قواعد الحديث ::: 121 ـ 135
(121)
    مفاد أدلة حجية خبر الواحد
    فان الأخبار الآمرة بالرجوع الى ثقات الرواة مثل قوله (ع) : « فانه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا » (1). ونحوه صريحة في أن العبرة بصفات الراوي ، لا المروي ، فلا تشمل محل البحث.
    وكذا آية النبأ حيث علق فيها وجوب التبين على مجيء الفاسق. فتدل بالمفهوم على أن الجائي بالخبر اذا كان عادلاً قُبل خبره ، فيكون العبرة بصفات الراوي أيضاً. بل يدل الأمر بالتبين عند إخبار الفاسق على عدم حجية الخبر المبحوث عنه ، لفرض عدم وثاقة راويه فضلاً عن عدالته.
    لكنه قيل : إن منطوق الآية الكريمة دال على حجية الخبر الضعيف الذي اشتهر عمل الفقهاء به ، لأن المراد بالتبين فيها ما يعم تحصيل الظن بصدق الفاسق في خبره ، وذلك يتحقق بتحصيل تلك الشهرة.
    وأجاب عنه الشيخ الأنصاري بأن « التبين ظاهر في العلمي ... فمادة التبين ، ولفظ الجهالة ، وظاهر التعليل كلها آبية من إرادة مجرد الظن. نعم يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحير ، والتزلزل الخ » (2).
    وهو في غاية الجودة ، فان التبين لغة بمعنى الوضوح ، والظهور ، ويستعمل لازماً ، فيقال : تبين الشيء. بمعنى اتضح ، ومتعدياً ، فيقال : تبينته. بمعنى أوضحته ، وفهمته (3) ، كما في الآية الكريمة ، ولا يصدق
1 ـ الوسائل ، ح 41 ، ب‍‌ 11 ـ أحكام القضاء.
2 ـ فرائد الأصول ص 77 ـ 78.
3 ـ أقرب الموارد ، مادة بين.


(122)
ذلك إلا مع العلم به ، أو الاطمئنان. فتدل الآية الكريمة على حجية الحديث المطمأن بصدوره ، وصدق راويه ، فضلاً عن كون الاطمئنان في نفسه حجة عقلائية. وعليه فالظن بصدق الراوي لشهرة العمل ليس بتبين ليجبر به ضعف سند الحديث.
    وأما السيرة ، وبناء العقلاء فموردهما الخبر الذي حصل الاطمئنان بصدوره ، أو كان راويه ثقة في نقله ، أما الخبر الفاقد لهذين الوصفين معاً فلا يشملانه ، كما هو شأن كل دليل لبي لا إطلاق له ، فلا عبرة بالظن بالصدور مع ضعف الراوي.
    وأما الاجماع الذي استدل به على حجية خبر الواحد ، فقيل : بشموله لما اشتهر العمل به. وأنه لا منافاة بين ثبوت الاجماع على حجية مطلق الخبر ليشمل المورد ، وعدم ثبوته في هذا الصنف من الخبر بخصوصه. لكن يوهنه.
    أولاً : اشتهار الخلاف في حجية خبر الواحد ين قدامى الفقهاء ، حيث أنكرها السيد المرتضى ، وأتباعه ، وحصروا الحجة بالمتواتر من الأخبار وإنما نقل الشيخ الطوسي الاجماع على حجيته.
    على أن هناك جماعة فهموا من كلام الشيخ الطوسي دعواه الاجماع على حجية الأخبار التي اشتهر نقلها ، وتدوينها في الكتب الدائرة بين الأصحاب ، وهي المحفوفة بقرائن الصحة ، لا كل خبر يرويه إمامي عدل فيكون الخلاف بين السيد المرتضى ، والشيخ الطوسي لفظياً ، حكي هذا عن المحقق الحلي في ( المعارج ) والشيخ حسن ابن الشهيد الثاني في ( المعالم ) والمحدّث الاسترابادي في ( الفوائد المدنية ). لكن ناقشهم الشيخ الانصاري في ذلك (1). وسبق في البحث عن ( تنويع الحديث ) صراحة كلام
1 ـ فرائد الأصول ص 91 ـ 92.

