نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 136 ـ 150
(136)
كالسواد والحلاوة ، مع أنه ليس كذلك قطعا لقضاء الوجدان حسب ما له من الارتكاز بالمضادة التامة بين القائم والقاعد وبين العالم والجاهل والصحيح والمريض والأبيض والأسود ، كالمضادة بين مبدئيها. وحينئذ فكان نفس تلك المضادة الارتكازية بين الأوصاف المزبورة أقوى شاهد وأعظم برهان على بطلان القول بالأعم.
    ولايخفى عليك بأنه هذا التقريب لايبقى موقع للاشكال عليه بما أفيد من منع المضادة بين نفس الأوصاف لكون التلبس بالوجود المطلق أعم من التلبس الفعلي ، فيمكن ان يكون جسم واحد مثلا يصدق عليه مفهوم الأبيض بمعنى اتصافه بالبياض الذي وجد فيه فانقضى عنه حال النسبة ويصدق عليه مفهوم الأسود أيضا على معنى اتصافه بالسواد المتلبس به في الحال فهذان العنوانان مما لا تضاد بينهما أصلا وانما التضاد بين مبدئيهما ولا يلزم من ذلك اجتماعهما في موضوع واحد بوجه أصلا. إذ فيه ما لايخفى فإنه بعدان كان مراد القائل بالأعم هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضى عنه المبدأ في الحال كصدقة على المتلبس الفعلي نظرا إلى دعوى كونه من المصاديق الحقيقية لمفهوم الأبيض والأسود بحيث يصح اطلاقه عليه فعلا بقولك هذا الجسم ابيض فعلا بمحض تلبسه بالبياض سابقا ، فلا جرم لا موقع لهذا الاشكال لأنه بعد تحقق المضادة الارتكازية بينهما كما فيما بين مبدئيهما واباء الوجدان عن صدق القائم والمشتغل عليه فعلا في حال تلبسه بالقعود وفراغه عن المبدأ يتم المطلوب ويبطل به دعوى القائل بالأعم ، واما المنع عن أصل تلك المضادة حتى بحسب الارتكاز فليس الا المكابرة مع الوجدان.
    ثم انه من هذا البيان ظهر أيضا اندفاع ما أورد من الاشكال على صحة السلب المزبور كما عن الفصول ( قدس سره ) فيما حكى عنه : من تقريب انه ان أريد من صحة السلب صحته مطلقا فغير سديد إذ لا يصدق على من انقضى عنه القيام انه ليس بقائم مطلقا لا في الحال ولا في الماضي بل يصدق عليه انه قائم في الجملة ولو في الماضي ، وان أريد به صحته مقيدا فغير مفيد لان علامة المجاز انما هو صحة السلب مطلقا وفيما انقضى عنه المبدأ انما يصح السلب مقيدا بالحال لا مطلقا ومثل ذلك لايكون من علائم المجاز كما لايخفى. وجه الاندفاع هو ما عرفت من أن هم القائل بالأعم إنما هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضي عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي ، نظرا إلى كونه من الافراد الحقيقية لهذا العنوان بمحض التلبس السابق ، ومن المعلوم انه يكفي في ابطاله صحة سلب


(137)
القائم الفعلي عنه إذ عدم صدق القائم الفعلي عن المنقضي عنه القيام يكفي في عدم كونه من المصاديق الحقيقية للعنوان كما هو واضح. نعم لو اعتبر التقيد المزبور في طرف المادة لا في طرف الاتصاف بالعنوان كما في قولك في زيد الذي انقضى عنه القيام فعلا : انه ليس بقائم بالقيام الفعلي بل هو قاعد بالقعود الفعلي لاتجه الاشكال المزبور بان سلب القائم بالقيام الفعلي عن زيد لايقتضي سلبه عنه بمطلق القيام ولو في الماضي. ولكن نقول أيضا : بان سلب القائم بالقيام الحالي عن زيد لما كان يلازم صحة سلب الاتصاف بالقائم الفعلي فبهذا لاعتبار يتم السلب المزبور في ابطال قول مدعى الوضع للأعم ، وذلك لما تقدم من أن هم القائل بالأعم انما هو صدق المشتق بما له من المعنى فعلا وفى الحال على المنقضى عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي بالمبدأ. وحينئذ فيكون صحة السلب المزبور كاشفا عن عدم كون المنقضى عنه القيام حالا من المصاديق الحقيقة لعنوان القائم والا لما كاد يصح السلب المزبور كما في المتلبس الفعلي من جهة منافاة هذا المعنى بالضرورة مع صحة سلب العنوان الحالي عنه كما هو واضح.
    ثم إن هذا كله بناء على جعل التقيد بالحال معتبرا في ناحية المسلوب الذي هو المحمول أي الوصف أو المبدأ ولقد عرفت بأنه على التقديرين يتم السلب المزبور لا ثبات المطلوب بلا ورود اشكال عليه. واما بناء على اعتباره في ناحية السلب أو الموضوع فالامر أوضح ، فإنه على الأول قد سلب معنى القائم بقول مطلق عن الموضوع المطلق غايته بالسلب المقيد كونه بلحاظ الحال الفعلي وهو حال الانقضاء ، وعلى الثاني قد سلب معنى القائم أيضا بقول مطلق بالسلب المطلق عن الذات المقيدة بكونها في حال انقضاء المبدأ عنها وعلى التقديرين يكون صحة السلب المزبور وافيا لاثبات المطلوب فلا يفرق حينئذ بين السلب المقيد ( بالإضافة ) والسلب المقيد ( بالتوصيف ) والسلب عن المقيد فتدبر. ولكن الأستاذ ( دام ظله ) لم يتعرض لفرض صورة ارجاع القيد إلى السلب أو إلى الموضوع وانما تعرضه كان لصورة ارجاعه إلى المسلوب الذي هو المحمول.
    ثم انه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا اندفاع ما أورد أيضا على التبادر المدعى : من دعوى ان مثل هذا التبادر لايكون مستندا إلى حاق اللفظ وانما هو من جهة قضية الاطلاق الناشي من جهة غلبة الاطلاق على المتلبس الفعلي ، ولا أقل من احتمال ذلك فلايكون دليلا على المدعى لان التبادر الذي يثبت به الوضع انما هو التبادر المستند إلى


(138)
حاق اللفظ لا مطلقا ولو المستند إلى قضية الاطلاق. توضيح الدفع : انه لو كان الامر كما ذكر من استناد التبادر إلى قضية الاطلاق الناشي من جهة الغلبة يلزمه لا محالة صحة اطلاقه أيضا على المنقضى عنه المبدأ بلا رعاية عناية في البين كما في اطلاقه على المتلبس الفعلي ، من جهة بداهة انه لايمنع مجرد الغلبة وكثرة الاطلاق عن صحة الاطلاق على الفرد النادر ، ومن ذلك ترى صحة اطلاق الانسان على من له رأسان وأياد أربع مع أنه من الندرة ما لايخفى ، مع أنه بشهادة الارتكاز نرى عدم صحة اطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ فعلا بل وصحة سلبه عنه كما عرفت وحينئذ فيتم دعوى القائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.
    ثم لايخفى عليك انه على ما ذكرناه من التقريب لا ثبات الحقيقة في خصوص المتلبس الفعلي لايكاد يفرق في أنحاء المشتقات بين كونه محكوما أو محكوما عليه وبين اسم الفاعل والمفعول وبين المأخوذ من المبادئ اللازمة أو المتعدية إلى غير ذلك من التفاصيل ، فلا بد من المصير إلى كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي بقول مطلق كما هو واضح.
    بقى الكلام في ذكر أدلة القول بالأعم ، فنقول : انه استدل للأعم أيضا بوجوه : منها : التبادر الذي قد عرفت خلافه وان التبادر لايكون الا خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.
    ومنها : صحة الاطلاق وعدم صحة السلب كما في نحو مظلوم ومقتول وشهيد ونحو ذلك وفيه ان ما يرى من صحة الاطلاق فإنما هو بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال النسبة وحال الجري والتعليق ، ولقد عرفت كونه بنحو الحقيقة حتى عند القائل بالتلبس الفعلي نظرا إلى أن المجري عليه بهذا الجري انما كان عبارة عن قطعة خاصة من الذات التي تلبست سابقا بالمبدأ ولكنه لا يجدي ذلك للخصم. نعم انما يجدي ذلك له فيما لو كان المجري عليه أيضا عبارة عن القطعة الفعلية من الذات ولكن نحن نمنع حينئذ عن صحة الاطلاق المزبور بل نقول بصحة سلبه عنه وانه لايصح ان يقال لزيد المضروب سابقا انه مضروب فعلا كما يصح ذلك في المضروب الفعلي ، واما اطلاق مقتل الحسين عليه السلام على اليوم العاشر من المحرم فهو من باب التشبيه لا من باب انه حقيقة في الأعم.


(139)
    ومنها : صحة الاطلاق في مثل التاجر والقاضي والمجتهد حتى في حال النوم ونحوه. والجواب عنه قد تقدم في الامر السادس فراجع.
    ومنها : استدلال الإمام عليه السلام بقوله سبحانه ( لا ينال عهدي الضالمين ) لا ثبات عدم لياقة عابد الصنم والوثن لمنصب الخلافة والإمامة بتقريب : انه لولا الوضع للأعم لما تم الاستدلال بالآية المباركة لعدم اللياقة لمنصب الإمامة. وفيه ما تقدم بان الجري فيه انما هو بلحاظ حال التلبس السابق لا بلحاظ الحال الفعلي فيكون مبني استدلاله عليه السلام على أن التلبس بعبادة الصنم ( التي هي أعظم أنحاء الظلم ولو في زمان ) علة لعدم النيل بمنصب الخلافة والإمامة إلى الأبد وعليه لايكاد يفيد ذلك للقول بالأعم كما هو واضح. نعم غاية ما هناك انما هو لزوم رفع اليد عما يقتضيه ظاهر الهيئة الكلامية من اتحاد ظرف النسبة والحكم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس فإنه على ذلك يختلف الظرفان حيث كان ظرف الحكم بعدم النيل بالخلافة فعليا وظرف وجود المصداق فيما مضى من الزمان المتقدم ، ولكنه نقول : بأنه لا ضير في ذلك بعد قيام القرينة الخارجية أو الداخلية على المغايرة بين الظرفين وكون الشرك بالله عز وجل علة لحدوث الحكم بعدم النيل بمنصب الخلافة وبقائه إلى الأبد خصوصا بعد عدم كون الظهور المزبور ظهورا وضعيا بل ظهور اطلاقيا ، مع أنه لو فرض كونه ظهورا وضعيا لا اطلاقيا وقلنا بجريان أصالة الظهور فيه حتى مع وجود القرينة على الخلاف نقول بأنه لايقتضي ذلك أيضا اثبات الوضع في مدلول الكلمة وهي المشتق ، كما هو واضح.
    ومنها : آيتا حد السارق والزاني من قوله سبحانه : « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » (1) و « الزانية والزاني فاجلدوا » الخ (2) والجواب عن ذلك أيضا هو ما تقدم في الامر السادس ومحصله في جميع ذلك كله : هو ان تلك الموارد التي يكون الاتصاف بالعنوان ولو في آن علة لحدوث الحكم وبقائه إلى الأبد من دون احتياج في بقاء الحكم إلى بقاء الاتصاف بالعنوان أصلا ، كما هو واضح.
    هذا كله فيما استدل به للقول بالأعم ، ولقد عرفت عدم تمامية شيء من الوجوه
1 ـ سورة المائدة ، الآية 38.
2 ـ سورة النور ، الآية 2.


(140)
المزبورة لا ثبات كون المشتق حقيقة في الأعم وان التحقيق هو كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي ، لما ذكرنا من التبادر وصحة السلب عن المنقضي عند المبدأ وارتكاز المضادة ، من غير فرق بين وقوعه محكوما أو محكوما عليه وبين كونه مأخوذا من المبادئ المتعدية أو اللازمة وبين اسم الفاعل والمفعول كما مرت الإشارة إليه.
    نعم في المقام قول آخر بالتفصيل بين القول بتركيب المشتق من المبدأ والذات وبساطته وجعله عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط : من دعوى كونه حقيقة في الأعم على الأول وفي خصوص المتلبس الفعل على الثاني ، نظرا إلى عدم تصور الانقضاء عليه ، وسيجيء الكلام فيه وفي عدم صحته أيضا في تنبيهات المسألة عند التعرض لبيان بساطة المشتق وتركبه إن شاء الله تعالى.

    الامر الأول : انه قد وقع الكلام بين الاعلام في أن المشتق بسيط أم مركب من المبدأ والذات. ولتنقيح المرام لابد من بيان المتحملات المتصورة في التركب والبساطة في المقام.
    اما تركبه فله صورتان : الأولى تركب المشتق بحسب المفهوم على معنى ان يكون مفهوم المشتق عبارة عن معنى تركيبي ، وهو الذات التي تثبت لها المبدأ وفي قباله بساطة مفهومه وعدم تركبه. الثانية تركبه بحقيقته وبمنشأ انتزاعه مع بساطة أصل مفهومه كما نظيره في مثل الانسان ، حيث إنه مع بساطة مفهومه وعدم تركبه يكون حقيقته مركبة من الامرين عند التحليل : الحيوان والناطق فيقال فيه : انه حيوان ناطق ، من دون ان يكون مثل هذا التركيب التحليلي العقلي في منشأه موجبا لتركب مفهومه وفي قبال ذلك بساطته حتى بحقيقته ومنشأ انتزاعه علاوة عن بساطة مفهومه هذا. ولكن الظاهر هو عدم إرادة القائل بالتركيب التركب بالمعنى الأول ، كيف وانه من البعيد كله دعويهم كون المفهوم من المشتق هو المعنى التركي أي الذات الثابت لها المبدأ بل الظاهر هو ارادتهم من التركب تركبه بحقيقته وما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم مع بساطة أصل مفهومه وتسليم انه لايكاد ينسبق في الذهن من مثل القائم والقاعد الا الشكل الخاص على النحو الذي كان في الخارج. وعليه فيكون مركز النزاع في المشتق من جهة التركب والبساطة في أصل


(141)
حقيقته لا في مفهومه ، فحيث ان المنسبق من مثل القائم والقاعد ونحوهما في الذهن كان هو الشكل الخاص على النحو الذي كان في الخارج من الهيئة الخاصة وكان ذلك الشكل والصورة الخاصة منحلا بحسب التحليل إلى ذات ومبدأ قائم بها ، وقع الخلاف بينهم في أن كلمة المشتق ، وهو القائم مثلا ، موضوع لمجموع هذه الأمور الثلاثة بحيث كان جهة الذات أيضا جزء للمدلول ؟ أم لا بل تكون جهة الذات خارجة عن المدلول رأسا ؟ ثم على فرض خروج الذات عن المدلول فهل المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات ؟ أم لا بل يكون المشتق عبارة عن نفس المبدء محضا بحيث كان جهة قيامه بالذات كنفس الذات خارجة عن المدلول ؟
    وعلى هذا ربما تكون المحتملات المتصورة على البساطة أيضا ثلاثة : الأول كونه أي المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات التي هي معنى حرفي مع خروج الذات عن مدلوله ، فبساطته على هذا المعنى انما هي بالإضافة إلى الذات والا ففي الحقيقة يكون أيضا مركبا من الامرين ، الثاني كونه عبارة عن امر وحداني وهو المبدأ محضا مع خروج جهة قيامه بالذات أيضا كنفس الذات عن المدلول. وهذا أيضا يتصور على وجهين : الأول كونه عبارة عن المبدأ محضا لكن لا مطلقا بل في حال قيامه بالذات واتحاده معها بنحو القضية الحينية لا التقييدية ، الثاني كونه عبارة عن نفس المبدأ محضا قبالا للذات لكن بما هو مأخوذ بعنوان اللابشرطي فيكون الفرق بينه وبين المصدر ـ كما أفادوه كالفرق بين الجنس والفصل والهيولي والصورة من جهة اللابشرطية والبشرط لائية.
    فهذه الصور المتصورة من التركب والبساطة في المقام. وربما يختلف بعضها مع بعض آخر منها بحسب اللوازم ، فان من لوازم المعنى الأول وكذلك المعنى الثاني من البساطة عدم جواز حمل المشتق على الذات من جهة انتفاء شرط الحمل الذي هو الاثنينية بحسب المفهوم في الذهن ، فان المبدأ على المعنيين بعد ما لايرى في الذهن منفكا عن الذات بل يرى متحدا معها فلا جرم لايكون مثل هذا الصقع من صقع الحمل على الذات كي يصح فيه الحمل ، نعم في مقام الحمل على المصداق كما في قولك : زيد عالم أو ضارب صح الحمل لتحقق أركانه التي هي اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما بنحو من الاتحاد في الخارج ، ولكنه أجنبي عن مقام حمل المبدأ على الذات في مدلول الكلمة. وهذا بخلافه على البساطة بالمعنى الأخير ، فإنه عليه باعتبار اخذ المشتق عبارة عن مجرد


(142)
المبدأ المقابل للذات كان لصحة الحمل على الذات كمال مجال وذلك من جهة تحقق ركنية وهما اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما في الخارج.
    ومن جملة اللوازم أيضا انه على المعنيين الأولين من البساطة ربما صح جعل العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل ونحوهما موضوعا للأحكام من نحو الاطعام والاكرام كما في قولك : أطعم العالم وأكرم العادل وقبل يد العالم ورجله ، فإنه بعد ما كان المشتق اخذ وجهة وعنوانا للذات بنحو كان النظر إلى الذات استقلاليا والى العنوان تبعيا كما في النظر إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه كما سيجيء ، فلا جرم من هذه الجهة صح جعلها موضوعا للأحكام المزبورة ، ولايتوجه الاشكال عليه بأنه كيف يصح إضافة الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل إلى عنوان العالم مع أنه لا يد للمبدأ ولا بطن له حتى يصح تعلق التكليف باطعامه وتقبيل يده ، فإنه على ما ذكرنا يكون ما أضيف إليه الاكرام والاطعام هو نفس الذات خاصة غايته لا مطلقا بل بما هي متجلية بجلوة العلم والعدالة. وذلك بخلافه على المعنى الأخير من البساطة من جعله عبارة عن نفس المبدأ قبالا للذات ، إذ عليه لا مجال لإضافة الاحكام المزبورة إلى العناوين المزبورة ولو اعتبر كونها لا بشرط الف مرة ، فان لازمها كونها منظورة بالنظر الاستقلالي من دون نظر إلى الذات في عالم من العوالم الا تبعا للعنوان ، ولازمه هو توقف الحكم في مقام إضافة الاكرام والاطعام على نفس العنوان وهو المبدأ فيتوجه حينئذ الاشكال المزبور.
    ومن ذلك البيان ظهر الحال بناء على القول بالتركيب أيضا ، حيث إن الاشكال يتوجه بالنسبة إلى جزئه الذي هو المبدأ.
    كما أنه من البيان المزبور ظهر أيضا نكتة الفرق بين البساطة بالمعنى الثاني وبين البساطة بالمعنى الأخير ، فإنهما وان اشتركا في بساطة العنوان وكونه عبارة عن نفس المبدأ خاصة الا انهما يفترقان من تلك الجهة ، فان المبدأ على البساطة بالمعنى الثاني لما اخذ كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فلا جرم بهذا الاعتبار يكون ملحوظا وجهة وعنوانا للذات وبهذا الاعتبار يكون النظر إلى الذات استقلاليا والى العنوان المتحد معها تبعيا ، فيصح حينئذ إضافة الاكرام والاطعام إليه في قولك : أكرم العالم واطعم العادل ولكن مثل هذا الاعتبار لا يتأتى على البساطة بالمعنى الأخير كما شرحناه فتدبر.


(143)
    وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الجهة فلنذكر ما يقتضيه التحقيق في المقام من المحتملات المزبورة للتركب والبساطة.
    فنقول : اما احتمال تركب المشتق من المبدأ والذات فلا شبهة في كونه بمعزل عن التحقيق ويظهر وجهه مما قدمناه سابقا في كيفية أوضاع المشتقات وانحلال الوضع في كل واحد منها إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة ، إذ نقول : بأنه لو كان الذات مأخوذة في الأوصاف فلا جرم الدال عليها اما ان يكون هي المادة أو الهيئة ، مع أنه ليس في شيء منها الدلالة عليها أصلا ، إذ لمادة لاتدل حسب وضعها النوعي الساري في جميع الصيغ الا على نفس الحدث ، واما الهيئة الخاصة فيها ففي أيضا لاتدل الا على قيام هذا المبدأ بالذات الذي هو معنى حرفي وحينئذ فأين الدال على الذات ؟ نعم لو قيل بان الوضع في خصوص الأوصاف من بين المشتقات من قبيل الوضع في الجوامد من دعوى وضع المادة والهيئة فيها مجموعا للذات المتلبسة بالمبدأ لكان لدعوى تركب المشتق من المبدأ والنسبة والذات كمال مجال ، ولكنه كما عرفت خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون في كلية المشتقات التي منها الأوصاف من انحلال الوضع فيها كما هو واضح.
    وحينئذ فبعد بطلان القول بالتركيب من المبدأ والذات يدور الامر بين المحتملات الثلاثة المتصورة على البساطة من الوضع لامرين : المبدأ وإضافة قيامه بالذات كي يكون دلالته على الذات من جهة الملازمة ، أو الوضع لأمر واحد وهو المبدأ خاصة لكنه في حال كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فتكون الإضافة أيضا كنفس الذات خارجة عن المدلول ، أو الوضع للمبدأ قبالا للذات لكنه بما هو ملحوظ بعنوان اللا بشرطي كما تقدم بيانه ، وفي مثله لاينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو المعنى الأول من البساطة : من جعله عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته بما انه ملحوظ وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها ، فان هذا المعنى هو الذي تقتضيه قاعدة انحلال أوضاع المشتقات بحسب المادة والهيئة ، حيث نقول : بان المادة في الأوصاف وضعت للدلالة على نفس الحدث ، والهيئة فيها وضعت للدلالة على إضافة قيام المبدأ بالذات ، وهذا بخلافه على المعنى الثاني والثالث فإنه عليها لابد من اخراج الأوصاف عما يقتضيه قاعدة انحلال الوضع في المشتقات المصير إلى دعوى كون الوضع في خصوص الأوصاف من قبيل الوضع في الجوامد من وضع مجموع المادة والهيئة فيما بوضع وحداني لمعنى حدثي خال عن


(144)
الإضافة والنسبة على خلاف بقية الصيغ من المصادر والافعال وهو كما ترى ، وخصوصا مع ما في المعنى الثالث من استلزامه لبعض التوالي الفاسدة التي منها ما ذكر ، ومنها عدم صحة جعل تلك الأوصاف موضوعات للأحكام الخاصة من مثل الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل كما مرت الإشارة إليه ، فان لحاظ المبدأ بالعنوان اللابشرطي لو كان يجدي فإنما هو بالنسبة إلى مقام الحمل لا في مقام إضافة الاحكام المزبورة إليه من نحو قولك : أكرم العالم واطعم العالم والنظر إلى وجه العالم عبادة والى باب داره عبادة ، وذلك من جهة وضوح ان ما هو الموضوع للأحكام المزبورة في مقام النسبة الحكمية ليس الأنفس الذات دون المبدأ وان لو حظ كونه بالعنوان اللابشرطي الف مرة كما هو واضح ، ومنها عدم تصور جريان النزاع المعروف في المشتق في أنه للأعم أو المتلبس الفعلي على هذا القول من جهة عدم تصور الانقضاء فيه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، ومنها غير ذلك من التوالي الفاسدة.
    ومن ذلك نقول : بان أردأ المباني والمسالك في المقام هو المسلك الأخير بملاحظة ما فيه من التوالي الفاسدة التي لايمكن الالتزام بواحد منها ، بخلافه على المسلك الأول من البساطة الذي اخترناه وسلكناه فإنه عليه لايتوجه شيء من التوالي الفاسدة بل عليه يجمع بين ما يقتضيه ظواهر القضايا من مثل قوله ( أكرم العالم ) من إناطة الاكرام إلى نفس العنوان وبين كون المتعلق وما أضيف إليه الاكرام هو نفس الذات دون المبدأ ودونها والمبدأ معا ، مع الالتزام أيضا ببساطة المشتق وعدم تركبه من المبدأ والذات كما هو قضية القول بالتركيب وعدم الخروج أيضا عن قاعدة انحلالية الأوضاع في المشتقات في خصوص الأوصاف ، فان الجمع بين الأمور المزبورة لايكاد يمكن الا بالمصير إلى ما ذكرنا من جعل مفاد الأوصاف عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته لا بما ان المبدأ يكون ملحوظا استقلالا في قبال الذات بل بما انه وجه وعنوان للذات بنحو لايرى من مثل العالم والقائم والقاعد الا الذات المتجلية بجلوة العلم والقيام والقعود. وربما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا ما وقع منهم من الصدر الأول إلى الآن من التعبير عن المشتق في مقام تحرير أصل عنوان المسألة وغيره بالذات المتلبسة بالمبدأ فان في تعبيرهم بالتلبس بالمبدأ شهادة على أن المبدأ في الأوصاف لايكون الا مأخوذا كونه لباسا للذات ووجها لها بنحو كان النظر إلى الذات في مقام الحكم على العنوان استقلاليا والى نفس المبدأ تبعيا


(145)
نظير النظر الذي إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه أيضا كما هو ذلك أيضا في مقام الخارج.
    وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا وجه صحة جعل الأوصاف محمولات في القضايا في مثل قولك : زيد قائم أو عالم ، إذ نقول : بان لحاظ المبدء بالعنوان اللابشرطي أعني لحاظه لا في قبال الغير وان كان مصححا للحمل كما أفادوه في مقام الفرق بين الأوصاف والمصادر من حيث اباء الثاني وعصيانه عن الحمل دون الأول وكذا في اجزاء المركب في المركبات الخارجية والتحليلية في نحو الجنس الفصل والهيولي الصورة لكن ما هو المصحح للحمل في الحقيقة بعينه هو المصحح في صورة وقوع الأوصاف موضوعا للأحكام ، وذلك لما يرى بالوجودان من عدم الفرق بين صورة جعل تلك الأوصاف موضوعا للأحكام في القضايا وبين صورة جعلها محمولا فيها ، وان ما هو المحمول في مثل زيد ضارب بعينه هو الموضوع للحكم في مثل قوله : أطعم الضارب ، من دون رعاية عناية في البين أصلا ، فيكون يكشف ذلك عما ذكرناه من المناط وانه انما هو باعتبار اخذ المبدء ولحاظه وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها لا من جهة اعتباره بعنوان اللابشرطية والايلزمه الاحتياج إلى رعاية عناية في البين في صورة جعل الأوصاف موضوعا في القضايا. وحينئذ ففي ذلك أيضا شهادة على بطلان المسلك الثالث في البساطة ، لأنه على ذلك المسلك لايكون المشتق الا عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات فليس هناك ذات حينئذ كي يصح ان يجعل المبدء وجها وعنوانا لها كما لايخفى.
    لايقال : بأنه على المعنيين الأولين من البساطة كما يمكن ان يكون المبدء ملحوظا تبعا للذات ووجها لها كذلك يمكن ان يكون ملحوظا استقلالا لا تبعا للذات وعليه فلايختص الاشكال بالمسلك الأخير.
    فإنه يقال : نعم انه وان أمكن ذلك أيضا الا ان المعين لتبعيته للذات في مقام اللحاظ انما هو وقوعها موضوعا لبعض الاحكام الخاصة من نحو وجوب الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل ونحوهما مما لايصح الا بنفس الذات فكان مثل هذا المعنى قابلا للسريان في جميع الموارد بخلافه على المعنى الآخر كما هو واضح.
    اخطار : قد تقدم في أصل المسألة قول لبعض الاعلام بالتفصيل في كون المشتق حقيقة في الأعم أو المتلبس الفعلي بين كون المشتق مركبا أو بسيطا وانه على الأول يتعين القول بكونه حقيقة في الأعم وعلى الثاني يكون حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي


(146)
نظرا إلى أن الحمل لايكون الا بملاك الاتحاد في الوجود والاتحاد لايكون الا في ظرف الوجود. ولكن التحقيق يقتضي خلافه ، إذ نقول : بأنه اما على القول بالتركب سواء كان ثلاثيا أو ثنائيا فلا شبهة في أنه قابل في نفسه للاختصاص بالمتلبس الفعلي أيضا ولا يتعين القول به للقول بالحقيقة في الأعم ، كما عرفت شرحه مفصلا ، بل قد عرفت فيما سبق بمقتضي الأدلة المتقدمة تعين القول بالمتلبس الفعلي ، واما على القول بالبساطة فعلى البساطة بالمعنى الثاني أيضا يكون قابلا للامرين إذ مرجع النزاع حينئذ إلى أن المشتق حقيقة في المبدأ بمقدار اتحاده مع الذات وتطابقه معها كي يختص بالمتلبس الفعلي ، أو انه حقيقة فيه لا بهذا النحو بل مع تجويز كون الذات أوسع منه كي يعم حال التلبس وغيره. نعم على المعنى الثالث في البساطة لما كان لم يؤخذ فيه ذات ولم تلحظ الأنفس المبدأ في قبال الذات يتعين عليه القول بخصوص المتلبس الفعلي لكن ذلك أيضا لا من جهة انه هو المختار في المسألة بل من جهة عدم تصور جريان هذا النزاع فيه لعدم تصور الانقضاء فيه. وهذا بخلافه على المعاني الاخر فإنه فيها تكون الذات ملحوظة اجمالا اما ضمنا أو استقلالا بلحاظ المبدأ تبعا لها فتكون قابلة بهذه الجهة لجريان النزاع فيها في كونه للأعم أو المتلبس الفعلي. وعليه فالتفصيل المزبور بين القول بالتركب وبين القول بالبساطة خال عن التحصيل كما لايخفى.

    بقى الكلام فيما استدل به الشريف
    على بساطة المشتق وعدم تركبه من الوجوه العقلية.
    فنقول : انه استدل على البساطة فيما حكى عنه بما مفاده انه لو كان المشتق مركبا من الذات والمبدأ فلا يخلو : اما ان يكون المأخوذ هو مفهوم الذات والشيئية المطلقة أو مصداقها والشيئية الخاصة ، وعلى التقديرين لايمكن دعوى اخذ الذات في مفهومه ومعناه لعدم خلوه عن المحذور ، وذلك اما على الأول ( من فرض اخذ مفهوم الذات فيه ) فمن جهة لزوم دخول العرض العام في الفصل فيما لو كان المشتق من الذاتيات كالناطق وبطلان هذا المحذور انما هو من جهة استلزامه لعدم كون الناطق ذاتيا للانسان وفصلا له ، لأنه على هذا التقدير اما ان يكون جزئه الاخر ذاتيا أو لا وعلى التقديرين يصير


(147)
الناطق خارجا لان المركب من الخارجين كما يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان كذلك المركب من الخارج والداخل ، فهو أيضا يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان ، مع لزومه أيضا دخول العرض في النوع بنفس دخوله في الفصل وهو الناطق ، وهو واضح. واما على الثاني ( وهو ان يكون المأخوذ فيه مصداق الذات والشيئية الخاصة ) فمن جهة لزومه محذور انقلاب القضايا الممكنة في مثل الانسان ضاحك ضرورية ، لان مصداق الذات حينئذ لايكون الا الانسان وثبوته لنفسه ضروري ، بل ولزومه أيضا دخول النوع في الفصل في مثل الناطق. هذا ملخص ما أفيد من البرهان على بساطة المشتق وعدم تركبه.
    ولكن لايخفى عليك ان هذا البرهان لو تم فإنما هو على احتمال تركب المشتق من حيث المفهوم فإنه على هذا الاحتمال ربما يرد عليه هذه المحاذير : من لزوم دخول العرض في الفصل والنوع تارة ولزوم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية أخرى ، ولكنك قد عرفت مفروغية بساطة مفهوم المشتق وحقيقته باصطلاح أهل المعاني والبيان عند الجميع وانه لايكون مفهوم العالم والضارب ونحوهما الا معنى بسيطا ، وان ما هو محل البحث والنزاع بينهم من حيث التركب والبساطة انما هو حقيقة المشتق بما هو مصطلح أهل المعقول بأنه علاوة عن بساطة أصل المفهوم هل هو بسيط أيضا بحسب الحقيقة عند الحكيم ومنشأ انتزاع هذا المفهوم ؟ أم لا ؟ بل هو بحسب الحقيقة مركب بحيث في مقام الانحلال ينحل إلى جهة مبدأ وذات ، كما في الانسان فإنه مع بساطة أصل مفهومه مركب بحسب الحقيقة عند التحليل ، ومن المعلوم بداهة انه على ذلك لو قلنا فيه بالتركب من المبدأ والذات والنسبة لايترتب عليه شيء من المحاذير من جهة ان القول بذلك لايقتضي دخول مفهوم الذات ولا مصداقه في طرف المفهوم. ثم على فرض الاغماض عن ذلك والبناء على جريان هذا الترديد في حقيقة المشتق وما هو منشأ انتزاع مفهومه نقول : بان ما أفيد من الاشكال من محذور دخول العرض العام في الفصل في فرض كون المأخوذ هو مفهوم الذات انما يرد بناء على إرادة القائل بالتركب دخول مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم من دون كونها عبرة ومرآة إلى ما هو المعروض الحقيقي والا فبناء على إرادة دخولها بما هي مرآة جمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما في قولك النامي ورابعة حيوانا كما في الماشي وخامسة انسانا وسادسة غير ذلك


(148)
على حسب اختلاف المبادي وما يناسبها من المعروضات ، فلايتوجه هذا المحذور إذ يمكن ان يقال حينئذ : بان ما هو المحمول والمعروض الحقيقي في مثل الناطق الذي يحكى عنه الذات انما هو النفس الناطقة ونحو الوجود الخاص وعليه فلا يلزم محذور دخول العرض العام في الذاتي والفصل بوجه أصلا كما لايخفى. ومن ذلك البيان أيضا نقول : بان ما افاده الشريف من الترديد بين الشقين بناء على التركب من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات وأخرى مصداقها ليس على ما ينبغي ، وانما الحري حينئذ هو الترديد بين الشقوق الثلاثة : من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم ، وأخرى هذا المفهوم بما هي مرآة اجمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي يختلف باختلاف المبادي حسب ما يناسبها ، وثالثة مصداق الذات ، ولقد عرفت انه على القول بالتركب كان المتعين هو الشق الأوسط من الشقوق الثلاثة.
    وعليه قد عرفت اندفاع الاشكالات بأسرها كما هو واضح من دون احتياج إلى التفصي عن الاشكال المزبور بما في الفصول بان كون الناطق فصلا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن الذات فلاينافي حينئذ مع وضعه لغة لذلك كي يتوجه عليه اشكال الكفاية ( قدس سره ) بأنه من المقطوع ان الناطق قد اعتبر فصلا بما له من المعنى دون تصرف فيه ، ولا إلى سلب الفصلية عن الناطق حقيقة والمصير إلى كونه من أظهر الخواص وانه فصل مشهوري كما في الكفاية ولا إلى التفصي عنه بوجه ثالث من دعوى ان المراد من النطق في الناطق انما هو النطق الجوهري كما افاده بعض الاعلام ، كيف وانه على الأخير يعود المحذور المزبور أيضا بأنه بناء على التركب فهل المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها ؟ وعلى مقالة الكفاية من سلب الفصلية عن الناطق وجعله فصلا مشهوريا ومن أظهر الخواص يتوجه عليه محذور لزوم دخول الخارج المحمول في الخاصة التي هي من المحمولات بالضميمة من جهة ان مفهوم الذات لايكون الا أمرا اعتباريا منتزعا عن منشئه من دون ان يكون له ما بإزاء في الخارج أصلا ومعلوم أيضا ان محذور دخول الخارج المحمول في الخاصة لايكون بأقل من محذور دخول العرض في الذاتي. وهذا بخلافه على ما ذكرنا إذ عليه أمكن لنا ان نقول : بان الناطق فصل حقيقي للانسان ومع ذلك لايتوجه الاشكال لزوم دخول العرض في الذاتي وذلك بجعل المأخوذ هو منشأ انتزاع مفهوم الذات والشيء الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما و


(149)
رابعة حيوانا وخامسة غير ذلك حسب ما شرحناه آنفا فتدبر. هذا كله فيما افاده من الاشكال الأول من لزوم دخول العرض في الذاتي في مثل الناطق.
    واما ما افاده من الاشكال الثاني من لزوم محذور انقلاب القضايا الممكنة ضرورية في مثل الضاحك بناء على كون المأخوذ هو مصداق الذات والشيئية الخاصة ، فيمكن دفعه على هذا الفرض أيضا بما في الفصول : من أن المحمول إذا كان هو الذات المقيدة بالوصف دون الذات المطلقة فلا يلزم الانقلاب لأنه إذا لم يكن ثبوت القيد ضروريا فكذلك المقيد أيضا فلايكون ثبوته أيضا للموضوع ضروريا ، وعليه فقضية زيد كاتب أوضاحك قضية ممكنة لا ضرورية.
    ولا يرد عليه ما في الكفاية : من عدم اضرار ذلك بدعوى الانقلاب من تقريب ان المحمول حينئذ اما ان يكون هو الذات المقيدة بنحو خروج القيد ودخول التقيد بما هو معنى حرفي فالقضية تكون ضرورية لضرورة ثبوت الانسان المقيد بالضحك للانسان ، واما ان يكون هو المقيد بنحو دخول القيد أيضا فكذلك أيضا لان قضية الانسان ضاحك تنحل بحسب عقد الوضع والحمل إلى قضيتين : قضية الانسان انسان وهي ضرورية وقضية الانسان له الضحك وهي ممكنة ، وذلك من جهة ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف. وتوضيح هذه الجملة التي أفادها هو ان النسبة كما تقدم سابقا على صنفين : ايقاعية ووقوعية والمراد من الأول هو حصول النسبة وتحققها خارجا من العدم إلى الوجود ومن الثاني هو وقوع النسبة وثبوتها فارغا عن أصل ثبوتها وتحققها ، فكانت النسبة الوقوعية دائما في رتبة متأخرة عن النسبة الايقاعية التي هي مفاد القضايا التامة بملاحظة ترتب الوقوع دائما على الايقاع ، وكانت القضايا المشتملة على النسبة الايقاعية مسماة بالقضايا التامة كزيد قائم وضرب زيد والقضايا المشتملة على النسب الثانية مسماة بالقضايا الناقصة والمركبات التقييدية كزيد القائم ، فعلى ذلك لو قيل ( الانسان ضاحك أو كاتب ) يتولد من هذه القضية الايقاعية قضية تقييدية وهي الانسان الذي له الضحك فإذا جعل ما هو الموضوع في هذه القضية محمولا في القضية الأولى يصير الحاصل الانسان انسان له الضحك فيعود محذور الانقلاب من جهة ضرورية ثبوت الانسان لنفسه ولو كان بلحاظ الاتصاف بالضحك فلا يجدي حينئذ تقيد المحمول بوصف امكاني في رفع غائلة الانقلاب هذا.


(150)
    أقول : ولايخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال على الفصول لان المحمول بعد أن كان عبارة عن المقيد بالوصف بما هو مقيد يلزمه لا محالة كونه أخص وأضيق من الموضوع ومعه لايكون ثبوت الخاص للعام ضروريا بل انما هو يكون بالامكان ، هذا بناء على فرض دخول التقيد. واما على فرض دخول القيد فكذلك أيضا من جهة ان دائرة المحمول لا محالة تكون أخص وأضيق من الموضوع ومعه يكون ثبوته له بالامكان لا بالضرورة. واما قضية الانحلال فأجنبية عن المقام إذ لايكاد يجدي تلك في المقام بعد عدم اقتضائه لجملتين مستقلتين في الحمل كما هو واضح. بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك ولو بناء على خروج القيد والتقيد جميعا من جهة وضوح ان ما هو المحمول حينئذ انما يكون أيضا عبارة عن الانسان التوأم مع القيد الامكاني دون الانسان المطلق وثبوت هذا المعنى التوأم للانسان أيضا يكون بالامكان لا بالضرورة. وحينئذ فما افاده في الفصول في اثبات عدم الانقلاب في غاية المتانة والصواب وان كان قد شطر هو قدس سره فيه ويا ليته لم يشطر في كلام نفسه.
تذييل ( وفيه إشارة إلى ما سبق )
    وهو انه قد عرفت فيما تقدم اختيار المعنى الثاني من المعاني الأربعة المتصورة في المشتق وهو الانحلال إلى المبدأ ونسبة ناقصة مع وحدة أصل المفهوم وبساطته. وحينئذ نقول : بأنه كما على القائل بالتركب من المبدء والنسبة والذات تعين ان المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها ، كذلك علينا أيضا تعين ذلك وان الذات التي هي طرف هذه الإضافة والنسبة هل هو مفهوم الذات والشيء أو مصداقها ؟ بل ولابد أيضا ذلك على المعنى الثالث. نعم القائل بالمعنى الرابع في فسحة عن ذلك فإنه على ذلك المسلك لم يؤخذ الذات في المشتق ولم تلحظ أصلا إذا المشتق عليه عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات ولذا التجأ في مقام الفرق بين المشتق والمصدر بالتفرقة بينهما باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية.
    وحينئذ نقول مقدمة : بان العناوين المأخوذة في لسان الدليل موضوعا للحكم تارة تكون مأخوذة في نفسها وبنحو الاستقلال بلا كونها مرآة لشيء آخر وأخرى تكون مأخوذة مرآة إلى الغير كما في قولك : أكرم من في الصحن مشيرا به إلى الأشخاص الخاصة
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس