قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج ::: 46 ـ 60
(46)
المقدمة الثانية
    في حكم المفتوح عنوة :
    أعني المأخوذ بالسيف قهرا لأن فيه معنى الاذلال ، ومنه قوله تعالى : « و عنت الوجوه للحي القيوم » أي : ذلت.
وفيه مسائل
    الأولى : قد قدمنا أن هذه الأرض للمسلمين قاطبة ، لا يختص بها المقاتلة ، لكن إذا كانت محياة وقت الفتح. ولا يصح بيعها والحالة هذه ولا وقفها ولا هبتها ، بل يصرف الإمام عليه السلام حاصلها في مصالح المسلمين مثل : سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر ، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب الديون وغير ذلك من مصالح المسلمين.
    ذهب إلى ذلك أصحابنا كافة.
    قال الشيخ في « المبسوط » (1) عند ما ذكر هذا القسم من الأرضين :
    « ويكون للامام النظر فيها وتقبيلها وتضمنها بما شاء ، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم : من سد الثغور ومعونة المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين ، وليس للغانمين في هذه الأرض خصوصا شئ ، بل هم والمسلمون سواء ، ولا يصح بيع شئ من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه. ولا يصح
1 ـ أنظر : المبسوط / حقل الجهاد / ص 34 / ج 2.

(47)
أن يبني دورا ولا منازل ولا مساجد وسقايات ، ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك. ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا ، وهو باق على الأصل ».
    هذا كلامه رحمه الله بحروفه. وكلامه في النهاية قريب من ذلك ، وكذا كلام ابن إدريس في السرائر.
    والذي وقفنا عليه من كلام المتأخرين عن زمان الشيخ رحمه الله غير مخالف لشئ من ذلك. فهذا العلامة في كتابه منتهى المطلب وتذكرة الفقهاء والتحرير مصرح بذلك.
    قال في « المنتهى » (1) : « قد بينا أن الأرض المأخوذة عنوة لا يختص بها الغانمون بل هي للمسلمين قاطبة إن كانت محياة وقت الفتح ، ولا يصح بيعها ولا هبتها ولا وقفها ، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل : سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر ، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب الدين وغير ذلك من مصالح المسلمين ».
    وقد تكرر في كلامه نحو هذا : قبل وبعد ، وكذا قال في التذكرة والتحرير ، فلا حاجة إلى التطويل بايراد عبارته فيهما.
    وقد روى الشيخ في التهذيب عن حماد بن عيسى ، قال :
    « رواه بعض أصحابنا عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه السلام في حديث طويل ، أخذنا منه موضع الحاجة قال : « وليس لمن قاتل شئ من الأرضين وما غلبوا عليه إلا ما احتوى العسكر ». إلى أن قال :
    « والأرض التي أخذت عنوة بخيل وركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها ، ويقوم عليها على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من
1 ـ أنظر : حقل الجهاد / ص 926.

(48)
الخراج : النصف أو الثلث أو الثلثان ، وعلى قدر ما يكون لهم صالحا ولا يضربهم ، فإذا خرج منها نماء بداء ، فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا ، ونصف العشر مما سقي بالدوالي والنواضح ، فأخذه الوالي فوجهه في الوجه الذي وجهه الله تعالى له » إلى أن قال : « ويؤخذ بعد ما بقي من العشر ، فيقسم بين الوالي وبين شركائه الذين هم عمال الأرض وأكرتها ، فيدفع إليهم أنصباءهم على قدر ما صالحهم عليه ، ويأخذ الباقي ، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين الله ، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الاسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ، ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير. وله بعد الخمس الأنفال.
    والأنفال : كل أرض خربة قد باد أهلها ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولكن صولحوا عليها وأعطوا بأيديهم من غير قتال. وله رؤوس الجبال ، وبطون الاودية ، والآجام ، وكل أرض ميتة لارب لها. وله صوافي الملوك مما كان في أبديهم من غير وجه الغصب ، لأن الغصب كله مردود. وهو وارث من لا وارث له » (1) الحديث بتمامه.
    وهذا الحديث وإن كان من المراسيل إلا أن الأصحاب تلقوه بالقبول ، ولم نجد له رادا ، وقد علموا بمضمونه. واحتج به عى ما تضمن من مسائل هذا الباب العلامة في المنتهى. وما هذا شأنه فهو حجة بين الأصحاب ، فإن ما فيه من الضعف ينجبر بهذا القدر من الشهرة.
    بقي شئ واحد وهو : أنه تضمن وجوب الزكاة قبل حق الأرض ، وبعد ذلك يؤخذ حق الأرض. والمشهور بين الأصحاب أن الزكاة بعد المؤن. نعم ، هو قول الشيخ رحمه الله.
1 ـ أنظر : حقل الخمس من التهذيب ، ص 128 130 / ج 4 / ح 366.

(49)
    وروى الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال :
    « ما أخذ بالسيف فذلك للامام عليه السلام ـ يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر ، قبل أرضها ونخلها ، والناس يقولون لا تصح قبالة الأرض والنخل ، إذا كان البياض أكثر من السواد ، وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر (1).
    وفي معناه : ما رواه أيضا مقطوعا عن صفوان بن يحيى وأحمد بن أبي نصر (2).
    الثانية : موات هذه الأرض أعني المفتوحة عنوة وهو ما كان في وقت الفتح مواتا للامام عليه السلام خاصة (3) لا يجوز لأحد إحياؤه إلا بإذنه إن كان ظاهرا.
    ولو تصرف فيها متصرف بغير إذنه كان عليه طسقها. وحالة الغيبة : يملكها المحيي من غير إذن.
    ويرشد إلى بعض هذه الأحكام ما أوردناه في الحديث السابق عن أبي الحسن الأول عليه السلام ـ (4). وأدل منه ما رواه الشيخ في الصحيح عن عمر بن يزيد : « أنه سمع رجلا يسأل الصادق عليه السلام عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها وأكرى أنهارها وبنى فيها بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا ، قال : فقال أبو عبد الله عليه السلام : « كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام من أهل بيتي ، فإذا ظهر القائم عليه السلام فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه » (5).
1 ـ التهذيب : حقل الخراج / ص 119 / ج 4 / ح 342.
2 ـ نفس المصدر / ص 118 / 119 / ح 341.
3 ـ بصفة أنها من « الأنفال » فتخرج عن عموم الأرض المفتوحة عنوة.
4 ـ مثل قوله عليه السلام ( وله : بعد الخمس الأنفال. والأنفال : كل أرض خربة باد أهلها ) و ( كل أرض ميتة لارب لها ) وانظر ص 47 من هذا الكتاب.
5 ـ التهذيب / حقل الزيادات من الأنفال / ص 145 / ج 4 / ح 404.


(50)
    وروى الشيخ عن محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى ، فقال : ليس به بأس » إلى أن قال : « وأي قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها وهي لهم » (1).
    الثالثة : قال الشيخ في النهاية والمبسوط ، وكافة الأصحاب : لا يجوز بيع هذه ولا هبتها ولا وقفها ـ كما حكيناه سابقا عنهم لأنها أرض المسلمين قاطبة ، فلا يختص بها أحد على وجه التملك لرقبة الأرض ، إنما يجوز له التصرف فيها ، ويؤدي حق القبالة إلى الإمام عليه السلام ، ويخرج الزكاة مع اجتماع الشرائط. فإذا تصرف فيها أحد بالبناء والغرس صح بيعها ، على معنى : أنه يبيع ماله من الآثار وحق الاختصاص بالتصرف لا الرقبة ذاتها لأنها ملك المسلمين قاطبة.
    روى الشيخ عن صفوان بن يحيى عن أبي بردة بن رجاء ، قال :
    « قلت لأبي عبد الله عليه السلام : كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال : ومن يبيع ذلك وهي أرض للمسلمين؟! قال : قلت : يبيعها الذي هي في يديه؟ قال : ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال : لا بأس ، يشتري حقه منها ويحول حق المسلمين عليه ، ولعله يكون أقوى عليها وأملك بخراجها منه » (2).
    وهذا صريح في جواز بيع حقه ، أعني آثار التصرف ، ومنع بيع رقبة الأرض. ولا نعرف أحدا من الأصحاب يخالف مضمون الحديث.
    وعن محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى ، فقال : ليس به بأس ، قد ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل خيبر ، فخارجهم على أن يترك الأرض بأيديهم يعملونها ويعمرونها فلا أرى به بأسا لو أنك اشتريت منها » (3) الحديث.
    وهذا يراد به ما أريد بالأول من بيع حقه منها ، إذ قد صرح أولا بأنها ليست
1 ـ التهذيب / حقل الأنفال / ص 146 / ج 4 / ح 407.
2 ـ نفس المصدر / ح 406.
3 ـ نفس المصدر / ح 407.


(51)
ملكا لهم ، وإنما خارجهم النبي صلى الله عليه وآله فكيف يتصور منهم بيع الرقبة والحالة هذه؟
    وقريب من ذلك ما روى حسنا عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام ـ قال :
    « سمعته يقول رفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : له مالنا ، وعليه ما علينا ، مسلما أو كافرا ، له ما لأهل الله وعليه ما عليهم » (1).
    وهذا في الدلالة كالأول.
    وعن حريز عن محمد بن مسلم وعمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
    « سألته عن ذلك ، فقال : لا بأس بشرائها ، فإنها إذا كانت بمنزلة ما في أيديهم يؤدي عنها » (2).
    وأولى من ذلك ما رواه محمد الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام وقد سأله عن السواد ما منزلته؟ فقال :
    « هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الاسلام بعد اليوم ولم يخلق بعد.
    فقلنا : الشراء من الدهاقين؟ قال : لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين ، فإن شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها. قلنا : فإن أخذها منه؟ قال : يرد إليه رأس ماله ، وله ما أكل من علتها بما عمل » (3).
    وفي التذكرة رواه هكذا ، قال : ( يود ) بالواو بدل الراء من الوداء مجزوما
1 ـ التهذيب : ج 4 / ص 147 ح 411.
2 ـ نفس المصدر / ص 147 / ح 408.
3 ـ نفس المصدر ، حقل : في أحكام الأرضين / ص 147 / ج 7 / ح 652.


(52)
لأنه أمر للغائب محذوف اللام. وما أوردناه أولى.
    فإن قلت : إذا جوزتم البيع ونحوه تبعا لآثار التصرف ، فكيف يجوز لولي الأمر أخذها من المشتري ، وكيف يرد رأس ماله ، مع أنه قد أخذ عوضه ، أعني تلك الآثار؟
    قلت : لاريب أن ولي الأمر له أن ينتزع أرض الخراج من يد متقبلها إذا انقضت مدة القبالة وإن كان له بها شئ من الآثار فانتزاعها من يدي المشتري أولى بالجواز ، وحينئذ فله الرجوع برأس ماله لئلا يفوت الثمن والمثمن. لكن الذي يرد الثمن يحتمل أن يكون هو الإمام عليه السلام لانتزاعه ذلك ، ويحتمل أن يكون البائع ، لما في الرد من الاشعار بسبق الآخذ. وقوله « وله ما أكل » أنه يريد به المشتري.
    وفي معنى هذه الأخبار أخبار أخر كثيرة ، أعرضنا عنها إيثارا للاختصار.

    الأول : قد عرفت أن المفتوحة عنوة لا يصح بيع شئ منها ولا وقفه ولا هبته.
    قال في المبسوط : « ولا يصح أن يبني دورا ولا منازل ولا مساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا ، وهو باق على الأصل ».
    وقد حكينا عبارته قبل ذلك.
    وقال ابن إدريس (1) :
    « فإن قيل : لما نراكم تبيعون وتشترون وتقفون أرض العراق وقد أخذت عنوة؟ قلنا : إنما نبيع ونقف تصرفنا فيه وتحجيرنا وبناءنا ، فأما نفس الأرض فلا يجوز ذلك فيها ».
1 ـ أنظر : السرائر / ص 111.

