البعـد العالمي في القرآن

    « ألقي البحث في الندوة المتخصصة تحت شعار « عالمية القرآن » التي أقامها قسم علوم القرآن في كلية التربية / جامعة الكوفة / النجف الأشرف بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الجامعة وذلك مساء يوم الاثنين 6 رمضان المبارك 1418 هـ = 5 / 1 / 1998 .


(22)


(23)

    ما برح القرآن العظيم يتبوأ القمة الشامخة في حياة الانسانية ، وما زالت تعليماته الهادفة تنطلق مع الانسان في مسيرته الواعية ، فهو نبع ثرٌّ من المعارف لا يغور ، وهو ألقٌ حيٌّ من الفضائل لا يخبو ، وهو يجمع إلى عمق النهج الديني أروع مظاهر النهج الفني ، فيلتقي هذان الملحظان بقدر يعجز معه فقه البشر على أن يأتي بشيء من مثله ، وكلما تقدمت الحضارة شوطاً في المعرفة والوعي أدركت في القرآن ما لا يدرك في سواه ، ذلك أنه كلام الله المنزل على نبيه المرسل .
    والمتخصصون في علوم القرآن وعوالم التأويل وحقائق التفسير أولئك وحدهم الذي يصح لهم فنياً خوض غمار هذا البحر المتلاطم الأمواج ، فيغوصون إلى أعماقه الرهيبة ملتقطين غرر جواهره ، ومكتشفين كنوزه الثمينة ومع مسيرة الاجيال المتحررة يتبلور الجديد النابض من عطاء القرآن ، ويتمحور المجهول في كشوفه الابداعية ، فتتـقاطر الأسرار الإلهية زاخرة بالمثل العليا .
    القرآن كتاب هداية وتشريع لا شك في هذا ، ولكنه كتاب استقراء لمجاهيل الكون ، وأثباج الطبيعة ، ومفاوز الفضاء ، ومسالك ما تحت الأرض ، وهو أيضاً المصدر الحقيقي الدقيق لتأريخ الديانات السماوية ، وحياة الرسل والأنبياء والشهداء والصديقين ، وهو كذلك النموذج الأرقى في استيعاب مشكلات الأزمنة المتناقضة بين السلب والايجاب ، يجد حلولها ، ويوفر علاجها .
    هذا المنظور الرائع للقرآن يوحي بعالمية القرآن ، وهذا الفهم الرصين لمناخ القرآن يقضي بإنسانية رسالته بعيداً عن النظرة الاقليمية الضيقة ، وهذا


(24)

الواقع المعاصر في تقييم القرآن هو الذي يؤكد حقيقة الصيغ العالمية في مفاهيم القرآن .
في ضوء هذا المنطلق الرحيب نقول مطمئنين :
    إن القرآن وإن كان عربي النص إلا أنه عالمي الدلالية ، وهو وإن إنساني الرسالة إلا أنه عربي العبارة . وهو مع هذين الملحظين التكوينيين يبقى شامخاً بلمح من عربيته المحضة الفصحى ، لأن عربيته الخالصة يمكن فيها الكثير من معالم إعجازه بل الاعجاز البلاغي فيه هو الوجه الناصع لملامح الاعجاز المتعددة الظواهر ، وبإنضمامه إلى إعجازه التشريعي والغيبي والاجتماعي والعلمي والاحصائي والصوتي والكوني والاقناعي يترشح نظام الاعجاز الكلي في القرآن .
    ولما كان الاعجاز بهذا المستوى التكاملي في شتى المجالات كان القرآن بالمستوى العالمي في بعده الموضوعي .
    والبعد العالمي في القرآن محور مستفيض من محاور البحث العلمي المتجدد ، والخوض في مشتقاته الفعلية يستدعي التفرغ إلى عمل أكاديمي متطور ينهض بمؤلف ضخم يلم شتاته ، ويجمع متفرقاته ، ويستقرئ جزئياته .
    والخطوط الأولية للموضوع قد تعطي ثمارها التوفيقية ضمن إطار أولي محدد يعنى بالتركيز على ظواهر عالمية القرآن ضمن الاشارة الموحية ، والادراك الفاحص في جملة من المحاور الآتية :
    أولاً : إن عالمية الاسلام تعني بالضرورة عالمية القرآن ، وذلك أن القرآن هو رسالة الاسلام ، وهذه العالمية المبرمجة قد خطط لها القرآن نفسه بما لا يقبل الشك في كل آياته التي تشير إلى عالمية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته للبشرية جمعاء . قال تعالى :
    ( قُل يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ آللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) الأعراف / 158 ، والآية في مقام الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في إشعار الناس كافة بالقول لهم أنه رسول الله إليهم ، ومعنى هذا عالمية رسالته ، وإستقطابها شعوب الأرض ومختلف الأمم ، فمحمد بهذا رسول الله إلى الأبيض والأسود والأحمر والأصفر ،


(25)

وهوؤلاء هم الناس ورسالته شاملة لأفرادهم ، مستغرقة لأجناسهم دون اختصاص بقوم عن قوم ، ولا أمة دون أمة ، يعضده قوله تعالى : ( وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) سبأ / 28 . فإذا جمعنا له قوله تعالى : ( وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِّلعالَمِينَ « 107 » ) الأنبياء / 107 ، خلص لنا أنه رسول البشرية ، وما إرساله إلا رحمة للعالمين ، وهذا الارسال يحمل في طياته ملامح البشارة الرضية المرضية ، وصرخة النذارة الهادرة المدوية ، ذلك ما يعلنه قوله تعالى : ( إِنَّآ أَرسَلنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) البقرة / 119 . ويؤكده قوله تعالى : ( يَأَيُّهاَ آلنَّبِيُّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذِيراً « 45 » ) الأحزاب / 45 . وهنا تضاف الشهادة إلى البشارة والنذارة لتتم حلقة الوصل العالمية في التدرج البياني ليصل إلى ذروته في التبليغ بقوله تعالى : ( وَأَرسَلنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهيداً ) النساء / 79 . وقد وضع الله تعالى على الناس ذاته القدسية شهيداً على هذا الارسال العالمي .
    ثـانياً : والمنطلق البارز في تشخيص عالمية القرآن نصاً ومضموناً تأكيد القرآن على خطاب الناس ـ كل الناس ـ في تعليماته الإلهية ؛ وهذا المنطلق يتحدث فيه القرآن إلى الناس في مختلف شؤونهم ، ويدعوهم بعامة إلى الأخذ بالأصلح من الأنظمة ازاء تدوير الواقع البشري المتقلب ليقف به على مرفأ الأمان ، ويستقر مستوياً بشاطيء الخلاص ، وأول ما يدعوهم إليه سنن التوحيد المطلق في ظلال ملكوته قال تعالى : ( يَأَيُهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) البقرة / 21 ، يدعم ذلك الملحظ بالكتاب الذي أخرج كل الناس إلى النور . . ( الر كِتاَبٌ أَنزَلنَهُ إِلَيكَ لِتُخرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) إبراهيم / 1 . ويوجه هؤلاء الناس نحو الله بإعتبارهم مضطرين له ، فقراء إليه ، وهو في غنى وعز ومنعة عنهم ، يُحمد بغناه ، ويعبد لآياته : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلىَ اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَمِيدُ « 15 » ) فاطر / 15 . وإذا كان الناس بهذه الفاقة ، محتاجين ولا يحتاج إليهم ، فحري بهم أن يتجهوا نحو الله في الشؤون والشجون والآمال ، ولا يتكلوا على الأحلام والأماني ، فوعد الله حق ، ووعد غيره الغرور . قال تعالى : ( يَأَيُّهاَ النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا ) فاطر / 5 ، ولا يقف القرآن عند هذا الحد في تذكير الناس وتحذيرهم ، وتقويمهم ومتابعتهم ، بل يتسع في


(26)

