خلق الأنسان في جزئيات دقيقة تغوص في عمق الموضوع جذباً وإستئناساً ووقوفاً عند أمثل مظاهر ، وأبرز جوانبه الكلي ، مشيراً بادء ذي بدء إلى الأصلين معاً كما في
قوله تعالى حاكياً : ( أَكَفَرتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ من نُّطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) الكهف / 37 .
ومفرعاً على ذلك في تأكيد مراحل الحقيقتين معاً
بقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخرِجُكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبلُ وَلِتَبلُغُوا أَجَلاً مُّسَمىً وَلَعَلَّكُم تَعقِلُونَ * ) المؤمن / 67 .
ويتبلور هذا الملحظ شيوعاً بالاستدلال على البعث يوم القيامة من جهة ، والاعتبار بتقلبات الخلقة وتطويرها من حقيقة إلى حقيقة أخرى ، حتى تنتهي مراحل العمر بالعودة إلى أرذله أو بالوفاة ، يتمثل ذلك في
قوله تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِّنَ البَعثِ فَإِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضغَةٍ مُّخَلَقَةٍ وَغَيرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُم وَنُقِرُّ فِي الأَرحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مَّسَمًّى ثُمَّ نُخرِجُكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَيْلاَ يَعلَمَ مِن بَعدِ عِلمٍ شَيئاً وَتَرَى الأَرضَ هَامِدَةٍ فَإِذَا أَنزَلنَا عَلَيهَا المَاءَ اهتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كَلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ * ) الحج / 5 .
أرأيت هذه الحيثيات المنوعة في مراحل الانشاء المتعددة ، ثم قف عندها قليلا لتجدها عالمية الايجاد لأبناء البشر كافة ، فهي حقيقة فوق الحقائق ، ومنظور إنساني لم يتأقلم ، وقاعدة عامة في الاسترسال التكويني بكل مقوماته لهذا الانسان المخلوق كما هو عليه في
قوله تعالى : ( وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَنَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلنَهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً فَخَلقَنَا آلعَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقنَا آلمُضغَةَ عِظَمًا فَكَسَونَا العِظَمَ لَحمًا ثُمَّ أَنشَأنَهُ خَلقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ « 14 » ) المؤمنون / 12 ـ 14 .
ويتابع القرآن مطلق الانسان في الحياة فيذكره بضعفه الواهن فيقول : ( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ) النساء / 28 .
    ويقيمه وهو يتعرض للبلاء فيلتجئ إلى الله مخلصاً له الدين كما في
قوله تعالى : ( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَو قَاعِداً ) يونس / 12 .
ويمثل غطرسته في ضد هذا فيصوره وقد أنعم الله عليه معرضاً ، قال تعالى : ( وَإِذا أَنعَمنَا عَلَى لإِنسَانِ أَعرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِهِ ) الاسراء / 83 .
ثم بعد هذا يجعله


(34)