(53)
    قال العلامة في المختلف (1) بعد حكاية ذلك عن ابن إدريس هذا ، وهو يشعر بجواز البناء والتصرف ، قال :
    « وهو أقرب ».
    قلت : هذا واضح لا غبار عليه. يدل عليه ما تقدم من قول الصادق عليه السلام « اشتر حقه منها » ، وأنه أثر محترم مملوك لم يخرج عن ملك مالكه بشئ من الأسباب الناقلة ، فيكون قابلا لتعلق التصرفات به.
    ونحو ذلك قال في التذكرة (2) في كتاب البيع فإنه قال :
    « لا يصح بيع الأرض الخراجية لأنها ملك للمسلمين قاطبة لا يختص بها أحد ، نعم يصح بيعها تبعا لآثار المتصرف ».
    وكذا قال في القواعد (3) والتحرير (4).
    ثم نعود إلى كلامه في المختلف فإنه قال فيه في آخر المسألة من كتاب البيع : « ويحمل قول الشيخ على الأرض المحياة دون الموات ».
    قلت : هذا مشكل لأن المحياة هي التي تتعلق بها هذه الأحكام المذكورة ، وأما الموات : فإنها في حال الغيبة مملوكة للمحيي ، ومع وجود الإمام ـ عليه السلام لا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه ، مع أن الحمل لا ينافي ما قربه من مختار ابن إدريس لأن مراده بأرض العراق : المعمورة المحياة التي فيها : لا يجوز بيعها ولا هبتها لأنها أرض الخراج.
    نعم : يمكن حمل كلام الشيخ رحمة الله على حال وجود الإمام عليه السلام وظهوره ، لا مطلقا.
    الثاني : نفوذ هذه التصرفات التي ذكرناها إنما هو في حال غيبة الإمام عليه
1 ـ أنظر ص 333.
2 ـ أنظر 465.
3 ـ أنظر حقل الجهاد / ص 106.
4 ـ أنظر حقل الجهاد / 142.


(54)
السلام أما في حالة ظهوره فلا ، لأنه إنما يجوز التصرف فيها بإذنه. وعلا هذا فلا ينفذ شئ من تصرفات المتصرف فيها استقلالا.
    وقد أرشد إلى هذا الحكم كلام الشيخ في « التهذيب » (1) ، فإنه أورد على نفسه سؤالا وجوابا محصله مع رعاية ألفاظه بحسب الامكان أنه :
    « إذا كان الأمر في أموال الناس ما ذكرتم من لزوم الخمس فيها وكذا الغنائم وكان حكم الأرضين ما بنيتم من وجوب اختصاص التصرف فيها بالأئمة عليهم السلام ، إما لاختصاصهم بها كالأنفال أو للزوم التصرف فيها بالتقبيل والتضمين لهم مثل أرض الخراج ، فيجب أن لا يحل لكم منكح ، ولا يخلص لكم متجر ، ولا يسوغ لكم مطعم على وجه من الوجوه!
    قيل له : إن الأمر وإن كان كما ذكرت من اختصاص الأئمة عليهم السلام بالتصرف في هذه الأشياء ، فإن هنا طريقا إلى الخلاص.
    ثم أورد الأحاديث التي وردت بالإذن للشيعة في حقوقهم عليهم السلام حال الغيبة ، ثم قال :
    إن قال قائل : إن ما ذكر تموه إنما يدل على إباحة التصرف في هذه الأرض ولا يدل على صحة تملكها بالشراء والبيع ، ومع عدم صحتهما لا يصح ما يتفرع عليهما!
    قيل له : قد قسمنا الأرضين على ثلاثة أقسام. أرض يسلم أهلها عليها فهي ملك لهم يتصرفون فيها ، وأرض تؤخذ عنوة أو يصالح أهلها عليها فقد أبحنا شراءها وبيعها لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي المسلمين ، وهذا القسم أيضا يصح الشراء والبيع فيه على هذا الوجه ، وأما الأنفال وما يجري مجراها فليس يصح تملكها بالشراء ، وإنما أبيح لنا التصرف حسب.
1 ـ أنظر حقل الأنفال / ص 142 146 / ج 4 / تعقيبا على حديث 405 وما قبله.