الحديث إليهم ، بما خولهم به الحياة الدنيا ، وما أسبغه عليهم من نعم ظاهرة وباطنة ، وما سخره لهم من أكوان وأديان وظواهر تصب في محيط واحد هو سعادة الناس في دنياهم ، وسلامتهم من الأهوال في آخراهم ، كل أولئك يتمثل في مراصد قرآنية أبرزها :
1 ـ الايحاء بإدراك نعم الله التي لا تحصى ، والتذكير بآلائه التي لا تستقصى ، بما في ذلك النعم المادية والمعنوية . هذا الحشد الهائل من التأكيد على النعمة يوحي بعظمة قدرها ، وسبوغ رحمتها ، وشيوع مفرداتها ، وشمول ظلالها للناس كافة .
    2 ـ الأمر على نحو الاباحة بالتمتع بما خلق الله من الأرزاق الكائنة فيما تنبت الأرض ، وما يخرج منها ، وما يربو فيها ، وما باركه من ثمرها وشجرها ومرافقها وأنهارها ومناخها مما جعله مسخراً للانسان لتيسير مرافق الحياة ، وهو الذي يسره وسخره وفجره وجعله سائغاً هنيئاً مريئاً .
    قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي آلأَرضِ حَلَلاً طَيِباً ) البقرة / 168 .
وقال تعالى : ( كُلُوا وَاشرَبُوا مِن رِّزقِ اللهِ وَلاَ تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدِينَ ) البقرة / 60 .


(27)

إن هذا التأكيد على الأرض وما أخرج منها إنما يكون للبشر كافة فهو الذي أنشأهم منها ، وهو الذي رزقهم فيها ، وهو الذي سخرها لهم .
    3 ـ بعد ما سيره القرآن من النعم وإستثمار الأرض ، وما أظهره له من التوسع وبحبوحة النعيم حذرهم الله ظلمهم في الحياة الدنيا ، وأنذرهم العذاب في الحياة الأخرى ، ووجه العناية بهذا الملحظ ليكف الناس عن الباطل ، وليتوجه الجمع نحو الحق . وهذا التقريع على الظلم ، والوصف له ، والتحدث عن مآله لا يخص مجتمعاً دون آخر ، ولا يختص بأمة دون أمة ، فهو موجه للناس كل الناس للابتعاد عن معالمه ومهالكه .
    4 ـ ويتحدث القرآن عن الظواهر الكونية ، والآيات السماوية ويجعل من ذلك مناراً لأولى النهى ، وحديثاً للتدبر والتفكر والتبصر والاعتبار


(28)

لذوي الألباب والعقول :     إن هذه الإرهاصات في عالم السموات والأرض والعرش والشمس والقمر ومد الأرض وخلق الرواسي واصطفاق الأنها وزوجية الكائنات والثمرات وحياة الشمس والقمر والأهلة ، كل أولئك ما سخره الله للناس بعامة ، وللمؤمنين بخاصة بقصد الاعتبار والاستبصار .
    5 ـ وأخيراً أمر القرآن الناس بدرء الفساد والمكر في الأرض ، ونعى جريمة القتل ، فآعتبر قتل النفس قتلاً للناس ، وعد إحياء الفرد الانساني إحياء للناس أيضاً ، وبذلك تتكامل الصورة العالمية للقرآن في أرسخ حدودها الأفقية : وقد يكون هذا القتل وذلك الإحياء مادياً أو معنوياً ، وكلاهما واردان


(29)

في مقام التفصيل ، والتعليل ليس هذا موقعه .
    6 ـ ولك أن تعجب كل العجب لترى القرآن يجعل أهم شعيرة من شعائره وهو الحج ، والبيت الحرام وهو أول بيت وضع للناس ، والأذان إلى الحج كل أولئك للناس كافة لا للمسلمين وحدهم
والحج كما يجب على المسلمين ، فإنه واجب على الكافرين ، إلا أن الكافر يجب عليه الحج ولا يصح منه لا شتراط الايمان في الأداء ،
    ثـالثاً : وتتأكد عالمية القرآن في اطار إهتماماته القصوى بالانسان ، فهو يتابعه ويلاحقه منذ خلقته وتكوينه وولادته حتى حياته ومعاشه إلى حين وفاته ومدفنه ونشره وحشره وعاقبته ، ومعنى هذا أن القرآن ذو عناية خاصة بمسيرة الكائن الانساني منذ البداية وهو معنيٌّ أيضاً بمصير الانسان الجماعي حتى النهاية .
    ففي خلق الانسان وإيجاده خليفة في الأرض ، هناك مدركان بارزان : المدرك الابداعي في التكوين الخلقي من الأرض ، كخلق آدم عليه السلام ؛ والمدرك الرتيب في الخلق عن طريق التزاوج فالتناسل ، وفي هذه المسافة المتباعدة بين الخلقين قد اختصرت الحقيقة التكوينية كلها . فبين تعالى الأصل في الخلق من الطين ، وهو عنصر أرضي يحمل بين طياته عناصر أرضية أخرى ، فهو مجموعة عناصر تتمثل فيها الأرض بمركباتها ، وهو البداية الابتداعية لهذا الايجاد المتباعد الأطراف في التركيب والتكوين والتأسيس بما يستوعبه هذا الكلي العام من ملايين الجزيئات المعقدة في العدد والكمية والوزن والمدارك جسمياً وعقلياً ونفسياً وتصويراً وتخييلاً وقابليات ومعدات وأجهرةٌ وتجاويف وعصيات وحفيات وأقواس وجينات وخلايا وأعصاب وعضلات ما ظهر من ذلك وما خفي


(30)

مما لا يحيط به الادراك الحسّيّ كثيراً . والذي أجمله تعالى بقوله : ولنقف قليلاً عند الآية الأولى التي تتحدث عن الملحظ الإيجادي في الخلق لا على نحو المثال ، ولا على صيغة من وجود سابق ، إذ لا وجود هناك لهذا المخلوق الجديد لأنه بعد لم يوجد ، فلما وجد قيل له بأنه الانسان . والتفسير الأولي أن الانسان جسد وروح ، أي أنه مركب من حقيقتين متغايرتين ، وحينما إتحدا كان الانسان كائناً حياً ، فإذا افترقا كان هذا الانسان نفسه ميتاً وعاد جثماناً ، وهذا وإن كان صحيحاً في حد ذاته ، ومقدماته تبني عن نتائجه ، إلا أن القرآن العظيم يومي إلى أبعد من هذا تحديداً حينما جعل الانسان حقيقة واحدة ، فهو إنسان بروحه وبدنه ، وهو أنسان حين مفارقة روحه لبدنه ، فمثله كمثل الماء والتراب حينما يكونان حقيقة واحدة عند التماسك أو عند الانحلال .
وقوله تعالى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ آلمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ) السجدة / 11 .
فيه دلالة على أن الانسان هو نفس الانسان ، فإذا اتصلت الروح بجسده فهو حيٌّ ، وإذا انفصلت عنه فهو ميت ، إذن هو إنسان في الحالين ، والنص القرآني في مجموعة دلالاته « يفيد أن الروح التي يتوفاها ويأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة « كم » وهو الانسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع » (1) . ويصور هذا الملحظ « لم يكن شيئاً مذكوراً » . فهذا الانسان بالطريق الاعجازي في الخلق إنما كان طيناً لازباً يندك في طول هذه الارض وعرضها ، فلم يكن ذا ذكر فهو غير متعين ولا محدد ، وهو حينما صور هذا التصوير البديع ، في خلقه الأول ، وولجته الروح بأمره تعالى ، عاد إنساناً معلوماً وموجوداً فكان مذكوراً ، فهو باللحاظ الأول شيء غير مذكور ، وهو باللحاظ الثاني كيان مذكور ، وهذا ما تفسره رواية الإمام الباقر عليه السلام : قال : « كان مذكوراً في العلم ، ولم يكن
____________
(1) الطباطبائي ، تفسير الميزان : 20 / 139 .
(31)

مذكوراً في الخلق » (1) . وفي رواية أخرى عنه عليه السلام رواها زرارة بن أعين في تفسير جزء الآية ، يقول الباقر عليه السلام : « كان شيئاً ولم يكن مذكوراً » (2) . فالانسان كان شيئاً في علم الله وتقديره ، وإن كان معدوماً بعد لم يوجد ، ثم صار شيئاً مذكوراً بعد خلقه وتكوينه ، سواءً أنظرنا في ذلك إلى الطريق الاعجازي في الخلق ، أو الطريق الفطري في التكوين المتسلسل المنظور إليه في
قوله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسفَلَ ساَفِلِينَ * ) التين / 4 ـ 5 .
وهذا أيضاً طريق إعجازي محض أن يخلق من هذه المادة الميتة إنساناً متكاملاً في أحسن تقويم فكان ذا هيئة حسنة ، وصورة مترفة ، وروعة نادرة ، حتى عاد مستوياً أيام شبابه ونضارته مثلاً ، ثم ردّ إلى الهرم والشيخوخة ، وورد مورد العجز والكبر ، فتسافل في خلقه من قوة إلى ضعف ، ومن نضارة إلى إنهدام ، ومن جمال الفتوة إلى تلاشي القوة ، فبعد أن كان ذا هيئة مشرقة وضاءة إستبدلها بالكبر والانحناء والخور .
    ولكن الشذرات الثمينة المتناثرة في القرآن الكريم ، تقتضي الاضافة لهذا الفهم ـ وإن كان حقاً في واقعه ـ وتريد منا أن نرتفع إلى المستوى الأعظم الذي يحدب على تبليغه القرآن بياناً إلهياً شمولياً لا يغادر شيئاً ، وذلك : أن الانسان قد خلق بإرادة الله تعالى ولطف عنايته خلقاً خاصاً فكان نموذجاً راقياً للتقويم والثبات والكمال ، وهذا كله يقتضي له ان يتصاعد بروحه وتفكيره وتقدير إلى أعلى عليين ، وهو ما قدره له الله تعالى لو تمثل الشكر لنعمه المتواترة ، اعتداداً بهذا العطاء الفياض في الخلق صورة وعلماً وإرادة وتفكيراً واختياراً وإبداعاً وفلسفة ، فهو بهذا حريّ بأن يعرج بمستواه الخلقي في كل وجوه الخلق الظاهرة والباطنة ، المعروفة لديه والمجهولة إلى حيث يصبح من أهل السعادة والنّعيم السرمدي الخالد . ولكن هذا الانسان ـ إلا القليل من جنسه ـ قد إنحط بنزعانه اللاإنسانية وسلوكه المنحرف إلى سلخ معنى الانسانية عن نفسه فردّ إلى أسفل سافلين ، وهو نهاية ما يمكن أن يردّ به الله إنساناً بإنحطاطه إلى الدرجات السفلى المخصصة لأهل العذاب والشقاء والانهيار التام ، فكتب على نفسه
____________
(1) (2) الطبرسي : مجمع البيان : 5 / 406 .
(32)

الانحدار والانزلاق في الهوة السحيقة التي كان ينبغي له أن يتجنبها ويكون في أمن من مزلقتها وتدهورها .
    هذا الطرح الموضوعي لمعنى الآية هو الذي يلائم الاستثناء المنقطع بعد الآيتين في
قوله تعالى : ( إِلاَّ لَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ *) التين / 6 .
بدليل أن حكم الخلق التركيبي للانسان يستوي فيه المؤمن والكافر ، الموحد والملحد ، الصادق والمنافق ، بدليل
قوله تعالى : ( وَمَن نُّعَمِّرهُ نُنُكِسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلاَ يَعقِلُونَ « 68 » ) يس / 68 .
و « من » من أدوات العموم ، فكل معمّر من الناس ينتكس في الخلق .
    هذه هي الحقيقة الأولى ؛ والحقيقة الثانية أن لله خلقاً آخر من الناس ليس من الطين ، وليس من طريق التزاوج التلقيحي ، ولكنه خلق إعجازي آخر بإرادته التكوينية المطلقة ، ونموذج هذا الخلق هو عيسى بن مريم عليه السلام ،
قال تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كَن فَيَكُونُ * ) آل عمران / 59 .
قال ابن عباس والحسن وقتادة : « هذه الآية نزلت في وفد نجران : السيد والعاقب ، قالا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ » (1) . فبدأ بيان ذلك بالرد على هؤلاء بالأصل التركيبي للأنسان وهو التراب ، وبالأب الأكبر للبشر وهو آدم ، فخاطب القرآن الذائقة الفطرية بالمنطق الفطري ، واستنزل الحجة الصغرى بالحجة الكبرى ، وأبان أن منطق الأعجاز في الخلق يختلف عن المنطق الطبيعي في التكوين لدى التزاوج والتلاقح والتناسل ، فالأصل التركيبي للبشر هو التراب ، وهذا ما يقاس عليه عيسى عليه السلام في التكوين ، فآدم : نشأته وتكوينه مباشران لم يسبقا بقانون طبيعي وكذلك عيسى ، وكلاهما خاضعان للأرادة التكوينية من قبل الله تعالى « كن فيكون » ، وهذا سر الحياة الذي لا يعلمه إلا الله ، دون التقاء ذكر بأنثى ، أو تلاقح خلية ببيضة ، وذلك طريق الأخصاب ، وسنن الانجاب (2) .
    والقرآن يكاد يستقطب الحديث عن المدرك الطبيعي والاعجازي في
____________
(1) الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 3 / 482 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 296 .