ميزاناً فيما بينه وبين نفسه كما في
قوله تعالى : ( بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * ) القيامة / 14 .
ثم يشير إلى طبيعته في التمرد وتجاوز الحدود ظلماً وكفراناً كما في
قوله ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومُُ كَفَّارُُ ) إبراهيم / 34 .
ويعبر عنه مستفضعاً ما جبلت عليه نفسه عناداً وإصراراً وطغياناً بما
قال تعالى : ( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكفَرَهُ * ) عبس / 17 .
وحقق القرآن مع الانسان فيما يبقى له ، وما يتواجد معه ، بعد مفارقته الدنيا ووفوده على الله تعالى متحدثاً عما ينفعه فيما عمل
فقال : ( وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَانِ إلاّ مَا سَعَى * ) النجم / 39 .
وأشار أنه سوف يتذكر ذل
( يَومَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * ) النازعات / 35 .
ومع كل هذا التقويم لا يترك القرآن الإنسان دون عظة وعبرة ونصح كريم :
( أَيَحسَبُ الإِنسَانُ أَن يُترَكَ سُدًى * ) القيامة / 36 .
فيهزه من الأعماق ليقف به على تجاوزه وتعديه بما يكشف عنه
قوله تعالى : ( يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ * ) الانفطار / 6 .
وقد يقال في جواب هذا أنه ألهمه الجواب الناجع : غرني يا رب كرمك . وهذا فضل جديد يضاف للأفضال السابقة ، وهنا يتطامن هذا الطاغوت لينظر إلى أولياته في التكوين ، ليكبح من جماح نفسه ، ويخفف من غلواء جبروته فيصكه الله تعالى
بقوله : ( فَليَنظُرِ الإِنسَانَُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخرُجُ مِن بَينِ الصُّلبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجعِهِ لَقَادِرًً * ) الطارق / 5 ـ 8 .
فإذا رجع إلى الله ، ووقف للحساب الجديد ، هنالك :
( يَقُولُ الإِنسَانُ يَومَئِذٍ أَينَ المَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَومَئِذٍ المُستَقَرُّ * يُنَبَّؤُا الإِنسَانُ يَومَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * ) القيامة / 10 ـ 13 .

    وهنا يصطدم هذا الانسان الغر الجاهل المتعنت الضعيف بالحقيقة الهائلة الكبرى إذ يقف بين يدي أعماله وذنوبه وجهاً لوجه ، لا ستار ولا حجاب ، ولا إستقالة :
( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنشُوراً * ) الاسراء / 13 .

    هذه المفاجأة لجنس الانسان إلا المتقين يجب أن يقف بإزائها وقفة الصامد الخبير ، فأعماله متمثلة أمامه ، وأفعاله وأقواله متجسدة في قوالبها لديه ، والشاهد هو الحاكم ، والحاكم هو الله ، وكفى في ذلك شدة وروعة وترويعاً وذهولاً ، لهذا فقد حذر هذا الانسان من أهوال ذلك اليوم ومشاهده ،
قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ


(35)

عَظِيمٌ * يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعةٍ عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَى وَمَا هُم بِسُكَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ * ) الحج / 1 ـ 2 .
إنها الواقعة والراجفة والطامة والنازلة الكبرى ، تصدق في كل جزئياتها ، وتجد في كل ساعاتها ، فلا كذب ولا لعب :
( إِذَا وَقَعَتِ لوَاقِعَةُ * لَيسَ لِوَقعَتِهَا كَاذِبَةٌ * ) الواقعة / 1 ـ 2 .
هنالك يمتاز الناس إلى أزواج ثلاثة كما ينص القرآن العظيم :
( وَكُنتُم أَزوَاجاً ثَلاَثَةٍ * فَأَصْحَابُ المَيمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيمَنَةِ * وَأَصْحَابُ المَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنّاَتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةُُ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلُُ مِّنَ الأَخِرِينَ * ) الواقعة / 7 ـ 14 .
وذلك أن الناس يوم الحشر بهذا الاعتبار يصنفون إلى : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين . فأهل الجنة هم أصحاب اليمين ، وأهل النار هم أصحاب الشمال ، والسابقون هم تلك الطبقة العليا التي اهتبلت فرصة الحياة الدنيا فقفزت باتجاه واحد نحو الله وحده ، سبقوا إلى الايمان ، وسبقوا إلى الخيرات ، وسبقوا إلى العبادة بأنصع مظاهرها فتسنموا الدرجة الراقية في الزلفى . وفي هذا الضوء تنقسم ساحة المحشر للعباد إلى منحنيات متميزة حينئذ : أصحاب الجنة / أصحاب النار / رجال الأعراف ، وحينئذ تصدر النداءات المتداولة بين هذه الأصناف النازلة في الساحة ، بعد عرفان كل شيء ، ورفع الحجب والأستار ، والوقوف عند الحقيقة الهائلة .
    قال تعالى : ( وَنَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَد وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا فَهَل وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًا قَالُوا نَعَم فَأَذَّنَ مُؤَذِنُُ بَينَهُم أَن لَّعنَةُ اللهِ عَلَى آلظَّالِمِينَ * ) الاعراف / 44 .
وفي قبال هذا النداء الضخم المشتمل على كثير من الاستظهار والتحدي والتشفي والاطمئنان المتكامل يصدر النداء الآخر :
( وَنَادَى أَصحَابُ النَّارِ أَصحَابَ الجَنَّةِ أَن أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ المَاءِ أَو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرينَ * ) الاعراف / 50 . فكل أماني هؤلاء الطغاة شيء من الماء أو قليل من الرزق ، ويجبهون يأسا وحرمانا وبعدا بأن الله حرمهما على الكافرين .
    وهنا يتجلى دور رجال الاعراف الريادي في المنزلة والحجة وقرع الدليل بالدليل ، وتتحقق تلك المنزلة الرفيعة لهؤلاء الرجال « وبينهما حجاب