(55)
    ثم استدل على حكم أراضي الخراج برواية أبي بردة بن رجاء السالفة ، الدالة على جواز بيع آثار التصرف دون رقبة الأرض.
    وهذا كلام واضح السبيل ، ووجهه من حيث المعنى أن التصرف في المفتوحة عنوة إنما يكون بإذن الإمام عليه السلام وقد حصل منهم الاذن لشيعتهم حال الغيبة فتكون آثار تصرفهم محترمة بحيث يمكن ترتب البيع ونحوه عليها.
    وعبارة شيخنا في « الدروس » (1) أيضا ترشد إلى ذلك حيث قال :
    « ولا يجوز التصرف في المفتوح عنوة إلا بإذن الإمام عليه السلام ، سواء كان بالبيع أو بالوقف أو غيرهما ، نعم في حالة الغيبة ينفذ ذلك ».
    وأطلق في « المبسوط » أن التصرف فيها لا ينفذ ، أي : لم يقيد بحال ظهور الإمام عليه السلام أو عدمه. ثم قال :
    وقال ابن إدريس : « إنما يباع ويوقف تحجيرنا وبناؤنا وتصرفنا لا نفس الأرض ».
    ومراده بذلك أن ابن إدريس أيضا أطلق جواز التصرف في مقابل إطلاق « الشيخ » رحمه الله عدم جوازه. والصواب : التقييد بحال الغيبة ، فينفذ ، وعدمه بعدمه ، وهذا ظاهر بحمد الله تعالى.
المقدمة الثالثة
    في بيان أرض الأنفال وحكمها :
    الأنفال جمع نفل بسكون الفاء وفتحها وهو : الزيادة ومنه : النافلة. والمراد به هنا : كل ما يخص الإمام عليه السلام وقد كانت الأنفال لرسول الله صلى
1 ـ أنظر حقل الجهاد / ص 163

(56)
الله عليه وآله في حياته ، وهي بعده للامام القائم مقامه صلى الله عليه وآله.
    وضابطها : كل أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، والارضون الموات ، وتركة من لا وارث له من الاهل والقرابات ، والآجام ، والمفاوز ، وبطون الاودية ، ورؤوس الجبال ، وقطائع الملوك.
    وقد تقدم في الحديث السابق الطويل عن أبي الحسن الأول عليه السلام ذكر ذلك كله (1). وقد روى الشيخ عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
    قلت له : ما تقول في قول الله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله )؟ قال : الأنفال لله تعالى وللرسول وهي : كل أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب ، فهي نفل لله وللرسول (2).
    وعن سماعة بن مهران قال : سألته عن الأنفال ، فقال : كل أرض خربة أو شئ كان للملوك فهو خالص للامام عليه السلام ليس للناس فيها سهم. قال : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (3).
    وفي مرسلة العباس الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
    « إذا غزا قوم بغير إذن الإمام عليه السلام فغنموا كانت الغنيمة كلها للامام عليه السلام وإذا غزوا بإذن الإمام عليه السلام فغنموا كان الخمس للامام » (4) ومضمون هذه الرواية مشهور بين الأصحاب ، مع كونها مرسلة ، وجهالة بعض رجال سندها ، وعدم إمكان التمسك بظاهرها ، إذ من غزا بإذن الإمام لا يكون خمس غنيمته كلها للامام عليه السلام.
1 ـ أنظر ص / 51 52 من هذا الكتاب.
2 ـ التهذيب / حقل الأنفال / ص 132 / ج 4 / ح 268.
3 ـ نفس المصدر / ص 133 / ح 373.
4 ـ نفس المصدر / ص 135 ، ح 378.


(57)
    إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الأرض المعدودة من الأنفال إما أن تكون محياة أو مواتا ، وعلى التقديرين ، فإما أن يكون الواضع يده عليها من الشيعة أو لا ، فهذه أربعة أقسام.
    وحكمها : أن كل ما كان بيد الشيعة من ذلك ، فهو حلال عليهم ، مع اختصاص كل من المحياة والموات بحكمه (1) ، لأن الأئمة عليهم السلام أحلوا ذلك لشيعتهم حال الغيبة. وأما غيرهم فإنما علهيم حرام. وإن كان لا ينتزع منهم في الحال على الظاهر ، حيث إن المستحق لانتزاعه هو الإمام عليه السلام فيتوقف على أمره.
    وروى الشيخ عن عمر بن يزيد قال :
    رأيت أبا سيار مسمع بن عبد الملك بالمدينة ، وقد كان حمل إلى أبي عبد الله ـ عليه السلام ما لا في تلك السنة فرده عليه ، فقلت : لم رد عليك أبو عبد الله عليه السلام المال الذي حملته إليه؟ فقال : إني قلت حين حملت إليه المال : إني كنت وليت الغوص ، فأصبت منه أربعمائة ألف درهم ، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم .. إلى أن قال : « يا أبا سيار قد طيبناه لك ، فضم إليك مالك ، وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون ، محلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم ، فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم عنها صغرة » (2).
1 ـ عبارة المؤلف القائلة باختصاص كل من المحياة والموات بحكمه يكتنفها الغموض فقد سبق للكتاب أن أوضح بأن « الأنفال » للامام وأنها مباحة؟؟ بحكم أخبار التحليل ، وهذا يعني انعدام الفارق بين المحياة والموات من الأنفال من حيث التصرف فيهما. ومن الواضح أن الفارق لا تظهر ثمرته إلا في اصطناع الفارق بين الأرض المفتوحة عنوة وأرض الأنفال ، لأن الأرض المحياة طبيعيا عائدة إما إلى الإمام. أو عائدة إلى المسلمين بناء على القول بأنها داخلة في عموم « كل أرض لارب لها » أو عائدة إلى المسلمين بناء على القول بدخولها في عموم ملكية الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين. بل : حتى موات المفتوحة عنوة يسمها طابع التردد المذكور. والمؤلف بصفته قد ردم الفارق بين نمطي الأرض : حينئذ كان الأجدر أن يوضح حكم كل من محياة الأنفال ومواتها.
2 ـ التهذيب ، حقل : الأنفال / ص 144 / ج 4 / ح 403.


(58)
    قال في الصحاح : « الطسق » : الوظيفة من خراج الأرض ، فارسي معرب.
    وعن الحرت بن المغيرة النصري قال :
    دخلت على أبي جعفر عليه السلام فجلست عنده ، فإذا نجية قد استأذن عليه ، فأذن له فدخل فجثا على ركبتيه ثم قال :
    جعلت فداك إنى أريد أن أسألك عن مسألة والله ما أريد بها إلا فكاك رقبتي من النار ، فكأنه رق له فاستوى جالسا فقال :
    يا نجية سلني فلا تسألني اليوم عن شئ إلا أخبرتك به ، قال :
    جعلت فداك ما تقول في فلان وفلان؟ قال :
    يا نجية ، لنا الخمس في كتاب الله ولنا الأنفال ولنا صفو المال ، وهما والله أول من ظلمنا حقنا في كتاب الله وأول من حمل الناس على رقابنا ، ودماؤنا في أعناقهما إلى يوم القيامة لظلمنا أهل البيت ، وإن الناس ليتقلبون في حرام إلى يوم القيامة بظلمنا أهل البيت ، فقال نجية :
    إنا لله وإنا إليه راجعون ثلاث مرات هلكنا ورب الكعبة ، قال : فرفع فخذه عن الوسادة فاستقبل القبلة فدعا بدعاء لم أفهم منه شيئا إلا أنا سمعناه في آخر دعائه وهو يقول :
    اللهم إنا قد أحللنا ذلك لشيعتنا. قال : ثم أقبل بوجهه إلينا وقال :
    يا نجية ، ما على فطرة إبراهيم عليه السلام غيرنا وغير شيعتنا (1).
    وهذان الحديثان ونحوهما من الأحاديث الكثيرة مما لا خلاف في مضمونها بين الأصحاب بلا شك ولا مرية ، فلا حاجة إلى البحث عن أسنادهما والفحص عن رجالهما ، فإن آحاد الأخبار (2) بين محققي الأصحاب والمحصلين منهم إنما
1 ـ نفس المصدر : ص 145 / ح 405.
2 ـ من الواضح أن « آحاد الأخبار » تشمل كلا من المعتبر والضعيف ، فتقييد الكاتب ملاحظة القرائن بآحاد الأخبار يبدو وكأنه لا ضرورة له. إلا إذا ذهبنا إلى أن هدف الكاتب هو أن يلمح إلى أن خبر الواحد سواء أكان مستجمعا لشروط الاعتبار حسب


(59)
يكفي حجة إذا انضم إليها من المتابعات والشواهد وقرائن الأحوال ما يدل على صدقها ، فما ظنك بإجماع الفرقة!
    فإن قيل : ما معنى جعل هذه الأشياء في حال الغيبة للشيعة؟ أهي على العموم أو على جهة مخصوصة؟ وعلى تقدير الثاني ، فما هذه الجهة؟
    قلنا : ليس المراد حلها على جهة العموم وإلا لزم سقوط حقهم عليهم السلام من الخمس حال الغيبة ، وهو خلاف ما يدل عليه أكثر الأصحاب ، بل القول به منسوب إلى الشذوذ ، بل يلزم منه جواز تناول حقهم ـ عليهم السلام والتصرف فيه ، إلى غير ذلك مما هو معلوم البطلان ، وإنما المراد إحلال ما لا بد من المناكح والمساكن والمتاجر ، لتطيب ولادتهم ويخرجوا عن الغصب في المسكن والمطعم ونحو هما : وقد عين الأصحاب لذلك مواضع بخصوصها في باب الخمس ، فلا حاجة إلى ذكرها هاهنا. فإذا كان بيد أحدنا من أرض الأنفال شئ إما بالاحياء والشراء من بعض المتقبلين ونحو ذلك كانت عليه حلالا بإحلال الأئمة عليهم السلام.
    فإن قيل : ليس على الشيعة في هذا النوع من الأرض خراج ، فهل على غيرهم فيه شئ من ذلك؟
    قلنا : لا نعرف في ذلك تصريحا للأصحاب ، ولكن قد وقع في الحديث السابق التصريح به ووجهه من حيث المعنى أنه تصرف في مال الغير بغير إذنه ، فلا يكون مجانا.
    فإن قيل : هل يجوز لمن استجمع صفات النيابة حال الغيبة جباية شئ من ذلك؟
معايير الحديث أو غير مستجمع لها ، إنما يكتسب قيمته بقدر عمل الأصحاب به ، سواء أكان ذلك ضعيفا قد عمل به أو معتبرا ولكن هجره الأصحاب.

(60)
    قلنا : إن ثبت أن جهة نيابته عامة ، احتمل ذلك وإلى الآن لم نظفر بشئ فيه (1) وكلام الأصحاب قد يشعر بالعدم ، لأن هذا خاصة الإمام عليه السلام ، وليس هو كخراج الأرض المفتوحة عنوة ، فإن هذا القسم لغيره ، كما سيأتي إن شاء الله.
    فإن قيل : فلو استولى سلطان الجور على جباية شئ من خراج هذه الأرضين ، اعتقادا منه أنه يستحقه لزعمه أنه الإمام ، فهل يحل تناوله؟
    قلنا : الأحاديث التي تأتي تحل تناول الخارج الذي يأخذه الجائر. وكلام الأصحاب يتناول هذا القسم ، وإن كان السابق إلى الافهام في الخراج ما يؤخذ من المفتوح عنوة ، فلا يبعد الحاقه به (2) ، ولم أقف على شئ صريح في ذلك سوى إطلاق ما ورد عنهم عليهم السلام.
    فائدة : لا فرق بين غيبة الإمام عليه السلام وحضوره في زمان التقية ، لاستوائهما في كونه عليه السلام موجودا ممنوعا من التصرف. والأخبار وكلام الأصحاب يومئ إلى ذلك ، وإباحتهم عليهم السلام لشيعتهم إنما وقع في زمانهم عليهم السلام وكذا الأمر بالجمعة وقد احتج الأصحاب بذلك ، بثبوتهما في زمان الغيبة. وفي الواقع لا فرق بينهما.
1 ـ بالرغم من أن بعض الفقهاء يحاول أن يميز بين ملك الإمام وملك المسلمين. بصفة أن الأول منهما من الممكن أن يستثمره الإمام لأفراد بأعيانهم ، والآخر يصرف في مصالح عامة ، إلا أن هذا الفارق لا شاهد له من النصوص ما دمنا نعرف أن ملكية الإمام ليست شخصية ، بل اعتبار المنصب الرسمي ، مما يعني أن الأموال بقسميها موكولة إلى نظره سواء؟؟ في نطاق أفراد بأعيانهم أو صرفت في مصالح عامة. هذا فضلا عن أن إشارة الكاتب إلى أن الأنفال من ( خاصة الإمام ) لا صلة له ب‍ ( النيابة العامة ) التي سوء الكاتب مشروعيتها في نطاق الخراج المتصل بالأرض المفتوحة عنوة ، وتردد في مشروعيتها بالنسبة إلى أرض الأنفال. ففي الحالين ، إما أن تكون ثمة قناعة بنيابة القضية أم لا ، ولذلك لا يظهر أي وجه للفارق الذي اصطنعه الكاتب في هذا الميدان.
2 ـ إن عدم استبعاد المؤلف إلحاق الأنفال بالمفتوح عنوة من حيث جباية الخراج ، يدلل على ما سبق إن قلناه من عدم الفارق بين نمطي الأرض من حيث صلاحية النيابة لها.
قاطِعَةُ اللجَاجِ ::: فهرس