(123)
الشيخ الطوسي في عمل الطائفة بأخبار الثقات ، وإن لم تحتف بقرائن الصحة.
    وثانياً : عدم الاطلاق في دعوى الشيخ الطوسي ، وأتباعه الاجماع على حجية خبر الواحد بحيث يشمل كل خبر ، وإنما اختص بالخبر الواجد لشرائطه ، كوثاقة راويه ، ونحوها. ولذا نقل الشيخ في كتاب ( العدة ) رد الأصحاب لأخبار كثير من الطوائف لما لم يحرزوا أمانتهم في النقل. فيكون الغرض من تلك الدعوى مخالفة السيد المرتضى المانع من العمل بخبر الواحد بما أنه خبر واحد.
    وقد نبّه الشيخ الأنصاري على ذلك بقوله : « والحاصل أن معنى الاجماع على العمل بها عدم ردها من جهة كونها أخبار آحاد ، لا الاجماع على العمل بكل خبر خبر منها » (1).
    ومن هنا ظهر وهن قول المحقق الخراساني في ( كفايته ) : « فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره ، أو بصحة مضمونه ، ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به » (2).
    فان تلك الأدلة القائمة على حجية خبر الثقة لا تشمل ضعيف السند وإن حصل الظن بصدوره. وكيف يحكم بدخول مظنون الصدور تحت ما دل على حجية ما يوثق به ، وهما متغايران. وقد فرض في صدر كلامه أن الظن « لم يقم على حجيته دليل » فيكون وجوده كعدمه فكيف يصلح جابراً لضعف سند الخبر ، فان ضم ما ليس بحجة الى ما ليس بحجة لا ينتج حجة ؟.
    وسبق الاستدلال على جبر الشهرة لضعف سند الخبر بحسن الظن بفقهائنا الأقدمين ، فيكشف عملهم به عن احتفافه لديهم بقرائن الصحة ، والوثوق بصدوره عن المعصوم (ع).
1 ـ فرائد الأصول ص 93
2 ـ كفاية الأصول ج 2 ص 217


(124)
    ويوهن بما سبق (1) من اختلاف مباني الفقهاء في العمل بالأخبار. ومعنى حسن الظن بهم أنهم لا يرتكبون الجزاف ، ولا يعملون بخبر ما لم يكن حجة لديهم ، وليس معناه صحة تلك المباني التي اعتمدوا عليها ، فلا يكشف عملهم عن قيام تلك القرائن لديهم ، وإنما عمل كل على مبناه.
    وهناك وجه آخر لاعتبار الشهرة ، وهو أن يقال : لو ساغ مخالفة ما اشتهر بين الفقهاء بترك ما عملوا به من الأخبار ، والعمل بما أعرضوا عنه منها ، للزم تأسيس فقه جديد غير ما هو المحرر في كتبنا الفقهية.
    وقد استدل بذلك استاذنا المحقق الحكيم على توهين الخبر المعرض عنه قائلاً : « ... بل لو بني على العمل بما أعرض عنه الأصحاب لحصل لنا فقه جديد ، فالمتعين تأويله أو طرحه الخ » (2).
    والجواب عن ذلك أن الفقه الجديد إنما يحصل لو علمنا بكل ما أعرضوا عنه وأعرضنا عن كل ما عملوا به من الأخبار. والأمر ليس كذلك ، فان غالب ما عمل به الأصحاب حجة في نفسه ، فنعمل به بدون توقف على اشتهار عملهم ، كما وأن غالب ما أعرضوا عنه ليس بحجة في نفسه ، فلا نعمل به بدون توقف على اشتهار إعراضهم. وهناك موارد أطبق الفقهاء فيها على العمل بخبر ضعيف السند ، أو الأعراض عن خبر صحيح السند ، فيحصل الاطمئنان من ذلك بحجية الأول ، وعدم حجية الثاني. وفي جميع ذلك نوافق ما اشتهر بين الاصحاب عملاً وإعراضاً.
    وما عدا ذلك موارد قليلة اشتهر بينهم الاعراض فيها عن الخبر الصحيح ، والعمل بالخبر الضعيف بحيث لا يلزم من مخالفتهم فيها محذور تأسيس الفقه الجديد ، إذ لا يزيد الخلاف فيها على الخلاف بينهم في كثير من فروع الفقه ، وغيرها كالخلاف بين من يقول بحجية الخبر الحسن والموثق
1 ـ انظر ص 55 ، وما بعدها.
2 ـ المستمسك ج 5 ص 70.


(125)
ومن يخصها بالصحيح. ولذا بنى الشهيد الثاني وجماعة على أن الشهرة لا تجبر ضعفاً ، ولا توهن صحة ، ولم ينشئوا فقهاً جديداً ، وإنما كتبوا نفس الفقه المحرر لدى الامامية ، بما فيه من الخلاف بين الفقهاء في بعض المسائل ، كما هو شأن الاجتهاد والنظر.
    ثم إن المحقق الحلي رد القول باستحالة التعبد بخبر الواحد ، وناقش القول بالانقياد لكل خبر ، بلزوم التناقض ، لدلالة بعض الأخبار على وجود الكذابين في الرواة ، كما ناقش القول بأن كل سليم السند يعمل به بأن الفاسق والكاذب قد يصدقان ، ولذا عمل علماؤنا في مصنفاتهم بأخبار بعض المجروحين. واختار العمل بما قبله الأصحاب ، وطرح ما أعرضوا عنه ، واستدل بوجوه ترجع كلها الى القول بعدم حجية خبر الواحد السالم السند في نفسه إلا أن يعمل به الأصحاب ، أو تدل القرائن على صحته (1).
    وحيث سبق في مبحث ( تنويع الحديث ) حجية خبر الراوي الموثق مطلقاً والممدوح إذا كان إمامياً ، وإن الأخبار المعتبرة صنفان سليمة الأسناد من الضعف ، والمحفوفة بقرائن الصحة لم يبق موجب لذكر تلك الوجوه والتعليق عليها.
    وأما أن الفاسق والكاذب قد يصدقان واقعاً ، فلا يقضي بقبول خبرهما إلا إذا حصل الاطمئنان بصدوره عن المعصوم (ع) من شهرة العمل أو غيرها.
    وبهذا يتم البحث عن شهرة العمل بالخبر ، وجبرها لضعف سنده.
1 ـ المعتبر ص 6.

(126)
    شهرة الاعراض عن الخبر
    وأما شهرة الاعراض عن الخبر فالمعروف تبعيتها في الحكم لشهرة العمل به ، فكل من قال بانجبار ضعف سنده بالعمل قال بتوهين صحته بالاعراض ، لوحدة الملاك بين المسألتين ، فكما يكشف العمل عن احتفاف الخبر بقرائن الصحة والصدور عن المعصوم (ع) ، يكشف الاعراض عن وجوه خلل في الخبر مانع من العمل به ، لأنه بمرأى من الأصحاب ومسمع وهو صحيح السند ، فلا يكون لهم عذر في هجره إلا ذلك الخلل المسقط له عن الاعتبار.
    وفصل المحقق الخراساني في ( كفايته ) بين الظن بصدور الخبر الضعيف السند الحاصل من شهرة العمل به أو غيرها ، وبين الظن بعدم صدور الخبر الصحيح السند الحاصل من شهرة الاعراض أو غيرها ، فقرّب انجبار ضعفه في الأول ، كما سبق ، وعدم وهن صحته في الثاني ، مستدلاً عليه بقوله : « لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ، ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره ، أو ظن بعدم إرادة ظهوره » (1).
    وحكي عن الشيخ الطوسي أنه بنى على العمل بالخبر الصحيح السند وإن لم يعمل به الفقهاء ، ولذا عمل في ( النهاية ) بما رواه علي بن المغيرة من جواز التمتع بأمة المرأة من غير إذنها ، وإن طرحه الفقهاء » (2). وبنى على ذلك كل من ناقش في شهرة العمل ، وجبر ضعف السند بها.
    وتحقيق البحث أن شهرة الاعراض عن الخبر ولو لدى المتأخرين من الفقهاء إذا حصل منها الاطمئنان الشخصي بعدم صدوره عن المعصوم (ع)
1 ـ كفاية الأصول ج 2 ص 218.
2 ـ شرح اللمعة ج 2 ص 65.


(127)
أو بوجود خلل فيه مانع من العمل به سقطت حجيته ، لما سبق من حجية الاطمئنان في نفسه كالقطع الوجداني. لكن يختص حكمه بالشخص المطمئن دون غيره. ولا يبعد دعوى حصوله فيما لو تسالم جميع الفقهاء على هجر الخبر وعدم العمل به. أما اذا لم يحصل ذلك فلا تصلح تلك الشهرة لتوهينه بعدما كان حجة في نفسه. لأمور.
    الأول ما سبق من الاشكال في تحصيل شهرة إعراض قدامى الفقهاء الذين هم العبرة في شأن جبر ضعف سند الخبر ، وتوهين صحته.
    الثاني ما سبق الإشارة اليه في مقدمة الكتاب من اختلاف قدامى الفقهاء في حجية خبر الواحد ، حيث أنكرها السيد المرتضى وجماعة ، حتى قيل باستحالة التعبد به ، واشترطوا التواتر في حجيته. وعليه فلا يصلح إعراضهم عن الخبر الصحيح السند موهناً حيث يستند إلى عدم تواتره لديهم. ونحن لا نعتبر التواتر في حجيته.
    على أن بعض الفقهاء لم يعمل إلا بالخبر الصحيح الذي رواه الامامي العدل. وحيث ثبت لدينا حجية الموثق والحسن أيضاً فلا يكون إعراضه عنهما موجباً لوهنهما.
    الثالث أن الاعراض عن الخبر لا يثبت بمحض عدم فتوى الفقهاء بمضمونه ، بل يتوقف بالاضافة لذلك على اطلاعهم عليه ، واستفادتهم منه نفس المضمون الذي استفدناه بدون معارض له من الأخبار ويشكل إحراز هذه الشروط ، حيث نحتمل أنهم لم يروه دالاً على ما نراه دالاً عليه ، ولا يكون فهمهم حجة على أفهامنا. وبالطبع هذا لا يجري في الأخبار البالغة من الصراحة حداً بحيث لا يقع التشكيك في مفادها. واذا اتفقنا في مفاد الخبر نحتمل أنهم اطلعوا على ما يعارضه بنظرهم ، فتساقط الخبران أو تخيروا فاختاروا معارضه ، أو رجحوه لأمر ما. ومن البديهي أن هذا


(128)
لا يحقق معنى الاعراض. وحيث لم نطلع على ذلك المعارض ، أو اطلعنا عليه فلم نر فيه أي معارضة ، أو رأينا مرجوحاً بمقتضى قواعد التعارض فأي مانع من العمل بذلك الحديث الذي أعرض عنه الأكثر بعدما تم سنداً ودلالة.

    الاختلاف في مفاد الخبر
    وهذه الأمور أساس اختلاف الفقهاء في كثير من الأحكام ، بل نراهم يختلفون أحياناً في أصل وجود الخبر فيدعيه البعض ويستند اليه في الحكم ، وينكره الآخر. وما ذاك إلا لاختلاف أنظارهم في مفاده ، وإلا فمن البعيد عدم اطلاع المنكر عليه مع اشتهاره في جوامع الحديث.
    فمن ذلك النيابة عن الميت في الحج الواجب ، حيث اختلفوا في لزومها من البلد ، أو كفايتها من الميقات. فاختار الأول جماعة. منهم الشهيد في ( اللمعة ) ، وعقّبه شارحها : بأن ذلك : « ظاهر أربع روايات في ( الكافي ) أظهرها دلالة رواية أحمد بن أبي نصر الخ ». وحيث كانت تلك الروايات الأربع متواترة لدى ابن إدريس ، ادعى تواتر الأخبار بالوجوب من البلد لكن العلامة في ( المختلف ) أورد عليه : بأنا لم نقف على خبر واحد فضلاً عن التواتر (1). ومن البعيد جداً عدم اطلاع العلامة على تلك الأخبار المشهورة بين الأصحاب ، فيبتني إنكاره لها على عدم دلالتها على المطلوب بنظره.
    وقد أوضح ذلك المعلق على الروضة بقوله : « ينشأ ذلك من اختلاف أنظارهم ـ رحمهم اللّه ـ في دلالة الروايات ، أو بعضها على المدعى سنداً
1 ـ شرح اللمعة ج 1 ص 207 ـ 208.

