قواعد الحديث ::: 136 ـ 150
(136)
    وحيث لا علم لنا بتلك المجموعة من الأخبار المؤلفة من ذينك الطائفتين أعني الموضوعة ، والصادرة تقية ، ولا طريق لنا الى تمييزها عن الأخبار المعتبرة فكيف يسوغ العمل بكل خبر سالم السند من الضعف ، مع احتمال أن يكون من تلك المجموعة التي لا يصح العمل بها ؟.
أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث الى يومنا هدا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه ـ عليه السلام الخ » ( رجال الكشي ص 146 ـ 147 ).
ولذا قال الشيخ يوسف البحراني : « ... ورد عنهم ـ عليهم السلام ـ من أن لكل رجل منا رجلاً يكذب عليه ، وأمثاله مما يدل على دس بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم (ع). ( الحدائق ج 1 ص 8 ).
وليس هذا بغريب بعدما أكثر الكذابون من وضع الأحاديث ونسبتها الى النبي (ص). فروى الكليني بسنده عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال : « وقد كذب على رسول اللّه (ص) على عهده حتى قام خطيباً ، وقال : أيها الناس قد كثرت عليَّ الكذابة ، فمن كذب عليُّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. ثم كذب عليه من بعده ، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس. رجل منافق يظهر الايمان متصنع بالاسلام ، لا يتأثم ، ولا يتجرح أن يكذب على رسول اللّه (ص) الخ » ( الوسائل ح 1 ب‍‌ 14 ـ صفات القاضي ).
ولذا كثرت الأحاديث الموضوعة في كتب أهل السنة. حتى ألف السيوطي ، والصغاني ، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم كتباً في التنبيه عليها وأثبت المحقق الحجة الأميني في الجزء الخامس من كتابه ( الغدير ) تحت عنوان ( نظرة التنقيب في الحديث ) سلسلة لبعض الكذابين والوضاعين من رجال حديث أهل السنة ، فبلغوا ستمائة وعشرين شخصاً. كما وضع قائمة للأحاديث الموضوعة والمقلوبة من قبل بعض أولئك الرجال ، فبلغت


(137)
    وترك العمل بجميع الأخبار المعتبرة سنداً المروية عن أهل البيت (ع) باطل قطعاً ، حيث لا طريق الى معرفة الأحكام الصادرة عنهم (ع) غالباً إلا تلك الأخبار ، فيتعين الرجوع الى فقهائنا الأقدمين في تمييز الحجة منها عن غيره لكثرة القرائن لديهم ، فيكشف عملهم بخبر عن عدم كونه من تلك المجموعة ، وقد فرضناه سالم السند من الضعف فيكون حجة ، كما يوجب إعراضهم عن خبر قوة احتمال كونه منها فيسقط عن الاعتبار.
ثمانية وتسعين ألف وستمائة وأربعة وثمانين حديثاً. وبالاضافة الى الأحاديث المتروكة والمسقطة عندهم بلغت أربعمائة وثمانية آلاف وثلثمائة وأربعة وعشرين حديثاً.
وقد كثر الوضع والكذب في الحديث على عهد معاوية حيث اقتضت مصلحته الدنيوية ذلك فاصطنع رجال سوء من بعض الصحابة وغيرهم ، وغرّهم بالأموال الطائلة في هذا السبيل. قال ابن أبي الحديد عند ذكر أمير المؤمنين (ع) : « ... استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الأرض وغربها ، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره ، والتحريض عليه ووضع المعايب والمثالب له الخ ». ونقل عن شيخ المعتزلة أبي جعفر الاسكافي أنه قال : « إن معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي ـ عليه السلام ـ تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا (*) يُرَغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير ». ثم عرض بعض ما رووه في ذلك. ( شرح نهج البلاغة ج 1 ص 17 ـ ج 4 ص 63 ).

(*) الجعل بضم الجيم وسكون العين الأجر الذي يأخذه الانسان على فعل شيء.

(138)
    وهذا العلم الاجمالي بوجود تلك المجموعة من الأخبار الغير المعتبرة في طي أخبارنا التي يجب العمل بها مهم جداً. ويتلخص الجواب عنه بوجوه.
إذن فمن الحيف أن ينسب القصيمي الكذب الى رجال الشيعة ويقول : « ليس في رجال الحديث من أهل السنة من هو متهم بالوضع و ( الكذابة ) (*) طمعاً في الدنيا الخ » ( الغدير ج 5 ص 184 ، نقلاً عن الصراع ج 1 ص 85 ). وما نسبه الدكتور صبحي صالح الى ابن أبي الحديد من قوله : « إعلم أن أصل الكذب في أحاديث الفضائل جاء من جهة الشيعة ». ( علوم الحديث ومصطلحه ص 321 ). وعلق في هامش كتابه أن مصدره ( شرح نهج البلاغة ج 2 ص 134 ). كما صرح في مراجع كتابه بأنه نقل عن طبعة القاهرة.
لكن بعد مراجعتنا لمصدره لم نر تلك الجملة التي وضعها بين قوسين إشارة الى كونها منقولة بلفظها. وفتشنا عنها في بعض الأبحاث المناسبة فلم نرها ، وإنما وجدنا كلاماً لابن أبي الحديد في الجزء الثاني من تجزئته لكتابه وهو يقع في الجزء الأول ( ص 135 طبعة القاهرة الأولى ). ويقع في الجزء الثاني ( ص 59 طبعة القاهرة الثانية بتحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم ). وهو وإن كان أجنبياً عن تلك الجملة ننقله بلفظه وهو.
« وأعلم أن الآثار والأخبار في هذا الباب كثيرة جداً ، ومن تأملها وأنصف علم أنه لم يكن هناك نص صريح ، ومقطوع به لا تختلجه الشكوك

(*) هكذا ورد في المصدر ، لكن لم أجد لها معنى مناسباً في اللغة فان ( الكذابة ) بالتشديد أنثى الكذاب ، كما أنها تطلق على الثوب المنقوش بألوان الصبغ كأنه موشى. ولو قال ( كذبة ) لصح ، فانها تستعمل بمعنى الكذب مبالغة. قال في ( تاج العروس ، مادة كذب ) : « ورجل كذبة مثال همزة ... وهو من أوزان المبالغة ».

(139)

ولا يتطرق اليه الاحتمالات ، كما تزعم الامامية ، فانهم يقولون : إن الرسول ـ صلى اللّه عليه وآله ـ نص على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ نصاً صريحاً جلياً ، ليس بنص يوم الغدير ، ولا خبر المنزلة ، ولا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة وغيرها ، بل نص عليه بالخلافة ، وبامرة المؤمنين ، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك ، فسلموا عليه بها وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من بعده ، وأمرهم بالسمع والطاعة له. ولا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وآله ـ يعلم قطعاً أنه لم يكن هذا النص ، ولكن قد يسبق الى النفوس والعقول أنه قد كان هناك تعريض ، وتلويح ، وكناية ، وقول غير صريح ، وحكم غير مبتوت الخ ».
لكن تلك النصوص التي أشار اليها ابن أبي الحديد ، الواردة من طرق العامة ، لا تختلجها شكوك واحتمالات فهي واضحة الدلالة على استحقاق أمير المؤمنين علي (ع) بالخلافة بعد رسول اللّه (ص) ، حيث قرن اللّه تعالى ولاية علي (ع) بولايته ، وولاية رسوله (ص) في آية الولاية النازلة يوم تصدق راكعاً. وقرن النبي (ص) ولايته بولايته في حديث الغدير. وقال (ص) يوم جمع عشيرته الأقربين : فأيكم يوازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم. فأحجم القوم عنها غير علي (ع) ، وكان أصغرهم ، إذ قام فقال : أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ رسول اللّه (ص) برقبته وقال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له ، وأطيعوا.
وقد بسط البحث عن ذلك أعلام الامامية الباحثون عن الامامة ، ولم يبقوا مجالا لتشكيك مشكك. وكتبهم مشهورة فراجعها ، خصوصاً كتاب ( المراجعات ) للمرحوم المجاهد آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين.


(140)

ومن الغريب أن يستشهد ابن أبي الحديد على عدم النص بما جرى بعد وفاة النبي (ص) ، وما هو إلا تنافس بين المسلمين في شأن الإمرة فطمع فيها الأنصار ، وادعاها المهاجرون والسيوف مسلولة في سبيل ذلك ، حتى كانت ( الفلتة ) في جو من الارهاب. والامام علي ، وبنو هاشم مشغولون بتجهيز النبي (ص). وما أن فرغوا حتى رأوا حدثاً لم يكن في الحسبان ، فامتنعوا من البيعة ، ومعهم نفر من الصحابة المخلصين ، وأقاموا الأدلة ، والنصوص النبوية على أن الخليفة الشرعي للنبي (ص) هو أمير المؤمنين علي (ع). ولم يبق إلا القتال في سبيل الخلافة ، فصبر علي (ع) « وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً » حقناً للدماء ، ورعاية لمعالم الاسلام ومظاهره.
ثم إن الدكتور صبحي صالح قد وصف ابن أبي الحديد بالشيعي تتميماً لحجته حيث يكون الشاهد على الشيعة منهم مع أن تسننه أشهر من أن يخفى. وأبحاثه في ( شرح النهج ) شاهدة بذلك ، وإن فضّل أمير المؤمنين (ع) على غيره ، ومدحه بما يستحقه ، فان محض تفضيله ، ومدحه لا يوجب صدق التشيع.
وقد اضطرب الاستاذ محمد أبو الفضل ابراهيم في مذهب ابن أبي الحديد فجعل له أدواراً ثلاثة تقّلب مذهبه فيها. الأول حينما نشأ في المدائن ، وتلقى عن شيوخها. وكان مذهبه الاعتزال. الثاني حين مدح أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بقصائده السبع العلويات ، وكان مذهبه المغالاة في التشيع ، يقول الاستاذ : « وفيها غالى وتشيع ، وذهب به الاسراف في كثير من أبياتها كل مذهب ». وقد كبر على الاستاذ أن يصدر ذلك المدح من أحد أعلام السنة ، فاضطر الى القول بتشيعه ، واستعرض أبياتاً من قصيدته العينية مستشهداً بها على ذلك ، مع أن قوله فيها :


(141)
    الأول أن العلم الاجمالي بوجود الأخبار الموضوعة في ضمن الأخبار الصادرة عن أهل البيت (ع) مختص بعصرهم ، فلا علم لنا بوجودها في ضمن الأخبار الواصلة الينا عن طريق كتبنا المعتبرة. ويدل على ذلك أمور هي :
    أولاً : أن الأئمة الأطهار (ع) مذ أحّسوا بعروض الوضع والدس في الأحاديث أخذوا في تهذيبها ، وميزوا الصادر عنهم منها بأنه الموافق للكتاب والسنة. كما حّذروا شيعتهم من أولئك الواضعين ، وسمّوهم ليحذروهم ، كما سبق.
    ولذا اهتم الرواة بذلك فعرضوا أحاديثهم ، وما صنفوه من كتب فيها على الائمة (ع) فانكروا المكذوب منها وأقروا الباقي. فعرض عبيد اللّه بن علي الحلبي كتابه على الامام الصادق (ع) فصححه واستحسنه ، وقال ـ عليه السلام ـ ، « ليس لهؤلاء مثله ». وعرض يونس بن عبد الرحمان كتابه على الامام العسكري (ع). وعرض عبد اللّه بن سعيد بن حنان الكناني كتابه الذي رواه عن آبائه في ( الديات ) على الامام الرضا (ع).
    قال الشيخ محمد بن الحسن الحر بعد أن حكى ذلك : « وقد صرح المحقق فيما تقدم أن كتاب يونس بن عبد الرحمان ، وكتاب الفضل بن
ورأيت دين الاعتزال وإنني أهوى لأجلك كل من يتشيع
صريح في بقائه على اعتزاله ولسنا بصدد مناقشة الاستاذ حول ما سماه مغالاة واسرافاً. الثالث حين شرح ( نهج البلاغة ) ، وكان مذهبه الاعتزال الجاحظي. ( مقدمة شرح نهج البلاغة ص 14 ـ 15 ).
وقد اُتهم الاستاذ محمود أبو رية بالتشيع أيضاً ، لأنه كشف الحال عن أبي هريرة في كتابيه ( أضواء على السنة المحمدية ، وشيخ المضيرة ) ، أنظر كتابه الثاني ص 13.


(142)
شاذان كانا عنده ونقل منهما الأحاديث. وقد ذكر المحدثون وعلماء الرجال أنهما عرضا على الأئمة (ع) ». وقال : « مع أن كثيراً من الكتب التي ألفها ثقات الامامية في زمان الأئمة (ع) موجودة الآن موافقة لما ألفوه في زمان الغيبة » (1).
    وحّدث يونس بن عبد الرحمان فقال : « وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ـ عليه السلام ـ ووجدت أصحاب أبي عبد اللّه ـ عليه السلام ـ متوافرين فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن ـ عليه السلام ـ فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام الخ » (2).
    وروى اسماعيل بن الفضل الهاشمي في الصحيح قال : « سألت أبا عبد اللّه (ع) : عن المتعة فقال (ع) : الق عبد الملك بن جريح فسله عنها فان عنده منها علماً. فلقيته فأملى عليّ شيئاً كثيراً في استحلالها ... فأتيت بالكتاب أبا عبد اللّه (ع) فقال : صدق. وأقر به » (3).
    إذن فلم يبق في تلك الكتب المعروضة على الأئمة الأطهار (ع) أي حديث موضوع قد دس فيها. وتلك الكتب ونظائرها هي التي اعتمد عليها أصحاب المجاميع في نقل الأحاديث.
    وثانياً : أن قدماء أصحابنا ـ رضوان اللّه عليهم ـ قد تنبّهوا لذلك وبذلوا أقصى جهودهم حول تمييز الأخبار المعتبرة عن غيرها ، وانتقاء ما دلت القرائن على أنه ليس بموضوع ولا مدسوس ، حتى أن الكليني لم يتم له جمع أحاديث كتابه ( الكافي ) إلا في مدة عشرين سنة (4). ولذا شهد
1 ـ الوسائل ج 3 ـ الفائدة 7 ـ 9.
2 ـ رجال الكشي ص 146.
3 ـ الوسائل ج 5 ب‍‌ 11 ـ صفات القاضي.
4 ـ رجال النجاشي ص 266.


(143)
هو والصدوق بصحة ما في كتابيهما من الأخبار ، وقال الشيخ يوسف البحراني : « إن هذه الأحاديث التي بأيدينا إنما وصلت الينا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها وذابت الأبدان في تنقيحها وقطعوا في تحصليها من معادنها البلدان الخ » (1).
    وثالثاً : أن أصول ثقات الرواة وكتبهم التي أخذ أصحاب المجاميع منها الأخبار كانت مشهورة بين الامامية. ونقل الشيخ الطوسي إجماعهم « على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ، ولا يتدافعونه حتى أن واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا ؟ فاذا أحالهم على كتاب معروف ، أو أصل مشهور وكان راويه ثقة ، لا ينكر حديثه ، سكتوا وسلموا الأمر في ذلك ، وقبلوا قوله الخ » (2). ومقتضاه أن تلك الأصول والكتب المشهورة خالية من الأخبار الموضوعة ، وإلا كان للنقاش فيها مجال واسع.
    ولذا قال السيد التفرشي : « إعلم أن الشيخ الطوسي ـ قدس اللّه سره ـ صرح في آخر ( التهذيب والاستبصار ) بأن هذه الأحاديث التي نقلناها من هذه الجماعة أخذت من كتبهم وأصولهم. والظاهر أن هذه الكتب والأصول كانت عنده معروفة ( كالكافي والتهذيب ) وغيرهما عندنا في زماننا هذا. كما صرح به الشيخ محمد بن علي بن بابويه ـ رضي اللّه عنه ـ في أول كتاب ( من لا يحضره الفقيه ). فعلى هذا لو قال قائل : بصحة هذه الأحاديث كلها ، وإن كان الطريق إلى هذه الكتب والأصول ضعيفاً ، إذا كان مصنفو هذه الكتب والأصول وما فوقها من الرجال الى المعصوم (ع) ثقاتاً لم يكن مجازفاً » (3).
1 ـ الحدائق ج 1 ص 8.
2 ـ عدة الأصول ص 51.
3 ـ جامع الرواة ج 2 ص 548.


(144)
    ورابعاً : أن بعض تلك الكتب والأصول التي أخذ منها الأحاديث كانت أجوبة مسائلها بخط المعصوم (ع). كما وأن بعضها كان بخط الثقة من أصحاب المعصوم (ع) ، فلا يحتمل عروض دس فيها من قبل واضعي الحديث. قال الشيخ محمد بن الحسن الحر : « وقد صرح الصدوق في مواضع أن كتاب محمد بن الحسن الصفار المشتمل على مسائله ، وجوابات العسكري (ع) كان عنده بخط المعصوم (ع). وكذلك كتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي المعروض على الصادق (ع) وغير ذلك » (1). وقال الصدوق عند روايته لبعض مكاتبات الصفار الى العسكري (ع) : « هذا التوقيع في جملة توقيعاته (ع) الى محمد بن الحسن الصفار عندي بخطه في صحيفة » (2).
    وخامساً : أن غالب الأحاديث التي دوّنها القدماء في مجاميعهم إنما تلقّوها عن مشايخهم الثقات بطريق السماع حتى تتصل بالمعصوم (ع). ومثل هذا الطريق لا يعرض له دس أو تزوير.
    وخلاصة البحث أن وجود الأخبار الموضوعة في عصر المعصومين (ع) لا يمنع من العمل بالأخبار التي ضمتها مجاميع قدماء أصحابنا المعتبرة ، مثل كتبنا الأربعة ونظائرها ، فانها خالية من ذلك.

    مع الدكتور فياض
    وقد ظهر بهذا وهن ما كتبه الدكتور عبد اللّه فياض تحت عنوان ( كتب الحديث عند الشيعة الامامية ) ، حيث قارن بينها وبين كتب الحديث عند أهل السنة. فقال : « ومن الجدير بالذكر أنه لم تجرِ عملية تهذيب وتشذيب
1 ـ الوسائل ج 3 ـ الفائدة 9.
2 ـ الوسائل 2 ب‍‌ 28 ـ غسل الميت.


(145)
شاملة لكتب الحديث عند الشيعة الامامية على غرار العملية التي أجراها المحدثون عند أهل السنة ، والتي تمخض عنها ظهور الصحاح الستة المعروفة. ونتج عن فقدان عملية التهذيب لكتب الحديث المشهورة عند الشيعة الامامية مهمتان هما أولا : بقاء الأحاديث الضعيفة بجانب الأحاديث المعتبرة في بعض المجموعات الحديثية عندهم ... وأعتقد أن إهمال العلماء الذين جاؤوا بعد ابن ادريس الحلي لآرائه ، ورميه بالتخليط ، يمكن أن يعد من أهم الأسباب التي أدت الى بقاء مجموعات الحديث عند الشيعة الامامية دون تهذيب وتشذيب حتى يومنا هذا. ثانياً : تسرّب أحاديث الغلاة ... إلى بعض كتب الحديث عند الشيعة ، وقد تنّبه أئمة الشيعة الامامية ، وعلماؤهم الى الأخطار المذكورة وحاولوا خنقها في مهدها ، ولكن نجاحهم لم يكن كاملاً نتيجة لعدم قيام عملية تهذيب شاملة لكتب الحديث » (1). وبحثنا معه.
    أولاً : في كتب الحديث عند أهل السنة ، فان أصحها لديهم ( صحيح البخاري ) الذي لم يروِ فيه عن الامام الصادق (ع) ، وإنما روى عن كثير ممن اشتهر بالفسق والكذب ، مثل عمران بن حطان الخارجي ، وحريز بن عثمان الرحبي ، وسمرة بن جندب سفاك الدماء ، وعكرمة الخارجي (2)
1 ـ الاجازات العلمية عند المسلمين ص 98 ، وما بعدها.
2 ـ اشتهر عكرمة هذا بوضع الحديث ، والكذب فيه. ولذا كذبه مجاهد ، وابن سيرين ، كما في ( طبقات القراء ) للجزري ج 1 ص 515. وأعرض عنه مالك بن أنس ، ومسلم ، كما في ( تذكرة الحفّاظ ) للذهبي ج 1 ص 96. وقال مالك : « لا أرى لأحد أن يقبل حديثه ». كما في ( تهذيب التهذيب ) لابن حجر ج 7 ص 269. وللمزيد من ذلك راجع كتابنا ( آية التطهير ) ص 55 ـ 59 ـ 126 ـ 127.


(146)
ولذا قال السيد محمد بن عقيل في ( نصائحه ) : « وهنا يتحير العاقل ، ولا يدري بماذا يعتذر عن البخاري الخ » (1).
    وجاء في كتاب ( أضواء على السنّة المحمدية ) (2) للاستاذ محمود أبي ريّة : أن البخاري كان يروي بالمعنى ، وأن الخطيب البغدادي في ( تاريخ بغداد ج 2 ص 11 ) روى عنه أنه قال يوماً : « رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر. فقيل له : يا أبا عبد اللّه بكماله. فسكت ».
    وجاء فيه أيضاً : أن البخاري مات قبل أن يتم تبييض كتابه ، وأنه استُنسخ من الأصل الذي عند صاحبه ، وفيه أشياء لم تتم ، وأشياء مبيّضة منها تراجم لم يُثبت بعدها شيئاً ، ومنها أحاديث لم يترجم لها ، فأضيف بعض ذلك الى بعض. وقد انتقده الحفّاظ في عشرة ومائة حديث ، منها 32 حديثاً وافقه مسلم على تخريجها ، و 78 حديثاً انفرد هو بتخريجها. وكذلك ضعّف الحفاظ من رجال البخاري نحو 80 رجلاً ، ومن رجال مسلم 160 رجلاً. والأحاديث التي انتقدت عليهما بلغت مئتي حديث وعشرة.
    وقد أورد الشيخان البخاري ، ومسلم في صحيحيهما كثيراً من الأحاديث التي يمتنع صدورها عن النبي (ص) ذكر المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين منها أربعين حديثاً لراوي واحد ، وهو أبو هريرة الدوسي في كتابه الذي عنونه به ، وجعلها نموذجاً لأحاديثه. قائلاً : « الأذواق الفنية لا تسيغ كثيراً من أساليب أبي هريرة في حديثه ، والمقاييس العلمية عقلية ونقلية لا تقرّها. وحسبك عنواناً لهذه الحقيقة أربعون حديثاً صحت عنه الخ ». ثم ساق الأحاديث بتعاليقها. وعد فصلاً لانكار السلف
1 ـ النصائح الكافية ص 93.
2 ـ انظر ص 274 ـ 275.


(147)
لأحاديثه (1).
    وبحث الاستاذ محمود أبو ريّة عن أبي هريرة ، وأحاديثه في كتابه ( أضواء على السنّة المحمدية ). ثم توسّع في البحث ، ونشره في كتاب بعنوان ( شيخ المضيرة ). وقد أثبت فيه أن أبا هريرة كان وضاعاً يدلّس في حديثه ، ويستقي من كعب الأحبار ، الذي بث اسرائيلياته من طريقه وقد كّذبه الصحابة ، وردّوا عليه في حياته باعترافه. وانقطع الى بني أمية فوضع أحاديث في فضل معاوية ، وأخرى على الامام علي (ع). كما وأن له أحاديث لا يمكن قبولها ، أخرجها عنه البخاري ، ومسلم في صحيحيهما وأنه لم يصحب النبي (ص) إلا سنة ، وتسعة أشهر ، ثم انتقل الى البحرين لا كما اشتهر من صحبته ثلاث ، أو أربع سنين. وعلى كلا التقديرين فقد روى عن النبي (ص) عدداً ضخماً من الأحاديث بلغت 5374 حديثاً ، أخرج البخاري منها 446 حديثاً.
    ولذا كبر على الاستاذ أبي زهرة وجماعته أن يمس أبو هريرة ، لأن كشف حاله يوجب خدش أصول حديثهم التي اعتمدوا عليها ، يقول أبو زهرة : « ... كأولئك الذين لا يحلو لهم إلا أن يتهجموا على الصحابي أبي هريرة ، ليهدموا البخاري ، ومسلماً ، وغيرهما من كتب السنة الصحاح » (2).
    وعليه كيف تكون رواية البخاري ومسلم عن أمثال أولئك الرواة ، وأمثال تلك الأحاديث عملية تهذيب وتشذيب ، كما يقوله الدكتور ؟ ، ليكون « كتابهما أصح الكتب بعد كتاب اللّه العزيز » ، كما ينقله الدكتور عن ابن الصلاح بدون تعقيب.
    وإن غاية ما يقال في اعتبار صحاح أهل السنة : إن مؤلفيها قد اجتهدوا
1 ـ ابو هريرة ص 54 ـ 182.
2 ـ الامام الصادق ص 460.


(148)
في صحة أخبارها ، فالبخاري اجتهد في صحة الأحاديث التي أثبتها في صحيحه ، وهكذا كل مؤلف اجتهد في صحة أحاديث كتابه ، وقلّدهم خلفهم في ذلك ، كتقليدهم في فروع الفقه مذاهب أربعة على وجه الحصر فأين عملية التهذيب الشاملة « التي أجراها المحدثون عند أهل السنة ، والتي تمخض عنها ظهور الصحاح الستة المعروفة » ؟.
    نعم هناك جماعة أجروا عملية تهذيب لأحاديث أهل السنة بعد ظهور الصحاح الستة ، لا قبلها لتكون وليدة تلك العملية. منهم السيوطي في كتابه ( اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ). ومنهم الحسن بن محمد الصغاني في كتابه ( الدرر الملتقطة ). ومنهم أبو الفرج بن الجوزي في كتابه الذي ألفّه لهذا الغرض. ومنهم محمد طاهر بن علي الهندي الفتني في كتابه ( تذكرة الموضوعات ). وقد جمعه من كتب ألّفت في هذا الموضوع ، أشار اليها بقوله : « ومما بعثني اليه أنه اشتهر في البلدان ( موضوعات الصغاني ) وغيره ، وظني أن إمامهم كتاب ابن الجوزي ونحوه ... وأنا أورد بعض ما وقع في ( مختصر ) الشيخ محمد بن يعقوب الفيروزابادي ... وفي ( المقاصد الحسنة ) للشيخ العلامة أبي الخير شمس الدين السخاوي ، وفي كتاب ( اللآلئ ) للشيخ جلال الدين السيوطي ، وفي كتاب ( الذيل ) له ، وفي كتاب ( الوجيز ) له ، و ( موضوعات الصغاني ) ، و ( موضوعات المصابيح ) التي جمعها الشيخ سراح الدين عمر بن علي القزويني ، و ( مؤلّف ) الشيخ علي بن ابراهيم العطار ، وغير ذلك الخ » (1). وسبق الاشارة أيضاً الى ذلك (2).
    وثانياً : في كتب الحديث عند الشيعة الامامية ، حيث ذكر الدكتور
1 ـ تذكرة الموضوعات ص 3 ـ 4.
2 ـ انظر ص 136.


(149)
الكتب الثمانية المشهورة منها (1) ، ونظر اليها على مستوى واحد ، فحكم بأن أحاديثها خام لم يجر عليها عمليات تهذيب وتشذيب الى يومنا هذا.
    ويوهنه الأدلة السابقة التي ثبت بها أن ثقات رواة الامامية ، والقدماء من مؤلفي كتبهم الأربعة ، ونظائرها من الكتب المعتبرة قد أجروا أكبر عملية تهذيب للأحاديث ، حتى لم يبق مجال للقول بتسرّب الأحاديث المدسوسة الى تلك الكتب. كما أنهم صرفوا العمر في سبيل انتقاء الأحاديث الصحيحة بنظرهم ، وقد استغرقت جهود الشيخ الكليني في ذلك زمناً يناهز ربع القرن حتى انتج كتابه ( الكافي ) ، وشهد بصحة جميع أحاديثه. كما شهد الصدوق بصحة أحاديث كتابه ( الفقيه ) ، وأنها الحجة فيما بينه وبين اللّه تعالى.
    ولم أدر كيف لا تعتبر تلك الجهود عملية تهذيب لتكون كتبنا الأربعة ونظائرها ناجمة عنها ؟ ، فهي تفوق ما أجراه المحدثون من أهل السنة عند جمع أحاديث صحاحهم الستة. مع الغض عما سبق من النقاش في بعض رواتها ، وأحاديثها.
    وإنا وإن لم نلتزم بصحة جميع أحاديث كتاب ما ، بل ننظر إليها من طريق مدارك حجية خبر الواحد ، وقواعد الجرح والتعديل ، لكنا نقول : إن مؤلفي تلك الكتب الأربعة ، ونظائرهم من قدامى المؤلفين لم يوردوا في كتبهم كل حديث رأوه أو سمعوه ، وإنما اجتهدوا ، وأجهدوا أنفسهم في انتقاء ما كان معتبراً لديهم على ضوء قرائن التصحيح ، وأصول التزكية ، ولذا اهتموا بطرق الأحاديث ، والبحث عنها. ولا نعرف شيئاً وراء ذلك يسمى تهذيباً ، وتشذيباً. فالحكم بخلو جميع تلك الكتب من عملية
1 ـ وهي الكافي 1 ، الفقيه 2 ، التهذيب 3 ، الاستبصار 4 ، الوافي 5 الوسائل 6 ، مستدرك الوسائل 7 ، بحار الأنوار 8.

(150)
التهذيب ، وجريانها في جميع الصحاح الستة عند أهل السنة ، فيه حيف ظاهر.
    وقد صرح الدكتور بأن الناتج عن فقدان عملية التهذيب بقاء الأحاديث الضعيفة بجانب الأحاديث المعتبرة في بعض المجموعات الحديثية عند الشيعة ومثّل لذلك ب‍‌ ( الكافي والفقيه والبحار ). ولا ندري ما يعني بالبعض الآخر الذي لم يبق فيه حديث ضعيف من الكتب الثمانية.
    وقد أجمل الدكتور في قوله : « تسرب أحاديث الغلاة ... الى بعض كتب الحديث عند الشيعة » ، حيث يصلح لارادة كل كتاب من تلك الثمانية ، وإن قال عن أحاديث ( البحار ) عند ذكره : « وربما كان بعضها موضوعاً ».
    وحيث كان عملنا بالأخبار على ضوء تلك المدارك والقواعد فلا يمكن إعطاء ضابطة كلية تميز الأحاديث المعتبرة عن غيرها ، لاختلاف مباني الفقهاء في العمل بالأخبار ، كاختلافهم في الجرح والتعديل ، ولذا اضطروا الى تنقيح تلك المباني ، والاجتهاد فيها. وعليه فتكثر الأحاديث الضعيفة على مبنى وتقل على مبنى آخر ، وقد تنعدم بالنسبة للكتب التي ادعي احتفاف أخبارها بالقرائن المفيدة للوثوق بصدورها أجمع عن المعصوم (ع).
    وهذا الاختلاف في شأن الجرح والتعديل ، وقواعد العمل بالحديث ثابت لدى أهل السنة أيضاً.
    يبقى البحث في دعوى أن اللازم من تلك الأمور السابقة وجوب العمل بجميع الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة ، ونظائرها من كتب القدماء المعتبرة.
    والجواب عنها أن الثابت بتلك الأمور سلامة الأخبار الواردة في تلك الكتب من الوضع والدس ، بمعنى أن كل راوي ورد في أسنادها قد حدّث
قواعد الحديث ::: فهرس