بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا حسنات ورحمة الله وبركاته.
يؤسفني أن أكون قد أبطأت عنك في
الكتابة ولكنني كنت خلال هذه الفترة
أحاول أن أتخلص من آثار الصدمة التي
صُدمتها بك ، بعد أن استلمت رسالتك
الصريحة ( على حد تعبيرك ) وحينما عجزت
عن التخلص من الصدمة عدت إلى
واجبي الديني تجاهك ، وقد وقفت أمام ما
كتبتِ عن عدم الحاجة إلى الدين وقفة
الحزين ، أفتراك جادة فيما كتبت ؟ أم أنك
كنتِ تهزلين ولا أدري أي وضع مؤسف
أملى عليك هذه الأفكار ؟ وبما أنك وكما
أرى ضحية من ضحايا الخداع
والتضليل فأنني أكتب اليك كما يكتب
الأخ لأخته ، مستشعراً بالمسؤولية الدينية
والاجتماعية تجاهك ، أما ما ذكرتيه في
( 353 )
خصوص ارتفاع حاجتنا عن الايمان بالله ،
وبالتالي عن الدين ، فاعلمي أن الايمان
بالله ـ الذي هو الطريق إلى الدين ـ ليس
كما تتوهمين وليد فترة ظلم أو استغلال
لأنه وجد قبل أن يوجد الظلم ، وقبل أن
يوجد الاختلاف والتباين في الطبقات ، أنه
ليس وليد تناقض طبقي كما خيل لك وإلا
فأي تناقض طبقي يمكن أن يتصوره
الانسان في بداية الخليقة ، حيث كان
الغذاء واحد ، والكساء واحد ، وحدود
المعرفة واحدة ، والايمان بالله وجد منذ بدء
الخليقة ، ومنذ عرف الانسان معنى
الوجود ، ولعلك هنا تتساءلين ، كيف
يمكن لي أن أدعي هذا وأؤكد عليه ؟
ولكن ألا ترين أن لكل شيء آثاراً
وسماتاً ، وآثار الشيء ترسم وجودها على
صفحات التاريخ ، والتاريخ يحمل الينا
ذلك بوضوح ، وهاك بعض الأمثلة على
ذلك ... ففي مصر مثلاً ، كان المصريون
من أعرق الأمم التي آمنت بالروح
وبالبعث والثواب ، والعقاب ، ولكن على
مستوى فهمهم البدائي لكل ذلك ،
( 354 )
ورمزوا للروح رموزاً عديدة تارة ( كا )
وتارة زهرة وتارة رمزوا إليه بصورة طائر
له زي وجه آدمي ، وصور هذه الرموز
وآثارها ما زالت واضحة بين الآثار ، وفي
صفحات التاريخ ، ثم عبادتهم البدائية
لفتاح ، وما كانوا عليه في تلك الفترة من
محاولة التقرب إلى المعاني الروحية كما جاء
في احدى صلوات فتاح = الفؤاد واللسان
للمعبودات ومنه يبدأ الفهم والمقال ، فلا
ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول
بين الأرباب أو الناس أو الأحياء أو كل
ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح = ثم
وبعد ذلك ، وحين تولى اخناتون الملك ،
وقد كان معروفاً بالتأمل والتفكير ، بدأ
يصحح ( وعلى مدى امكانياته وطاقاته
الفكرية ) من طبيعة العبادة كما جاء في
صلواته التي يحفظها التاريخ قوله = ما
أكثر خلائقك التي نجهلها ، أنت الأله
الأحد الذي لا إله غيره ، خلقت الأرض
بمشيئتك ، وتفردت فعمرت الكون
بالانسان والحيوان والكبار والصغار = هذا
في مصر ، أما في الهند ، فقد اختلف
( 355 )
المؤرخون المختصون بتدوين تاريخ الهند ،
اختلفوا في تحديد العصر الذي تمّ فيه
التدين لديهم ، والايمان بفكرة وجود إله
معبود ، فمنهم من يرده إلى ألف وخمسمائة
سنة قبل الميلاد ، ومنهم من يرده إلى ستة
آلاف سنة قبل الميلاد ، كما قال (
ماكس
موللر ) الذي يعد حجة في اللغات
الأوروبية ، قال : أياً كان العصر الذي تمّ
فيه جمع الأناشيد المسطورة
في ـ الريفيدا ـ فقبل ذلك العصر كان بين
الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو
بذكر ولا بأنثى ولا تحده أحوال
التشخيص وقيود الطبيعة الانسانية ـ وأيضاً
يترجم (
موللر ) نشيد نسّاك الهند الذي
تغنى به الهنود قبل الميلاد المسيحي بحوالي
خمسة قرون يترجمه فنجد فيه ما يلي = لم
يكن ثمة نهار ولا ليل ولم يكن إلا
( الأحد ) يتنفس حيث لا أنفاس ولا شيء
سواه = وكذلك في الصين فقد عبدت
لديهم الشمس والقمر والكواكب والرياح
وأكبر آله عبدوها هي إله السماء وكان اله
السماء بالنسبة لهم هو الأله الذي يصرف
( 356 )
الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل انسان
مجرى حياته ، وفي فارس كما جاء على
لسان
زرادشت وهو يسأل هرمز المعبود :
( يا هرمز الرحيم صانع العالم المشهود يا
أيها القدس الأقدس أي شيء هو أقوى
القوى جميعاً في الملك والملكوت ؟ فيقول
هرمز ـ هو اسمي الذي يتجلى في أرواح
عليني فهو أقوى القوى في عالم
الملكوت ـ كما أنهم كانوا يؤمنون بوجود
قنطرة تسمى قنطرة (
شنفادا ) تتوافى إليها
أرواح الأبرار والأشرار على السواء بعد
خروجها من أجسادها ، فيلقاها هناك
(
رشنوه ) ملك العدل و (
ميترا ) رب النور
وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من
الأعذار والشفاعات ثم يفتحان لها باب
النعيم أو باب الجحيم ، وفي بابل حيث
توجد الحضارة البابلية التي هي أقدم
الحضارات تاريخياً ، فان آثار ايمانهم بوجود
خالق ما زالت ثابتة عن طريق الآثار ،
ومما يذكر منها (
ايا ) اله الماء العذب
و (
أنو ) اله السماء و (
مردوخ ) رب الجنود
وسيد الحرب ، وفي اليونان حيث الحضارة
( 357 )
الاغريقية القديمة كان (
اكسبنوفون ) المولود
قبل الميلاد بنحو ستة قرون ، أول من نقل
إلى الاغريق فكرة الاله الواحد المنزه عن
الاشباه ، فكان ينعي على قومه أنهم
يعبدون ارباباً على مثال أبناء الفناء...
ثم أننا نتمكن أن نستخلص من التاريخ
أن الانسان قد آمن بفكرة الاله الواحد
قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون...
هذه يا حسنات نبذ صغيرة ، ولمحات
قصيرة ، تدل وبوضوح على أسبقية فكرة
الايمان بالله لكل ما ذكرت من أسباب ،
وأنني حينما أذكرها لك لا أريد أن أقول
أنها وبجميع أدوارها فكر صحيحة
متبلورة ، فهي خاضعة كما ترين لمستوى
الانحطاط الفكري لكل جيل تمر فيه ،
وهو مشوبة كما ترين أيضاً بطبيعة الأفكار
المعاشة في ذلك العصر ، ولهذا نجدها في
أغلب حالاتها مغايرة للايمان بالوحدانية
المطلقة وإن كانت تدل بوضوح على وجود
الايمان بالله ، ولكن بشكل يلائم النضوج
الفكري المعاش حين ذلك ، أرجو أن لا
أكون قد أطلت عليك ولعلك لو قرأت
( 358 )
كتاب الله للعقاد لازدت معرفة بما
ذكرت ، ويقيناً بما كتبت ، والله من وراء
القصد ، وأتمنى لك كل خير ...
مصطفى
حسنات
مصطفى
بينما كانت رحاب تعيش أيام انتظار للجواب ، واعداد
( 364 )
للرسالة ، وتأنيب ضمير خفي ، تستنكره وتنكر على نفسها
الانقياد اليه ، كانت حسنات تطوي ضلوعها على ألم دفين
تستنكره وتنكر على نفسها الانقياد إليه أيضاً ، وطالما حدثتها
نفسها بالخيبة ، وطالما أوحت إليها تصوراتها أقسى الايحاءات ،
فبماذا كانت تتمكن أن تؤول هذا الموقف المنكمش من
خطيبها وزوجها الموعود ، ألم يكن من أدنى مستلزمات اللياقة
أن يرسل اليها رسالة ولو صغيرة ؟ ألم يكن من التهذيب في
شيء أن يرسل اليها صورته بعد أن علم أنها لا تملك له
صورة ؟ وكانت هذه التصورات تلح عليها عنيفة بها تارة
ورفيقة أخرى وهي بين كل ذلك لا تريد أن تصدق ما تلمسه
من واقع فتحاول أن تنتحل لموقفه هذا شتى الاعذار ، وتبرره
بمختلف التبريرات ، لعله مشغول ، أو لعله يخجل من
الكتابة ، أو لعله يكتب فلا تصل رسائله ، وكان هذا العذر
الأخير هو أحب الأعذار إليها فان مما يسعدها أن تتصوره
يكتب إليها كما يكتب غيره ، ويهتم بأمرها ويفكر بها كما تهتم
بأمره ، وتفكر فيه ، وهي في كل ذلك تنتظر عودة أخته من
السفر بعد انتهاء السنة الدراسية لعلها تعرف منها شيئا عن
أخيها ، وكانت تحاول أن تصرف نفسها عن التفكير بكثرة
المطالعة والكتابة ، وفي مرة ، وكانت تجلس في غرفتها تقرأ ،
دخلت عليها رحاب ، فاستغربت قدومها ولم تعودها ذلك من
قبل ، ولهذا فقد رحبت بها واستقبلتها بحفاوة ، فجلست
رحاب على طرف السرير ، وكان الارتباك يظهر عليها
( 365 )
بوضوح ، وكأنها لا تعرف ماذا يجب أن تفعل ، فابتدرتها
حسنات قائلة : أراك لم تذهبي إلى وظيفتك اليوم يا رحاب
أرجو أن لا تكوني مريضة ؟ فهزت رحاب رأسها في حيرة ثم
قالت : الواقع أنني كنت أشعر بصداع شديد ولهذا فقد
اتصلت بصديقتي هناك وطلبت منها تقديم إجازة بدلاً عني ،
ولكنني الآن أشعر بالسأم فهل عندك كتاب أقرأ فيه ؟.
فاستغربت حسنات من أختها هذا الطلب ، وأختها تعلم
أنها لا تملك الكتب التي تعجبها هي ولكنها لم تشأ أن
تصدمها في الجواب فقالت : أمامك كتبي فتشي بينها عما
يعجبك يا رحاب...
فنهضت رحاب وأخذت تفتش بين الكتب وحسنات
تتطلع اليها لتعرف أي كتاب سوف تختاره ، وفوجئت عندما
وجدتها تخار كتاب قصة الايمان ، وكتاب موكب النور في سيرة
الرسول ، وكأن رحاب لم تعرف كيف تتصرف أمام أختها
وبماذا تفسر لها رغبتها في مطالعة هذه الكتب ، ولهذا فقد
أسرعت بالذهاب إلى غرفتها قبل أن تسأل وتجيب ، أما
حسنات فقد شعرت بالفرحة ، فما أحلى أن تعود رحاب أختها
إلى حضيرة الايمان لقد أسعدها أن تجد أختها الضائعة
السادرة في التيه وقد بدأت تفتش عن معالم الطريق ، أسعدها
ذلك وأشغلها عن مشاعر الألم لديها إلى فترة . فقد أخذت
تتصور رحاب وقد آمنت والتزمت بتعاليم الاسلام ثم يتقدم
( 366 )
إليها خاطب مؤمن صالح مثل مصطفى ... وهنا وقف بها
التفكير عند هذا ... مصطفى وكيف هو مصطفى يا ترى ؟
وعادت افكارها القاتمة تلح عليها من جديد فعادت إلى
الكتاب الذي بين يديها تستجمع أفكارها بين سطوره من
جديد أيضاً.
*
*
*
اندمجت رحاب مع مطالعة الكتابين ، ولكنها لم تغفل عن
الكتابة إلى مصطفى فقد أصبحت تشعر بالحاجة إلى المزيد
فكتبت إليه تقول :
عزيزي مصطفى
لعلني أبطأت عليك في رسالتي ، ولكن
مطالعة الكتابين الذين طلبت مني
مطالعتهما قد شغلني إلى حين .. والآن
دعني أقول لك بأنك تتحدث بأسلوب
لطيف ، ومقنع ( إلى حد ما ) وقد قرأت
سيرة الرسول التي أرشدتني اليها ، وعشت
معها أياماً حلوة ، وعرفت منها ما لم أكن
أعرف عن محمد بن عبدالله ، كما أنني
بدأت أقرأ قصة الايمان ، وقد وجدتها
تجيبني عن أكثر من سؤال ، كما يراودني
ويلح علي ، فقد كنت مثلاً ولا أزال لا
( 367 )
افهم كيف يمكن لي أن أعبد رباً لم أره ،
ولم تدركه الحواس الخمس التي هي
مصدر كل ادراك ! أو ليس في هذه العبادة
شيء من التقليد القائم على الوهم ؟
يؤسفني أن أزعك بهذه التساؤلات ،
ولكنني أصبحت أشعر بالحاجة لردك
عليها ، وهذه الحاجة أخذت تسلمني إلى
الكثير من القلق ، فلعل في رسائلك أو في
قصة الايمان ما يهبني الاستقرار ، هذا
وأرجو لك كل خير وأطلب منك العذر.
حسنات
*
*
*
مصطفى
حسنات
*
*
*