(129)
ومتناً ، وقصورها عن الافادة كذلك ، لا أنهم لم يظفروا بتلك (1) الأخبار كيف وهم قد بالغوا في تتبع الآثار ... ويؤيد ما قلناه أن أظهر الروايات دلالة في نظر الشارح في هذا الباب يقصر عن المدعى بزعمه ، فغيره منها بطريق أولى. وكذا العذر في كل موضع ادعى أحدهم قيام الدليل من رواية وغيرها على أمر وأنكره الآخر. وهذا هو الوجه في اختلافهم ، بل خلاف أنفسهم في غير القطعيات من المسائل الخ ».
    ولذا أجاب استاذنا المحقق الحكيم عن مخالفة رواية للمشهور ب‍‌ « أن إعراض المشهور إنما يقدح في الحجية لو كان كاشفاً عن اطلاعهم على عدم الصدور ، أو على وجه الصدور ، أو على قرينة تقتضي خلاف الظاهر ، بحيث لو اطلعنا عليها لكانت قرينة عندنا ، والجميع غير ثابت في المقام لجواز كون الوجه في الاعراض عدم فهمهم منها الوجوب » (2).
    الرابع أن غاية ما يحصل من شهرة الاعراض على فرض تحققها أحد أمرين. إما الظن بوجود خلل في الخبر مانع من العمل به ، أو الظن بعدم صدوره عن المعصوم (ع) ، فيزول لأجله الوثوق بالصدور. وكلاهما غير ضايرين بعدما كان الخبر في نفسه سالم السند والدلالة من الضعف.
    أما الأول فظن لم يقم على حجيته دليل. بالاضافة لخدش كثير من الفقهاء في بعض الأخبار بما لا يراه الآخرون صالحاً للخدش. وعليه فلا يسوغ رفع اليد عن ذلك الخبر حتى يثبت لنا الخلل المسقط له عن الاعتبار.
    وأما الثاني فكذلك ظن لا يصلح لتوهين الخبر ، لما سبق من ثبوت حجيته بأحد أمرين. إما سلامة سنده من الضعف ، أو حصول الاطمئنان بصدوره من القرائن. وكل منهما يكفي عند ثبوته وإن لم ينضم اليه الآخر
1 ـ الموجود في المصدر ( على ذلك ) والصحيح ما ذكرناه.
2 ـ المستمسك ج 5 ص 375.


(130)
وإنما تتأكد الحجية لو اجتمعا. وعليه فخبر الثقة حجة في نفسه وإن لم يحصل الوثوق لشحص بصدوره. وقد بنى العقلاء على ذلك ، ولذا نراهم لا يقبلون اعتذار من ترك العمل بخبر الثقة بعدم حصول الوثوق له بالصدور. وسبق تصريح المحقق الخراساني في ( كفايته ) بعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة بما اذا لم يكن ظن بعدم صدوره.
    وبهذا ظهر وهن القول : بأن شهرة الاعراض عن الخبر تكشف عن خلل فيه يمنع من العمل به فيسقطه عن الاعتبار. كما سبق (1) وهن القول : بأن العمل بما اشتهر الاعراض عنه يلزم منه تأسيس فقه جديد.
    يبقى البحث في دعوى أن أدلة حجية خبر الواحد لا تشمل ما اشتهر الاعراض عنه ، ومقتضى الأصل عدم حجيته. ولذا قال الشيخ الأنصاري : « وما ربما يظهر من العلماء من التوقف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرحه مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو إطلاق. بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور. بناء على أن ما دل من الدليل على حجية خير الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور الخ » (2).
    لكن سبق (3) شمول تلك الأدلة لهذا الخبر ، حيث دلت آية النبأ على كون العبرة بصفات الراوي ، فاذا أخبر العادل لا يجب التبين في خبره من دون تعليق على أمر آخر. كما أن الاخبار الآمرة بالرجوع الى ثقات الرواة صريحة في تعليق حجية الخبر على وثاقة راويه. وكذا بناء العقلاء قائم على قبول خبر الثقة وإن لم يحصل الوثوق بصدوره.
    وأما الاجماع فلم يقم على حجية هذا الخبر ، لكنا في غنى عنه بعد
1 ـ انظر ص 124.
2 ـ فرائد الأصول ص 44.
3 ـ انظر ص 121.


(131)
قيام الدليل على حجيته ، فلا يضر الخلاف فيها. نظير الخلاف في حجية الخبر الموثق والحسن. بل الخلاف بين قدامى الفقهاء في أصل حجية خبر الواحد.
    نعم لو حصل من تلك الشهرة وثوق بعدم صدور الخبر أصلاً ، أو بعدم صدوره لبيان الحكم الواقعي فلا يكون حجة ، ولا تشمله أدلة الحجية.

    الوضع والتقية في الأحاديث
    ويمكن الاستدلال على اعتبار تلك الشهرة بوجه لم أرَ مَن ذكره وهو أن كثيراً من الأحاديث صدرت عن أهل البيت (ع) مخالفة لما يرونه من حكم الشرع تقية (1) ليحفظوا الأنفس والأعراض والأموال من سطوة خلفاء الجور وولاتهم ، فلا يكون مفادها مراداً بالارادة الجدية. وكذا بعض أفعالهم ، وتقاريرهم المحكية عنهم (ع) ببعض الأخبار.
1 ـ اضطر الأئمة من أهل البيت (ع) الى استعمال التقية في أقوالهم وأفعالهم خوفاً من الحكام الجائرين في عصري الأمويين ، والعباسيين. فكانوا لا يبيحون بالحكم الواقعي إلا عند الأمن على أنفسهم ، وشيعتهم من أولئك الحكام.
وقد استفاضت الأخبار بذلك عموماً وخصوصاً. منها صحيح معمّر بن خّلاد عن الامام الباقر (ع) قال : « التقية من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له ». وبمضمونه عدة من الأخبار ( الوسائل ب‍‌ 24 ـ الأمر بالمعروف ) فتدل باطلاقها على استعمال أهل البيت (ع) للتقية قولاً وفعلاً. ومنها صحيح زرارة عن أحد الصادقين (ع) قال : « ثلاثة


(132)

لا أتقي فيهن أحداً ، شرب المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج » ( الوسائل ج 1 ب‍‌ 38 ـ الوضوء ) فتدل على استعمال الامام (ع) للتقية في غير الموارد الثلاثة. ومنها ما رواه علي بن يقطين عن الامام الكاظم (ع) فقد سأله عن الوضوء فأجابه على وفق المذهب السّني ، لمّا كان هارون الرشيد يرقب وضوءه. فلما زال الخطر عنه أمره بالوضوء على وفق مذهب أهل البيت (ع) قائلاً : « فقد زال ما كنا نخاف منه عليك » ( الوسائل ج 3 ب‍‌ 23 ـ الوضوء ». ومنها ما رواه خلاد بن عمارة عن الامام الصادق (ع) أنه قال : « دخلت على أبي العباس (*) في يوم شك وأنا أعلم أنه من شهر رمضان وهو يتغذى. فقال : يا أبا عبد اللّه (ع) ليس هذا من أيامك. قلت : لمَ يا أمير المؤمنين ، ما صومي إلا بصومك ، ولا إفطاري إلا بافطارك ، قال فقال أدنُ. قال : فدنوت فأكلت وأنا ـ واللّه ـ أعلم أنه من شهر رمضان ». وبمضمونه أخبار أخر ، ورد في بعضها « أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي ». ( الوسائل ب‍‌ 58 ـ أبواب ما يمسك عنه الصائم ). وقد علل الامام الباقر (ع) اختلاف جوابه في بعض الأحكام بقوله : « ... يا زرارة إن هذا خير لنا ، وأبقى لنا ولكم ». كما علل الامام الصادق (ع) اختلاف الشيعة في وقت الصلاة بقوله : « ... لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم ». ولذا قال الشيخ يوسف البحراني : « ... فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل لامتزاج أخباره بأخبار التقية ، كما قد اعترف بذلك ثقة الاسلام ، وعلم الأعلام محمد بن يعقوب الكليني ـ نور اللّه تعالى مرقده ـ في جامعه الكافي الخ » ( الحدائق ج 1 ص 5 ـ 6 ).
(*) أي السفاح ، أول خلفاء بني العباس.

(133)

وسار الشيعة على هدى أئمتهم (ع) في استعمال التقية فراراً من غياهب السجون ، وأعواد المشانق ، فكانوا كمؤمن « آل فرعون يكتم إيمانه » خوفاً من طاغية زمانه ، حيث كان التشيع من أعظم جرائم تلك العصور. قال ابن أبي الحديد : إن بني أمية اجتهدوا في إطفاء نور الامام علي (ع) « وتوعدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً ، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه ... » ونقل عن أبي جعفر الاسكافي أنه قال : « وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي ـ عليه السلام ـ وعاقبوا ذلك الراوي له حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه ، فيقول : عن أبي زينب ». ( شرح نهج البلاغة ج 1 ص 17 ـ ج 4 ص 73 ).
فأهل البيت (ع) وشيعتهم لم يستعملوا التقية إلا بعد أن دعت الحاجة اليها. وقد رخص فيها الشرع الاسلامي الأقدس. قال تعالى : « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل فليس من اللّه في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة » ( آل عمران / 28 ). بل رخص في إظهار كلمة الكفر عند الاضطرار ، كما فعله عمار بن ياسر ـ رضوان اللّه عليه ـ حين اضطرته قريش الى النيل من النبي (ص) ، فنزل قوله تعالى : « من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان » ( النحل / 16 ) وقال له النبي (ص) : يا عمار إن عادوا فعد. ( الوسائل ب‍‌ 29 ـ الأمر بالمعروف ـ الدر المنثور ج 4 ص 132 ـ أسباب النزول ص 212 ). بالاضافة لما دل من الكتاب والسنة على نفي الضرر والحرج في الشرع ، وإباحة ما اضطر اليه المكلف ، فانه دال على مشروعية التقية ، لأنها


(134)

عبارة عن وقاية النفس أو المال أو العرض من الأذى. ولذا استعملها جميع المسلمين عند الحاجة.
فذكر الخطيب البغدادي أن أبا حنيفة كان يقول بخلق القرآن ، فاعترضه ابن أبي ليلى واستتابه ، فتاب وعدل الى القول : بأن القرآن من كلام اللّه تعالى. فقال له ابنه حماد : « كيف صرت الى هذا وتابعته. قال : يا بني خفت أن يقّدم علي ، فأعطيته التقية ». ( تأريخ بغداد ج 13 ص 379 ـ 380 ). ولسنا بصدد نقاش ما اعتذر به عن التقية ، وصلاحيته لها.
وقال الآلوسي في ( تفسيره ) مشيراً الى الآية السابقة الناهية عن اتخاذ الكافرين أولياء : « وفي هذه الآية دليل على مشروعية التقية. وعرّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء ، والعدو قسمان ، الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم ، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والامارة ومن هنا صارت التقية قسمين ... وعّد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسم في وجوههم ، والانبساط معهم ، وإعطاؤهم لكف أذاهم ، وقطع لسانهم ، وصيانة العرض منهم ولا يعّد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها ، بل هي سنة وأمر مشروع ، فقد روى الديلمي عن النبي (ص) الخ » ثم ساق الروايات الدالة على ذلك.
إذن فمن العدوان أن تتخذ التقية وسيلة طعن في المذهب الامامي. فقد شرعها الكتاب والسنة. وأقرها العقل ، وقام عليها سيرة المسلمين.
ومن الغريب أن يجمع الآلوسي بين اعترافه بمشروعية التقية استناداً الى الكتاب والسنة ، وبين نقده للشيعة لنسبتهم القول بالتقية الى الأئمة من أهل البيت (ع) ، وحمل بعض أفعالهم عليها. قائلاً : « وجل غرضهم


(135)
    كما وأن كثيراً من الأحاديث لم تصدر عن الأئمة (ع) ، وإنما وضعها رجال كّذابون ونسبوها اليهم ، إما بالدس في كتب أصحابهم أو بغيره (1). وبالطبع لا بد وأن يكونوا قد وضعوا لها أو لأكثرها أسناداً صحاحاً ، كي تقبل حسبما فرضته عملية الدس والتدليس.
من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشيدين ـ رضي اللّه تعالى عنهم ـ ويأبى اللّه ذلك ». وبسط كلامه على هذا النهج ( روح المعاني ج 3 ص 107 ، وما بعدها ). مع أن استعمال أهل البيت (ع) للتقية غير قابل للتشكيك وسبق بعض أحاديثهم في ذلك ، فكيف ساغ هذا النقد؟. واللّه يحكم بين عباده.
1 ـ كما اضطر الأئمة من أهل البيت (ع) الى استعمال التقية فقد ابتلوا بجماعة من الزندقة الكذابين الذين بذلوا أقصى جهودهم في وضع الأحاديث ، ونسبتها اليهم (ع). فقد روى الكشي بسنده عن محمد بن عيسى أنه قال : إن بعض أصحابنا سأل يونس بن عبد الرحمان « وأنا حاضر فقال له : يا أبا محمد ما أشدك في الحديث ، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد اللّه ـ عليه السلام ـ يقول : لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة ، فان المغيرة بن سعيد ـ لعنه اللّه ـ قد دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي. فاتقوا اللّه ، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى ، وسنّة نبينا (ص) ... قال يونس ... وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا ـ عليه السلام ـ فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه ـ عليه السلام ـ وقال لي : إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد اللّه ـ عليه السلام ـ لعن اللّه أبا الخطاب. وكذلك أصحاب
قواعد الحديث ::: فهرس