نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 151 ـ 165
(151)
من زيد وعمرو وبكر وعلى الثاني فتارة يجعل ذلك مرآة إلى الأشخاص والمصاديق الخاصة على كثرتها وأخرى لا بل يجعل ذلك مرآة إلى الأنواع والأصناف. والفرق بينهما واضح كوضوح الفرق بينهما وبين الأول حيث تظهر الثمرة في عالم قصد الامتثال بالخصوصية من حيث التشريع وعدمه كما في صورة اكرام زيد العالم بقصد الخصوصية الزيدية لا بعنوان انه فرد من افراد العالم في مثل خطاب أكرم العالم فإنه على بعض التقادير فعل تشريعا محرما وعلى بعضها الاخر تحقق منه الامتثال بذلك.
    وبعد ما عرفت ذلك نقول : بان تلك المحتملات الثلاثة وان كانت جارية في الذات ولكن المتعين منها هو الاحتمال الأخير من كونها مرآة إلى الأنواع والأصناف ، فان الاحتمال الأول مما لايمكن الالتزام به من جهة عدم خلوه عن المحاذير التي منها لزوم دخول العرض في الفصل في مثل الناطق ، ومنها عدم المناسبة لإضافة بعض الأحكام إليه كما في قوله : أكرم العالم ، ومنها غير ذلك. وكذا الاحتمال الثاني فإنه أيضا بعيد في نفسه غاية البعد لما يلزمه من محذور دخول جميع المصاديق بخصوصياتها في المشتق الواحد كالعالم والضاحك ، مع أنه ليس كذلك قطعا. وحينئذ فبعد بطلان الوجهين الأولين يتعين الوجه الثالث من كونه مأخوذا مرآة إلى الأنواع والأصناف بما يناسب في كل مشتق حسب اختلاف المبادي المأخوذة فيها وما يناسبها ، وبذلك نجمع بين اتحاد المشتقات من وجه واختلافها من وجه فنقول : بأنها في عين اتحاد وضعها تنسبق من كل مشتق خصوصية دون الأخرى. وحينئذ فما هو الموضوع للأحكام من نحو وجوب الاكرام والاطعام في كل مشتق كالعالم والقائم والضارب ونحوها عبارة عن نفس المرئي بهذا العنوان غايته بما هو موجه بوجه المبدء المأخوذ فيه ، كما أنه هو المحمول أيضا في كلية القضايا ، ولذلك أيضا دفعنا ما أورده المحقق الشريف من الاشكال في مثل الناطق فقلنا : بان ما هو الفصل الحقيقي في مثل الناطق عبارة عن النفس الناطقة الانسانية لكونها هي الموجهة والمتصفة بوجه المبدأ دون نفس المبدأ كي نحتاج إلى جعله عبارة عن النطق الجوهري فتدبر.

    لايخفى عليك انه لا فرق فيما ذكرنا في المشتقات بين الأوصاف الجارية على الممكنات


(152)
وبين الأوصاف الجارية على الواجب سبحانه ، فكما انه في الأوصاف الجارية على غيره سبحانه تجرى المحتملات المتصورة الأربعة في التركب الانحلالي والبساطة ، كذلك تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه كالعالم والقادر والحي ، إذ لا وجه لتخصيص النزاع المزبور بالأوصاف الجارية على الممكن الا ملاحظة عدم تصور المغايرة في الواجب بين الذات والوصف نظرا إلى رجوع جميع الصفات الثبوتية الكمالية إلى ذاته تعالى وكون علمه سبحانه عين ذاته وذاته المقدسة عين قدرته وارادته وهكذا بلا ان يكون فيه سبحانه حيث وحيث ، فإنه من اجل ملاحظة هذه الجهة ربما يتوهم تعين القول الرابع بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه ، بل ولعل مثل هذه الجهة أيضا ألجأ أهل المعقول في مصيرهم إلى بساطة المشتق مطلقا وجعلهم إياه عبارة عن صرف المبدأ المقابل للذات. ولكنه توهم فاسد إذ نقول بأنه في الواجب سبحانه وان لم يكن حيثية دون حيثية ولا مغايرة بين علمه وقدرته وارادته وذاته فكان هو سبحانه بحتا بسيطا من جميع الجهات وكان علمه بين ذاته وذاته عين قدرته وارادته لرجوع جميع الكمالات إلى ذاته ووجوده ، ولكن نقول بان عقول الممكنات طرا لما كانت قاصرة على الإحاطة بذلك الواحد الأحد ولم تدرك منه سبحانه الا بقدر قابليتها واستعدادها فلا جرم إذا كان هم عقول الممكن جهة دون جهة وقصر النظر على علمه أو قدرته أو حياته أو ارادته سبحانه يصير مدركه لا محالة محدودا في نظره بحيث ينتزع من حد ما أدركه حيثية الذات تارة ، والعلم أخرى ، وحيثية الإرادة والقدرة ثالثة ، وهكذا ، من دون ان يكون تلك الحيثيات الانتزاعية الناشئة من جهة قصور النظر راجعة إليه سبحانه. وحينئذ فإذا كانت تلك المغايرة والحيثيات ناشئة من جهة قصور درك عقول الممكن لذلك الواحد الأحد ، فلا جرم المحتملات الأربعة المزبورة تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه من كونه موضوعا للمبدء مع الذات والتلبس بأجمعها كما هو قضية القول بالتركب الانحلالي أو موضوعا للمبدء والنسبة ، أو لنفس المبدأ فقط. كما أن المصحح للحمل فيها أيضا هو المغايرة المزبورة ذهنا الناشئة من جهة قصور درك العقل إذ لايحتاج في صحة الحمل إلى أزيد من المغايرة بين المفهومين من وجه واتحادهما خارجا. نعم غاية ما هناك هو كون الاتحاد بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه عينيا وبالنسبة إلى الأوصاف الجارية على غيره سبحانه اينيا فتدبر.


(153)
    قد علم مما سبق ان الهيئة في المشتق تدل على قيام المبدء بالذات على اختلاف أنحاء القيام حسب اختلاف المبادي صدورا أو حلولا أو وقوعا ، ففي المبادئ اللازمة تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الحلول كالميت والقائم والذاهب ونحوها وفي المبادي المتعدية كالضارب ونحوه تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الصدور وفي مثل المقتول والمضروب والمقتل تدل الهيئة على قيام المبدء بالذات بنحو الوقوع عليه أو فيه ، وفي مثل العالم الجاري على الممكن تدل على القيام بنحو الحلول ، وفى الجاري عليه سبحانه تدل على القيام بنحو الاتحاد العيني لكونه منتزعا عن بعض الجهات المدركة من الذات ، والجامع في الكل هو القيام بذات المجري عليه بنحو من أنحائه.
    نعم في مثل المولم والمقيم ربما يقع الاشكال بلحاظ ان المبدأ وهو الأعم والقيام فيهما لايكون له قيام بذات المجري عليه بل قيامهما انما كان بالغير وجهة ايجادهما واصدارهما كان قائما بذات المجري عليه ، نعم هذا الاشكال لايتوجه في مثل الضارب فان الايجاد فيه مستفاد من نفس المبدء وقيام الايجاد والاصدار كاف فيه ، بخلافه في مثل المؤلم والمقيم إذا المبدأ فيهما كان لازما ولايكون باصداري وحينئذ فجعل مثل الضارب في عداد المؤلم والمقيم في الاشكال كما في الكفاية مما لا وجه له. وعلى كل حال فلابد حينئذ في التفصي عن الاشكال من الالتزام بأحد الامرين اما رفع اليد عما ذكرناه من لزوم قيام المبدء في المشتقات بنفس ذات المجري عليه والاكتفاء بمطلق القيام ولو بالغير ، أو الالتزام باختلاف الهيئات وان الهيئة في بعضها تدل على صرف قيام المبدء بالذات وبعضها على قيام ايجاد المبدء كما في المؤلم والمقيم.
    واما توهم ان المبدأ في المؤلم والمقيم انما كان هو الايلام والإقامة وهما دالان على الايجاد فالهيئة فيهما تدل على قيام هذا الايجاد بالذات من دون احتياج إلى دلالة الهيئة عليه كي يلتزم باختلاف الهيئات ، فمدفوع بما تقدم بان المبدأ في المشتقات لايكون هو المصدر بل وانما المبدأ في الجميع هو المعنى الساري في جميع الصيغ من الافعال والمصادر والأسماء والمزيد وغيره ، وارجاع علماء الأدب صيغ كل باب من المزيد وغيره إلى


(154)
مصدره وجعلهم المصدر من كل باب أصلا ومبدأ لسائر الصيغ استحساني محض ، والا ففي الحقيقة ما هو المبدأ والأصل في جميع الهيئات من كل باب لايكون الا المعنى المحفوظ الساري في ضمن الجميع ، وعليه فألف اكرام مثلا لايكون جزء للمادة بل وانما هي مقوم للهيئة نظير الف ضارب وميم مقتول ومضروب.
    كما أن توهم ان الهيئة الطارية على المادة في نحو المؤلم والمقيم هيئتان طوليتان دالة إحديهما على الايجاد والأخرى على القيام بالذات ، مدفوع بأنه من المستحيل ، لكونه أشبه شيء بطرو الصورتين على مادة واحدة في زمان واحد ، وبطلان هذا المعنى واضح لايحتاج إلى البيان.
    وحينئذ فلا محيص الا من الالتزام بأحد الامرين المزبورين اما الالتزام باختلاف الهيئات أو رفع اليد عما ذكرناه من دلالة الهيئة على قيام المبدأ بالذات والاكتفاء في هيئات المشتقات بمطلق القيام بالذات ولولا بذات المجري عليه ، وفي مثله ربما كان المتعين هو الأول فنلتزم باختلاف الهيئات في المشتقات باختلاف الأبواب الثلاثي والمزيد ولكنه لا بنحو التباين بل بنحو القلة والكثرة فكان هيئة اسم الفاعل في أبواب الثلاثي المجرد مثلاتدل على قيام المبدء وتزداد في مثل باب الافعال فتدل هيئة اسم الفاعل فيها على قيام ايجاد المبدأ بالذات المجري عليها ، وكذا في باب الانفعال والافتعال فتدل الهيئة على قيام القبول والتطوع بالذات ، وقد تزيد أيضا فتدل على قيام المضاعفة كما في باب التفعيل ، وهكذا فتدبر.
    دفع وهم : قد يقال بعدم دلالة المشتق على النسبة التي هي معنى حرفي نظرا إلى اقتضائه حينئذ تضمن المعنى الحرفي فيلزمه لا محالة كونه مبنيا لا معربا ، بل ومن هذه الجهة أنكر دلالة سائر الصيغ على النسبة الناقصة حتى المصدر أيضا. ولكنه مدفوع حيث نقول بان ما دل على النسبة الناقصة انما هي الهيئة القائمة بالمادة العارية عن النسبة وانه لايكاد يقتضي مجرد ذلك بناء الاسم إذ الأسماء المبنية هي التي وضعت بوضع واحد لما اشتمل على النسبة وأين ذلك والمقام الذي كان الدال على النسبة نفس الهيئة ! كيف وان لازم هذا المعنى هو الغاء الهيئة عن الوضع المستقل رأسا والمصير إلى كون وضع المشتقات من قبيل وضع الجوامد وهو كما ترى.
    الامر الرابع : لايخفى عليك انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات تلبس


(155)
الذات بالمبدأ حقيقة ، بل يكفي فيه مطلق تلبسها به ولو عناية أو ادعاء كما في الميزاب جار بأي نحو فرض من العنايات ، اما بتصرف في مدلول الكلمة واستعمالها في غير معناها الحقيقي ، واما بتصرف في الاسناد مع ابقاء الكلمة على معناها الحقيقي بان كان الاسناد أي اسناد الجريان إلى غير ما هو له ، واما بتصرف في الامر العقلي بمعنى التصرف في موضوع الجريان بادعاء كون الميزاب من مصاديق ما هو موضوع الجريان ثم اسناد الجريان إليه مع ابقاء الكلمة والاسناد على حالهما نظير قولك رأيت أسدا مريدا به الرجل الشجاع بعد ادعائك كونه هو الأسد ، فإنه على كل تقدير يصح جرى المشتق على الذات ، وان كان المتعين من بين المحتملات المزبورة هو الأخير لكونه أقل عناية من غيره وأقرب إلى الاعتبار وما يقتضيه الوجدان ، فعلى ذلك لا وجه لما في الكفاية من المصير إلى المجاز في الاسناد في مقام الرد على الفصول ، وان كان لا مجال أيضا لما افاده الفصول من الالتزام باعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة كما لايخفى. هذا تمام الكلام في المشتقات.


(156)
    الكلام في المقاصد فنقول :
المقصد الأول في الأوامر
    وفيه مباحث : المبحث الأول فيما يتعلق بمادة الامر ، ويقع الكلام فيه في جهات :
    الجهة الأولى في معنى الامر فنقول وبه نستعين ان الامر يطلق على معان : منها الطلب كما يقال امره بكذا أي طلب منه كذا. ومنها الشأن ومنه شغلني امر كذا أي شأن كذا. ومنها الفعل ومنه وما امر فرعون برشيد أي فعله. ومنها الشيء كقولك رأيت اليوم أمرا عجبا. ومنها الحادثة والغرض كقولك وقع اليوم امر كذا وجئتك لأمر كذا. ومنها غير ذلك. ولكن التحقيق كونه حقيقة في خصوص الشيء الذي هو من الأمور العامة العرضية لجميع الأشياء الشامل للفعل والشأن والحادثة والشغل ونحو ذلك فكان اطلاقه في تلك الموارد المختلفة بمعناه غايته من باب الدالين والمدلولين حيث أريد تلك الخصوصيات بدوال أخر من غير أن يكون الامر مستعملا في تلك الموارد في مفهوم الغرض والتعجب والفعل ولا في مصداقها بوجه أصلا. نعم ذلك كله بالنسبة إلى غير المعنى الأول وهو الطلب واما بالنسبة إليه فهو وان كان أيضا أمرا من الأمور وشيئا من الأشياء فكان من مصاديق ذلك العنوان العام العرضي ، ولكن الظاهر كونه موضوعا بإزائه بالخصوص أيضا قبالا لوضعه لذلك المعنى العام العرضي ، كما أن الظاهر هو كونه من باب الاشتراك اللفظي دون الاشتراك المعنوي بملاحظة عدم جامع قريب بينهما ، كما يشهد لذلك قضية اختلافهما من حيث الاشتقاق وعدمه فإنه بمعنى الطلب يكون معناه اشتقاقيا فيشتق منه صيغ كثيرة من المصدر والفعل الماضي والمضارع واسمى الفاعل و


(157)
المفعول كما يقال : امر يأمر آمر مأمور بخلافه على كونه بمعنى الشيء فإنه عليه يكون من الجوامد. وربما يشهد لذلك أيضا قضية الجمع فيهما ، من مجيئه على الأول على الأوامر وان كان على غير القياس ، وعلى الثاني على الأمور ، والجمع يرد الأشياء إلى أصولها وحينئذ فلاينبغي الاشكال في كونه موضوعا بالخصوص للطلب أيضا.
    ثم إن محل الكلام في المقام انما هو الامر بمعنى الطلب دونه بمعنى الشيء فلابد حينئذ من بيان انه هل هو موضوع للطلب الحقيقي والإرادة القائمة بالنفس بحيث كان القول أو الإشارة مبرزا لها وكاشفا عنها ؟ أو انه موضوع للطلب المبرز بالقول أي مفهومه المبرز بالقول أو بالأعم منه ومن الإشارة ونحوها ؟ أو انه موضوع لنفس ابراز الطلب بالقول أو الإشارة ؟ حيث إن فيه وجوها ، أبعدها الأول ، لما يرى من عدم صدق الامر على مجرد الإرادة النفسانية الغير البالغة إلى مرحلة الابراز حيث لا يصدق على من كان طالبا لشيء من عبده ومريدا له منه بلا ابراز ارادته بالقول أو نحوه أنه آمر به ، بل الصادق عليه انه طالب ومريد غير آمر ، على أن لازم ذلك هو ان يكون استعماله دائما في غير معناه الموضوع له لان ما يجيء في الذهن عند الاستعمال لايكون الا صورة الإرادة ومفهومها لا حقيقتها وعليه فلايكون استعماله في معناه الحقيقي الذي هو الإرادة القائمة بالنفس.
    وحينئذ فبعد بطلان هذا المعنى يدور الامر بين كونه حقيقة في الطلب المبرز بما هو مبرز بالقول أو الإشارة بنحو خروج القيد ودخول التقيد أو كونه حقيقة في ابراز الطلب وهو القول الحاكي عنه ، ولكل منهما وجه وجيه ، وان كان قد يقال بتعين الأخير نظرا إلى ظهور العنوان وهو الامر في الاختيارية وكونه على الأخير اختياريا بتمامه من الابراز والتقيد بالطلب ، بخلافه على الأول ، فإنه من جهة جزئه الركني وهو الطلب غير اختياري. ولكنه توهم فاسد ، فان ما ذكر مجرد استحسان لا يثبت به الوضع خصوصا مع استلزام الأخير لعدم صحة الاشتقاقات منه باعتبار عدم كون معناه حينئذ معنى حدثيا قابلا للاشتقاق ، لان ما هو المبرز حينئذ انما كان هو الهيئة ومعناه لايكون الا معنى جامديا غير حدثي بخلافه على الأول فان المعنى عليه بنفسه يكون معنا حدثيا قابلا للاشتقاق منه. وما قيل من أنه على الأول أيضا يلزمه خروج الصيغ كلها عن المصداقية للامر من جهة عدم كونها عبارة عن نفس الطلب وانما هي مبرزات عنه ، مدفوع بأنه لو سلم ذلك فإنما يرد هذا المحذور لولا كونها وجوها للطلب ولو من جهة شدة حكايتها عنه و


(158)
الا فبهذا الاعتبار تكون عين الطلب ويحمل عليها الطلب بالحمل الشايع.
    وبالجملة نقول : بأنه بعد لم يقم دليل معتد به على تعين أحد الاحتمالين بالخصوص حتى يؤخذ به ، وما ذكر من الوجوه تقريبات استحسانية محضة خصوصا مع عدم ترتب ثمرة في البين على كونه حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب ، من جهة ان القائل بكونه حقيقة في ابراز الطلب انما يدعى كونه حقيقة فيه بما انه حاك عن الطلب وبما هو وجه له لا بما انه نفس الابراز ولو مع عدم الحكاية عن الطلب ، وحينئذ فالأولى هو صرف الكلام عن تلك الجهة.
    نعم ينبغي ان يعلم بأنه على كلا التقديرين لا خصوصية لخصوص الابراز بالقول في صدق الامر بل الابراز بما انه يعم القول والإشارة ونحوها ، واما ما يرى في بعض الكلمات من التعبير عنه بالطلب بالقول فإنما هو لمكان الغلبة لا من جهة خصوصية في الابراز القولي ، كما هو واضح.
    نعم يبقى الكلام في جهة أخرى وهي ان الامر هل هو عبارة عن نفس الطلب أي المفهوم المتنزع عن حقيقته غايته بما انه يرى عين الخارج لا بما انه مفهوم ذهني ولا بما هو كما في كلية مداليل الألفاظ كي يكون لازمه عدم انطباقه على مجرد الطلب الانشائي ؟ أو أنه عبارة عن هذا المفهوم لكنه بما هو موقع باستعمال اللفظ فيه بقصد الايقاع المعبر عنه بالطلب الانشائي ؟ حيث إن فيه وجهين اختار ثانيهما في الكفاية حيث قال : بان لفظ الامر حقيقة في الطلب الانشائي الذي لايكون طلبا بالحمل الشايع بل طلب انشائي سواء أنشأ بمادة الامر أو بمادة الطلب ، مثل آمرك واطلب منك كذا ، أو بصيغة افعل. ولكن التحقيق يقتضي خلافه وانه لايكون الامر حقيقة الا في نفس المفهوم بما هو حاك عن الطلب الحقيقي الخارجي ، فما هو المستعمل فيه في مثل اطلب منك بداعي الانشاء لايكون الأنفس المعنى وصرف المفهوم ، غايته ان استعماله فيه مكيف باستعمال انشائي بمعنى كونه بداعي موقعية المفهوم وموجديته ، فكان حيث الانشائية من شؤون نحو الاستعمال وكيفياته القائمة به لا انه مأخوذ في ناحية المستعمل فيه ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد ، لأنه من المستحيل اخذ مثل هذه الجهة ولو تقيدا في ناحية المستعمل فيه ، وهذا واضح بعد وضوح تأخر الاستعمال عن المستعمل فيه تأخر الحكم عن موضوعه. وحينئذ فلا محيص من دعوى ان المعنى انما كان عبارة عن صرف المفهوم بما انه حاك عن الطلب


(159)
الحقيقي الخارجي الذي بوجه عينه دون الطلب الانشائي ، على أن لازم هذا القول هو صدق الامر والطلب ولو لم يكن في البين في الواقع طلب ولا إرادة كما في الأوامر الامتحانية والأوامر المنشأة بداعي السخرية ، مع أنه كما ترى ، إذ المتبادر من قوله : امر بكذا ، انما هو البعث نحو الشيء عن إرادة جدية دون البعث بغيرها من الدواعي. واما احتمال ان المراد من الطلب المذكور في عبارته هو الطلب الموقع بالاستعمال بما هو موصوف بوصف الموجدية ولو باعتبار كاشفية المستعمل فيه اللفظ عن الإرادة الجدية دون الطلب الانشائي بما هو طلب انشائي ، فمدفوع بأنه وان أمكن هذا الحمل فيرتفع به المحاذير ويصدق عليه أيضا الطلب الانشائي باعتبار كونه موقعا باستعمال اللفظ في مفهومه بعنوان مرآتية المفهوم عن الطلب الحقيقي ويصدق عليه أيضا بهذا الاعتبار الطلب الحقيقي بنحو الحمل الشايع ، ولكنه يبعده ما صرح به هو ( قدس سره ) بان مدلول الامر ليس هو الطلب الذي يصدق عليه الطلب بالحمل الشايع ، وعليه فيتجه الاشكال المزبور من لزوم صدق الامر عند الخلو عن الإرادة. فتلخص ان الامر على مسلك الكفاية ( قدس سره ) عبارة عن الطلب بما هو منشأ وموقع ، فكان الانشاء الذي هو من شؤون نحو الاستعمال ومن كيفياته مقوما لتحقق الامر ، ومن هذه الجهة يكون الامر على مسلكه منتزعا عن الرتبة التي بعد الانشاء المتأخر عن الاستعمال ، فيكون تأخره عن نفس مفهوم الطلب المستعمل فيه اللفظ بمرتبتين من دون دخل للإرادة الجدية أيضا في صدق الامر وتحققه. واما على ما سلكناه فيكون الامر عبارة عن نفس الطلب أي مفهومه بما هو حاك عن الطلب الحقيقي القائم بالنفس ، فبهذا الاعتبار يصدق عليه الطلب الحقيقي ويحمل عليه بالحمل الشايع.
الجهة الثانية :
    بعد ما عرفت من أن الامر حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب ، فهل يعتبر فيه أيضا العلو ؟ أو انه لا يعتبر فيه ذلك فيصدق الامر على مطلق الطلب الصادر ولو كان صدوره من المساوي أو السافل ؟ فيه وجهان : أقويهما الأول لصحة سلبه عن الطلب الصادر عن السافل والمساوي حيث يصح ان يقال : انه ليس بأمر حقيقة بل هو سؤال والتماس ،


(160)
كيف وان الامر انما هو مساوق ل‍ ( فرمان ) بالفارسية ، وهو يختص بما لو كان الطالب هو العالي دون السافل أو المساوي إذ لا يصدق ( فرمان ) على الطلب الصادر عن غير العالي. واما ما يرى من تقبيح السافل المستعلى فيما لو امر سيده بأنك لم أمرت سيدك ومولاك فإنما هو على استعلائه وتنزيل نفسه عاليا الموجب لصدور الامر منه ، لا ان التقبيح على امره ، لصدق الامر عليه حقيقة بعد استعلائه. ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان توهم كفاية أحد الامرين في تحقق حقيقة الامر : اما العلو والاستعلاء ، وذلك فان غير العالي لايكاد يصدق على طلبه الامر الذي هو مساوق ( فرمان ) ولو استعلى غاية الاستعلاء ، كما أن العالي بمحض صدور الامر منه يصدق على طلبه وأمره ، الامر و ( فرمان ) وان لم يكن مستعليا في امره بل كان مستخفضا لجناحه. وعليه فما هو المعتبر في حقيقة الامر انما كان هو العلو خاصة ، واما الاستعلاء زائدا عن جهة العلو فلا يعتبر فيه بوجه من الوجوه ، كما هو واضح.
الجهة الثالثة :
    في أن الامر هل هو حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي ؟ أو انه حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الوجوبي والاستحبابي ؟ فيه وجهان : أظهر هما الثاني ، لصدق الامر حقيقة على الطلب الصادر من العالي إذا كان طلبه استحبابيا حيث يقال له : انه امر وبالفارسية ( فرمان ) من دون احتياج في صحة اطلاق الامر عليه إلى رعاية عناية في البين ، حيث إن ذلك كاشف عن كونه حقيقة في مطلق الطلب والا لكان يحتاج في صدق الامر وصحة اطلاقه على الطلب الاستحبابي إلى رعاية عناية في البين ، كما هو واضح. ومما يشهد لذلك بل يدل عليه أيضا صحة التقسيم إلى الوجوب والاستحباب في قولك : الامر اما وجوبي واما استحبابي ، وهو أيضا علامة كونه حقيقة في الجامع بينهما.
    نعم لا اشكال في ظهوره عند اطلاقه في خصوص الطلب الوجوبي بحيث لو أطلق وأريد منه الاستحباب لاحتاج إلى نصب قرينة على الرخصة في الترك ، ومن ذلك أيضا ترى ديدن الأصحاب ( رضوان الله تعالى عليهم ) في الفقه في الأوامر الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السلام ، حيث كانوا يحملون الأوامر الواردة عنهم على


(161)
الوجوب عند خلو المورد عن القرينة على الاستحباب والرخصة في الترك حتى أنه لو ورد في رواية واحدة أوامر متعددة بعدة أشياء كقوله : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، ونحوه ، فقامت القرينة المنفصلة على إرادة الاستحباب في الجميع إلا واحدا منها تريهم يأخذون بالوجوب فيما لو تقم عليه قرينة على الاستحباب ، بل وتريهم كذلك أيضا في أمر واحد كقوله : إمسح ناصيتك ، حيث إنهم أخذوا بالوجوب بالنسبة إلى أصل المسح وحملوه على الاستحباب بالنسبة إلى الناصية مع أنه امر واحد ، وهكذا غير ذلك من الموارد التي يطلع عليها الفقيه ، ومن المعلوم أنه لايكون الوجه في ذلك الا حيث ظهور الامر في نفسه في الوجوب عند اطلاقه ، وحينئذ فلا اشكال في أصل هذا الظهور.
    نعم انما الكلام والاشكال في منشأ هذا الظهور وانه هل هو الوضع أو هو غلبة الاطلاق أو هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة ؟
    فنقول : اما توهم كون المنشأ فيه هو الوضع فقد عرفت فساده وأنه يكون حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الإلزامي وغيره بشهادة صحة التقسيم وصحة الاطلاق على الطلب الغير الإلزامي. واما ما استدل به من الآيات والأخبار الكثيرة لاثبات الوضع للوجوب ، من نحو قوله : سبحانه « فليحذر الذين يخالفون عن امره » وقوله عز من قائل مخاطبا لإبليس : ( ما منعك ان تسجد إذ أمرتك ) وقوله صلى الله عليه وآله : ( لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) وقوله صلى الله عليه وآله أيضا لبريرة حين قال له أتأمرني يا رسول الله : ( لا بل أنا شافع ) من تقريب انه جعل المخالفة للامر في الأول ملزوما لوجوب لحذر ، وفى الثاني للتوبيخ ، وفى الثالث للمشقة ، وحيث لايجب الحذر من مخالفة الامر الاستحبابي ولايصح التوبيخ عليه ولا كان مشقة يترتب على الامر الاستحبابي بعد جواز الترك شرعا ، فلا جرم يستفاد من ذلك كونه حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي ، فان التقيد بالوجوب في تلك الأوامر خلاف ظاهر تلك الأدلة من جهة قوة ظهورها في ترتب هذه اللوازم على طبيعة الامر لا على خصوص فرد منه ، وحينئذ فتدل تلك الأدلة بعكس النقيض على عدم كون الامر الاستحبابي أمرا حقيقة بلحاظ عدم ترتب تلك اللوازم عليه. فنقول : بأنه يرد على الجميع بابتناء صحة الاستدلال المزبور على جواز التمسك بعموم العام للحكم بخروج ما هو خارج عن حكم العام عن موضوعه ، إذ بعد أن كان من المقطوع عدم ترتب تلك اللوازم من وجوب الحذر


(162)
والتوبيخ والمشقة على الامر الاستحبابي أريد التمسك به لا ثبات عدم كون الامر الاستحبابي من المصاديق الحقيقية للامر ليكون عدم ترتب اللوازم المزبورة عليه من باب التخصص والخروج الموضوعي لا من باب التخصيص ، نظير ما لو ورد خطاب على وجوب اكرام كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب اكرام زيد لكنه يشك في أنه مصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم من باب التخصيص أو انه لايكون مصداقا للعالم كي يكون خروجه من باب التخصص ، ولكنه نقول بقصور أصالة العموم والاطلاق عن إفادة اثبات ذلك فان عمدة الدليل على حجيته انما كان هو السيرة وبناء العرف والعقلاء ، والقدر المسلم منه إنما هو في خصوص المشكوك المرادية وهو لايكون الا في موارد كان الشك في خروج ما هو المعلوم الفردية للعام عن حكمه ، وحينئذ فلايمكننا التمسك بالأدلة المزبورة لاثبات الوضع لخصوص الطلب الإلزامي خصوصا بعد ما يرى من صدقه أيضا على الطلب الاستحبابي ، كما هو واضح. هذا كله بالنسبة إلى الوضع.
    واما الغلبة فدعواها أيضا ساقطة بعد وضوح كثرة استعماله في الاستحباب. ومن ذلك ترى صاحب المعالم ( قدس سره ) فإنه بعدان اختار كون الامر حقيقة في خصوص الوجوب قال : بأنه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة ( عليهم السلام ) ان استعمال الامر في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فمن ذلك استشكل أيضا وقال : بأنه يشكل التعلق في اثبات وجوب امر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم السلام. وحينئذ فلا يبقى مجال لدعوى استناد الظهور المزبور إلى غلبة الاستعمال في خصوص الوجوب ، كما هو واضح.
    وحينئذ فلابد وأن يكون الوجه في ذلك هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة وتقريبه من وجهين :
    أحدهما : ان الطلب الوجوبي لما كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لايقتضي المنع عن الترك ، فلا جرم عند الدوران مقتضي الاطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي ، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد ، بخلاف الطلب الوجوبي فإنه لا تحديد فيه حتى يحتاج إلى التقييد ، وحينئذ فكان مقتضى الاطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلبا وجوبيا لا


(163)
استحبابيا.
    وثانيهما : ولعله أدق من الأول تقريب الاطلاق من جهة الأتمية في مرحلة التحريك للامتثال ، بتقريب أن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء وجود متعلقه في مرحلة الخارج ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ، فتارة يكون اقتضائه بنحو يوجب خروج العمل عن اللا اقتضائية للوجود بنظر العقل بحيث كان حكم العقل بالايجاد من جهة الرغبة لما يترتب عليه من الأجر والثواب ، وأخرى يكون اقتضائه لتحريك العبد بالايجاد بنحو أتم بحيث يوجب سد باب عدمه حتى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عما يترتب على ايجاده من المثوبة الموعودة ، وفي مثل ذلك نقول : بأن قضية اطلاق الامر يقتضي كونه على النحو الثاني من كونه بالنحو الأتم في عالم الاقتضاء للوجود بحيث يقتضي سد باب عدم العمل حتى من ناحية ترتب العقوبة على المخالفة ، لان غير ذلك فيه جهة نقص فيحتاج ارادته إلى مؤنة بيان من وقوف اقتضائه على الدرجة الأولى الموجب لعدم ترتب العقوبة على المخالفة. وبالجملة نقول : بأن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء التحريك للايجاد وكان لاقتضائه مراتب ، فعند الشك في وقوف اقتضائه على المرتبة النازلة أو عبوره إلى مرتبة السببية لحكم العقل بالايجاد كان مقتضي الاطلاق كونه على النحو الأتم والأكمل الموجب لحكم العقل بلزوم الايجاد فرارا عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقاب علاوة عما يترتب على موافقته من الأجر والثواب ، فتدبر.
الجهة الرابعة :
    في أنه هل الطلب عين الإرادة أو غيرها ؟ حيث إنه وقع فيه الخلاف بين المعتزلة والعدلية وبين الأشاعرة ، فذهبت الأشاعرة إلى المغايرة بينهما ، والباقون إلى اتحادهما مستدلين لذلك : بانا لا نجد في أنفسنا عند الامر بشيء وطلبه غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، فمن ذلك صاروا بصدد توجيه القول بالمغايرة وحملوه على وجوه يرتفع بها النزاع في البين.
    منها : ما أفاده في الكفاية ، حيث إنه لما بنى على اتحاد الطلب والإرادة مصداقا ومفهوما وجه كلام القائلين بالمغايرة ، حيث قال ما ملخصه : الحق كما عليه أهله اتحاد الطلب و


(164)
الإرادة مفهوما وانشاء وخارجا بمعنى ان ما يسمى بالطلب بالحمل الشايع هو عين الإرادة بهذا الحمل وما ينتزع عنه هذا المفهوم أي مفهوم الطلب عين ما ينتزع عنه مفهوم الإرادة ، وانشاء الطلب الذي هو عبارة عن استعمال اللفظ في المفهوم بقصد الايقاع هو عين انشاء الإرادة ، فكان الطلب والإرادة متحدين في جميع تلك المراحل الثلاث ، ولكنه لما كان المنصرف إليه الطلب عند اطلاقه هو الطلب الانشائي وكان في الإرادة بعكس ذلك حيث كان المنصرف إليه عند اطلاقها هو الإرادة الحقيقية الخارجية دون الانشائي منها كان مثل هذا الانصراف أوجب القول بالمغايرة بينهما فتوهم أن الطلب غير الإرادة ، ولكنه ليس كذلك من جهة ان ذلك انما كان من جهة ما يستفاد من قضية اطلاقهما حسب الانصراف ومثل ذلك مما لا ينكره القائل بالاتحاد ، بل عليه يرتفع النزاع من البين رأسا لرجوع النزاع حينئذ إلى ما هو المستفاد من قضية اطلاق لفظ الطلب بان المستفاد منه هل هو عين ما يستفاد من لفظ الإرادة عند اطلاقها أو ان المستفاد منه هو غيره ؟.
    ومنها : أي من التوجيهات جعل المراد من الطلب عبارة عن الاشتياق التام الحاصل عقيب تصور الشيء والتصديق بفائدته ، والإرادة عبارة عن حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب والمراد الذي يستتبع الفعل والعمل ، أو العكس بجعل الطلب عبارة عن حملة النفس والإرادة عن الاشتياق التام.
    ومنها : جعل الطلب عبارة عما ينتزع عن مقام ابراز الإرادة من البعث والايجاب والوجوب واللزوم ، فيغاير حينئذ الإرادة حيث كانت الإرادة من الأمور الحقيقية القائمة بالنفس بخلاف الطلب حيث إنه كان من الأمور الاعتبارية الانتزاعية عن مقام ابراز الإرادة بالامر نحو الشيء بالايجاد.
    ومنها : غير ذلك من التوجيهات المذكورة في كلماتهم.
    أقول : ولايخفى عليك ما في هذه المحامل والتوجيهات ، إذ نقول وان كان يتضح بها المغايرة بينهما بل ويرتفع معها النزاع من البين ، ولكن لا يساعد شيء منها كلام القائلين بالمغايرة حيث نقول : بأن الطلب وما يحكى عنه الامر عندهم عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال وللتخلف عن المراد وللموضوعية لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ، كما يشهد عليه قضية استدلالهم بالأوامر الامتحانية الخالية عن الإرادة في مواردها ، كما في امر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام ، واستدلالهم أيضا بتكليف الله


(165)
سبحانه الكفار بالايمان وأهل الفسوق والعصيان بالعمل بالأركان فان الله سبحانه امر الكفار بالايمان ولم يرد منهم الايمان لامتناع صدور الايمان منهم بعد علمه سبحانه بذلك ، إذ حينئذ يستحيل تعلق ارادته سبحانه بالايمان المستحيل منهم. وأيضا لازم تعلق ارادته سبحانه بذلك هو قهرية صدور الايمان منهم لأنه سبحانه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون فيستحيل تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، وحينئذ فمن جهة عدم صدور الايمان منهما لابد وان يستكشف عن عدم تعلق ارادته الأزلية بصدور الايمان منهم ومعه يثبت المطلوب من المغايرة بين الطلب والإرادة. وأيضا استدلالهم على كون العباد مجبورين في أفعالهم على ما هو مقتضى مذهبهم وانكارهم التحسين والتقبيح العقليين بأنه من الممكن امر الله سبحانه العباد بأمور ليس فيها مصلحة أصلا ، حيث إنه يستفاد من أدلتهم ان ما يحكى عنه الامر وهو الطلب عندهم عبارة عن معنى كان ممكن التعلق بالمحال وقابلا للتخلف عن المراد ولأن يكون تابعا لمصلحة في نفسه لا في متعلقه مع كونه موضوعا أيضا لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ويقابله الإرادة عندهم فإنها معنى لايجوز تخلفها عن المراد ولا كانت قابلة للتعلق بالمحال ولا للتبعية لمصلحة في نفسها لكونها تابعة لمقدماتها التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له.
    وكان عمدة ما دعاهم إلى المصير إلى المغايرة تلك الاشكالات الفاسدة الواردة بنظرهم بناء على القول باتحاد الطلب مع الإرادة : منها لزوم عدم تحقق العصيان من العباد لعدم جواز تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، ومنها لزوم تعلق الإرادة بالمحال بناء على الاتحاد كما في موارد الامر بما انتفي شرط تحققه ، ومنها ما بنوا عليه من المبنى الفاسد من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم الامر بالشيء مع خلوه عن المصلحة كما في الأوامر الامتحانية ، ومنها غير ذلك من المباني الفاسدة ، حيث إنه من جهة الفرار عن تلك الاشكالات التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة فقالوا بان الطلب وما يحكى عنه الامر عبارة عن معنى قابل لتلك اللوازم.
    ومما يشهد لذلك أيضا انكار القائلين بالاتحاد عليهم بأنا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء والامر به غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، وهذا هو العلامة ( قدس سره ) حيث أنكر عليهم بانا لم نجد عند الامر بشيء أمرا مغايرا لإرادة الفعل حيث لايكون المفهوم من الامر إلا إرادة الفعل من المأمور
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس