قواعد الحديث ::: 211 ـ 225
(211)
قد اختصا به دون استاذهما ، أستاذ الفن ، كما اعتمد عليه الشيخ التستري في نقله. بل قال ابن داود في كتاب ( رجاله ) (1) عند ذكر استاذه ابن طاووس « ... ربّاني وعلمني وأحسن إليّ ، وأكثر فوائد هذا الكتاب من إشاراته وتحقيقاته ، جزاه اللّه عني أفضل جزاء المحسنين الخ ».
    الثاني أن الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني نقل في كتابه ( التحرير الطاووسي ) تصريح ابن طاووس بعدم وجود طريق الى كتاب ابن الغضائري ولم يعقبه بشيء ولم يذكر له طريقاً اليه ، فلو كان للعلامة وابن داود طريق لما خفي على مثل هذا الشيخ المتأخر عنهما ، والمتضلع في الأحاديث وأسنادها وأحوال رجالها ، كما يشهد له كتابه ( منتقى الجمان ).
    الثالث أن ابن داود ذكر في مقدمة ( رجاله ) طريقه الى الشيخ الطوسي والنجاشي والكشي ، كما ذكر طريقه الى الصدوق والمفيد وسلار والسيد المرتضى وأبي الصلاح ، وكلها تبتدئ باستاذه المحقق الحلي ، ولم يذكر له طريقاً الى ابن الغضائري ، وهذا الاهمال في قوة التصريح بعدمه ولو كان للعلامة طريق لما خفي عليه عادة ، لأنهما عاشا في بلد واحد مصطحبين ، وتلميذين لابن طاووس ، والمحقق الحلي.
    فيكون نقلهما عن ( رجال ابن الغضائري ) اعتماداً على شيخهما ابن طاووس ، واجتهاداً منهما في صحة نسبته اليه ، كما اعتمد جماعة على ( كتاب الفقه ) المنسوب الى الإمام الرضا (ع) حين وثقوا بصحة تلك النسبة وإن لم يكن لهم طريق متصل يثبت ذلك ، ولم يعتمد عليه آخرون لعدم وثوقهم بصحتها.
    وحيث لم يثبت صحة نسبة هذا الكتاب الى ابن الغضائري فلا يصح الاعتماد على ما ورد فيه. بالاضافة لما سبق من جرحه لأعاظم الثقات مستنداً
1 ـ أنظر ص 46.

(212)
الى أمور لا تصلح للجرح.
    ومن هنا يحتمل وضع هذا الكتاب من بعض الكذابين منسوباً الى ابن الغضائري لغرض جرح ثقات رواتنا ، وإسقاط أحاديثهم عن الاعتبار ، فرآه ابن طاووس وأدرجه في كتابه ، ونبّه على عدم الطريق اليه ليخرج من عهدته ، وتبعه تلميذاه فيه.
    وليس هذا بغريب بعدما أكثر الوضّاعون من وضع الأحاديث ونسبتها الى النبي (ص) وأهل بيته ، كما سبق (1).
    ولذا قال شيخنا الطهراني في ( الذريعة ) (2) : « ... إن نسبة ( كتاب الضعفاء ) هذا اليه ( أي ابن الغضائري ) مما لم نجد له أصلاً حتى أن ناشره قد تبرأ من عهدته بصحته ، فيحق لنا أن ننزه ساحة ابن الغضائري عن الاقدام في تأليف هذا الكتاب والاقتحام في هتك هؤلاء المشاهير بالعفاف والتقوى والصلاح الخ ». وقال : « ... فالظاهر أن المؤلف لهذا الكتاب كان من المعاندين لكبراء الشيعة ، وكان يريد الوقيعة بهم بكل حيلة ووجه ، فألف هذا الكتاب ، وأدرج فيه بعض مقالات ابن الغضائري تمويهاً ليقبل عنه جميع ما أراد إثباته من الوقائع الخ ».
    وعلى فرض عدم كونه موضوعاً يقوى احتمال مّد يد أثيمة اليه حرفت فيه ودست تضعيف أولئك الثقات في الفترة التي فقد فيها الكتاب أي منذ وفاة ابن الغضائري حتى عصر ابن طاووس. وليس هذا بعيداً بعدما كان المغيرة بن سعيد يدس في الكتب من الأحاديث ما يريد.
    « يحرّفون الكلم عن مواضعه » (3) « ليطفئوا نور اللّه بأفواههم واللّه متم نوره ولو كره الكافرون » (4).
1 ـ أنظر ص 135 ، وما بعدها.
2 ـ أنظر ج 4 ص 290 ، وج 10 ص 89.
3 ـ النساء / 45.
4 ـ الصف / 8.


(213)

(214)


(215)
    الاضمار في اللغة الاخفاء ، فيقال : أضمر الضمير في نفسه. إذا أخفاه وأضمرت الأرض الرجل. إذا غيّبته (1). ولذا سمي الضمير من الأسماء ضميراً لخفائه ، مقابل الاسم الظاهر.
    فالأحاديث المضمرة هي التي أضمر فيها المسؤول وأخفي فعبّر عنه ، إما بالضمير البارز مثل صحيح زرارة « قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء الخ « (2) ، وحديث سماعة « سألته عن الرجل به الجرح والقرح الخ » (3). وإما بالضمير المستتر مثل حديث سماعة قال : « قال إذا سها الرجل في الركعتين الأوّلتين الخ » (4). ولأجله سميت بالمضمرة. وهي مجموعة كبيرة من الأحاديث أثبتها مشايخنا الأقدمون في مجاميعهم ، وليست كالموقوفة أحاديث معدودة.
    والوقف في اللغة السكون ، فيقال : وقف القارئ على الكلمة. إذا نطق بها مسكّنة الآخر قاطعاً لها عما بعدها (5). فتكون الكلمة موقوفاً عليها.
    فالأحاديث الموقوفة هي المروية عن مصاحب المعصوم (ع) مع الوقوف عليه وعدم وصل السند الى المعصوم (ع) ، ولذا سمي الراوي موقوفاً عليه ، كما سمي حديثه موقوفاً.
    وذكر الشهيد الثاني : أن الموقوف قسمان مطلق ومقيد ، فالمطلق ما ذكرناه ، والمقيد ما لو كان الموقوف عليه غير مصاحب للمعصوم (ع)
1 ـ أقرب الموارد ، مادة ضمر.
2 ـ الوسائل ح 1 ب‍‌ 1 ـ نواقض الوضوء.
3 ـ الوسائل ح 2 ب‍‌ 22 ـ النجاسات.
4 ـ الوسائل ح 17 ب‍‌ 1 ـ الخلل في الصلاة.
5 ـ أقرب الموارد ، مادة وقف.


(216)
فان كان من التابعين سمي حديثه مقطوعاً أيضاً (1).
    ويخص بحثنا الموقوف المطلق ، لأنه الذي يمكن صدور الحكم فيه عن المعصوم (ع) بلا واسطة بينه وبين الراوي الموقوف عليه مثل حديث أبي بصير « لا تعاد الصلاة من دم لم يبصره إلا دم الحيض » (2). وحديث عمر بن أذينة الوارد في المرأة تموت وولدها في بطنها يتحرك ، قال : « يخرج الولد ويخاط بطنها » (3). وصحيح زرارة ، قال : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر الخ » (4).
    فالفرق بين الموقوف والمضمر ، أن الحكم في الموقوف يقف عند الراوي ، فلا يتعداه ، حيث لم يسنده الى غيره لا بالتصريح ولا بالاضمار فنحتمل أنه رأي رآه بمقتضى اجتهاده ، كما نحتمل أنه نقله عن المعصوم (ع) أو غيره من الفقهاء. أما الحكم في المضمر فلا نحتمل استناده إلى رأي الراوي حيث صرح فيه باسناده الى غيره ، وإن لم نعلم أن ذلك الغير هو المعصوم ـ عليه السلام ـ. فالاشكال في المضمر أهون منه في الموقوف.
1 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 45 ـ 47.
2 ـ نقل هذا الحديث الشيخ يوسف البحراني موقوفاً على أبي بصير عن موضع من كتاب ( التهذيب ) ولذا ناقش فيه جماعة ، لكن نقله عن موضع آخر منه وعن ( الكافي ) مسنداً ( الحدائق ج 5 ص 325 ـ 326 ). وكذا الشيخ محمد بن الحسن الحر نقله مسنداً عن الكليني والشيخ الطوسي معاً باختلاف يسير في ألفاظه ( الوسائل ج 1 ب‍‌ 21 ـ النجاسات ).
3 ـ الوسائل ج 7 ب‍‌ 45 ـ الاحتضار.
4 ـ نقله الشيخ محمد بن الحسن الحر عن الكليني موقوفاً على زرارة ونقله عن الشيخ الطوسي مسنداً عن أحد الباقرين (ع) ، كما نقله عن ابن ادريس مسنداً عن الامام الباقر (ع). ( الوسائل ج 1 ب‍‌ 42 ـ الجنابة ).


(217)
    وحيث لا تثبت حجية الحديث إلا بعد إحراز صدور ما حكاه عن المعصوم (ع) ولو تعبداً لوثاقة الراوي فلا بد من النظر في هذين القسمين من الأحاديث في مبحثين.

    الأحاديث المضمرة
    أحدهما في الأحاديث المضمرة. قد اختلف الفقهاء فيها على أقوال ثلاثة.
    الأول : عدم حجيتها مطلقاً ، أي سواء كان الراوي المضمر من وجوه الراواة وفقهائهم كزرارة ، أو من غيرهم من الثقات ، لاحتمال عود الضمير فيها الى غير المعصوم (ع) ، وهو يكفي في عدم الحجية.
    نسب الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني هذا القول الى جمع من الأصحاب (1) واختاره الشهيدان حيث خدش الأول منهما في مضمر محمد بن مسلم « سألته عن الرجل لا يدري صلى ركعتين أم أربعاً. قال : يعيد الصلاة » (2). بأنه مجهول المسؤل. وعقّبه الثاني بقوله : « فيحتمل كونه غير إمام » (3) مع أن محمد بن مسلم من فقهاء الرواة. كما اختاره الشيخ محمد حسن في ( جواهره ) (4) ، حيث خدش في صحيح محمد بن اسماعيل بن بزيع « سأله رجل عن رجل مات وترك أخوين الخ » (5) بأنه مضمر في
1 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 35.
2 ـ الوسائل ح 7 ب‍‌ 11 ـ الخلل في الصلاة.
3 ـ شرح اللمعة ج 1 ص 141.
4 ـ الجواهر ـ كتاب النكاح ـ ولاية الوصي.
5 ـ الوسائل ح 1 ب‍‌ 8 ـ أولياء العقد.


(218)
( الكافي ، والتهذيب ) فلا يصلح للمعارضة.
    الثاني : حجيتها مطلقاً : اختاره الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني في كتاب ( المعالم ) عند البحث عن حسنة محمد بن مسلم « قلت له الدم يكون في الثوب عليَّ وأنا في الصلاة » (1) ، حيث أورد عليها العلامة في ( المختلف ) : بأن الراوي لم يسند الحكم فيها الى الامام (ع) وإن كانت عدالته تقتضي الإخبار عنه. فأجابه في ( المعالم ) : بأن « ... الممارسة تنبه على أن المقتضي لنحو هذا الاضمار في الأخبار ارتباط بعضها ببعض في كتب روايتها عن الأئمة ـ عليهم السلام ـ ، فكان يتفق وقوع أخبار متعددة في أحكام مختلفة مروية عن إمام واحد ، ولا فصل بينها يوجب إعادة ذكر الامام ـ عليه السلام ـ بالاسم الظاهر ، فيقتصرون على الاشارة اليه بالمضمر. ثم أنه لمّا عرض لتلك الأخبار الاقتطاع والتحويل الى كتاب آخر تطرق هذا اللبس ، ومنشأه غفلة المقتطع لها ، وإلا فقد كان المناسب رعاية حال المتأخرين ، لأنهم لا عهد لهم بما في الأصول الخ ».
    وتبعه الشيخ يوسف البحراني ، حيث صّدر كلامه هذا بقوله : « وللّه در المحقق الشيخ حسن في ( المعالم ) حيث رد ذلك فقال الخ » (2).
    وتبعهما الشيخ المامقاني ، فانه بعد أن خدش في حجية المضمر صريحاً « لاحتمال أن لايكون المراد بالضمير هو المعصوم (ع) » قال بحجية مضمرات مطلق الموثقين من أصحابنا مستدلاً عليه بقوله : « لأن ظاهر حال أصحاب الأئمة (ع) أنهم لا يسألون إلا منهم ، ولا ينقلون حكماً شرعياً يعمل به العباد إلا عنهم الخ » (3).
    لكن ظاهر كلام الشيخ حسن في ( منتقى الجمان ) (4) ينافي الحجية
1 ـ الوسائل ح 6 ب‍‌ 20 ـ النجاسات.
2 ـ الحدائق ج 5 ص 311 ـ 312.
3 ـ مقباس الهداية ص 47.
4 ـ أنظر ج 1 ص 35.


(219)
المطلقة ، حيث قال : « يتفق في بعض الأحاديث عدم التصريح باسم الامام الذي يروى عنه الحديث ، بل يشار اليه بالضمير ، وظن جمع من الأصحاب أن مثله قطع ينافي الصحة ، وليس ذلك على إطلاقه بصحيح ، إذ القرائن في أكثر تلك المواضع تشهد بعود الضمير الى المعصوم (ع) بنحو من التوجيه الذي ذكرناه الخ ». فاعترف بمنافاة الاضمار للصحة في بعض المواضع.
    الثالث : التفصيل بين كون الراوي المضمر من أجلّة الرواة وفقهائهم فيقبل مضمره ، وبين غيره فلا يقبل. نسبه الشيخ المامقاني الى بعض المحققين (1) ، ونسبه في ( تعليقة الروضة ) الى الأكثر قائلاً : « فان كان الراوي فيها من الأجلة والاعيان مثل زرارة ومحمد بن مسلم فالأظهر عند الأكثر حجيتها ، لأن الظاهر أن مثلهما لا يسأل إلا من المعصوم (ع) ، وإلا فلا الخ » (2).
    وهو ظاهر كلام المحقق الخراساني ، حيث قال عند البحث عن صحيح زرارة في مبحث الاستصحاب : « وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أن إضمارها لا يضر باعتبارها ، حيث كان مضمرها مثل زرارة ، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الامام عليه السلام » (3). وهو الحق.
1 ـ مقباس الهداية ص 47.
2 ـ شرح اللمعة ج 1 ص 141 ـ التعليقة.
3 ـ كفاية الأصول ج 2 ص 400.


(220)
    تحقيق البحث
    فهنا دعويان : إحداهما حجية مضمرات أجلة الرواة وفقهائهم. الثانية عدم حجية مضمرات غيرهم.
    أما الأولى فان الراوي لمّا أسند الحكم في حديثه الى غيره بالضمير لم نحتمل فيه استناده الى رأيه وإن قلنا بصحة اجتهاد أولئك الفقهاء في عصر المعصوم (ع) ، فيدور الأمر بين استناده الى المعصوم (ع) بعود الضمير اليه ، وبين استناده الى غيره من أهل الرأي والفتوى. وحيث فرضنا الراوي من الأجلة الذين لا نحتمل فيهم أن يستفتوا غير المعصوم (ع) عن أحكام الدين تعين صدور الحكم عن المعصوم (ع) فكان حجة.
    فزرارة ومحمد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمان ونظائرهم من فقهاء رواة حديث أهل البيت (ع) كانوا مرجع الشيعة في الحكم والفتوى. وقد نوّه الأئمة (ع) بفضلهم ، وأرجعوا الشيعة اليهم ، ورغبوا في أن يفتوا بينهم. فيحصل الوثوق بأنهم لا يستقون الحكم من غير المعصوم (ع).
    بل كانوا مرجع غير الشيعة من المسلمين عندما يرتج عليهم باب الحكم فلا يهتدون اليه إلا بمصباح أولئك الفقهاء الذي استمد نوره من أهل بيت الوحي (ع). ولذ لمّا اختصم رجلان الى ابن أبي ليلى في جارية اشتراها أحدهما من الآخر فلم يجد على رَكبَها شعراً فقال : « أيها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به ... فأتى محمد بن مسلم الثقفي فقال له أي شيء تروون عن أبي جعفر (ع) في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيباً ؟. فقال له محمد بن مسلم : أما هذا نصاً فلا أعرفه ، ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه (ع) عن النبي (ص) أنه قال : كل


(221)
ما كان في أصل الخلقُ فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى : حسبك. ثم رجع الى القوم فقضى لهم بالعيب » (1).
    وكانوا يناظرون فقهاء العامة وينقضون بعض فتاواهم. فروى عمر بن أذينة قضاء ابن أبي ليلى في واقعة. وقول محمد بن مسلم الثقفي له : « أما إن علي بن أبي طالب (ع) قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما قضيت فقال : وما علمك بذلك. قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي (ع) يقول : قضى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث. فقال ابن أبي ليلي : هذا عندك في كتاب. قال : نعم. قال : فأرسل وأئتني به. قال له محمد بن مسلم : على أن لا تنظر في الكتاب إلا في ذلك الحديث. قال : لك ذاك. قال : فأراه الحديث عن أبي جعفر (ع) في الكتاب ، فرد قضيته » (2).
    ولذا قال الشهيد الثاني عند ترجيح كون الراوي عبد الرحمان بن سيابة في رواية تردد راويها بينه وبين عبد اللّه بن سنان : « ويؤيده كونه سأل ابن أبي ليلى في ذلك ، ومن المستبعد جداً أن عبد اللّه بن سنان الفقيه الجليل الامامي سأل ابن أبي ليلى في ذلك ، بل الموجود في الأخبار أن ابن أبي ليلى كان يسأله ويسأل أصحابه مثل محمد بن مسلم وغيره عن كثير من المسائل » (3). وقال الشيخ يوسف البحراني عند ذكر مضمر رواه زرارة والفضيل بن يسار : « ... وإن كان إضمار مثل هذين العمدتين غير ضائر ، لأنه من المعلوم أنهما وأمثالهما لا يعتمدون على غير الامام عيه السلام » (4).
1 ـ الكافي ج 5 ص 215 ـ 216.
2 ـ الكافي ج 7 ص 34 ـ 35.
3 ـ المسالك ج 1 ـ كتاب الوصايا ـ مبحث الوصية المبهمة.
4 ـ الحدائق ج 4 ص 226.


(222)
    بل إن فقاهة أولئك الرواة ، ومعرفتهم بمزايا الأحكام وفن الحديث تمنع من نقلهم كلام غير المعصوم (ع) بأسلوبهم الذي ينقلون به الأحاديث عن المعصومين (ع) حذراً من عروض الالتباس ولو بعد حين. وسبب الاضمار أحد أمور.
    الأول : وجود القرينة المعيّنة للامام (ع) الذي صدر عنه الحكم عند نقل الراوي ، فاتكل عليها في معرفة مرجع الضمير ، حالية كانت أو مقالية.
    الثاني : التقية فلم يجرأ الراوي على التصريح بالامام (ع) خوفاً من ولاة الجور وأذنايهم ، حتى أن الرجل في بعض تلك العصور إذا حدّث عن الامام علي (ع) قال : « عن أبي زينب ». كما سبق (1).
    الثالث : تقطيع الأحاديث عند نقلها عن الأصول وتبويبها في المجاميع الواصلة الينا ، كما أشار اليه الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ، فان فقهاء الرواة كانوا يسألون الامام (ع) عن عدة فروع في مجلس واحد أو أكثر ثم يحررون الجميع في أصولهم ، وينقلونه الى غيرهم ، فيصرحون في صدر الكلام بالامام المسؤول ويعطفون عليه مضمرين ، كما في أسئلة علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع). ولما بوّب مشايخنا الأحاديث قطّعوها ، وذكروا كل قطعة في بابها فعرض الاضمار.
    وأما الدعوى الثانية ، وهي عدم حجية مضمرات باقي الرواة فمن أجل توقف الحجية على إحراز استناد الحكم الى المعصوم (ع) ولو تعبداً بنقل الثقة عنه ، وهذا لم يثبت هنا ، إذ كما يحتمل استناده اليه (ع) يحتمل استناده الى بعض فقهاء الامامية الذين أمرهم الامام (ع) بالافتاء بين الناس ، لتعذر الوصول اليه غالباً ، وأمر الشيعة بالرجوع اليهم وأخذ الحكم منهم ، ولذا نقل عنهم
1 ـ أنظر ص 131 ، وما بعدها.

(223)
كثير من التفاوى في كتب الفقه. كما يحتمل استناده الى بعض فقهاء العامة حيث كانوا قضاة حكّام الدولتين الأموية والعباسية ، فيرجع بعض الشيعة اليهم في الحكم أحياناً لاضطرار أو جهل ، واليك بعض الشواهد على ذلك.
    فروى عبد الرحمان بن سيابة فقال : « إن امرأة أوصت اليَّ ، وقالت : ثلثي يقضى به ديني وجزء منه لفلانة. فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى ، فقال : ما أرى لها شيئاً ، ما أدري ما الجزء ؟. فسألت بعد ذلك أبا عبد اللّه (ع) عنه ... فقال (ع) : كذب ابن أبي ليلى : لها عشر الثلث ، إن اللّه عز وجل أمر ابراهيم (ع) فقال : اجعل على كل جبل منهن جزءاً (1). وكانت الجبال يومئذٍ عشرة ، فالجزء هو العشر من الشيء » (2).
    وروى أبو ولاد الحنّاط قائلاً : « اكتريت بغلاً الى قصر ابن هبيرة ... فتوجهت نحو النيل ... فأخبرت صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلل منه ... فتراضينا بأبي حنيفة ، فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل ... فقال ما أرى لك حقاً ... فخرجنا من عنده ، وجعل صاحب البغل يسترجع ، فرحمته مما أفتى به أبو حنيفة فأعطيته شيئاً الخ » (3).
    وروى خالد بن بكير الطويل فقال : « دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال : يا بني اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به ... فقدمتني أم ولد أبي بعد وفاة أبي الى ابن أبي ليلى ... فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي فقلال لي ابن أبي ليلى : إن كان أبوك الخ » (4).
1 ـ البقرة / 260.
2 ـ الوسائل ح 2 ب‍‌ 54 ـ الوصايا.
3 ـ الكافي ج 5 ص 290 ـ التهذيب ج 7 ص 215.
4 ـ الوسائل ح 2 ب‍‌ 92 ـ الوصايا.


(224)
    وروى ابراهيم بن هاشم مرفوعاً فقال : « سألت امرأة أبا عبد اللّه (ع) فقالت : إني كنت أقعد في نفاسي عشرين يوماً حتى أفتوني بثمانية عشر يوماً. فقال أبو عبد اللّه (ع) : ولمَ أفتوك بثمانية عشر يوماً. فقال رجل : للحديث الذي روي عن رسول اللّه (ص) أنه قال لأسماء بنت عميس حيث نفست بمحمد بن أبي بكر الخ » (1).
    فان الظاهر أن المفتين فقهاء العامة مستندين الى ما رووه عن النبي (ص) في قصة أسماء. وعلى فرض أن المفتين غيرهم فهم غير الامام (ع) جزماً.
    وروى خلف بن حماد فقال : « تزوج بعض أصحابنا جارية معصراً لم تطمث (2) فلما افتضها سال الدم فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام ... فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا : هذا شيء قد أشكل الخ » (3).
    ولا يدل قوله « فسألوا عن ذلك فقهاءهم » على أن السائلين كانوا من العامة ، إذ لا مانع من إضافة الفقهاء الى العامة لا إلى السائلين قبال فقهائنا وقد تعارف هذا التعبير. وعلى فرض كون السائلين منهم فالزوج من الشيعة.
    وبعد هذا كيف يثق الفقيه باستناد الحكم في الحديث المضمر الى المعصوم (ع). وتقطيع الأحاديث عند تبويبها لا يثبت ذلك ، وإنما يذكر علة للاضمار بعد إحراز استناده اليه (ع) من طريق آخر مثل كون الراوي من الفقهاء الذين لا نحتمل فيهم أن يسألوا غير المعصوم (ع).
1 ـ الوسائل ح 7 ب‍‌ 3 ـ النفاس.
2 ـ الجارية المعصر زنة مكرم التي أول ما أدركت وحاضت ، أو أشرفت على الحيض ولم تحض. والطمث الدم ، وطمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. ( أنظر مجمع البحرين ، مادتي عصر ، وطمث ).
3 ـ الكافي ج 3 ص 92.


(225)
    وعليه فلا يتم استدلال الشيخ حسن في ( المعالم ) بعروض التقطيع على حجية جميع الأحاديث المضمرة. وأما قوله : « لا يليق بمن له أدنى مسكة أن يحدّث بحديث في حكم شرعي ، ويسنده إلى شخص مجهول بضمير ظاهر في الاشارة الى معلوم ». فانما يتم فيما لو أسند الراوي الحكم إلى شخص مجهول حال نقله. لكنه لم يثبت ، فإن الراوي أسنده الى معلوم إما صريحاً أو بالقرائن وقد خفي علينا فتردد بين الامام (ع) وغيره ، فاذا انتفى احتمال الغير لكون الراوي من الفقهاء والأعيان كان حجة وإلا فلا. فلم يحصل الترديد في الحكم الوارد في المضمر بين إسناده الى الامام (ع) ، أو الى شخص مجهول ليتم ما ذكره ، بل يحتمل إسناده الى غير الامام (ع) وهو معلوم حال التكلم ، وإنما خفي علينا. وكما يكون التقطيع علة للاضمار فيما لو كان المسؤول هو الامام (ع) يمكن عروض ما يوجب الاضمار لو كان المسؤول غيره.
    على أنه قد يكون هناك دواعي لإخفاء المسؤول من قِبل الراوي نفسه ، كما في التقية لو كان المسؤول هو الامام (ع) ، فالشخص الذي أسند اليه الحكم وإن كان مجهولاً للمخاطب لكنه معلوم للمتكلم.
    وعليه فلم يقم دليل يثبت حجية الأحاديث المضمرة مطلقاً. وذكر المشايخ لها في مجاميعهم لا يثبت إلا اجتهادهم في صدور أحكامها عن المعصوم (ع) وهو لا يكفي في إثبات صدورها عنه (ع).
قواعد الحديث ::: فهرس