نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 376 ـ 390
(376)
متقارنتين زمانا متفاوتتان بحسب المرتبة بنحو يتخلل بينهما الفاء في قولك وجدت فوجدت ، وعليه فلا يبقى في البين الا مجرد مقارنة الامرين زمانا واجتماعهما في زمان واحد ، ولكنه بعد اختلافهما بحسب الرتبة وكون المدار في التأثير على الرتبة لا الزمان كما في كلية العلل والمعلولات لايكاد يضر حيث اجتماع طلبهما بحسب الزمان ، إذ كان اقتضاء كل واحد من الامرين وتأثيره حينئذ في مرتبة نفسه ، فكان تأثير الامر الأهم في رتبة قبل العصيان وتأثير المهم في رتبة بعد العصيان ، فتدبر.
    ثم إنه مما ذكرنا ظهر لك حال بقية الشقوق والصور من فرض كونهما موسعين أو مختلفين أيضا ، فعلى ما ذكرنا من امكان الجمع بين الامرين بالضدين إما بنحو ما ذكرنا أو بنحو الترتب لا بأس باتيان ما هو الموسع منهما بداعي أمره ، فإذا كان الموسع عبادة كان للمكلف التقرب بها باتيانها بداعي أمرها بلا احتياج في تصحيحها إلى حيث رجحانها الذاتي ، نعم لو بنينا على مسلك من يقول باستحالة الجمع بين الامر بهما ولو في رتبتين أيضا لكان المتعين حينئذ في تصحيحها هو حيث رجحانها الذاتي ، من جهة انه بمزاحمة هذا الفرد مع المضيق فقهرا بحكم العقل يخرج عن دائرة الطبيعة المأمور بها ، ومع خروجه عنها لا جرم يختص الامر أيضا بغيره من الافراد الاخر ، فلا يبقى مجال تصحيحها حينئذ باتيانها بداعي أمرها.
    واما توهم أن الفرد المزاحم مع المضيق بعد كونه كالأفراد الباقية في الوفاء بالغرض وعدم كون خروجه من باب التخصيص الكاشف عن خلوه عن المصلحة والوفاء بالغرض رأسا فأمكن التقرب به باتيانه بقصد الامر بالمتعلق بالطبيعة والجامع ، فمدفوع بأن داعوية الامر في التكاليف بعد أن كانت عبارة عن كون الامر علة فاعلية للايجاد فلا جرم بخروج هذا الفرد عن دائرة الطبيعة المأمور بها يتضيق دائرة الطبيعي المأمور به بما عدا هذا الفرد ، ومعه لايكاد اقتضاء للامر المتعلق بالطبيعة بالنسبة إليه في الداعوية حتى يصح جعله داعيا ومحركا نحوه بالايجاد ، وهذا هو الذي اشتهر بينهم بأن الامر لايدعو الا إلى متعلقه من جهة أن داعوية الامر انما هي باقتضائه للايجاد فمع عدم اقتضاء فيه بالنسبة إلى هذا الفرد يستحيل داعويته نحوه كما هو واضح.
    ثم إن هذا كله فيما يتعلق بالضد الخاص.
    واما الضد العام بمعنى الترك فلا إشكال فيه في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عنه


(377)
كما تقدم ، وانما الكلام والاشكال في أنه هل هو بنحو العينية أو التضمن أو من جهة الالتزام حيث إن فيه وجوها ، وفي مثله كان المتعين هو الأخير من كونه على نحو الالتزام دون العينية والتضمن.
    وذلك اما عدم كونه بنحو العينية فواضح ، فإنه لا وجه له الا توهم ان حقيقة النهى عبارة عن طلب الترك قبال الامر الذي هو عبارة عن طلب الوجود وان ترك الترك في المقام بعد أن كان عبارة أخرى عن الوجود الذي هو طارد العدم قهرا كان طلب الوجود أيضا عبارة أخرى عن النهى عن النقيض الذي هو عبارة عن طلب ترك الترك ومقتضاه حينئذ هو عينية الامر بالشيء مع النهى عن النقيض بحسب المنشأ وان لم يكن كذلك بحسب المفهوم ، ولكنه فاسد جدا ، وذلك لما سيجيء من أن حقيقة النهى عن الشيء ليس الا عبارة عن الزجر عن الوجود في قبال الامر الذي هو الارسال والبعث نحو الوجود لا أنه عبارة عن طلب الترك كي يلزمه اشتراكه مع الامر في جزء المدلول وهو الطلب فيلزمه عينيتهما في المقام بحسب المنشأ ، وعليه فمن الواضح المغايرة التامة بين مدلوليهما علاوة عما كان بين مفهوميهما من المغايرة ، كما هو واضح.
    واما عدم كونه بنحو التضمن والجزئية فظاهر أيضا ، من جهة ابتناء القول بالجزئية على تركب الوجوب من طلب الفعل مع المنع عن الترك ، والا فعلى التحقيق من بساطة حقيقة الوجوب وعدم تركبه لايبقى مجال دعوى كون الاقتضاء المزبور من جهة التضمن.
    وحينئذ يتعين الامر بكونه على نحو الالتزام ، نظرا إلى ما هو الواضح من الملازمة التامة بين إرادة الشيء وكراهة تركه بحسب الارتكاز بحيث لو التفت إلى الترك ليبغضه ويمنع عنه ، نعم لا بأس بدعوى العينية بينهما بحسب الانشاء بلحاظ كونه مبرزا عن مبغوضية الترك كابرازه عن محبوبية الوجود ومطلوبيته فتدبر.


(378)
    قد اختلفوا في جواز امر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه وعدم جوازه على قولين ، وقد نسب القول بالجواز إلى الأشاعرة ، ولكن الظاهر أن المراد من الشرط المنتفى انما هو شرط وجود المأمور به لا شرط نفس الامر ، لان ذلك مما لا مجال للنزاع فيه ، إذ لاينبغي الاشكال في عدم جوازه حتى من الأشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين ، نظرا إلى رجوعه حينئذ إلى البحث عن جواز تحقق المعلول بدون علته التامة ، وهو كما ترى لا يتوهمه من له أدنى شعور ، هذا إذا أريد من الانتفاء الانتفاء بقول مطلق ، واما لو أريد انتفاء شرط بعض مراتب الامر فهو أيضا مما لاينبغي الاشكال في جوازه ، فإنه إذا كان للامر مراتب من حيث الانشاء والفعلية والتنجز أمكن لا محالة الامر به بمرتبة انشائه مع انتفاء شرطه بالنسبة إلى مرتبة فعليته أو مرتبة تنجزه أو الامر به بمرتبة فعليته مع انتفاء شرط مرتبة تنجزه ، إذ لا محذور عقلايترتب عليه كي يصار لأجله إلى عدم جوازه وامتناعه ، كيف وان الدليل على امكانه حينئذ هو وقوعه في العرفيات والشرعيات كما في موارد الأصول والامارات المؤدية إلى خلاف الواقع ، بل ولعل كثيرا من الاحكام بعد واقفة على مرتبة انشائها ولم تصل إلى مرتبة فعليتها إلى أن يقوم الحجة عجل الله تعالى فرجه كما لعله من ذلك أيضا قوله عليه السلام : « ان الله سبحانه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا الخ » وحينئذ فيتعين إرادة انتفاء شرط وجود المأمور به ، وعليه أيضا ينبغي تخصيص مورد النزاع بالانتفاء الموجب لسلب قدرة المأمور على الامتثال واتيانه واجدا لشرطه لا مطلق الانتفاء ولو المستند إلى اختيار المكلف مع تمكنه من تحصيله ، فان ذلك أيضا مما لا


(379)
مجال للنزاع فيه ، إذ لا اشكال في جواز ذلك كما في تكليف الجنب بالصلاة عند دخول الوقت مع تمكنه من تحصيل الطهارة ، ومن ذلك كان الواجب عليه حينئذ تحصيل شرطها الذي هي الطهارة ، فإنه لولا وجوب الصلاة عليه لما كان الواجب عليه تحصيل الطهارة ، وهو واضح بعد وضوح كون وجوب الطهارة عليه وجوبا غيريا ترشحيا من وجوب ذيها.
    وعليه فيرجع هذا النزاع إلى النزاع المعروف بين الأشاعرة وغيرهم من جواز تعلق التكليف بالمحال وعدم جوازه من جهة رجوع التكليف بالمشروط حينئذ مع انتفاء شرط المأمور به وعدم تمكن المكلف من تحصيله إلى التكليف بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، فيندرج حينئذ في ذلك النزاع الذي أثبته الأشاعرة حسب زعمهم الفاسد من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم على الله سبحانه تكليف عباده بما لا يقدرون عليه. وربما يبتني ذلك أيضا على النزاع المتقدم في مسألة وحدة الطلب والإرادة وتغايرهما ، بجعل الطلب عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال مع كونه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، كما هو ظاهر استدلالهم بالمغايرة ، إذ حينئذ على القول بالاتحاد كما هو التحقيق يكون عدم جوازه من جهة كون التكليف بنفسه محالا لا من جهة انه تكليف بالمحال ، نظرا إلى وضوح استحالة تعلق الإرادة الفعلية بالممتنع ، بخلافه على القول بالمغايرة فان المحذور فيه انما هو من حيث كونه تكليفا بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، وفي مثله نقول بأنه على القول بالمغايرة وتسليم هذا المبنى الفاسد لا باس بالقول بالجواز في المقام ، ولكن الذي يسهل الخطب هو فساد أصل المبني لما عرفت في محله من اتحاد حقيقة الطلب والإرادة وانه لايتصور معنى آخر يكون هو الطلب في قبال الإرادة بحيث كان موضوعا للحكم بوجوب الامتثال وكان قابلا أيضا للتعلق بالمحال ، وعليه فكان التحقيق في المقام هو عدم جوازه من جهة ما عرفت من كون مثل هذا التكليف بنفسه محالا ، كما هو واضح.


(380)
    وقبل الخوض في المرام ينبغي بيان ما هو مركز التشاجر والكلام بتمهيد مقدمتين : فنقول :
    المقدمة الأولى : لا اشكال في أنه على كلا القولين في المسألة لابد عند طلب شيء والامر به من لحاظ موضوع الطلب وتصوره واحضاره في الذهن ، كي بذلك يتمكن من طلبه والبعث إليه والا فبدونه يستحيل تحقق الطلب والبعث إليه وهو واضح.
    الثانية : ان من المعلوم ان لحاظ الطبيعة يتصور على وجوه : منها لحاظها بما هي في الذهن ومحلاة بالوجود الذهني ، ومنها لحاظها بما هي شيء في حد ذاتها ، ومنها لحاظها بما هي خارجية بحيث لايلتفت إلى مغايرتها واثنينيتها مع الخارج ولا يرى في هذا اللحاظ التصوري الا كونها عين الخارج ومتحدة معه بحيث لو سئل بأنه أي شيء ترى في هذا اللحاظ يقول بأنه ما أرى الا الخارج وان كان بالنظر التصديقي يقطع بخلافه فيرى كونها غير موجودة في الخارج.
    وفي ذلك نقول : بان من الواضح أيضا انه ليس المقصود من تعلق الامر بالطبيعي عند القائل به هو الطبيعي بما هو موجود في الذهن من جهة وضوح انه بهذا الاعتبار مع كونه كليا عقليا غير قابل للصدق على الخارج لايكون مما تقوم به المصلحة حتى يتعلق به الامر والطلب ، فلا يتوهم أحد حينئذ تعلق الطلب والامر به بهذا الاعتبار كما لايخفى ، كوضوح عدم كون المقصود أيضا هو الطبيعي بالاعتبار الثاني من جهة وضوح ان الطبيعة بهذا الاعتبار ليست الا هي فلا تكون هي أيضا مركب المصلحة حتى يتعلق بها الامر والطلب ، بل وانما المقصود من ذلك عند القائل به هو الطبيعي بالاعتبار الثالث الذي يرى كونها عين الخارج.
    وعليه فمركز النزاع بين الفريقين في أن معروض الطلب وموضوعه هو الطبيعة أو الوجود انما هو في الطبيعي بالاعتبار الثالث فالقائل بالطبيعي يدعي تعلق الطلب والامر بنفس الطبيعي والعناوين بما هي ملحوظة كونها خارجية لا بمنشأ انتزاعها وهو الوجود


(381)
لا بدوا ولا بالسراية ، والقائل بالوجود يدعي عدم تعلقه الا بالمعنون الخارجي الذي هو منشأ انتزاع العناوين والصور الذهنية.
    وإذ عرفت ذلك نقول : ان الذي يقتضيه التحقيق هو الأول من تعلق الامر والطلب بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة إلى الخارج وملحوظة بحسب اللحاظ التصوري عين الخارج لا بالوجود الخارجي كما كان ذلك هو الشأن في سائر الكيفيات النفسية من المحبة والاشتياق بل العلم والظن ونحوها أيضا ، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركب الذي يعتقد بوجود شيء بالقطع المخالف للواقع فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحققه في الخارج ، إذ نقول بأنه لولا ما ذكرنا من تعلق الصفات المزبورة بالعناوين والصور الذهنية بما هي ملحوظة خارجية يلزم خلو الصفات المزبورة عن المتعلق في مثل الفرض المزبور ، فإنه بعد مخالفة قطعه للواقع لايكون في البين شيء تعلق به تلك الصفات ، مع أن ذلك كما ترى من المستحيل جدا ، لوضوح أن هذه الصفات من العلم والظن والمحبة والاشتياق والإرادة كما كان لها إضافة إلى النفس من حيث قيامها بها كذلك لها إضافة أيضا إلى متعلقاتها بحيث يستحيل تحققها بدونها ، بل وقد يقطع الانسان ويذعن بعدم تحقق شيء كذائي في الخارج إلى الأبد ومع ذلك يشتاق إليه غاية الاشتياق ويتمنى وجوده كقولك « يا ليت الشباب لنا يعود » فان ذلك كله كاشف تام عن تعلق تلك الصفات المزبورة بنفس العناوين والصور الذهنية لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي وهو الوجود ، غايته بما هي ملحوظة بحسب النظر التصوري عين الخارج لا بما انما شيء في حيال ذاتها بحيث يلتفت عند لحاظها إلى مغايرتها مع الخارج ، ولئن شئت فاستوضح ما ذكرنا بالرجوع إلى الأكاذيب المتعارفة بين الناس في ألسنتهم ليلا ونهارا فإنه لا شبهة في أن الذي يخبر كذبا بثبوت القيام لزيد في قوله زيد قائم مثلا لا يلاحظ ولا يري من زيد والقيام والنسبة بينهما في لحاظه ونظره الأزيد أو القيام الخارجيين والنسبة الخارجية بينهما ، لا المفهوم منها بما انه شيء في قبال الخارج ، ولا الوجود الحقيقي الخارجي ، لأنه حسب اذعانه وتصديقه مما يقطع بخلافه والا يخرج اخباره بقيامه عن كونه كذبا كما هو واضح.
    وعلى ذلك فلا محيص من المصير في كلية تلك الصفات من العلم والظن والحب والبغض والاشتياق والإرادة ونحوها إلى تعلقها بنفس العناوين والصور الذهنية ، غايته بما هي حاكية عن الخارج كما شرحناه ، لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي لا بدوا ولا