(36)

وعلى الاعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم » . فهؤلاء في حالة وجود الحجاب الحاجز بين أهل الجنة وأهل النار ، وهناك السماك المرتفع الذي يطل منه أصحاب الأعراف على الجمع ، وهؤلاء أنفسهم لهم صلاحية متميزة خاصة عرفوا بها ، إنهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم ، وأهل النار بسيماهم ، فهي خاصية كبرى فريدة ، لا تقاربها خاصية أخرى يومئذ ، تلك الخاصية تنبئ عن القرب الملكوتي من الله تعالى ، وتتحدث عن التصرف بأمره تعالى ، فهم يشرفون على الجمع في ساحة البعث ، فيعرفون كل ذات بالسمة المجردة لها ، والمعرفة بها من الأولين والآخرين ، سواء في ذلك من كان منهم في أعلى عليين ، ومن هبط منهم وانحدر أسفل سافلين .
    وهنا يتحدّد الوعد الآلهي الحق بأنهم المنصورون ، وأنهم المقربون ، وأنهم الشفعاء ، وأنهم الشهداء ، وذلك في تمام الآية مباشرة : ( وَنَادَوا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيكُم لَم يَدخُلُوهَا وَهُم يَطمَعُونَ ) الاعراف / 46 .
فهذا النداء بهذا الامر إنما تحصل قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وهم يطمعون بدخولها ، وصيغة النداء سلام عليكم . ولا تنفس يومئذ ولا تكلم « هذا يوم لا ينطقون » . وحين إعتلاء هذه الحالة آفاق المحشر ، تنحدر الأبصار للطرف الآخر :
(* وَإِذَا صُرِفَت أَبصَارُهُم تِلقَاءَ أَصحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجعَلنَا مَعَ القَومِ الظِّالِمِينَ * ) الأعراف / 47 .
وقد يقال بأن هذا دعاء أصحاب الأعراف ولا مانع من ذلك أن يتعوذ المؤمن من الكون مع الظالمين ؛ ولكن التدبر في السياق ، وهو يريد أن يتحدث عن منزلة رجال الأعراف وموقعهم في ذلك اليوم يوحي بأن الضمير في « أبصارهم » و « قالوا » يعود إلى أهل الجنة ، لأنهم في تلك الحال يدعون ويتضرعون كما هو شأن الأبرار ، والتوقيت قبل دخول أهل الجنة الجنة ، وقبل دخول أهل النار النار أيضاً .
    وهنا تبدو الحقيقة الأخرى في خطاب أصحاب الأعراف رجالاً من أهل النار :
( وَنَادَى أَصحَابُ الأَعرَافِ رِجَالاً يَعرِفُونَهُم بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغنَى عَنكُم جَمعُكُم وَمَا كُنتُم تَستَكبِرُونَ * ) الأعراف / 48 .

    هذا النداء الصادر من أصحاب الأعراف للجمع المتكبر من الجبابرة . . فيه تقريع لهم ، وشماتة بهم ، وسخرية بواقعهم ، وتأنيب على


(37)

ظنهم ، وقد تقطعت بهم الأسباب بعد ذاك التطاول والشموخ والاستعلاء ، فما أغنى عنهم ما جمعوا من العدة والعدد ، والخول والخدم ، والمال والعقار ، كلها ذهبت هباءً ، وتطايرت في مهب الاحلام ، فلا جمع ولا استكبار ، بل خنوع وخضوع ، وذل وإذلال ، وليت الأمر وقف بهم عند هذا الملحظ بل صكهم الاستفهام التقريري بالاشارة إلى أهل الجنة بما أفاضه أهل الأعراف :
( أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقسَمتُم لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحمَةٍ ) الأعراف / 49 .
« أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولاً أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير ، وإصابة الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة ، ووقوع النكرة ـ برحمة ـ في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس ، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير » (1) .
    ثم تعالى صوت أهل الاعراف لأولئك المستضعفين من المؤمنين ، بتفويض خاص ، وبأمر خاص من الله دون ريب قائلين لهم
( ادخًلُوا الجَنَّةَ لاَ خَوفٌ عَلَيكُم وَلاَ أَنتُم تَحزَنُونَ ) الأعراف / 49 .
وهو أمر من رجال الأعراف لأصحاب الجنة بدخول الجنة بعد تقرير حالهم عند الكفرة بالاستفهام ، وكان الأمر نهائياً بتخويل نهائي لا يجزأ ولا ينشطر ، ولا يرد ولا يبدل ، لأنه إقترن بإشاءة الله وإرادته ، ولا رادّ لذلك .
    إذن من هم رجال الأعراف ، وأصحاب الاعراف في سورة الأعراف ؟
    المروي عن الامام الباقر أنه قال : « هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى » (2) . وهذا إجمال يفصله الامام الباقر نفسه ويبينه في رواية أخرى وقد سئل ما يعني بقوله تعالى « وعلى الاعراف رجال » ، قال الباقر عليه السلام : « ألستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح ، قلت بلى : فنحن أؤلئك الرجال الذين يعرفون كلاً بسيماهم » (3) .
    وهم لدى المفسرين : إما أن يكونوا رجالاً مخصوصين بالحباء
____________
(1) الطباطبائي ، الميزان : 8 / 132 .
(2) المصدر نفسه : 8 / 144 .
(3) العياشي ، التفسير : 1 / 280 .

(38)

الكامل لأنهم في أعلى درجات السابقين ، فكانوا في أرقى درجات القربى من الله تعالى ، وهم النبي وأهل البيت عليهم السلام . وإما أن يكونوا من تساوت حسناتهم وسيئاتهم في قول ساذج ، وهذا الملحظ لا يقع أصلاً فليس هناك من تتساوى سيئاته وحسناته يوم القيامة قطعاً ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، فالحسنات جديرة برفع المسيء إلى درجة المحسن ، إذا أحسن بعد توبة نصوح ، والسيئات العظمى قد تحبط الحسنات ، فيدنو المحسن من الهاوية لو كانت لديه حسنات إذا حبطت أعماله ، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا سيئة مثلها ، هذا كله وغير هذا يقوي النظر والقول بعدم تساوي الحسنات والسيئات وهو الذي يحكم به العقل والشرع والعرف .
    فإذا أضفنا إلى هذه المدارك ثقل الموازين وخفة الموازين يوم القيامة ، علمنا أن هناك قسمين لا ثالث لهما ، وهذان القسيمان هما أهل الحسنات فيما تثقل به الموازين وهم أهل الجنة ، وأهل السيئات فيما تخف به الموازين وهم أهل النار ، كما تصرح بذلك الآيات :
قال تعالى : ( وَالوَزنُ يَومَئِذٍ الحَقُ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ آلمُفلِحُونَ * وَمَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِئَايَتِنَا يَظلِمُونَ * ) الأعراف / 8 ـ 9 .
    وقال تعالى : ( فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ * وَمَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * ) المؤمنون / 102 ـ 103 .
    وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَن خَفَّت مَوَازِينُهُ * فَأُمُهُ هَاوِيةٌ * وَمَا أَدراَكَ مَا هِيَه * نَارٌ حَامِيَةٌ * ) القارعة / 6 ـ 11 .
وهذا من أقطع الأدلة على رفض القول بتساوي الحسنات والسئيات .
    وهناك قول للمفسرين بأن رجال الأعراف هم الملائكة في صورة الرجال يعرفون أهل الجنة والنار ، ويكونون خزنة الجنة والنار ، أو يكونون


(39)

حفظة الأعمال الشاهدين بها في الآخرة (1) .
    ويرد هذا القول بأمور :
    الأول : أنه صرف لظاهر القرآن بدون قرينة تدل على التجوز في تسمية الملائكة رجالاً .
    الثاني : لم يجر في القرآن ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، ولا عند العرب إعتبار الملائكة رجالاً ، ولو بالاشارة .
    الثالث : القرآن يتحدث عن واجبات الملائكة يوم القيامة بالتنفيذ وإطاعة الأوامر ، ولم يتحدث عن مثل هذه الصلاحيات المطلقة لهم ، بل هم يفعلون ما يؤمرون .
    بقي الاحتمال الأول أنهم الرجال المقربون ذوو المنزلة العظمى جزاءً وفاقاً بما كانوا يعملون ، وهو ما يساعد عليه السياق القرآني في إبانة فضلهم وبيان قيمتهم وقدرهم ذلك اليوم ، وهو أيضاً ما يدل عليه الاعتبار والقبول للروايات الصحيحة المسندة ، وهما معاً ـ السياق القرآني والرواية الصحيحة ـ السبيل إلى فهم القرآن فهماً بعيداً عن التحمل في مثل هذه المقامات .
    ففي صحيحة أبي بصير عن الامام جعفر بن محمد الصادق أنه قال في تفسير الآية « نحن أصحاب الاعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة ، ومن أنكرنا فمآله إلى النار » (2) .
    وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأمير المؤمنين : « يا علي كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج تسوق قوماً إلى الجنة وآخرين إلى النار » (3) .
    ويؤيده ما رواه أبو القاسم الحسكاني عن علي عليه السلام ، وقد سأله ابن الكوا عن الآية ، فقال أمير المؤمنين : « ويحك يا ابن الكوا نحن نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار » (4) .
____________
(1) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 2 / 423 .
(2) الطباطبائي ، الميزان : 8 / 144 .
(3) (4) الطبرسي ، مجمع البيان : 2 / 423 .

(40)

وهذا بحد ذاته يشكل بعداً عالمياً لقيادة أهل البيت عليهم السلام ، إذ يتحدث بها القرآن في بعده العالمي عن الناس كافة لدى الجمع الاستيعابي للبشرية على صعيد القيامة .
    المحور الرابع : بقي أن نبتعد بك عن المناخ الجدلي والاحتجاجي في عالمية القرآن إلى المناخ الكوني العام في عالميته التي لا تحد ولا تحتجز بل تمتد وتتسع لتشمل الأفاق والمشارق والمغارب ، والأبعاد الفضائية ، والمسافات الكونية الهائلة التي قد يعجز البشر عن الاحاطة بكثير من معاييرها الدقيقة .
    1 ـ فحينما يريد أن يقرب القرآن تصور البعد بين الحقيقتين المحسوستين إدراكاً يحدد ذلك بأطول مسافة يدركها الحدس العلمي
فيقول : ( حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَالَيتَ بَينِي وَبَينَكَ بُعدَ آلمَشرِقَينِ فَبِئسَ القَرِينُ * ) الزخرف / 38 .
فالمراد هنا أما أن يكون بعد مشرقي الشمس والقمر ، أو بعد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ، وكلاهما مقاس في الفضاء ، ولكنه غير معروف لدى أهل الأرض جميعاً ، وإنما هو معروف لدى المتخصصين بالبعد الفلكي أو المسح الأرضي ، أما إذا أعتبرنا تلك المسافة إنما تقاس على سطح الأرض ، فيقتضي الأمر أن يراد بها جزئَي الكرة الأرضية ليلاً ونهاراً ، فالمشرق يكوّن بعده نصف المسافة والمغرب يكوّن النصف الآخر ، بمعنى حدوث المشرق في نصف الكرة الأرضي وحدوث غروبها في النصف الآخر ، وهو ما يعتبر لكل منهما نصف محيط الأرض ، فما كان ليلاً كان النصف الأول وما كان نهاراً كان النصف الثاني .
    2 ـ وحينما يريد القرآن أن يعطي القوة غير المحدودة في تفصيلات الأبعاد الهائلة غير المحسوبة فإنه يقول :
( فَلاَ أُقسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * ) المعارج / 40 .
فالشمولية بهذا القسم العظيم تمتد لتتسع لمشارق الأرض ومغاربها ، ومشارق القمر ومغاربه ، ومشارق الشمس ومغاربها ، ومشارق الكواكب ومغاربها ، ومشارق النجوم ومغاربها ، وكلما يمكن تصوره في الوجدان مما له مشارق ومغارب في كل الأفلاك مما يقتضي عالمية التصوير للعوالم كافة في أبعادها الحسابية


(41)

التي لا يتحقق حصرها ولا تخمينها مسافات ومساحات وأبعاداً . فإذا علمنا أن أقرب نجم منا يبعد حوالي ( 8 ، 41 ) مليون مليون كيلومتر عن الشمس ، فما هو رأيك في أبعد نجم عنا ، وكيف يتم رصد ذلك زمنياً وحسابياً ورياضياً ، لذلك عمدوا إلى قياس ذلك بالسنوات الضوئية ، والمراد بها ما يقطعه الضوء في السنة ، فإذا عرفت أن سرعة الضوء هي ( 300 ) ألف كيلومتر في الثانية ، كانت سرعته في السنة ( 460 ، 9 ) مليون مليون كيلومتر . وهي السنة الضوئية .
    3 ـ وحينما يريد القرآن منك أن تتأمل بعض الظواهر الكونية في الرعد والبرق والظلمات والأمواج والسراب والالتماع في المفاوز ، تندفع في ظلاله العجيبة وأنت أكثر إندهاشاً مما ترى ، وأنت أكثر إبتهاجاً فيما تتوصل إليه من المشاهد العالمية المجردة عن الطلاء والتزويق بل هي حقائق هائلة مدركة بالحس والوجدان دون حاجة إلى إستدلال أو برهان أو شواهد
قال تعالى : ( أَو كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعدٌ وَبَرقٌ يَجعَلُونَ أَصَابِعَهُم فِي ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّاوَعِقِِ حَذَرَ المَوتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَفِرينَ * يَكَادُ البَرقُ يَخطَفُ أَبصَارَهُم كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظلَمَ عَلَيهِم قَامُوا وَلَو شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم وَأَبصَارِهِم إِن اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ * ) البقرة / 19 ـ 20 .

    وهذا المثل القرآني ، وهو في سياق التعبير عن حيرة المنافقين ، يستقطب إستعمال ما هو شائع ومعروف في بقاع الأرض المختلفة وآفاق السماء ، مما يفهمه أهل المعمورة ، ويترصدون مخاوفه وأهواله ، فالمثل هنا عالمي الدلالة غنيٌّ بضمامة التصوير ، ورعب الأضواء الكاشفة والغامضة ، والانهمار الانصبابي للمطر تدفعه ظلمات عاصفة بأصوات الرعد ، وأمواج البرق ، وعصف الرياح ، وظلمة المناخ ، فانحجب الضياء وتلاشى الأمان حتى بالغوا في إدخال أصابعهم في آذانهم نتيجة لاصطكاك الصواعق بأجرام السحاب ، وما يحدثه ذلك من هزات وأصوات ، والله محيط بهم من كل جانب إحاطة تحصى عليهم كل شيء فوق حقيقة الاحاطة الزمانية والمكانية والكتلة وسرعة الضوء ، فأين يذهبون ؟ والبرق يأخذ بأبصارهم ، ويستلب نورها كلمح البصر ، وهم في حيرة وتردد لا يملكون من الأمر


(42)

شيئاً (1) . هذا المناخ المتلاطم عالمي المصداق والمفهوم ، إنساني الفهم والتصور .
    4 ـ وهناك من أمثال القرآن ما تقف عنده متأملاً مترصداً ، ولنتائجه خاشعاً متحققاً ، يأخذ بيدك إلى حياة أوسع ، وتصور أشمل ، وتدقيق أروع ، تلمس من خلال ذلك كله رسالة القرآن العالمية ، أنت الآن إزاء مثلين متراصفين في سورة واحدة ، يتحدث الأول منهما عن حياة الصحراء والسراب الخادع فيها ، وما يترشح في ضوء ذلك من معنى إيحائي يتمثله العربي في باديته ، ويتمرسه البدوي في حياته .
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعمَالُهُم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحسَبُهُ الظَّمئَانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَم يَجِدهُ شَيئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاَهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ * ) النور / 39 .

    فالمثل القرآني تصوير بالتمثيل التشبيهي لأعمال الكافرين مشبهة بذلك السراب المنتشر في الصحراء ، يتخيله الظامئ ماءً ، ويكتشفه لدى التحقيق التماعاً خلّباً ، وهو بأمس الحاجة إلى الماء ، ولا ماء ، فهو لا يجده ولكنه يجد الله عنده فيوفيه الحساب بسرعة مذهلة ، ولك أن تتصور هذا السراب في صحراء نجد وبادية الحجاز وطرق الشام . هذا الفهم العربي الخالص لهذا المناخ يتقاطع بمناخ آخر تتحدث عنه البحار الهادرة في محيط كالمحيط الأطلسي أو الهادي ، وتتجلى صوره في بلاد كبلاد الضباب الدائم والظلمات المتراكبة والسحاب الجاثم ، مما لا عهد به للعرب ، ولا علاقة له بأثباج جزيرة العرب .
قال تعالى : ( أَو كَظُلُمَاتٍ فِي بَحرٍ لُّجِّيٍّ يَغشاَهُ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ مَوجٌ مِن فَوقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ إِذَا أَخرَجَ يَدَهُ لَم يَكَد يَرَاهَا وَمَن لَّم يَجعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ * ) النور / 40 .

    هذه ظلمات في بحر لجي لا قعر له ولا ساحل ، عميق غزير المادة تحوطه الأمواج المتدافعة ، ويعلوه السحاب الثقال ، وتملؤه الظلمات المرعبة ، ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة الغمام ، حتى ليخطئ الانسان فيه تشخيص يديه ، فلا يرى ذلك أصلاً (2) .
____________
(1) المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 293 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية : 282 + مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 356 .

(43)

هذا المثل إذن ليس كسابقه فهو يتحدث عن تراث خاص متميز ، في مناخ خاص متميز ، يغوص إلى أعماق البحار ، ويتأمل في جغرافية المحيطات ، وتمرس في ظواهر إمتصاص الضوء وخفاء الأنوار .
    المثل الأول : بدوي بطبيعته العربية المحضة .
    المثل الثاني : غربي بطبيعته المناخية الخالصة .
    ألا تخشع عند هذه الظاهرة الكبرى لتفيد منها : أن القرآن يتحدث إلى كل جيل في كل الأرض ، ليتجاوز الحدود الاقليمية إلى البعد العالمي الرحيب .
    أما أنا فلا أعتقد غير هذا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .