رياض المسائل ـ الجزء الثاني ::: 271 ـ 285
(271)
ظاهر من تقدّمهم من الأصحاب عدم الخلاف في رجحان التياسر ، وإن اختلفوا في استحبابه ، كما هو المشهور على الظاهر ، المصرّح به في عبائر هؤلاء الجماعة حدّ الاستفاضة (1) ، وغيرهم كالشهيد في الذكرى ، وبها قد اختاره (2).
    أو وجوبه ، كما هو ظاهر جماعة من القدماء ، ومنهم الشيخ في كثير من كتبه ومنها الخلاف مدعياً عليه الإجماع (3) ، وحكي أيضاً عن غيره (4). فيمكن أن يجبر بذلك ضعف سند الروايات أو قصورها.
    والبناء المتقدم وإن كان ظاهر كثير من الأصحاب ، كالفاضل في المنتهى والمحقق الثاني والشهيد الثاني وجملة ممن تبعهم (5) ، ولكن ظاهر آخرين ـ كالفاضل في المختلف والتحرير والإرشاد والقواعد والشهيد في الذكرى وغيرهما (6) ـ اطراد الحكم على كل من القول بالمبني عليه ومقابله ؛ لتصريحهم بهذا الحكم مع اختيارهم القول الثاني.
    ولعل وجهه ما ذكره في الذكرى وغيره : من أنّ القبلة هي الجهة ، ولا يخفى ما فيها من السعة (7). ومرجعه إلى ما مرّ إليه الإشارة من سهولة الأمر في‏
1 ـ الدروس : 159 ، جامع المقاصد 2 : 56 ، روض الجنان : 199 ، المدارك 3 : 130 ، المفاتيح 1 : 113.
2 ـ الذكرى : 167.
3 ـ الخلاف 1 : 297 ، النهاية : 63 ، المبسوط 1 : 78.
4 ـ كالشيخ أبي الفتوح في تفسيره 1 : 224 ، وابن حمزة في الوسيلة : 85.
5 ـ المنتهى 1 : 219 ، المحقق الثاني في جامع المقاصد 2 : 56 ، الشهيد الثاني في روض الجنان : 198 ؛ وانظر المدارك 3 : 130 ، ومفاتيح الشرائع 1 : 113.
6 ـ المختلف : 77 ، التحرير 1 : 28 ، الإرشاد 1 : 245 ، القواعد 1 : 26 ، الذكرى : 167 ؛ وانظر الشرائع 1 : 66 ، والجامع للشرائع : 63.
7 ـ الذكرى : 167.


(272)
القبلة ، ولكن فيه ما عرفته (1).
    فإذاً : العمدة هي النصوص المعمول عليها بين الطائفة ، مضافاً إلى حكاية الإجماع المتقدمة ، وإن لم يصلح للحجيّة ؛ لوهنه بندرة القول به من حيث دلالته على الوجوب ، ولم نر قائلاً به عدا الناقل ونادر. وكيف كان فهو أحوط من الترك ؛ لضعف القول به بضعف دليله عن المقاومة لما دلّ على رجحان التياسر من الإجماع المنقول والنص المعمول به.
    وأمّا ما ربما يجاب عنه : بوروده مورد التقية ؛ لكون المحاريب المشهورة المبنية في العراق في زمان خلفاء الجور ولا سيّما المسجد الأعظم كانت مبنيّة على التيامن عن القبلة ، ولم يمكنهم إظهار خطأ هؤلاء الفسقة ، فأمروا شيعتهم بالتياسر عن تلك المحاريب ، معلّلين بما عرفته من العلة ، لئلّا يشتهر منهم عليهم السلام الحكم بخطإ من مضى من هؤلاء الكفرة (2).
    فغير مفهوم للعبد ، فإن مراعاة التقية على تقدير ثبوت بناء المساجد على التيامن تقتضي أمر الشيعة بمتابعة قبلة هؤلاء الفجرة ؛ كي لا يعرفوا فيقتلوا ، لا أن يأمروا بالمخالفة لهم فيؤخذ برقابهم.
    و اعلم أنّ مقتضى الاُصول والنصوص وفتوى الأصحاب من غير خلاف معروف : وجوب تحصيل العلم بالقبلة عينا أو جهة مع الإمكان ، ولو بالأمارات المتقدمة المستندة إلى القواعد الرياضية ، بناءً على إفادتها العلم بالجهة ، كما صرّح به جماعة ، كالفاضلين في المعتبر والمنتهى على ما حكي عنهما (3) ، والشهيدين في روض الجنان والذكرى (4) ، وإن كان يظهر من بعضهم إفادتها
1 ـ راجع ص 262.
2 ـ اُنظر البحار 81 : 53.
3 ـ المعتبر 2 : 70 ، المنتهى 1 : 219.
4 ـ روض الجنان : 194 ، الذكرى : 162.


(273)
المظنة ، ولعلّها بالنسبة إلى العين ، وإلّا فالأمر بالنسبة إلى الجهة كما ذكره الجماعة.
    وإن فقد العلم جاز الاكتفاء بالظن الحاصل بأيّ نحو كان من الأمارات المفيدة له ، متحرّياً في ذلك الظن الأقوى ، بلا خلاف إلّا ما يحكى عن المبسوط ، حيث أوجب الصلاة إلى أربع جهات إذا فقد العراقي ما نصب له من العلامات (1).
    وهو غير ظاهر في المخالفة حتى في صورة حصول المظنة بجهة القبلة من غير تلك العلامة ؛ لاحتمال اختصاصه بصورة فقدها بالكلية كما هو الغالب ، ولعلّه لذا لم ينقل عنه الخلاف هنا إلّا نادر. وعلى تقدير ظهور المخالفة فهو شاذّ ، محكيّ على خلافه الإجماع من المسلمين كافّة في كثير من العبائر ، كالمعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى (2) ، وبه صرّح بعض الأجلّة ، حيث قال : وهل له الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات ؟ الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوباً على الأربع قولاً وفعلاً ، وأن فعل الأربع حينئذ بدعة ، فإن غير المشاهد للكعبة ومن بحكمه ليس إلّا مجتهدا أو مقلداً ، فلو تقدّمت الأربع على الاجتهاد لوجبت على عامة الناس وهم غيرهما أبداً ، ولا قائل به ... إلى آخر ما قال (3) ، ونعم ما قال.
    والمعتبرة به مع ذلك مستفيضة ، ففي الصحيح : « يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (4).
1 ـ المبسوط 1 : 78.
2 ـ المعتبر 2 : 70 ، المنتهى 1 : 219 ، التحرير : 28 ، التذكرة 1 : 102 ، الذكرى : 164.
3 ـ كشف اللثام 1 : 177.
4 ـ الكافي 3 : 285/7 ، التهذيب 2 : 45/146 ، الاستبصار 1 : 295/1087 ، الوسائل 4 : 307 أبواب القبلة ب 6 ح 1.


(274)
    و في الموثق : « عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم ، قال : اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك » (1).
    وقريب منهما الصحيح : في الأعمى يؤمّ القوم وهو على غير القبلة ، قال : « يعيد ولا يعيدون ، فإنّهم قد تحرّوا » (2).
    وفي آخر : الرجل يكون في قفرٍ من الأرض في يوم غيم فيصلّي لغير القبلة ، كيف يصنع ؟ قال : « إن كان في وقت فليعد صلاته ، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده » (3).
    ونحوه الأخبار الدالّة على عدم الإعادة بعد خروج الوقت في صورة التحري (4).
    نعم ربما ينافي ذلك المرسل الآتي (5) الظاهر في نفي الاجتهاد من أصله ، مضافاً إلى الأصل الجابر لضعف سنده ، مضافاً إلى الجابر الآتي ، وهو لزوم الأربع صلوات إلى الجهات الأربع من باب المقدمة لتحصيل الأمر بالاستقبال بقول مطلق. لكن في مقاومتها للأدلة المتقدمة نصا وفتوى إشكال ، والظاهر بل المقطوع به عدمها.
     ( وإذا فقد العلم بالجهة والظن ) بها مطلقا ، لغيم أو ريح أو ظلمة أو شبهها صلّى الفريضة (6) مطلقا (7) إلى أربع جهات متقاطعة على زوايا
1 ـ الكافي 3 : 284/1 ، التهذيب 2 : 46/147 ، الاستبصار 1 : 295/1089 ، الوسائل 4 : 308 أبواب القبلة ب 6 ح 2.
2 ـ الكافي 3 : 378/2 ، الوسائل 4 : 317 أبواب القبلة ب 11 ح 7.
3 ـ الكافي 3 : 285/9 ، التهذيب 2 : 47/152 ، الاستبصار 1 : 296/1091 ، الوسائل 4 : 317 أبواب القبلة ب 11 ح 6 وفي الجميع بتفاوت.
4 ـ منها : صحيحة يعقوب بن يقطين ، اُنظر الوسائل 4 : 316 أبواب القبلة ب 11 ح 2.
5 ـ في ص : 269.
6 ـ في « ح » زيادة الواحدة.
7 ـ أيّ كائنه ما كانت من الصلوات الخمس والعيدين والجنازة وغيرها. منه رحمه الله.


(275)
قوائم ، أو مطلقاً كيف اتفق ، أو بشرط التباعد بينها بحيث لا يكون بين كل واحدة وبين الاُخرى ما يعدّ قبلة واحدة لقلّة الانحراف ، على اختلاف الأقوال ، إلّا أن أشهرها بل وأصحّها الأوّل ، اقتصاراً على المتبادر من النص والفتوى.
    ( ومع الضرورة ) بخوف لصّ أو سبع أو نحوهما ( أو ضيق الوقت ) عن الصلوات الأربع ( يصلي إلى أيّ جهة شاء ) ما قدر منها (1) ولو واحدة ، كما صرّح به جماعة (2) ، أو يصلّيها خاصة ولو قدر على الزيادة ، كما هو ظاهر العبارة وكثير من عبائر الجماعة (3) ، وهو الأوفق بالأصل ، كالأول بالاحتياط اللازم المراعاة في العبادة.
    ولا خلاف نصّاً وفتوىً في جواز الاقتصار عن الأربع صلوات بالمقدور منها أو الواحدة في صورة الضرورة. وإنما اختلفوا في وجوبها مع الإمكان على أقوال ، ما في المتن من وجوبها أشهرها ، بل في ظاهر المعتبر والمنتهى وشرح القواعد للمحقق الثاني أنّ عليه إجماعنا (4) ، وحكي التصريح به عن الغنية (5) ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى الأصل المتقدم إليه الإشارة من لزوم الإتيان بالأربع من باب المقدمة تحصيلاً للأمر المطلق باستقبال القبلة.
    وخصوص المرسل : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم يعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه » (6).
1 ـ في « ش » و « م » ( يصلي ) ما قدر منها ( الى أيّ الجهات شاء ).
2 ـ منهم المحقق في المعتبر 2 : 70 ـ 71 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 1 : 179.
3 ـ اُنظر المقنعة : 96 ، والمبسوط 1 : 78 ، والوسيلة : 86 ، والسرائر 1 : 205.
4 ـ المعتبر 2 : 70 ، المنتهى 1 : 219 ، جامع المقاصد 2 : 72.
5 ـ الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 556.
6 ـ التهذيب 2 : 45/144 ، الاستبصار 1 ، 295/1085 ، الوسائل 4 : 311 أبواب القبلة ب 8 ح 5.


(276)
    خلافا للعماني (1) ، وظاهر الصدوق كما قيل (2) ، فيصلّي حيث شاء ، ومال إليه الفاضل في المختلف والشهيد في الذكرى (3) ، وغيرهما من متأخّري متأخّري أصحابنا (4).
    التفاتاً إلى الصحيح : « يجزي المتحير أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (5).
    والصحيح المروي في الفقيه : عن الرجل يقوم في الصلاة ثمَّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يميناً وشمالاً ، فقال : « قد مضت صلاته ، فما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحير : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) (6).
    والمرسل كالصحيح بابن أبي عمير المجمع على تصحيح ما يصح عنه : عن قبلة المتحيّر ، فقال : « يصلي حيث يشاء » (7).
    وطعناً في الإجماع : بعدم المسموعية في محل النزاع. وفي الأصل : بمنع وجوب الاستقبال مع الجهل بالقبلة استناداً إلى ما تقدم من المعتبرة. وفي الخبر : بضعف السند بالإرسال وغيره ، والمتن بتضمنه سقوط الاجتهاد من‏
1 ـ كما حكاه عنه في المختلف : 77.
2 ـ حكاه عنه في المختلف : 77 ؛ وانظر الفقيه 1 : 179.
3 ـ المختلف : 78 ، الذكرى : 166.
4 ـ كالمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 2 : 67 ، وصاحبي المدارك 3 : 136 ، والذخيرة : 218 ، والمحدث المجلسي في روضة المتقين 2 : 205 ، والمحدث الكاشاني في المفاتيح 1 : 114 ، والمحدث الشيخ يوسف البحراني في الحدائق 6 : 400. منه رحمه الله.
5 ـ الفقيه 1 : 179/845 ، الوسائل 4 : 311 أبواب القبلة ب 8 ح 2.
6 ـ الفقية 1 : 179/846 ، الوسائل 4 : 314 أبواب القبلة ب 10 ح 1 والاية في البقرة : 115.
7 ـ الكافي 3 : 286/10 ، الوسائل 4 : 311 أبواب القبلة ب 8 ح 3.


(277)
أصله ، وهو مخالف للإجماع الظاهر والمحكي (1).
    وفي الجميع نظر : لانجبار الضعف بالإرسال وغيره بالشهرة العظيمة والإجماعات المحكية حدّ الاستفاضة التي كل منها حجة (2) مستقلة.
    واحتمال الاجتهاد الممنوع عنه ، الاجتهاد في مسألة قبلة فاقد العلم ، وهي جملة أنه يعمل بالظن مع القدرة عليه وإلّا فيسقط اعتبار القبلة.
    وهو وإن بَعُد لكن لا محيص عنه ؛ جمعاً ، وصيانةً للنص عن المخالفة للإجماع مهما أمكن ، سيّما مع اعتضاده ـ بعد فتوى الأصحاب والإجماع المحكي ـ بالمرسل الآخر المروي في الفقيه من دون هذا المحذور ، وكذا في الكافي (3). مع أنه حجّة مستقلّة بنفسه ؛ لانجباره بما مضى ، وبالأصل الذي قدّمناه.
    والجواب عنه بما مرّ (4) فرع تسليم سند المنع. وهو غير مسلّم ؛ لإرسال الخبر الأخير وإن قرب من الصحيح ، لضعفه عن المقاومة للمنجبر بالعمل ، لكونه أقوى منه ، بل ومن الصحيح وإن تعدّد واستفاض ، على الصحيح.
    وبه يظهر الجواب عن الصحيحين الأوّلين. مع احتمال القدح في أوّلهما بأنّ راويه قد رواه بدل ما هنا : « يجزي التحرّي » (5) لا المتحيّر ، فيحتمل كون الأصل هذا والتحريف وقع في المُبدَل ، ومعه لا يصح الاعتماد عليه في مقابلة ما مضى.
    واتحادهما سنداً ومتناً ـ غير ما وقع فيه الاختلاف ـ مع الأصل ، يدفع‏
1 ـ راجع ص : 269.
2 ـ في « م » زيادة : برأسه.
3 ـ اُنظر الفقية 1 : 180/854 ، والكافي 3 : 286/10 ، الوسائل 4 : 310 ، 311 أبواب القبلة ب 8 ح 1 ، 4.
4 ـ من منع وجوب استقبال القبلة مع الجهل بها منه رحمه الله.
5 ـ كما تقدم في ص : 270.


(278)
احتمال التعدّد روايةً ، وأنه روى بهذا مرّة وبالآخر اُخرى.
    وفي الثاني منهما بأن محل الدلالة : « ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر » إلى آخره. وهو كما يحتمل كونه من تتمّته كذا يحتمل كونه من كلام الفقيه ، بل هذا أظهر على ما يشهد به سياق الخبر ، مع أنه مروي في التهذيب بدون هذه الزيادة (1).
    فإذاً : يشكل الاستناد إلى هذه المعتبرة سيّما في مقابلة خصوص ما مرّ من المراسيل المنجبرة بالشهرة والإجماعات المحكية التي كل منها حجّة مستقلة. وتخيّل الجواب عنه بما مرّ إليه الإشارة ، مضعّف بعدم انطباقه على قواعد الإمامية ، كما مرّ غير مرّة.
    ثمَّ لو سلّم اعتبار هذه الأدلة وخلوصها عن القوادح المتقدمة ، فغايتها إيراث شبهة في المسألة ، بناءً على أنّ ترجيحها على الأدلة المقابلة فاسد بلا شبهة. فينبغي الرجوع إلى مقتضى الأصل ، وهو ما مرّ من لزوم فعل الأربع من باب المقدمة.
    والقدح فيه ـ زيادة على ما مر ـ بإمكان تحصيل المأمور به بصلوات ثلاث إلى ثلاث جهات.
    ممنوع بعدم تحصيل القبلة الواقعية بذلك ، بل غايتها تحصيل ما بين المشرق والمغرب ، وهو ليس بقبلة ، بل هي الجهة المخصوصة التي لا يجوز الانحراف عنها ولو بشي‏ء يسير ، إلّا فيما استثني بالمرة ، وكون ما نحن فيه منه أوّل الكلام. ولا كذلك الصلاة إلى الأربع جهات ؛ فإنّها وإن لم تحصل الجهة الواقعية كما هي ، إلّا أنه يدفع الزائد عنها بعدم القائل به بلا شبهة (2).
1 ـ التهذيب 2 : 48/157.
2 ـ في « ح » : ولا شبهة.


(279)
    و لو سلّم فساد هذا الأصل ، فلنا أصل آخر هو استصحاب شغل الذمة اليقيني ، المقتضي لوجوب تحصيل البراءة اليقينية ، ومرجعه إلى استصحاب الحالة السابقة ، وهو أخصّ من أصالة البراءة فتكون مخصّصة.
    وللمحكي عن ابن طاوس ، فأوجب استعمال القرعة ، فإنها لكل أمر مشكل (1).
    ويضعف بأنه لا إشكال هنا على كلّ من القولين السابقين ؛ لاستناد كل منهما إلى حجّة شرعيّة ينتفي معها الإشكال بالمرة.
    ومن هنا ينقدح ما في المدارك من نفي البأس عن هذا القول (2) ، مع أنّه اختار القول الثاني الذي مقتضاه جواز الصلاة إلى أيّ جهة شاء ، وصحّتها كذلك ولو من دون قرعة ، ولا كذلك القول بلزومها ، فإنّ مقتضاه البطلان لو صلّيت من دونها.
     ( و ) اعلم أنّ ( من ترك الاستقبال ) إلى القبلة ( عمداً أعاد ) (3) وقتاً وخارجاً ، إجماعاً ؛ لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه.
    مضافاً إلى النهي المفسد للعبادة ، فكأنه ما أتى بها فيصدق الفوت ، كما إذا ترك أصل الصلاة عامداً ، فيجب القضاء.
    مضافاً إلى النصوص المستفيضة بإعادة الصلاة بترك القبلة (4) بقول مطلق ، خرج منها ما سيأتي لما يأتي ، فيبقى الباقي.
     ( ولو صلّى ) (5) إلى القبلة ( ظانّاً ) لجهتها ، أو لضيق الوقت عن الصلاة
1 ـ الامان من أخطار الاسفار والازمان : 81.
2 ـ المدارك 3 : 137.
3 ـ في « ح » زيادة : مطلقاً.
4 ـ الوسائل 4 : 312 أبواب القبلة ب 9.
5 ـ في المختصر المطبوع : ولو كان.


(280)
إلى الجهات الأربع ، أو لاختيار المكلف لها إن قلنا بتخيير المتحيّر ( أو ناسياً ) لمراعاة القبلة أو لجهتها ( و ) بعد الفراغ ( تبيّن الخطأ ) والصلاة إلى غير القبلة ( لم يُعد ما كان ) صلّاه ( بين المشرق والمغرب ) مطلقاً ، في وقت كان أو خارجاً ، إجماعاً في الظانّ ، كما في التنقيح وروض الجنان (1) وغيرهما (2) ، بل في المنتهى وعن المعتبر أنّ عليه إجماع العلماء (3).
    وهو الحجّة ، مضافاً إلى المعتبرة المستفيضة ، منها ـ زيادة على الصحاح وغيرها المتضمّنة لأن ما بين المشرق والمغرب قبلة (4) ـ خصوص الصحيح : قلت : الرجل يقوم في الصلاة ثمَّ ينظر بعد ما فرغ ، فيرى أنّه قد انحرف من القبلة يميناً وشمالاً ، قال : « قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة » (5).
    وموثّقة عمّار عنه عليه السلام : في رجل صلّى على غير القبلة ، فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم ، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمَّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمَّ يفتتح الصلاة » (6).
    والخبر المروي عن قرب الإسناد : « من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنه على القبلة ثمَّ عرف بعد ذلك ، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق‏
1 ـ التنقيح الرائع 1 : 177 ، روض الجنان : 203.
2 ـ كالمفاتيح 1 : 114
3 ـ المنتهى 1 223 ، المعتبر 2 : 72.
4 ـ الوسائل 4 : 314 أبواب القبلة ب 10.
5 ـ الفقيه 1 : 179/846 ، الوسائل 4 : 314 أبواب القبلة ب 10 ح 1.
6 ـ الكافي 3 : 285/8 ، التهذيب 2 : 48/159 ، الاستبصار 1 : 298/1100 ، الوسائل 4 : 315 أبواب القبلة ب 10 ح 4.


(281)
والمغرب » (1).
    ونحوها المروي عن نوادر الراوندي : « من صلّى على غير القبلة فكان إلى غير المشرق والمغرب فلا يعيد الصلاة » (2).
    وربما تنافي هذه النصوص الصحاح الآتية بلزوم الإعادة في الوقت ما صلّى إلى غير القبلة ، ونحوها عبائر كثير من قدماء الطائفة كالشيخين والمرتضى والحلي وابن زهرة (3).
    لكن الإجماعات المنقولة أوجبت تقييد إطلاق فتاويهم بالصورة الآتية (4) ، كما أوجبت هي ـ مضافاً إلى المعتبرة المستفيضة المتقدمة ـ تقييد النصوص المطلقة بها.
     ( ويعيد الظانّ ) بل كلّ من مرّ ( ما صلّاه إلى المشرق والمغرب ) إذا كان ( في وقته ) و ( لا ) يعيد ( ما خرج وقته ) بإجماعنا الظاهر المحكي في جملة من العبائر ، كالخلاف والناصرية والسرائر والمختلف والتنقيح والمدارك (5) ، وغيرها من كتب الجماعة (6).
    وهو الحجّة مضافاً إلى الاُصول والصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة ، ففي الصحيح والموثق : قال : الرجل يكون في قفر من الأرض في‏
1 ـ قرب الإسناد : 113/394 ، الوسائل 4 : 315 أبواب القبلة ب 10 ح 5.
2 ـ لم نعثر عليه في النوادر الراوندي المطبوع ، وقد نقله عنه في المستدرك 3 : 184 أبواب القبلة ب 7 ح 1.
3 ـ المفيد في المقنعة : 97 ، الطوسي في المبسوط 1 : 80 « رسائل السيد 3 » : 29 ، الحلي في السرائر 1 : 206 ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 556.
4 ـ وهي ما اذا صلي منحرفاً عن القبلة الى يمين واليسار. منه رحمه الله.
5 ـ الخلاف 1 : 302 ، الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : 194 ، السرائر 1 : 205 ، المختلف : 78 ، التنقيح الرائع 1 : 177 ، المدارك 3 : 151.
6 ـ كالمبسوط 1 : 80 ، والمهذب البارع 1 : 310.


(282)
يوم غيم فيصلي لغير القبلة ، ثمَّ يصحى فيعلم أنه قد صلّى لغير القبلة ، كيف يصنع ؟ قال : « إن كان في وقت فليُعد صلاته ، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده » (1).
    وفيهما : « إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان لك أنّك صلّيت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد ، وإن فاتك الوقت فلا تُعد » (2).
    ( وكذا لو استدبر القبلة ) فيعيد في الوقت دون خارجه ، إجماعاً في الأوّل.
    وعلى الأصح في الثاني ، وفاقاً للمرتضى والحلي (3) ، وهو الأشهر بين من تأخّر ، بل عليه عامتهم ، إلّا من ندر كالفاضل في جملة من كتبه والمقداد في الشرح والمحقق الثاني في شرح القواعد (4) ، مع أن الأوّل قد رجع عنه في المختلف (5) ، والأخيرين لم يصرّحا بهذا القول ، بل الأوّل قد احتاط به ، والثاني قال : والعمل عليه ، بعد أن قوّى المختار ، فلا خلاف منهم أيضاً حقيقة.
    لإطلاق الأدلّة المتقدمة السليمة عما يصلح للمعارضة عدا ما يأتي ، وستعرف جوابه.
    ( وقيل ) والقائل الشيخان (6) وجماعة (7) : إنّه ( يعيد ) مطلقاً و ( إن خرج‏
1 ـ الكافي 3 : 285/9 ، التهذيب 2 : 47/152 و153 ، الاستبصار 1 : 296/1091 و1092 ، الوسائل 4 : 317 أبواب القبلة ب 11 ح 6.
2 ـ الكافي 3 : 284/3 ، التهذيب 2 : 47/151 ، الاستبصار 1 : 296/1090 ، الوسائل 4 : 315 أبواب القبلة ب 11 ح 1.
3 ـ المرتضي جمل العلم والعمل « رسائل السيد 3 » : 29 ، الحلي في السرائر 1 : 205.
4 ـ الفاضل في نهاية الإحكام 1 : 399 والقواعد 1 : 27 ، والارشاد 1 : 245 ، المقداد في التنقيح الرائع 1 : 178 ، جامع المقاصد 2 : 75.
5 ـ المختلف : 78.
6 ـ المفيد في المقنعة : 97 ، الطوسي في المبسوط 1 : 80 ، والخلاف 1 : 303.
7 ـ منهم الديلمي في المراسم : 61 وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 556 ، والقاضي.


(283)
الوقت) لموثقة عمار المتقدمة. وفيه قصور سنداً وضعف دلالةُ ، كما نبّه عليه جماعة (1) ، قالوا : فإنّ مقتضاها أنه علم وهو في الصلاة ، وهو دالّ على بقاء الوقت ، ونحن نقول بموجبة ، إذ النزاع إنما هو فيما إذا علم بعد خروجه.
    أقول : مع أن ظاهرها بقرينة السياق كون المراد بالاستدبار ما يعم التشريق والتغريب ، وقضاء الصلاة معه خلاف الإجماع.
    وبالجملة فالاستدلال بها ضعيف ، سيّما في مقابلة الأدلّة المتقدّمة.
    كالاستدلال باشتراط الصلاة بالقبلة بالنص والإجماع ، والمشروط منتف عند انتفاء شرطه ، فهي إلى غير القبلة فائتة ، ومن فاتته صلاة وجب عليه القضاء إجماعاً ، نصّاً وفتوىً ، وإنما لم يجب إعادة ما بين المشرق والمغرب ولا قضاء ما صلّى إليهما للاتفاق عليهما نصّاً وفتوى ، كما مضى.
    وبالخبرين : عن رجل صلّى على غير القبلة ثمَّ تبيّن القبلة وقد دخل وقت صلاة اُخرى ، قال : « يصلّيها قبل أن يصلّي هذه التي قد دخل وقتها ، إلّا أن يخاف فوت التي دخل فيها » (2).
    لمنع الأوّل بمنع الاشتراط بالقبلة ، بل بظنها ، فلا فوت ، للامتثال ، ولذا قال الفاضل في النهاية : والأصل أنه إن كلف بالاجتهاد لم يجب القضاء ، وإن كلّف بالاستقبال وجب (3). انتهى.
    ولا يرد أنه لو كفى الاجتهاد لم تجب الإعادة في الوقت ، للخروج بالنص والإجماع.
في المهذَّب 1 : 87 ، والشهيد في اللمعة ( الروضة البهية 1 ) : 202.
1 ـ اُنظر المدارك 3 : 153 ، والذخيرة : 222.
3 ـ التهذيب 2 : 46/149 ، 150 ، الاستبصار 1 : 297/1098 ، 1099 ، الوسائل 4 : 313 أبواب القبلة ب 9 ح 5 بتفاوت يسير.
3 ـ نهاية الإحكام 1 : 399.


(284)
    و لضعف الخبرين وقصورهما سنداً ومكافاةً لما مضى ، بل ودلالةً أيضاً ، لعدم تقييدهما بالاستدبار ، بل هما عامّان له وللتشريق والتغريب وما دونهما ، وهو خلاف الإجماع.
    وتقييدهما بالأوّل جمعاً بينهما وبين الأخبار المتقدمة فرع الشاهد عليه ، وليس ، مضافاً إلى استلزامه حمل المطلق على الفرد النادر ، إذ الاستدبار الحقيقي قلّما يتفق ، سيّما للمجتهد ، كما هو بعض أفراد محلّ البحث.
    ولا يرد مثله على النصوص السابقة ؛ لعموم بعضها من حيث التعليل بقوله : « فحسبه اجتهاده » .
    مضافاً إلى اعتضادها أجمع بالأصول العامّة ، مثل أصالة البراءة ، بناءً على أن القضاء بفرض جديد ، ولا يثبت إلّا حيثما يصدق الفوت حقيقةً ، ولا يصدق هنا كذلك ، بناءً على أن الامتثال يقتضي الإجزاء ومعه لا يصدق الفوت قطعاً. ومع التنزّل فلا أقل من التردّد في الصدق وعدمه ، وبمجرده لا يخرج عن الأصل القطعي.
    ومن هنا يصح إلحاق الناسي بالظان في عدم وجوب القضاء ، كما عليه جماعة من أصحابنا كالشيخين (1) ، وغيرهما ، وكثير من المتأخّرين (2).
    وزادوا فألحقوه به في جميع الأحكام ، حتى في عدم الإعادة ولو صلّى منحرفاً إلى ما بين المشرق والمغرب ، كما صرّح الماتن هنا (3).
    وهو حسن ؛ لعموم النصوص المتقدمة في هذه الصورة له (4) ، كعموم‏
1 ـ المفيد في المقنعة : 97 ، الطوسي في النهاية : 64.
2 ـ كالعلامة في التبصرة : 22 ، والشهيدين في الذكرى : 166 ، والروض : 203 والأردبيلي في مجمع الفائدة 2 : 76.
3 ـ حيث افرد الظان بالذكر غير الناسي في الصورتين الاخيرتين. منه رحمه الله
4 ـ راجع ص 274.


(285)
بعض الصحاح النافية للقضاء خارج الوقت له أيضاً (1) ، بل وللجاهل مطلقاً.
    ولولاه لأشكل الإلحاق كليّاً ، لاقتضاء الأصل إعادة ما صلّى إلى غير القبلة ولو لم يَصِل إلى حدّ التشريق والتغريب ، كما ستعرفه.
    خلافاً لآخرين ، منهم الماتن في ظاهر عبارته هنا (2) ، فمنعوا عن إلحاقهما مطلقاً ، عملاً بالاُصول ، وتنزيلاً للنصوص على الظان ، بدعوى اختصاصها به بحكم التبادر وغيره دونهما.
    وفيهما نظر ؛ لاختصاص الاُصول بمنع الإلحاق في صورة عدم الإعادة في الوقت لا غيرها ، بل مقتضاها فيه الإلحاق جدّاً ، أما صورة عدم القضاء فلما مضى ، وأما صورة الإعادة في الوقت ـ كما إذا صلّى مشرّقاً ومغرّباً ـ فلبقاء وقت الأمر بالأداء فيجب امتثاله بعد ظهور المخالفة والخطاء ؛ مضافاً إلى فحوى ما دلّ على لزومها على الظان ، فهاهنا أولى.
    وأما دعوى اختصاص النصوص به فممنوعة في بعضها ؛ لعمومه له وللناسي بل الجاهل أيضاً ، بترك الاستفصال في مقام جواب السؤال مع قيام الاحتمال ، المقتضي للعموم في المقال. لكن الحكم بشموله للجاهل بالحكم ـ نظراً إلى قطعيّة ما دلّ على كونه كالعامد ـ لا يخلو عن إشكال. والاحتياط فيه لا يترك على حال.
    ثمَّ إن هذا كله إذا تبين الخطأ بعد الفراغ من الصلاة كما قدّمناه.
    و إذا تبيّن في أثنائها فكما بعد الفراغ في الصور الثلاث ، إلّا أنه يستدير إلى القبلة في الصورة الاُولى منها (3) بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في صريح‏
1 ـ راجع ص 276 الرقم 2.
2 ـ ومنهم : الفاضل الآبي في كشف الرموز 1 : 135 ، والعلامة في المختلف : 79 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 1 : 180.
3 ـ وهي الصلاة الى ما بين المشرق والمغرب منه رحمه الله.
رياض المسائل ـ الجزء الثاني ::: فهرس