(382)
بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، كيف وان الخارج بعد كونه ظرفا لسقوط الإرادة والطلب يستحيل كونه ظرفا لثبوتها ، فيستحيل حينئذ تعلق الإرادة والطلب بالمعنون الخارجي ولو بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، من جهة رجوعه حينئذ إلى طلب الحاصل المحال كما هو واضح. وارجاعه كما في الكفاية إلى إرادة صدور الوجود من المكلف وجعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته لا إلى طلب ما هو صادر وثابت في الخارج حتى يكون من طلب الحاصل المحال ، كما ترى ، فإنه بعد أن كان الايجاد وجعل الشيء بسيطا معلولا للطلب وفي رتبة متأخرة عنه بنحو يتخلل بينهما الفاء الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة كقولك أردت ايجاد الشيء فأوجدته يستحيل وقوعه موضوعا للطلب ومتعلقا له.
    فعلى ذلك لايبقى مجال جعل المتعلق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف الايجاد وإفاضته بمعنى جعله بسيطا كما في الكفاية والفصول من اشراب الوجود في مدلول الهيئة مع جعلهم المادة عبارة عن نفس الطبيعة من حيث هي ، وذلك لما عرفت ما فيه من امتناع تعلق الطلب بالخارج وبالوجود ولو بمعنى جعله بسيطا لا بدوا ولا بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، خصوصا مع ما يلزمه من لزوم تجريد الهيئة عن الوجود في نحو قوله أوجد الصلاة نظرا إلى ما هو الواضح من عدم انسباق الوجود في المثال مرتين في الذهن تارة من جهة المادة وأخرى من جهة الهيئة ، والالتزام فيه بالمجاز أيضا كما ترى.
    ولعمري ان عمدة ما دعاهم إلى مثل هذا الالتزام انما هو لحاظهم الطبيعي بما أنه شيء في حيال ذاته وفى الخارج وعدم تصورهم إياه مرآة إلى الخارج بنحو ما ذكرنا ، فمن ذلك أشكل عليهم بان الطبيعة من حيث هي ليست الا هي فلايمكن ان يتعلق بها الامر والطلب ولأن الطلب انما يتعلق بما يقوم به الأثر والمصلحة والأثر والمصلحة بعد أن لم تكن قائمة الا بالوجود والماهية الخارجية لايتعلق الطلب أيضا الا بالوجود والماهية الخارجية فالتجأوا من هذه الجهة إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة وجعلوه متعلقا للطلب فرارا عن الاشكال المزبور ، والا فعلى ما ذكرنا من الاعتبار الثالث للطبيعة وهو لحاظها خارجية لايكاد مجال لهذا الاشكال حتى يحتاج في التفصي عنه إلى اشراب الوجود في الهيئة ، إذ عليه نقول بأن المصلحة حسب كونها من الاعراض الخارجية وان لم تكن قائمة الا بالخارج الا ان الطبيعي بهذا الاعتبار بعد ما لم يكن مغايرا مع الخارج بل


(383)
كان بينهما الاتحاد والعينية بالاعتبار المزبور يلزمه قهرا صيرورة كل من الخارج والصور الذهنية متلونا بلون الآخر في مرحلة الاتصاف ، فمن ذلك تتصف الصور الذهنية بلحاظ الاتحاد المزبور بكونها ذات مصلحة ، كاتصاف الخارج أيضا بالمرادية والمطلوبية ، نظير باب الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من حيث سراية صفات كل منهما إلى الآخر لأجل ما كان بينهما من الاتحاد ، ففي الحقيقة كان هذا الاتحاد موجبا لنحو توسعة في دائرة النسبة في مقام الاتصاف في صدق المطلوبية والمرادية على الخارج وصدق ذي الأثر والمصلحة على الصور الذهنية ، والا ففي مرحلة العروض لايكون المعروض للطلب الا العناوين والصور الذهنية كما أنه في طرف المصلحة أيضا لايكون المعروض لها الا الوجود والماهية الخارجية.
    بل وعلى هذا البيان أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالوجود إلى الطبيعة بالاعتبار الثالث الملحوظة خارجية في قبال الاعتبار الثاني لها وهو لحاظها بما هي شيء في حيال ذاتها ، إذ على هذا الاعتبار لما كان لايرى من الطبيعة في ذلك اللحاظ الا الوجود ولا يرى بينهما المغايرة صح ان يقال بان الامر متعلق بالوجود لا بالمهية من حيث هي بإرادة هذا الوجود الزعمي التخيلي لا الوجود الخارجي ولو بجعله بسيطا ، فيتحد القولان من جهة رجوعهما حينئذ إلى امر واحد ولكن ذلك أيضا بالنسبة إلى كلمات السابقين الذين لم يتعرضوا لتفصيل المسألة وأو كلوها إلى ما هو المرتكز في الأذهان ، والا ففي كلمات المتأخرين المتعرضين لتفصيل المسألة كصاحب الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) على ما عرفت من مصيرهم إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة في الأوامر لا يجري هذا التوجيه ، ولكن قد عرفت أيضا سخافة أصل المبني في نفسه وعدم امكان المصير إلى تعلق الطلب بالوجود الخارجي الذي هو نتيجة الطلب ولو بمعنى جعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته على حسب ما تقدم بيانه مفصلا.
    نعم لو كان المقصود من الوجود الذي جعلوه متعلقا للطلب في الأوامر هو مفهوم الوجود مرآة إلى الخارج على نحو ما قلناه في الطبيعي لا مصداقه وحقيقته الخارجية لكان يسلم عن هذه الاشكال ، إذ لايترتب عليه حينئذ محذور طلب الحاصل ولا محذور تعلق الطلب والامر بأمر متأخر عنه رتبة ، ولكن نقول بأنه مع بعد ذلك في نفسه لا داعي


(384)
حينئذ إلى مثل هذا الالتزام بل من الأول يصار إلى أن المتعلق هو الطبيعي غايته بما هو مرآة إلى الخارج ، كيف وانه ليس في البين ما يقتضي المصير إلى الالتزام المزبور لا من طرف المادة ، كما هو واضح ، ولا من طرف الهيئة أيضا لأنها على ما تقرر في محله لاتدل الا على نسبة ارسالية بين المبدء والفاعل أو طلب ما تدل عليه المادة فأين حينئذ مفهوم الوجود وأين الدال عليه ؟ خصوصا مع ما يرد عليه من لزوم تكرر الوجود وانسباقه مرتين في الذهن في مثل قوله أوجد الصلاة تارة من جهة المادة وأخرى من ناحية الهيئة ، مع أنه كما ترى ! والالتزام في مثل ذلك بالتجريد أوهن ، لوضوح انه لايكاد يرى فرق في مدلول الهيئة بين قوله صل وبين قوله أوجد الصلاة ، على أنه كثيرا ما يكون العنوان المأخوذ في حيز الطلب من العناوين العرفية الانتزاعية كما في المثال من قوله أوجد الصلاة وقوله أعدم الطبيعة ونحو ذلك مما لايمكن فيها اشراب حيث الوجود من الهيئة ، كما هو واضح.
    وعليه فلا محيص من الغاء الوجود عن البين بالمرة والمصير إلى أن المتعلق للطلب والامر هي نفس العناوين والصور الذهنية بما انها ملحوظة خارجية دون المعنونات الخارجية ، من غير فرق في ذلك بين كون العنوان من العناوين الانتزاعية أو من الطبايع المتأصلة كالصلاة والصوم ونحوهما.
    ومن ذلك نقول أيضا بأن حق تحرير عنوان البحث هو تحريره بأنه إذا تعلق الامر بعنوان هل يسري منه إلى منشأ انتزاعه الذي هو المعنون الخارجي أو انه يقف الطلب والامر على نفس العنوان ولا يتعدى عنه إلى المعنون الخارجي ، لا تحريره بما هو الشايع بان الطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي من جهة ما عرفت بأنه كثيرا ما يكون المتعلق من العناوين الانتزاعية التي لايمكن فيها اشراب الوجود في الهيئة كما في الطبايع المتأصلة ، كما هو واضح.

    في أنه إذا تعلق الامر بعنوان فهل يسري إلى افراده ومصاديقه على نحو يكون الافراد بما لها من الحدود الفردية والخصوصيات الشخصية تحت الطلب والامر أم لا وعلى الثاني من عدم سرايته إلى الخصوصيات الفردية فهل يسرى إلى الحصص المقارنة لخواص


(385)
الافراد كما في الطبيعة السارية أم لا بل الطلب والامر يقف على نفس الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص ؟
    وتوضيح المرام هو أنه لا اشكال في أن الطبيعي إذا كان له افراد يكون كل فرد منه مشتملا على مرتبة من الطبيعي غير المرتبة التي يشتمل عليها الفرد الآخر ومن ذلك يتصور للطبيعي مراتب عديدة حسب تعدد الافراد مغايرة كل مرتبة منه باعتبار محدوديتها بالحدودات الفردية مع المرتبة الأخرى ، كما في الانسان حيث أنه كان الانسانية الموجودة في ضمن زيد بملاحظة محدوديتها وتقارنها لخواصه غير الانسانية الموجودة في ضمن عمرو المقارنة لخواصه ، فهما حصتان ومرتبتان من الانسانية انسانية قارنت خواص زيد وانسانية قارنت خواص عمرو ، وهكذا ، من غير أن ينافي ذلك أيضا اتحاد تلك الحصص بحسب الذات والحقيقة وكون الجميع تحت جنس واحد وفصل فارد من حيث صدق حيوان ناطق على الجميع وعلى كل واحدة من الحصص من الحصص كما لايخفى ، ومن ذلك أيضا قيل واشتهر بأن الطبيعي مع الافراد كنسبة الآباء مع الأولاد ، لا كنسبة الأب الواحد مع الأولاد وان مع كل فرد أبا من الطبيعي غير ما يكون مع الابن الآخر مع اتحاد تلك الآباء على اختلافها وتباينها بحسب المرتبة بحسب الحقيقة والذات واندراج الجميع تحت جنس واحد وفصل وبهذه الجهة أيضا ترى اشتمال هذه الحصص كل واحدة منها على جهات وحيثيات شتى ينتزع بها منها عناوين مقوماتها العالية كالجوهرية والجسمية والنامية والحساسية والحيوانية ، كما في زيد الذي هو فرد الانسان حيث يشتمل على جميع حدود مقوماته العالية من الجوهرية والجسمية إلى أن يبلغ إلى جهة الانسانية التي هي جهة مشتركة بينه وبين عمرو وخالد مع زيادة جهة أخرى فيه التي بها امتيازه عن عمرو وخالد ، وكذلك الانسان بالنسبة إلى الحيوان والجسم النامي والمطلق والجوهر ، وهكذا كل سافل بالنسبة إلى عالية فأنه لابد من اشتماله على جميع مقوماته العالية مع زيادة جهة فيه بها امتياز عن سائر الحصص المشاركة معه في جنسه وفصله القريبين ، وهو معنى قولهم بان كل ما هو مقوم للسافل أيضا ولا عكس ، وعليه أيضا اعتبارهم في التعريف الحقيقي للشيء بلزوم الاخذ بجميع مقوماته من الداني والعالي والاعلى.
    وإذ عرفت ذلك فلنرجع إلى المقصود من سراية الامر من الطبيعي الملحوظ فيه صرف


(386)
الوجود إلى أفراده ومصاديقه وعدم سرايته ، وفي ذلك نقول بان التحقيق في المقام هو القول الثاني من وقوف الطلب على نفس الطبيعي وعدم سرايته لا إلى الخصوصيات الفردية ولا إلى الحصص الموجودة في ضمن الافراد المقارنة لخواصها ، إذ نقول بأنه يكفي في الدليل لذلك الوجدان عند طلب شيء والامر به كما في طلبك الماء للشرب ، فإنه قاض بداهة بأنه لايكون المطلوب الا صرف الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص من دون مدخلية في ذلك للحصص ، فضلا عن الخصوصيات الفردية كماء الكوز والجرة والحب ونحو ذلك ، ولذلك لو عرض عليك تلك الحصص وهذه الخصوصيات لكنت تنفى الجميع وتقول بأن المطلوب انما كان صرف الطبيعي والقدر المشترك دون الحصص ودون خصوصيات الافراد ، كيف وأن الطلب حسب معلوليته للمصلحة لايتعلق الا بما تقوم به المصلحة فمع قيام بصرف الطبيعي والجامع وعدم سرايتها إلى الحدود الفردية ولا إلى الحصص المقارنة لخواصها يستحيل سراية الطلب إلى الحدود الفردية أو الحصص المقارنة لخواصها ، على أن لازم ذلك هو صيرورة كل واحد من الافراد والحصص واجبا تعيينيا لكونه مقتضي سراية الطلب إليها ، وهو كما ترى ، لايظن توهمه من أحد وحينئذ فيكون ذلك كله برهانا تاما على وقوف الطلب حسب تبعيته للمصلحة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية فضلا عن سرايته إلى الحدود الفردية ، كما هو واضح.
    ثم إن ما ذكر من عدم سراية الطلب إلى الحصص وخروجها عن دائرة المطلوبية انما هو خروجها بالقياس إلى الحيثية التي بها امتياز هذه الحصص الفردية بعضها عن البعض الاخر المشارك معها في الجنس والفصل القريبين ، واما بالنسبة إلى الحيثية الأخرى التي بها اشتراك هذه الحصص وامتيازها عن افراد النوع الآخر المشاركة معها في جنسها القريب ، وهي الحثيثة التي بها قوام نوعيتها ، فلا بأس بدعوى السراية إليها ، بل ولعله لا محيص عنه ، من جهة ان الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقومها العالي ليست الأعين الطبيعي والقدر المشترك ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن المطلوبية كما لايخفى ، فعلى ذلك تكون الحصص المزبورة كل واحدة منها بالقياس إلى بعض حدودها وهي حدودها الطبيعية تحت الطلب والامر وبالقياس إلى حدودها الخاصة تحت الترخيص وخارجة عن دائرة المطلوبية ، لا أنها على الاطلاق تحت الطلب والامر كما في


(387)
الطبيعة السارية ولا خارجة كذلك عن دائرة الطلب ونتيجة ذلك هو رجوع التخيير بين الحصص والافراد أيضا إلى التخيير الشرعي لا العقلي كما قيل ، إذ بعد أن لم تكن قضية عدم السراية على ما بيناه الا خروج الحصص عن دائرة الطلب بالقياس إلى حدودها الخاصة والجهة التي بها امتياز بعض هذه الحصص عن البعض الاخر المشارك معها في جنسها وفصلها القريبين ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها ، بل كانت الحصص بالقياس إلى هذه الجهة تحت الطلب والامر ، فقهرا يلزمه صيرورتها موردا للوجوب التخييري ، حيث أنه كانت الحصص حينئذ ببعض حدودها تحت الالزام الشرعي وببعض حدودها الأخرى تحت الترخيص ، ومرجع ذلك على ما بيناه مرارا إلى وجوب كل واحدة منها بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك في حال ترك البقية ، مع كون الترك في حال الوجود تحت الترخيص ، ومقتضاه هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد منها والعصيان بترك الجميع.
    وعلى ذلك فلا يبقى مجال للالتزام بخروج الافراد عن تحت الالزام الشرعي والمصير فيها إلى التخيير العقلي كما في الكفاية وغيرها ، بل لابد من ارجاع التخيير فيها إلى التخيير الشرعي ، نعم لو قلنا بوقوف الطلب في تلك الواجبات على نفس الطبيعي وصرف الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها لاتجه القول فيها بالتخيير العقلي إذ لايبقى مجال حينئذ لدعوى وجوب الحصص والافراد بالوجوب الشرعي ، ولكن عمدة الكلام فيه حينئذ في أصل المبني ، والوجه فيه هو ما عرفت من أن الحصص من حيث حدودها الطبيعية لا تكون الا عين الطبيعي والقدر المشترك بينها ، غايته انها كانت محفوظة في ضمن الافراد نظير ما تصورناه في مبحث الوضع من القسم الآخر في تصور عموم الوضع والموضوع له ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن حيز الطلب ، كما لايخفى.
    واما ما قيل بأن الطلب بعد تعلقه بالعناوين والصور الذهنية لا بالمعنونات الخارجية يستحيل سرايته إلى الحصص الفردية من جهة ان الحصص بصورها الذهنية حينئذ مبائنة مع الطبيعي ولو كانتا ملحوظتين خارجيتين فهما حينئذ صورتان متباينتان في الذهن ومع تباينهما يستحيل سراية الطلب من إحديهما إلى الأخرى ، فمدفوع بأنه كذلك


(388)
إذا لايكون الطبيعي مأخوذا لا بشرط والا فقضيته بعد لحاظهما خارجيتين واتحادهما خارجا بحسب المعنون والمنشأ كانت هي السراية لا محالة.
    كاندفاع ما قيل أيضا بان صرف الطبيعي بعد ما كان انطباقه على خصوص أول وجود فلا جرم في ظرف الانطباق لا مجال لدعوى السراية بلحاظ كونه ظرف سقوط الطلب لا ثبوته ، واما في طرف قبل الانطباق فكذلك أيضا من جهة انه حينئذ كما يكون قابلا للانطباق على أول وجود كذلك يكون قابلا أيضا للانطباق على ثاني الوجود وثالثه ، وفي مثله لا مجال لدعوى السراية إلى واحد منهما. وجه الاندفاع : هو انا نفرض الكلام في ظرف قبل الانطباق ونقول بان كل واحد من هذه الافراد إذا فرضناه غير مسبوق في وجوده بفرد آخر فقهرا ينطبق عليه أول وجود وفي مثله يسرى إليه الطلب من جهة انطباق الطبيعي عليه حينئذ من دون احتياج في سراية الطلب إلى الانطباق الفعلي عليه في الخارج حتى يتوجه المحذور المزبور ، وعليه لايبقى مجال التشكيك في سراية الطلب إلى الحصص من حيث حدودها الطبيعية بمثل هذه البيانات ، كما هو واضح.
    واما الانتقاض حينئذ بمورد العلم الاجمالي من حيث وقوف العلم مع كونه أيضا من صفات النفس كالإرادة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الخصوصيات ، بشهادة الشك التفصيلي الوجداني بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين ، فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك عدم سرايته إلى الطرفين بخصوصيتهما فهو مسلم ولكنه غير ضائر بما نحن بصدده ، إذ نحن أيضا نسلم ونقول بخروج الحصص الفردية بحدودها الخاصة التي بها امتياز بعض تلك الحصص عن البعض الآخر ، فلايتوجه حينئذ الانتقاض المزبور ، وان أريد بذلك عدم سراية العلم إلى الطرفين على الاطلاق حتى بحدودهما الجامعي فهو ممنوع جدا ، بل نقول فيه أيضا بالسراية إلى الطرفين لكن بحدودهما الجامعي على نحو ما عرفت في الطبيعي وافراده ، فتأمل.
    وعلى ذلك فالطلب المتعلق بالطبيعة ان لو حظ بالقياس إلى نفس الطبيعة اللابشرطية التي هي القدر المشترك بين الحصص يكون طلبا تعيينيا ، وان لو حظ بالقياس إلى الحصص المقارنة مع الخصوصيات يكون طلبا تخييريا ومرجعه على ما عرفت إلى تعلق طلب ناقص بكل واحدة من الحصص الفردية بنحو لا يقتضى الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك من ناحية حدودها الطبيعية التي بها اشتراك هذه الحصص بعضها مع


(389)
بعض آخر ، وحيث إن الترك من هذه الجهة ملازم مع ترك بقية الحصص صح ان يقال بان ترك كل واحدة من الحصص في ظرف ترك البقية كان تحت المنع وفي ظرف وجود حصة منها كان تحت الترخيص ، ونتيجته على ما عرفت هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد وتحقق العصيان بترك جميع الافراد.
    بل وعلى ما ذكرنا أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالسراية إلى الحصص إلى السراية إليها بحدودها المقومة لنوعها ، لا مطلقا حتى بحدودها الخاصة التي بها امتياز حصة عن أخرى ، وارجاع القول بعدم السراية أيضا عدم السراية إلى الحصص لكن بحدودها الخاصة ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها المقومة لنوعها إذ عليه يتوافق القولان ويرتفع النزاع من البين ، كما هو واضح ، فتأمل.

    والظاهر أن المراد بالجواز المتنازع فيه هو خصوص الجواز الاقتضائي الذي هو في ضمن الوجوب والاستحباب والإباحة لا الأعم منه والجواز اللا اقتضائي الناشي من عدم المقتضي للشيء فعلا أم تركا ، من جهة وضوح أن مثل هذا المعنى من الجواز بعد ورود الدليل على وجوبه مما يقطع بارتفاعه فلا معنى حينئذ للنزاع في بقائه بعد نسخ الوجوب ، كما هو واضح ، وإذ عرفت ذلك نقول بأن الكلام في المقام في بقاء الجواز وعدمه يقع تارة في أصل امكان بقائه ثبوتا ، وأخرى فيما يقتضيه الأدلة اثباتا فهنا مقامان :
    اما المقام الأول : فلاينبغي الاشكال في أنه لا ملازمة بين ارتفاع الوجوب وبين ارتفاع جوازه ، وذلك من جهة انه بعد أن كان له مراتب عديدة من حيث أصل الجواز والرجحان الفعلي وحيث الالزام والمنع عن النقيض فلا جرم أمكن ان يكون المرتفع لأجل دليل النسخ هو خصوص جهة الزامه ومنعه عن النقيض مع بقاء رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض على حاله ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة رجحانه الفعلي أيضا مع بقائه على الجواز بمعنى تساوي فعله وتركه ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة جوازه أيضا ، وحينئذ فأمكن ثبوتا بقاء كل واحد من هذه المراتب بعد ارتفاع الوجوب بدليل النسخ من


(390)
غير أن يكون برهان عقلي على امتناعه بوجه أصلا ، وعلى هذا البيان أيضا لايحتاج في اثبات الرجحان الفعلي عند ارتفاع حيث المنع عن النقيض إلى تكلف إقامة الدليل على قيام الفصل الاستحبابي مقامه ، من جهة أنه بعد كونه من قبيل التشكيكيات فلا جرم بذهاب مرتبة منه يلزمه تحدده قهرا بالمراتب الباقية نظير مرتبة خاصة من الحمرة الشديدة التي إذا زالت مرتبة منها باجراء الماء عليها تبقى مرتبة أخرى منها محدودة بحد خاص ، وعليه فيكفي ذهاب خصوص جهة منعه عن النقيض في الحكم ببقاء رجحانه واستحبابه من دون احتياج إلى قيام دليل عليه بالخصوص بوجه أصلا ، كما لايخفى.
    وحينئذ فإذا أمكن ثبوتا بقاء أصل جوازه ورجحانه الفعلي ولم يقم دليل عقلي على امتناعه يبقى الكلام في المقام الثاني في أنه هل قضية دليل النسخ رفع الوجوب بجميع مراتبه أو بخصوص مرتبة الزامه وجهة منعه عن النقيض كي يلزمه بقائه بمرتبة رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض ؟
    وفي مثله قد يقرب الثاني بدعوى ان القدر المتيقن الذي يقتضيه دليل الناسخ انما هو رفع خصوص جهة الزامه ففيما عداه يؤخذ حينئذ بدليل المنسوخ ويحكم بمقتضاه باستحبابه ، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شيء ودليل آخر على عدم وجوبه فكما انه هناك يجمع بينهما فيؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره في الالزام وجهة المنع عن النقيض كذلك في المقام أيضا فإذا لم يكن لدليل النسخ دلالة على أزيد من رفع الوجوب فلا جرم يؤخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق رجحانه وبذلك يثبت استحبابه ، حيث لا نعنى من الاستحباب الا ذلك.
    ولكن فيه ان هذا الجمع انما يصح في غير الحاكم والمحكوم واما فيهما فلا يتأتى مثل هذا الجمع بل لابد من الاخذ بدليل الحاكم ورفع اليد عن دليل المحكوم وان كان ظهوره أقوى بمراتب من دليل الحاكم. وفى المقام بعد أن كان دليل النسخ ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مدلول دليل المنسوخ بلحاظ تعرضه لرفع الحكم الثابت بدليله فلا جرم بمقتضي نظره وحكومته هذه لايبقى مجال لملاحظة دليل المنسوخ وأقوائية ظهوره من ظهوره بل في مثله لابد من الاخذ بدليل الناسخ ورفع اليد عما يقتضيه دليل المنسوخ وان كان ظهوره أقوى بمراتب من ظهوره ، وعليه أيضا لايبقى مجال استفادة الاستحباب بمثل البيان المزبور بل لابد حينئذ من التماس دليل آخر في البين ، كما هو واضح. ولعل مثل ذلك هو
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس