومه ، مع أن ذلك كما ترى مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز ، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا


(29)
توسيط لفظ في البين أصلا ، كما لايخفى. وان كان المقصود الأول فله وان كان وجه الا انه يرجع إلى ما ذكرنا من القول بالوضع ، فان القائل بالوضع لا يدعى أزيد من ذلك ، ولقد تقدم ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة ، فيكفي في تحققها مجرد الجعل والإرادة. نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها نظرا إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والتعهد الكلى ، فينا في حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها. واما ان كان المقصود هو الأخير الذي فرضناه من كون الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ إرادة غيرية توصلية لابراز المعنى المقصود باللفظ باعتبار ما للفظ من المبرزية عن المعنى ، فعليه نقول : بان جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد أن لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها ، فلا جرم لابد وأن يكون نشؤها اما من قبل وضع الواضع وجعله أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ أو من قبل إرادة أخرى ، ولا سبيل إلى الأخيرين لان الأول منهما بديهي الاستحالة وكذا الثاني ، فإنه مع أنه لا سبيل إلى دعواه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين يجيء فيها ما ذكرناه من الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية ، فيتعين حينئذ المعنى الأول وهو المطلوب.
    لايقال : انما يرد هذا المحذور لو أريد تحقق العلقة والارتباط من قبل الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ في مقام الاستعمال وليس كذلك بل المقصود كونها نتيجة لذلك التعهد الكلى.
    فإنه يقال : كلا فان الإرادات الاستعمالية على مسلك هذا القائل عين تلك الإرادة الكلية المسماة عنده بالتعهد الكلي ، وهو تعهده كليا التلفظ بلفظ كذا عند إرادة تفهيم معنى كذا ، إذ حينئذ تكون الإرادات الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ عبارة عن فعلية ذلك التعهد الكلي ، والا فقبل إرادة التفهيم لايكون في البين الا مجرد البناء على إرادة اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه بعد غيرية الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لابد من الالتزام بان جهة مبرزية اللفظ كانت مستندة إلى وضع الواضع وجعله كما هو واضح.
    ثم إن من لوازم هذا المسلك انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا


(30)
ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ، بخلافه على مسلك الوضع فإنه عليه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من قبل الوضع والجعل ، وربما ينتج هذا المعنى في بعض المباحث الآتية كما في مبحث العام والخاص.
    وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا بطلان ما أسسه على هذا الأساس من انكار الجعل في مطلق الوضعيات والتزامه بان مثل الملكية والزوجية انتزاعية صرفة من الأحكام التكليفية ، إذ نقول : بان في مثل قوله : الناس مسلطون على أموالهم ، وقوله : لايجوز التصرف في مال أحد بدون اذن صاحبه ، لايكاد يتم هذا المقالة لان جهة الملكية وإضافة المال إلى الغير حينئذ انما كانت مأخوذة في موضوع هذا الحكم أعني حرمة التصرف ، ولازمه كونه في رتبة سابقة عنه كنفس المال كما هو الشأن في كل موضوع بالقياس إلى حكمه ، وحينئذ نقول : بان مثل هذه الإضافة بعد ما لايمكن نشؤها من قبل هذا الحكم التكليفي المتأخر عنها رتبة فلا بد وأن يكون نشؤها اما من قبل حكم تكليفي آخر في رتبة سابقة عنها واما من قبل الجعل ، والأول بديهي الفساد فإنه ـ مضافا إلى القطع بأنه لا حكم آخر في البين غير هذا الحكم المترتب عليها ـ يلزمه اجتماع الحكمين المتماثلين في نحو قوله : لايجوز التصرف في مال الغير بدون اذن صاحبه ، أحدهما في رتبة سابقة عن الإضافة والآخر في رتبة لا حقة عنها ، وحينئذ فبعد القطع أيضا بعدم نشؤ إضافة الملكية من مجرد جواز تصرف الانسان في شيء ـ بشهادة جواز تصرف كل شخص في المباحات الأصلية يتعين الثاني من كون نشؤها من قبل الجعل.
    وكيف كان فبعد ما ظهر بطلان القول بالتعهد نقول : بان العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى في الأوضاع التخصيصية كما يتحقق بالانشاء القولي من قول الواضع ( جعلت هذا اللفظ لمعنى كذا ) كذلك يتحقق أيضا بالانشاء الفعلي وبنفس الاستعمال قاصدا به تحقق العلقة والربط بينهما ، كقولك عند تسميتك ولدك : جئني بولدي محمد قاصدا به حصول العلقة الوضعية بهذا الاستعمال ، كما نظيره في المعاطاة التي هي انشاء فعلى لحصول الملكية لزيد ، وعدم كون مثل هذا الاستعمال من الاستعمال في المعنى الحقيقي أو المجازى غير ضمائر فيما نحن بصدده من تحقق العلقة والربط بمثل هذا الاستعمال. واما ما قد يقال : من امتناع ذلك من جهة استلزامه لمحذور اجتماع اللحاظين
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس