نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 31 ـ 45
(31)
في اللفظ : اللحاظ العبوري الآلي تارة ، واللحاظ الاستقلالي إليه أخرى ـ نظرا إلى اقتضاء الوضع لان يكون النظر إليه نظرا استقلاليا ـ فمدفوع بان النظر إلى شخص هذا اللفظ لايكون الا عبوريا إلى طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلاقة والربط بينها وبين المعنى ، وحينئذ فمتعلق اللحاظ الاستقلالي انما كان هو طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلقة بينها وبين المعنى ، ومتعلق اللحاظ الآلي كان هو شخص هذا اللفظ ، ومعه لم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يتوجه عليه محذور الاستحالة المزبورة ، كما هو واضح. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في صحة هذا القسم من الوضع وامكانه.
    بل قد يدعى كما عن المحقق الخراساني ( قدس سره ) لزوم انتهاء الأوضاع التخصصية أيضا إلى مثل هذا النحو من الوضع التخصيصي وانه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في أحد تلك الاستعمالات والا فبدونه لايكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ ، فلذلك أورد على تقسيم المشهور للوضع بالوضع التعيني تارة وبالتعييني أخرى وقال : بأنه لا مجال لهذا التقسيم وان الحري هو حصره بخصوص التعييني بالجعل والانشاء غايته بالأعم من الانشاء القولي والفعلي. ولكن يرد عليه بأنه انما يتوجه هذا الاشكال فيما لو كان سنخ هذا النحو من العلاقة والربط بجميع أفراده جعليا بحيث يحتاج في تحققها إلى توسيط انشاء وجعل في البين ، ولكنه ممنوع بل نقول بأنها كما تتحقق بالانشاء القولي أو الفعلي كذلك تتحقق بواسطة كثرة الاستعمال كما نشاهد بالوجدان والعيان في استعمالنا الألفاظ في المعاني المجازية حيث نرى بأنه بكثرة الاستعمال يحدث مرتبة من العلاقة بينه وبين المعنى الثاني وبهذا المقدار يضعف علاقته عن المعنى الأول بحيث كلما كثرت الاستعمالات تضعف علاقته للمعنى الأول ويشتد في قباله العلاقة بينه وبين المعنى الثاني إلى أن تبلغ بحد يصير المعنى الأول مهجورا بالمرة وتصير العلاقة التامة بينه وبين المعنى الثاني بحيث لو أريد منه المعنى الأول لاحتاج إلى إقامة قرينة في البين ، ومع هذا الوجدان لا مجال لانكار هذا القسم من الوضع ، كما هو واضح. نعم لهذا الاشكال مجال فيما لو أريد تحقق تلك العلقة والارتباط دفعة واحدة لا بنحو التدريج ، ولكنه لم يدع أحد مثل ذلك بل وان كل من يدعى وجود هذا القسم من الوضع يدعى تحققها شيئا فشيئا بنحو التدريج ، ومن المعلوم ان مثل هذا المعنى امر ممكن بل واقع كما ذكرنا.


(32)
    وعلى كل حال يبقى الكلام في اقسام الوضع
    فنقول :
    انهم قد قسموا الوضع باعتبار عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما على اقسام. ولابد في تنقيح الكلام في هذه الجهة من تمهيد مقامات : الأول في بيان ما يمكن ان يقع عليه التقسيم باعتبار الحصر العقلي ، الثاني في بيان ما يمكن من هذه الأقسام ، الثالث في بيان ما هو الواقع منها ، فنقول :
    اما المقام الأول : فلا شبهة في أن للوضع حسب الحصر العقلي أقساما أربعة : عام الوضع والموضوع له ، وخاصهما ، وعام الوضع وخاص الموضوع له ، وعكسه ، من جهة ان المعنى الملحوظ حال الوضع اما ان يكون كليا واما ان يكون جزئيا ، وعلى الأول فاما ان يكون وضع اللفظ لذلك المعنى الكلى الملحوظ واما ان يكون وضعه لمصاديقه المندرجة تحته ، كما أنه على الثاني أيضا تارة يكون وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الجزئي وأخرى يكون وضعه بإزاء معنى كلي يكون متصوره من افراده ومصاديقه ، فباعتبار الأول يكون من عام الوضع والموضوع له ، وباعتبار الثاني يكون من عام الوضع وخاص الموضوع له ، وباعتبار الثالث يكون من خاص الوضع والموضوع له ، وباعتبار الرابع يكون من خاص الوضع وعام الموضوع له ، فهذه اقسام أربعة للوضع حسب اقتضاء الحصر العقلي.
    فنقول : اما القسم الأول وهو عام الوضع والموضوع له فيتصور على نحوين : الأول ما هو المعروف المشهور من لحاظ معنى كلي عام ووضع اللفظ بإزائه كما في الانسان والحيوان حيث يلاحظ مفهوم الانسان في ذهنه فيضع لفظ الانسان بإزاء ما تصوره من المعنى الكلام العام. ولايخفى انه على هذا يكون عمومية الوضع وكليته من قبيل كلية الأحكام التكليفية ، من كونه باعتبار كلية متعلقه ، فكما ان كلية الإرادة والحكم كانت باعتبار كليه متعلقه من حيث انحلالها حسب تعدد افراد المتعلق إلى إرادات واحكام جزئية ، كقوله : لا تشرب الخمر ـ والا فنفس هذا الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بهذا العنوان لا تكون الا شخصية وممتنعة الصدق على الكثيرين ـ كذلك أيضا عمومية الوضع وكليته


(33)
انما كانت باعتبار كلية متعلقه ، لا ان عموميته كانت باعتبار عمومية آلة الملاحظة كما قبل بان معنى عمومية الوضع وخصوصيته انما كانت من جهة عمومية آلة الملاحظة وخصوصيتها ، كيف وانه في الفرض لايحتاج في مقام الوضع إلى توسيط آلة الملاحظة ، فان المفهوم الكلي كمفهوم الانسان أو الحيوان وكذا طبيعة اللفظ بنفسها متصورة في الذهن بلا توسيط آلة ملاحظة في البين ، ومعه لايحتاج في مقام وضع اللفظ بإزائه واحداث العلقة والربط بينهما إلى توسيط شيء نسميه آلة الملاحظة ، كي لأجل عموميتها وكليتها يتصف الوضع بالكلية والعمومية ، كما هو واضح.
    الثاني : من قسمي عموم الوضع والموضوع له : هو ان يكون الموضوع له الجهة المشتركة بين الافراد المتصورة في الذهن التي بها تمتاز افراد كل نوع عن افراد نوع آخر بنحو لايكاد تحققه في الذهن الا مع الخصوصية وبالوجود الضمني لا المستقل ، وذلك بان يلاحظ معنى عام ويشار به إلى الجهة المشتركة والجامع المتحد مع الافراد الذهنية التي بها امتياز افراد كل نوع عن آخر فيجعل اللفظ بإزاء تلك الجهة المشتركة بما هي مشتركة وموجودة في الذهن بعين وجود الفرد والخصوصية ، وبعبارة أخرى يكون الموضوع له حينئذ عبارة عما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الافراد المتصورة في الذهن لا المفهوم المنتزع عن ذلك ، فهذا أيضا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له. ولايخفى انه على هذا التصوير يحتاج في مقام الوضع إلى وجود آلة الملاحظة ، لان المعنى الموضوع له بعد أن لم يكن له وجود مستقل في عالم الذهن واللحاظ بل كان وجوده في ضمن وجود الفرد ومتحدا معه نظير الجامع بين الافراد الخارجية من حيث عدم وجود له في الخارج مستقلا وكونه موجودا في ضمن الفرد والخصوصية ، فلا جرم يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط معنى عام يجعله آلة للملاحظة تلك الجهة المحفوظة بين هذه الخصوصية وتلك الخصوصية ، ولكن مورد الوضع ومحله كان مختصا بتلك الجهة المحفوظة في ضمن الافراد فكانت الضمائم والخصوصيات كلها خارجة عن مصب الوضع. وليكن ذلك على ذكر منك ينفعك فيما يأتي عند التعرض لبيان وضع الحروف وأسماء الإشارة.
    وحينئذ فكم فرق بين هذا القسم من عام الوضع والموضوع له وبين سابقه الذي هو المعروف لدى المشهور ، فإنه على الأول يكون الموضوع له عبارة عن معنى عام منتزع له وجود مستقل في وعاء الذهن واللحاظ قبال الخصوصيات كمفهوم الانسان والحيوان


(34)
بخلافه على الثاني فان الموضوع له على ذلك عبارة على الجامع المتحد مع الافراد الذي لايكاد تحققه في الذهن وفى عالم اللحاظ الا في ضمن الفرد والخصوصية ، ومن ذلك دائما يحتاج في مقام الاستعمال ومرحلة التفهيم إلى وجود دالين : أحدهما على نفس الجامع والآخر على الخصوصية ، كما أنه على ذلك يحتاج أيضا إلى توسيط آلة الملاحظة في مقام وضع اللفظ من جهة ما عرفت من عدم امكان لحاظ مثل هذا المعنى مستقلا في الذهن ، كما هو واضح.
    بل ولئن تأملت ودققت النظر ترى أيضا الاحتياج إلى توسيط آلة الملاحظة حتى على القسم الأول من عام الوضع والموضوع له ، وذلك فإنه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان : من وضع أسامي الأجناس للمهية المهملة ، لما كان لايمكن لحاظ المهية المهملة مستقلا في الذهن معراة عن خصوصية الاطلاق والتقييد ، لان كل ما يتصوره الانسان لا يخلو من كونه اما طبيعة مقيدة واما طبيعة مطلقة وعارية عن القيد والخصوصية ولا صورة ثالثة في الذهن جامعة بين الواجد للقيد وفاقده بحيث كان لها موجود مستقل في الذهن قبالا للفاقد والواجد نسميها بالمهية المهملة ، فلا جرم في مقام وضع اللفظ لهذه الطبيعة التي هي الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة لابد من توسيط آلة ملاحظة في البين مشيرا بها إلى ما هو الجامع بين الواجد للقيد والخصوصية وفاقده الذي لايكون له وجود في الذهن الا في ضمن الواجد للقيد أو فاقده ، كما هو واضح. نعم بناء على مسلك المشهور من القدماء في وضع أسامي الأجناس : من كونها للطبيعة المطلقة الصادقة على القليل والكثير ، لايحتاج إلى توسيط آلة ملاحظة في البين في مقام الوضع ، من جهة ان نفس المعنى والمفهوم حينئذ مما أمكن لحاظه وتصوره مستقلا بلا توسيط عنوان وآلة ملاحظة في البين. ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين ، بل الموضوع له في أسامي الأجناس ـ كما سنحققه إن شاء الله تعالى ـ عبارة عن الطبيعة المهملة التي هي جامعة بين الطبيعة المقيدة والمطلقة التي هي مقالة المشهور من القدماء ، ومن ذلك نقول بأنه يحتاج في اثبات الاطلاق إلى التشبث بمقدمات الحكمة ، وعليه لا محيص بعد عدم امكان تصور مثل هذا الجامع ولحاظه مستقلا في الذهن من توسيط عنوان يكون آلة للملاحظة الجامع المزبور في مقام الوضع. ولكن على تقدير تكون جهة عمومية آلة الملاحظة غير مرتبطة بعالم عمومية الوضع بل وانما عمومية الوضع وخصوصية من قبيل


(35)
عمومية الحكم والتكليف وخصوصيته من كونه باعتبار كلية المتعلق وجزئيته ، فتدبر. هذا كله في القسم الأول من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع.
    واما القسم الثاني منها : وهو فرض عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، ففيه أيضا يتصور صور ثلاث :
    الأولى : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان العام الكلى عبارة عن الافراد المخصوصة والخصوصيات التفصيلية الجزئية ، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الانسان وعنوان الابتداء الكلى مشيرا بهذا العنوان إلى المصاديق الخاصة والصور التفصيلية بخصوصيتها الخاصة من زيد وعمرو وبكر ، كما نظيره في باب التكاليف من قوله : أكرم من في الصحن ، مشيرا به إلى الافراد الخارجية الموجودة في الصحن من زيد وعمرو وبكر.
    الثانية : ان يكون المعنى الموضوع له عبارة عن الافراد والصور التفصيلية ولكن بما انها تعم الكلى والشخصي ، كما في لحاظ عنوان الشيء أو الذات مشيرا به في مقام وضع لفظ الانسان مثلا أو غيره إلى ما ينطبق عليه هذا العنوان العام من المصاديق والصور التفصيلية التي منها الانسان والحيوان ومنها زيد وعمرو وبكر ، واضعا للفظ الانسان بإزاء الصور التفصيلية المزبورة ، كما قد يتوهم ان وضع أسماء الإشارة من هذا القبيل وانها موضوعة للصور التفصيلية بما انها تعم الشخصي والكلي ولذلك يقال : هذا الانسان وهذا زيد. والفرق بينه وبين سابقه واضح ، فإنه على الأول يكون الموضوع له دائما معنى جزئيا بخلافه في هذا القسم ، فان الموضوع له عبارة عما يعم الشخصي والكلي ، ولذلك يلزمه عدم صحة استعمال اللفظ على الأول في الكلى وما له القابلية للصدق على الكثيرين وصحة استعماله فيه على الثاني.
    الثالثة : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان الكلى عبارة عن معنى اجمالي مبهم كالشبه مثلا بنحو يكون نسبته إلى الصور التفصيلية نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنى الاجمالي عين المعنى التفصيلي ، لا من قبيل نسبة الكلى والفرد ، فيلاحظ الواضع حينئذ بتوسيط العنوان الكلى معنى مبهما ثم في مقام الوضع يضع لفظا بإزاء ذلك المعنى المبهم لكن لا بما هو مبهم محض بل بما انه مشتمل على خصوصية زائدة كخصوصية كونه معروض الخطاب أو الغيبة أو الإشارة أو المعهودية. ولعله من هذا القبيل باب الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كما سيجيء ، إذ يمكن


(36)
ان يقال : بان الموضوع له فيها عبارة عن معنى فيه ابهام متحد مع ما يماثل مفهوم مرجعها لكنه مع اشتمالها على خصوصية زائدة من الغيبة والحضور كما في الضمائر ، أو الإشارة والمعهودية كما في أسماء الإشارة والموصولات من نحو هذا والذي كما يشهد لذلك التعبير عنها بالفارسية ب‍ ( أو ) و ( أين ) ونحو ذلك ، ومن ذلك جرى التعبير عنها بالمبهمات ، فان ذلك لايكون الا من جهة ان الموضوع له فيها معنى ابهامي ، ولذلك أيضا نحتاج دائما إلى عطف البيان بقولك : هذا الرجل هذا الانسان وهذا زيد. كيف وان دعوى كون وضعها للمراجع الخاصة والصور التفصيلية بعيدة غايته ، لان لازمه انسباق مفهوم الانسان في مثل هذا الانسان مرتين في الذهن : تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ الانسان ، وهو كما ترى ! كما أن مثله في العبد دعوى كون هذا موضوعا لنفس الإشارة التي هي معنى حرفي وان هذا تقوم مقام الإشارة باليد إلى الانسان وغيره ، إذ لازم ذلك أيضا هو عدم اجراء احكام الاسم عليها من جعلها مسندا إليه ومسندا ، مع أنه أيضا كما ترى ! وذلك بخلافه على المعنى الأول ، فإنه عليه قد حفظ جهة اسمية المعنى فيها فلا يلزم من اجراء احكام الاسم عليها ارتكاب خلاف قواعد ، كما هو واضح. وسيجيء زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى في محله ، فانتظر.
    واما القسم الثالث منها : أعني خاص الوضع والموضوع له ففرضه واضح ، كما في الاعلام الشخصية.
    واما القسم الرابع منها : أعني خاص الوضع وعام الموضوع له ، فتصويره انما هو بلحاظ عنوان خاص كزيد مثلا جاعلا له عبرة ومرآة لعنوان كلي منطبق عليه وعلى غيره كعنوان الانسان ثم وضع اللفظ بإزاء ذاك العنوان الكلى الفوق أو بلحاظ الانسان المقيد بخصوصية الزيدية جاعلا له مرآة لطبيعة الانسان المنطبق عليه وعلى غيره من الحصص الأخرى. هذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول فيما يمكن ان يقع عليه التقسيم بحسب الحصر العقلي.
    واما المقام الثاني : فالكلام فيه كما عرفت انما هو في بيان ما يمكن من الأقسام الأربعة المزبورة ، فنقول :
    اما القسم الأول : فلا اشكال في امكانه بل وقوعه أيضا ، كما في أسامي الأجناس. ومثله في الامكان بل الوقوع أيضا القسم الثالث ، كما في الاعلام الشخصية.


(37)
    واما القسم الثاني : فالظاهر هو امكانه أيضا ضرورة امكان تصور الجزئيات والافراد بتوسيط عنوان كلي عام ينطبق عليها ، إذ معرفة العنوان الكلى العام معرفة للافراد المندرجة تحته ولو بنحو الاجمال ، وبعد كفاية معرفة الموضوع له وتصوره ولو بوجوبه اجمالي لا مجال للاشكال في امكانه. نعم انما يتوجه الاشكال فيما لو احتاج الوضع إلى تصور المعنى الموضوع له بوجه تفصيلي ، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بان شيئا من العناوين التفصيلية كعنوان الانسان والحيوان ونحوهما وكذا العناوين العامة العرضية كعنوان الذات والشيء ونحوهما ـ لايمكن ان يكون مرآة إلى الافراد الخاصة والعناوين التفصيلية ، لان غاية ما يحكى عنه تلك العناوين انما هي الجهة المشتركة بين الافراد التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن افراد نوع آخر ، واما حكايتها عن الافراد بما لها من الخصوصيات التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع فلا ، بل هو من المستحيل ، من جهة ان الفرد والخصوصية مبائن مفهوما مع مفهوم العام والكلي ، والمبائن لايمكن ان يكون وجها للمبائن. ولكنه بعد كفاية لحاظ الموضوع له ولو بوجوبه اجمالي لا مجال لهذا الاشكال ، ضرورة امكان تصور الافراد والجزئيات الخاصة بنحو الاجمال بتوسيط عنوان اجمالي مشيرا به إلى الافراد الخاصة في مقام الوضع المعبر عنها بها ينطبق عليه مفهوم الانسان أو مفهوم الذات أو الشئ. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في امكان هذا القسم أيضا.
    واما القسم الرابع : أعني فرض خاص الوضع وعام الموضوع له ، فقد يقال بامكانه أيضا وانه كما يمكن جعل عنوان عام كلي وجها للافراد والخصوصيات المندرجة تحته كذلك يمكن العكس بجعل الفرد وجها للكلي المنطبق عليه وعلى غيره. ولكن التحقيق هو عدم امكانه واستحالته ، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصية كعنوان زيد مثلا واضح ، ضرورة ان الفرد والخصوصية يباين مفهوما مع مفهوم العام والكلي ومعه لايمكن جعله وجها وعنوانا له. واما لو كان آلة اللحاظ هو الكلي المقيد كالانسان المتقيد بالخصوصية الزيدية أو العمروية ولو بنحو دخول التقييد وخروج القيد فكذلك أيضا ، فإنه مع حفظ جهة التقيد بالخصوصية فيه يباين لا محالة مفهوما مع الانسان المطلق الجامع بين هذه الحصة وغيرها ، ومع الغاء جهة التقيد وتجريده عن الخصوصية ولحاظه بما انه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عام الوضع والموضوع له ، فتدبر.


(38)
    واما المقام الثالث فنقول : انه بعد ما ظهر في المقام الثاني امكان الأقسام الثلاثة أعني ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين وما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، يبقى الكلام في بيان ما هو الواقع منها فنقول : اما ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين فلا اشكال في وقوعه ، كما في الاعلام الشخصية وأسامي الأجناس. وانما الكلام فيما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، حيث إنه قيل بوقوع هذا القسم أيضا وان وضع الحروف وما شابهها من الهيئات والافعال والأسامي المتضمنة للمعنى الحرفي من هذا القبيل ، لما يرى من عدم كون الاستعمال فيها الا في معان جزئية. وتنقيح المرام في هذا المقام يحتاج إلى شرح حقيقة المعاني الحرفية وما ضاهاها ثم بيان انها كلية أو جزئية.

    فهنا جهات من الكلام :
    الأولى في المعاني الحرفية وفيها مقامان : الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، الثاني في بيان انه كلي أم جزئي فنقول :
    اما المقام الأول فاعلم أن المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الأربعة بل الخمسة كما سنذكرها :
    أحدها ما ينسب إلى الرضى في شرح الكافية وجماعة أخرى بان الحروف مما لا معنى لها أصلا ، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف معنى الغير كالرفع الذي هو علامة للفاعلية ، وانه كما أن الرفع في زيد في مثل جائني زيد لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف ، فلفظ في مثلا في مثل زيد في الدار لايكون له معنى أصلا وانما هي علامة لتعرف معنى الدار وانها معنى أيني من حيث كونها مكان زيد قبال كونها معنى عينيا ومن الأعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في في قولك زيد في الدار ، مما لا معنى لها أصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من حيث كونها مكان زيد ومعنى أينيا وقد جئ بكلمة في لتعرف حال الدار وخصوصية معناها ، وهكذا لفظ من وعلى ونحوهما من الحروف ، وحينئذ فلايكون للحروف معنى


(39)
أصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت ألفاظ غيرها.
    ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى أن للحروف معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية ، وهكذا تعريفهم الاخر لها بان الحرف هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه ، فان من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف معنى ، غير أن معناه كان قائما بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو واضح. كيف وان مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من أسامي الأجناس وهي حسب وضعها لاتدل الاعلى المهية المهملة وذات المعنى بما هي عارية عن الاطلاق والتقييد ولذا تحتاج في مقام اثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقي العاري عن الخصوصيات إلى مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو المعنى الاطلاقي. وحينئذ نقول بأنه على فرض ان تكون تلك الخصوصية تحت لفظ الغير ومرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من البصرة في معنى الخاص فيلزمه المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد والخصوصية ، وهو كما ترى ! فلا محيص حينئذ الا من الالتزام بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلى أعني الطبيعة المهملة وكونه من باب اطلاق الكلى على الفرد وإرادة الخصوصية بدال اخر كما في قوله جاء رجل من أقصى المدينة وعليه ونقول : بأنه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير والبصرة فلابد وأن يكون تحت دال اخر وهو في المقام لايكون إلا لفظ في في زيد في الدار ولفظ من في سر من البصرة هذا. على أن ما أفيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب والجر من التسلم بأنها مما لا معنى لها وانها ومجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في جائني زيد فاعلا في التركيب غير وجيه أيضا ، إذ نقول فيها أيضا بان الرفع وكذا النصب والجر انما هي من مقولات الهيئة الكلامية ، وحينئذ فبعد ان كان للهيئة وضع للدلالة على النسب الكلامية كما سنحققه إن شاء الله تعالى فلا جرم كان للأعراب أيضا معنى ، حيث كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك من أنحاء النسب وخصوصياتها ، من غير أن تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ


(40)
الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجيء ، لما عرفت من أن لفظ زيد لا يدل بحسب وضعه الا على ذات زيد بما هي عارية عن خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو حالا في الكلام ، فيحتاج حينئذ في إفادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى أن يكون بدال آخر وهذا الدال لايكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في قولك : ضربت زيدا. وحينئذ فما أفيد من التسلم على عدم المعنى للأعراب وانها علامة محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا أو حالا في التركيب الكلامي مشبها للحروف بها أيضا في ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو واضح.
    وحينئذ فبعد أن ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه بعد أن كان للحروف معان في نفسها فهل هي من سنخ المعاني الآلية ؟ أو انها من سنخ الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها ؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين ؟ حيث إن فيه وجوها وأقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها : بأنها مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة بالمفهومية المعبر عنها : تارة بأنها ما دل على معنى في غيره ، وأخرى بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية ، قبالا للاسم الذي عرفوه : بأنه ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية. ففي الحقيقة منشأ هذا النزاع انما هو في وجه عدم استقلال المعنى الحرفي وكيفية احتياجه وقيامه بالغير ، وانه من قبيل قيام المرآة بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتي ، أو من قبيل قيام الاعراض الخارجية بمعروضاتها ، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال المعنى الحرفي باعتبار نفس ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الأول ، والا ففي أصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.
    وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة :
    أحدها : ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخرساني ( قدس سره ) وبعض آخر من كون معاني الحروف معاني آلية ، وان الفرق بينها وبين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي والاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الأسمى ، فإذا لو حظ المعنى في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لو حظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنى اسميا فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر ، وانما


(41)
الفرق بينهما من جهة كيفية اللحاظ من حيث الاستقلالية والآلية لمعنى آخر. ومن هذه الجهة أيضا التزموا بعموم الوضع والموضوع له في الحروف نظرا إلى كون ذات المعنى والملحوظ حينئذ معنى كليا وعدم كون اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئيته.
    ولعل عمدة النكتة في مصيرهم إلى اختيار هذا المشرب انما هو ملاحظة انسباق الخصوصيات والارتباطات الخاصة في موارد استعمال الحروف في قوله : زيد في الدار وسرت من البصرة أو من الكوفة ، مع ملاحظة بعد كونها بحسب الارتكاز من قبيل المتكثر المعنى ، فان ملاحظة هذين الامرين أوجبت مصيرهم إلى أن للحروف أيضا معاني كلية هي بعينها معاني الأسماء وانها مفاهيم كلية كمفهوم الابتداء الذي هو معنى لكلمة من ولفظ الابتداء ، غايته انه جعل في الحروف بنحو يلاحظ مرآة لملاحظة المصاديق الخاصة من النسب الابتدائية الذهنية الحاصلة بين السير والبصرة ونحو ذلك.
    نعم على هذا لقول لما كان يلزمه صيرورة لفظ من ولفظ الابتداء مثلا من المترادفين كما في الانسان والبشر فيلزمه صحة استعمال كل منهما مكان الآخر مع أنه بديهي البطلان ، إذ لايصح ان يقال بدل الابتداء خير من الانتهاء ( من خير من إلى ) وبدل سرت من البصرة إلى الكوفة ( سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ) اعتذر عنه في الكفاية بان عدم صحة ذلك انما هو من جهة ما يقتضيه قانون الوضع حيث إنه وضع الاسم لان يراد معناه بما هو وفي نفسه بخلاف الحرف فإنه وضع لان يراد معناه لا كذلك بل هو آلة الملاحظة خصوصية حال المتعلق ، ففي الحقيقة منشأ عدم صحة الاستعمال المزبور انما هو حيث قصور الوضع وعدم اطلاقه لما إذا لم يستعمل كذلك لا من جهة تقيد المعنى والموضوع له فيهما باللحاظ الاستقلالي والآلي لان ذلك من المستحيل لما فيه من التوالي الفاسدة التي : منها لزوم عدمه صدقه على الخارجيات لان الامر المقيد باللحاظ الذهني كل عقلي لا موطن له الا الذهن فيلزمه امتناع امتثال مثل قوله : سر من البصرة إلى الكوفة الا مع التجريد والغاء الخصوصية. ومنها لزوم اجتماع اللحاظين في مقام الاستعمال : أحدهما ما هو المأخوذ في ناحية نفس المعنى والمستعمل فيه ، وثانيهما ما به قوام الاستعمال ، فيلزمه حينئذ تعلق اللحاظ بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ. ومنها اقتضائه لجزئية المعنى في الأسماء أيضا باعتبار ان اللحاظ الاستقلالي كاللحاظ الآلي مع أن ذلك كما ترى ، ولا من جهة وجود المانع عن الاستعمال المزبور مع اطلاق الوضع واقتضائه جواز استعمال كل من


(42)
الاسم والحرف في معناه ولولا على الكيفية المزبورة ، كما هو واضح.
    الثاني من المشارب : ما يظهر من بعض آخر من أن معاني الحروف معان قائمة بغيرها وانها من سنخ الاعراض القائمة بمعروضاتها كالسواد والبياض ، وهذا المشرب هو ظاهر كل من عبر عنها بأنها حالة لمعنى آخر.
    والفرق بين هذا المشرب وسابقه واضح ، فإنه على هذا المشرب يكون المعنى الحرفي بذاته وحقيقته مبائنا مع المعنى الأسمى ، حيث كان المعنى الحرفي حينئذ من سنخ المحمولات بالضميمة ومن قبيل الاعراض الخارجية التي وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، فيغاير ذاتا وحقيقة مع الاسم الذي لايكون معناه كذلك ، بخلافه على مشرب الكفاية فإنه عليه لايكون اختلاف بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ذاتا وحقيقة وانما الاختلاف بينهما كان من جهة كيفية اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية مع كون الملحوظ فيهما واحدا ذاتا وحقيقة ، ومن ذلك عند هؤلاء لو انقلب النظر ولو حظ المعنى استقلالا وبما هو شيء في نفسه ينقلب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الاسمي وبالعكس. وبذلك البيان ظهر الفرق بينهما من جهة الاستقلالية والتبعية أيضا حيث كان الاستقلالية والتبعية على المسلك الأول من صفات اللحاظ من حيث توجه اللحاظ إلى المعنى تارة بنحو الاستقلال وأخرى بنحو الآلية والمرآتية إلى الغير كما في نظرك إلى المرآة تارة مرآة لملاحظة وجهك وأخرى استقلالا لملاحظة نفسها للحكم عليها بان هذه المرآة أحسن من تلك ، بخلافه على المسلك الثاني فان الاستقلالية والتبعية على هذا المسلك انما كانت من صفات نفس المعنى والملحوظ من حيث تحققه تارة في الذهن محدودا بحد مستقل وغير متقوم بالغير وأخرى لا كذلك بل حالة لمعنى آخر وقائما به كقيام العرض بمعروضه مع كونه في مقام اللحاظ في الصورتين ملحوظا استقلالا لا مرآة. وحينئذ فكم فرق بين المشربين في الاستقلالية والتبعية ونحوي القيام بالغير ، فإنه في الحقيقة على الأول لايكون للمعنى الحرفي قيام بالغير أصلا ولو كان فإنما هو قيام زعمي تخيلي ، بخلافه على الثاني ، فان قيام المعنى الحرفي بالغير عليه قيام حقيقي لا زعمي ، كما هو واضح.
    الثالث من المشارب في الحروف : ما سلكه جماعة من الأساطين من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الخاصة والنسب والإضافات المتحققة بين المفهومين التي هي من سنخ الإضافات المتقومة بالطرفين ، فكان لفظ في في قولك : الماء في الكوز مثلا


(43)
موضوعا للربط الخاص الذي كان بين مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، وهكذا لفظ من في قولك : سرت من البصرة والى وعلى وحتى ونحوها من الحروف بل الهيئات أيضا كما سيأتي إن شاء الله ، فيكون الجميع موضوعا للروابط الخاصة الذهنية بين المفهومين لكن لا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي بل ما هو واقع الربط الذهني ومصداقه بالحمل الشايع ، فإنك إذا لاحظت السير الخاص المضاف بدوه إلى البصرة وكذلك الماء والكوز تجد في نفسك أمورا ثلاثة : مفهوم السير ومفهوم البصرة والتعلق الخاص بينهما ، وهكذا في مثال الماء في الكوز ، فكان لفظ في ولفظ من في المثالين موضوعا لذاك الربط والتعلق الخاص الذي بين مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز لأنه كما يحتاج مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز إلى لفظ خاص يحكى عنه في مقام تفهيم المقصود واظهار ما في الضمير كذلك ذلك الربط والتعلق الخاص بينهما حيث لايكاد يغنى عنه الألفاظ الموضوعة للمفاهيم الاسمية التي بها تقوم تلك الروابط والإضافات الخاصة كما هو واضح.
    ثم إن الفرق بين هذا المشرب وسابقه أيضا واضح فان المعنى الحرفي على المشرب السابق كان من قبيل المحمولات بالضميمة المرتبط وجودها بالغير نظير الاعراض الخارجية كالسواد والبياض بخلافه على هذا المشرب الأخير فان المعنى الحرفي على ذلك كان من سنخ الروابط والإضافات المتقومة بالطرفين. وبعبارة أخرى : المعنى الحرفي على المشرب المتقدم عبارة عن الشيء المرتبط وجوده بالغير وعلى المشرب الأخير عبارة عن نفس الربط بين الطرفين فالفرق بينهما واضح.
    وكيف كان فهذه مشارب أربعة في الحروف والمتعين منها هو المشرب الأخير. وذلك : اما المشرب الأول منها فلما عرفت فساده وبطلانه بما لا مزيد عليه ، واما المشرب الثاني منها الذي اختاره الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) فلانه لا سبيل إلى دعواه أيضا ، وذلك مضافا إلى ما فيه من مخالفته لما عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها ربما يساعد البرهان على خلافه أيضا ، وذلك من جهة وضوح انه انما يمكن المصير إلى ذلك فيما لو أمكن جعل المفهوم الكلي كمفهوم الابتداء مثلا مرآة إلى مصاديق النسب الابتدائية الذهنية بين المفهومين بخصوصياتها التفصيلية وهو من المستحيل جدا ، بداهة ان مصاديق الروابط الخاصة التفصيلية مما يباين مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية ومعه كيف يمكن حكاية الكلي بما هو كلي عن الروابط


(44)
الجزئية الخاصة المفصلة ؟ فلا محيص حينئذ اما من الغاء الخصوصيات التفصيلية طرا والمصير إلى أن الموضوع له للفظ من مثلا عبارة عن مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية التي هي جهة مشتركة بين مصاديق النسب الابتدائية الذهنية ، أو المصير إلى أن الموضوع له فيها عبارة عن نفس الروابط الذهنية الخاصة ، فعلى الثاني يلزمه الالتزام في وضع الحروف بكونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له وهو مناف لما اختاره فيها من كونها من باب عام الوضع والموضوع له ، وعلى الأول وان كان يلزم عليه هذا المحذور الا انه يلزمه عدم انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالاتها بعد عدم امكان جعل المفهوم الكلي بما هو كلي مرآة لملاحظة الروابط الذهنية الخاصة ، وهو كما ترى خلاف الوجدان كما هو واضح.
    نعم لو اغمض النظر عن ذلك لا يرد عليه ما ربما يتوهم وروده عليه من لزوم صحة استعمال كل من الاسم والحرف مكان الاخر فيقال بدل سرت من البصرة إلى الكوفة سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ، إذ قد عرفت فيما تقدم الاعتذار عن ذلك بان عدم صحة استعمال كل من الاسم والحرف حينئذ مكان الآخر انما هو من جهة قصور الوضع وتضيق دائرته وعدم اطلاقه الناشي ذلك الضيق من جهة تضيق الغرض الداعي على الوضع وأخصيته ، باعتبار ان الغرض من وضع الحروف انما هو لان يراد معناه لا بما هو شيء في حياله بل بما هو مرآة لملاحظة خصوصية حال المتعلق وفي وضع الأسماء لان يراد معناها لا كذلك بل بما هو وفي نفسه ، فان قضية أخصية دائرة الغرض توجب قهرا تضيقا في دائرة وضعه أيضا بنحو يخرجه عما له من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم لحاظ الآلية في الحروف والاستقلالية في الأسماء ، كما نظيره أيضا في الواجبات العبادية الموقوف صحتها على قصد القربة واتيانها بدعوة الامر المتعلق بها ، فكما ان أخصية دائرة الغرض هناك أو جبت تضيقا في دائرة الامر والإرادة عن الشمول لغير ما هو المحصل لغرضه ، وهو العمل الماتى عن داع قربى ، فلايكون للمتعلق اطلاق يعم حال عدم الدعوة ولا كان مأخوذا فيه قيد دعوة الامر ، كذلك في المقام أيضا ، فإذا كان الغرض من وضع الحروف مثلا تفهيم معناه حال كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بنحو القضية الحينية وفى الأسماء تفهيم معناها حال كونها ملحوظة باللحاظ الاستقلالي فلا جرم يتضيق من اجله دائرة موضوع وضعه أيضا بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق ويختص بذات المعنى لكن في حال كونه


(45)
ملازما مع اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالي في الأسماء بنحو القضية الحينية لا بنحو التقيد ، لان ذلك كما عرفت من المستحيل ، من جهة استحالة تقيد المعنى باللحاظ المتأخر عنه ، ومن المعلوم ان قضية ذلك قهرا هو عدم صحة الاستعمال المزبور على النحو المزبور من جهة عدم كونه من الاستعمال فيما وضع له بعد فرض قصور الوضع وعدم اطلاقه في الحروف والأسماء لحال عدم لحاظ المعنى مرآة أو استقلالا كما هو واضح.
    والى مثل هذا البيان أيضا نظر الكفاية ( قدس سره ) في جوابه عن الاشكال المزبور بأنه قضية قانون الوضع واشتراط الواضع لان يراد في الحروف معناها بما هي حالة لمعنى اخر وفى الأسماء بما هو هو وان كان في عبارته قصور في إفادة ذلك ، لا ان المقصود من ذلك بيان اشتراط الواضع بعد الوضع على المستعملين لان لا يستعملوا الحروف الا في حال لحاظ المعنى مرآة لحال المتعلق ولا الأسماء الا في حال لحاظ المعنى مستقلا ليكون من قبيل الشرط في ضمن العقد كما توهم ، كي يورد عليه بان لا معنى محصل ذلك ، ولا ملزم لاتباع شرط الواضع بعد اطلاق المعنى والموضوع له وعدم تقيده بصورة وجود القيد والخصوصية ، كيف وان بطلان مثل هذا الاشتراط على المستعملين لولا رجوعه إلى الارشاد إلى كيفية وضعه وعدم كونه مطلقا كما ذكرناه غنى عن البيان فلاينبغي ان ينسب ذلك إلى من له أدنى دراية فضلا عن القائل المزبور.
    وحينئذ فالعمدة في بطلان هذا المشرب هو ما أوردناه عليه من مخالفته لما هو قضية الوجدان والارتكاز بل ومساعدة البرهان أيضا على امتناعه ، نظرا إلى ما عرفت من امتناع كون الكلي مرآة للجزئيات والمصاديق بخصوصياتها التفصيلية خصوصا مع ما فيه أيضا من اقتضائه لزوم صرف جميع التقيدات عن مدلول الهيئة وارجاعها تماما إلى المادة والمتعلق نظرا إلى فرض كونها حينئذ على هذا المشرب غير ملتفت إليها كما لايخفى ، مع أن ذلك كما ترى خلاف الوجدان. وحينئذ بعد بطلان هذا المشرب أيضا يدور الامر بين المشرب الثالث والرابع وفي مثله لاينبغي التأمل في أن الأخير هو المتعين ، فان الوجدان في نحو قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة ونحو ذلك لايرى من لفظ في ومن الا الروابط الخاصة الذهنية بين مفهومي الماء والكوز ومفهومي السير والبصرة ، لا انه يرى من لفظ في الشيء المرتبط بالغير نظير السواد والبياض ولذلك لايصح الاكتفاء أيضا بذكر متعلق واحد بقولك
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس