الرفق في المنظور الاسلامي ::: 11 ـ 20
(11)
     مدخل في تعريف الرفق :
     الرفق ضد العنف والشدّة ، ويُراد به اليسر في الاَُمور والسهولة في التوصل إليها ، وأصل الرفق في اللغة هو النفع ، ومنه قولهم : أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به ، ورفيق الرجل : من ينتفع بصحبته ، ومرافق البيت : المواضع التي ينتفع بها ، ونحو ذلك (1).
     ويقال : رَفَقَ ـ به ، وله ، وعليه ـ رِفقاً ، ومَرْفِقاً : لانَ له جانبه وحَسُنَ صنيعه (2).
     والذي يعنينا من الرفق هنا ، هو ما يحمل لنا معاني اللين واللطف والسهولة واليسر ؛ لما لها من دور مهم في حياة المؤمن الرسالي ، وما يضطلع به من مهام وأدوار في حركته الواعية بين شرائح وعينات المجتمع بكل أشكالها ، وما لها من لبوس حسن جميل يدل على حسن وجمال سريرة المتلبس به ، واستقامة ذاته واعتدال تصرفاته ، إذ إن الرفق ليس مستهدفاً للغير في مهمته وتأثيراته فحسب ، بل هو يبدأ من الذات ليشمل غيرها من الاَفراد والمجتمعات ، ويوصل إليها رسالة التكافل الاجتماعي بأبهى صُوَرِه.
     وقد أكد الاِسلام العزيز على هذه السجية الفاضلة والخصلة النبيلة
1 ـ مختار الصحاح ، الرازي : 251. معجم الفروق اللغوية : 259.
2 ـ المعجم الوسيط (رفق).


(12)
ببيانات كثيرة ومتعددة الاَلفاظ ، داعياً أتباعه وحملة همومه وأهدافه إلى التحلي بها وتجسيدها في أرض الواقع العملي لتؤدي إلى الاَهداف المطلوبة والغايات المرغوبة.
     وجدير ذكره أن الذي صنعه الاِسلام على صعيد العنصر الاَخلاقي بجميع أركانه ومظاهره ؛ كالصدق والاَمانة والبرّ والاِحسان والرفق والعفو والرحمة والسلام والحب وغير ذلك ، إنّما هو على نحو التقرير والتنظيم والاِحياء والاِنماء ، لا على نحو الفرض العلوي المتعالي على الطبيعة البشرية ، ذلك لاَن العنصر الاَخلاقي عنصر فطري ثابت في الفطرة التي فطر الله عليها عباده ، ولا تبديل لخلق الله ، فمهما احتالت الاَفراد أو الشعوب في زمن من الازمان لاَجل قلب القيم وتجاهل أصالتها فإنها لا تستطيع أن تدعو بوضوح إلى اشاعة الكذب والخيانة والخسّة والدناءة ، حتّى ولو كانت تمارس ذلك بالفعل ، وليس ذلك إلاّ لاَن للمبدأ الاَخلاقي أصالة في الفطرة.


(13)
     الفصل الأول
الرفق في القرآن الكريم
     حثَّ القرآن الكريم على اعتماد الرفق خياراً مبدئياً في نهج الدعوة إلى الاِسلام ، واعتبره ركناً وأساساً مهماً يقوم عليه صرح الهدى الرسالي للفكر والعقيدة الحقّة التي دعى إليها جميع الاَنبياء والمرسلين عليهم السلام ، ولقد تعددت لغة الخطاب القرآني لتمتلىء بها كلّ الآفاق التي يمتد إليها الرفق في معانيه الواسعة وغاياته البعيدة.. وسوف نصنف هنا الآيات الواردة في الرفق بحسب مواردها ، على النحو الآتي.

     الآية الاُولى : (اللين والعفو)
     خاطب الله سبحانه نبيه الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً : ( فَبِما رَحمةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهم ولَو كُنتَ فَظَّاً غَليظَ القلب لانفضُّوا مِن حَولِكَ فاعفُ عَنهُم واستَغفِر لَهم وشَاوِرهُم في الاَمرِ فإذا عَزَمتَ فَتَوكَّل على اللهِ ) (1).
     اللين في المعاملة : الرفق :

1 ـ آل عمران 3 : 159.

(14)
     أي أنّ لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين ، لاَنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين (1).
     فلولا هذا الرفق الذي اعتمده الرسول مع من أُرسل اليهم لما تمكن من استقطاب الناس حول رسالته ، إذ إن الفضاضة والغلظة المناقضة للرفق واللين إذا ما اعتُمدت خياراً منهجياً في التبليغ والدعوة إلى الحق فإنَّ مردودها سيكون عكسياً ، لا يثمر استقطاب الناس حول ذلك الحق وإن كان أبلجاً. بل على العكس من ذلك ، سيعمل على التنفير وانفضاض الناس من ساحة ذلك القطب الهادي والمنار الواضح. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلبٍ كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنّيهم بهمّه ، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضا.
     وتعميقاً لروح الرفق واللين التي يريدها الله جل شأنه في الدعوة إلى الحق ، جاء التأكيد في نفس تلك الآية المباركة على ما يجسد حالة الرفق واللين العملي بين يدي المؤمنين ، في جملة مكارم الاَخلاق التي اهتم الاِسلام بتحقيقها على النحو الاَكمل وإشاعتها بين الناس ، فهي تأمر بالعفو لمن يُسيء والغفران لمن يخطىء ، ليتجلى الرفق ويتمظهر اللين في حركة التغيير والاصلاح على منهجية المبلغ الرسالي ( فَاعفُ عَنهم وَاستَغفِر لَهم ).

1 ـ مجمع البيان 2 : 869.

(15)
     ولمزيد من الرفق أمرت هذه الآية الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ ومن يقتدي به من باب أولى ـ أن يشاور أُولئك الذين صدر عنهم الفرار من الزحف وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع نفرٍ قلائل من أصحابه ، فقال عزَّوجل ( وَشَاوِرهُم في الاَمرِ ) وبعد ذلك يُمضي ما يراه الاَصوب في ذلك ( فَإذا عَزمتَ فَتَوكَّل على اللهِ ) والآية اذن تضرب على وتر الرفق بكلِّ أبعاده ليُنشد أنغامه القدسية في هذه الحياة ، وليصنع الاَثر الذي يريده الله تعالى في درب التكامل البشري من خلال رسالته السامية.
     ويحضى الاَمر باللين والرفق والرحمة في هذا الموضع بالذات بوقع خاص يجلّي أهميّة هذه القيم على نحو قد يُظهره موضع آخر.. إذ جاء ذلك على أثر مخالفة المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحد ، تلك المخالفة التي أدّت إلى أسوء النتائج إذ دهمهم العدو ، فلم يجدوا في أنفسهم ثباتاً ، فانقلبوا منهزمين يلوذون بالجبل ، وتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع نفرٍ يسير من أصحابه ، حتى أثخنته الجراح وكُسرت رباعيته وشُجّ وجهه ، وهو صامد يدعوهم فلم يفيئوا إليه حتى انكشف العدو ، فلمّا رجعوا لم يعنّفهم ولم يُسمعهم كلمة ملامة ولا ذكّرهم بأمره الذي خالفوه فتحمّلوا بخلافهم مسؤولية كلّ ما وقع.. « بل رحّب بهم وكأن شيئاً لم يكن ، وكلّمهم برفق ولين ، وما هذا الرفق واللين إلاّ رحمة من الله بنبيّه وعون له على رباطة الجأش.. وإذا مدح الله نبيّه بكظم الغيض والرفق بأصحابه على اساءتهم له، فبالاَولى أن يعفو الله ويصفح عن عباده المسيئين.. ثمّ بيّن سبحانه الحكمة من لين جانب نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بخطابه له : ( وَلو كُنتَ فَظَّاً غَليظَ القَلبِ لانفضُّوا مِن حَولِك ) وشمت العدوّ بك وطمع فيك ولم يتمّ أمرك وتنتشر رسالتك ..


(16)
     إنّ المقصود من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هداية الخلق إلى الحق ، وهم لا يستمعون إلاّ إلى قلب رحيم كبير كقلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي وسع الناس ، كلّ الناس ، وما ضاق بجهل جاهل أو ضعف ضعيف » (1).

     الآية الثانية : (خفض الجناح)
     ( واخفِضْ جَنَاحَكَ للمُؤمنِينَ ) (2) وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع (3).
     أي ألِن لهم جانبك وارفق بهم ، والعرب تقول : فلان خافض الجناح إذا كان وقوراً حليماً.. والمعنى : تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك (4). والتعبير عن تلك المعاني بخفض الجناح تعبير تصويري يمثّل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقّة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.
     وفي هذه الآية الكريمة تعبير آخر عن الرفق واللين واللطف واليسر ، التي يحرص القرآن المجيد على أن يتخلق بها حملته ومبلّغوا تعاليمه ، وقد خوطب بها الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو الذي يشهد له القرآن بقوله تعالى : ( وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم ) (5) وقوله سبحانه : ( لَقَد جَآءكُم رَسُولٌ
1 ـ التفسير الكاشف 2 : 188.
2 ـ الحجر 15 : 88.
3 ـ تفسير الرازي 9 : 211.
4 ـ مجمع البيان 6 : 447.
5 ـ القلم 68 : 4.


(17)
مِّن أنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيه مَا عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بالمؤمنينَ رؤُوفٌ رَّحيمٌ ) (1). وهو الذي يقول لاَصحابه « إنّ أحبكم إليّ يوم القيامة وأقربكم مجلساً أحسنكم أخلاقاً ، الموطّئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون » (2) ـ فإذا كان الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد خوطب بمثل هذا الخطاب ( واخفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤمنِين ) فمن باب أولى ان يقتدي المؤمن الرسالي بتلك الاخلاق العالية والتحلي بها ، تجسيداً لقوله تعالى : ( لَّقدْ كَانَ لَكُم في رَسُول اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ ) (3).
     وخفض الجناح في الآية المباركة وأن كان كناية عن التواضع والرفق واللين ، إلاّ أنه ينطوي على معاني أُخرى رفيعة تتدفق بالمودة والرأفة والتسامح ونظائر ذلك من مكارم الاَخلاق التي لو وجدت طريقها في نفوس المؤمنين وغرست في قلوبهم لمارسوا عملية الانفتاح على الآخرين بأتم وجه ، واقتطفوا ثمار سعيهم في إعلاء كلمة الحق ، برد الفعل المناسب من الانفتاح عليهم وقبول طرحهم.
     وفي السياق ذاته يتقدّم هذا الخطاب الجميل خطابٌ آخر ، له جَرسٌ آخر ووقع آخر ، ذلك قوله تعالى : ( فاصفَحِ الصّفحَ الجَمِيلَ ) (4). وهو العفو من غير عتاب (5) !

1 ـ التوبة 9 : 128.
2 ـ التفسير المبين : 292.
3 ـ الاحزاب 33 : 21.
4 ـ الحجر 15 : 85.
5 ـ مجمع البيان 6 : 530.


(18)
     وبعد.. فالقرآن الكريم أراد لنا عبور كل ذلك مع المؤمنين إلى بلوغ صفة التذلل لهم ( أذِلَّةٍ على المؤمِنين أعِزَّةٍ على الكَافِرينَ ) (1) ، ومن هنا يعلم أن خفض الجناح يستلزم تلك الصفة الراقية التي يستشعر المؤمن من خلالها كرامته ، وتقوى بذلك شخصيته ، ولا ريب أنّه لا يغفل المؤمن سر التذلل له ، ويدرك جيداً أنّه وليد التزام الطرف الآخر برسالته لا خوفاً ولا طمعاً ، وعندها سيندفع الطرف الآخر إلى نفس المبادرة ، فتتم المعادلة ، ويتحقق التوازن في بناء شخصية المؤمن الرسالي على أتم وجه.
     لكنّ ذلك إنّما هو وقف على المؤمنين المخلصين والطيبين المتواضعين ، فالتواضع لهؤلاء إنّما هو تواضع لله ، وعلى العكس من ذلك يكون الموقف إزاء الخونة والمفسدين والمنافقين والمتكبّرين ، فالتكبّر عليهم عبادة ، بل جهاد في سبيل الله (2).

     الآية الثالثة : (عباد الرحمن)
     ( وَعِبادُ الرَحمنِ الَّذينَ يَمشُونَ على الاَرضِ هَوناً وإذا خَاطَبهُم الجَاهِلُونَ قَالوا سَلامَاً ) (3) الرحمن ربنا سبحانه يعرّف عباده بجملة من الآيات المباركات في نهاية سورة الفرقان ، ويبتدىء ذلك بهاتين الصفتين المذكورتين في الآية المتقدمة.
     الصفة الاَولى : هي السير على الاَرض هوناً أي بسكينة ووقار ،
1 ـ المائدة 5 : 54.
2 ـ اُنظر التفسير الكاشف 4 : 490.
3 ـ الفرقان 25 : 63.


(19)
بلا استعلاء وخيلاء.
     الهون ، مصدر هان عليه الشيء يهون ، أي : خفَّ ، وهذا يعني أنّ مشيهم على الاَرض مشية مُرفِقٍ بها لا يثير غبارها ، لسهولة التعامل معها واللين في تماسها ، وخفّة الروح عليها. ومن كانت هذه صفته مع الاَرض التي يطأها فهو مع ساكنيها ـ من بني جنسه ـ أهون في تعامله وأرقّ في معاشرته وأخفّ في روحه.
     وبهذه الكلمات يرسم القرآن صورة المؤمن الحقّ ظاهرةً وباطنةً فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية وعمّا يستكن فيها من مشاعر ، والنفس السوية المطمئنة الجادّة القاصدة تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها.
     وليس معنى ( يمشون على الاَرض هوناً ) أنّهم يمشون متماوتين منكّسي الرؤوس متداعي الاَركان متهاوي البنيان ، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا مشى تكفّأ تكفّئاً وكان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها .. قال الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام : « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى تكفّأ تكفُّؤاً كأنّما ينحطُّ من صبب (1) وهي مشية أُولي العزم والهمّة والشجاعة.
     وأما الصفة الثانية : فهي ( إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) فهم لايمارون الجاهل ولا يقارعونه بالحجة تلو الحجة التي لا يستطيع هضمها وفهمها ، بل يرفقون به ويقدّرون مبلغ علمه ومستوى جهله ويرأفون بحاله
1 ـ تاريخ الطبري 2 : 221.

(20)
ولا يسمعونه ما يثقل عليه من كلمات تجرح شعوره مما هي فيه وهو أهلها ويستحقها لغروره وتبلّد ذهنه إذ وضع نفسه الوضيعة في غير موضعها ، بل راح يتعالى عليهم بمخاطبتهم. وهذا يعني : أن الجاهل يبلغ به عجبه بنفسه وعلمه بأن يرى الآخرين ـ وإن كانوا علماء ـ هم دونه في المستوى، وعند ذلك تسمح له تصوراته المغرورة هذه في تنصيب نفسه خطيباً عليهم ، له أن يتكلّم وعليهم أن يسمعوا.
     نعم ، فاذا كانت هذه حقيقة ماثلة في أغلب النفوس ، وهي كذلك ، فلماذا لا يرفق العالم بالجاهل ، والاَعلم بالمتعلم ، ويقول له : سلاماً ، في المواضع التي يتطاول فيها الجاهل ، ويترك للزمن إقناعه ، وللمراحل التي يلزم طيها حتى يبلغ الفهم ويبلغ التواضع للحقيقة التي يُراد له الوصول إلى فهمها وبلوغها ؟
     الرحمانيون :
     فمن لم يتلطف ويرأف بهذه النفوس المريضة بداء الجهل والغرور ، ولم يداوها بدواء الرفق والسماحة فليس هو بالحكيم الذي يضع الاُمور في محلها ، كما هو ليس أهلاً بأن ينسب إلى الرحمن بالعبودية ( وعِبادُ الرَحمنِ الَّذينَ يَمشُونَ على الاَرضِ هَوناً وإذا خَاطَبهُم الجَاهِلُون قَالُوا سَلاماً ) (1)
والملاحظ في هذه الآية الكريمة أنها أتت باسم وصفة الرحمن في هذا المجال ، هذا يعني أن المنسوبين إلى الله (الرحمن) بالعبودية يجب
1 ـ الفرقان 25 : 63.
الرفق في المنظور الاسلامي ::: فهرس