رياض المسائل ـ الجزء الثاني ::: 256 ـ 270
(256)
وغيره (1) فادعيا أنه هو المشهور ( هي ) أي الكعبة ( قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة من صلّى في الحرم ، والحرم قبلة أهل الدنيا ).
    لنصوص ضعيفة (2) لا تصلح من أصلها للحجيّة ، فضلاً عن أن تقاوم ما قدّمناه من الأدلّة.
    والشهرة المحكية على تقدير تسليمها معارضة بالشهرة المتأخّرة المحققة ، والمحكيّة أيضاً في كلام جماعة (3) ، فلا تصلح للضعف جابرة.
    وظاهر النصوص كالعبارة ، والمحكي عن الخلاف والاقتصاد والمصباح ومختصره والمراسم والنهاية (4) : جواز صلاة من خرج من المسجد إليه منحرفاً عن الكعبة وإن شاهدها أو تمكن من المشاهدة ، ومن خرج من الحرم إليه منحرفا عن الكعبة والمسجد.
    ولكن عن المبسوط والجمل والعقود والمهذب والوسيلة والإصباح (5) أنهم اشترطوا في استقبال المسجد أن لا يشاهد الكعبة ولا يكون بحكمه ، وفي استقبال الحرم أن لا يشاهد المسجد ولا يكون بحكمه.
    وهو صريح في الموافقة للمختار في الشق الأوّل. ويمكن تنزيل إطلاق ما مرّ من العبائر عليه ، فيرتفع فيه الخلاف ، كما صرّح به بعض الأصحاب وحكاه عن ابن زهرة (6) ، ولعلّه لذا صرّح الماتن بالإجماع في المعتبر (7) ،
1 ـ السبزواري في الذخيرة : 214.
2 ـ الوسائل 4 : 303 أبواب القبلة ب 3.
3 ـ منهم الأردبيلي في احكام القران : 63 ، والفيض الكاشاني في المفاتيح 1 : 112.
4 ـ الخلاف 1 : 295 ، الاقتصاد : 257 ، مصباح المتهجد : 24 ، المراسم : 60 ، النهاية : 62.
5 ـ المبسوط 1 : 77 ، الجمل والعقود ( الرسال العشر ) : 144 ، المهذَّب 1 : 84 ، الوسيلة 85.
6 ـ الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 556 ، وانظر الذخيرة : 213.
7 ـ المعتبر 2 : 65.


(257)
كالفاضل المقداد في كنز العرفان (1).
    وربما يفهم أيضاً من شيخنا الشهيد في الذكرى وجملة ممن تبعه (2) ، حيث فهموا من كلام القائلين بهذا القول تعيّن استقبال عين المسجد والحرم لمن كان خارجهما وعدم اعتبار جهتهما ، وحملوا كلامهم والروايات على الجهة ، وأن ذلك ذكر على سبيل التقريب إلى الأفهام إظهاراً لسعة الجهة ، وزعموا بذلك الجمع بين القولين ، ولو لا اتفاقهما على تعيّن الكعبة للمشاهد ومن بحكمه لما ارتفع بمجرد ذلك الخلاف بينهما ، فإن ثمرة الاختلاف بينهما تظهر في شيئين :
    أحدهما : تعيّن الكعبة للمشاهد ومن بحكمه ولو كانا خارج المسجد مثلاً ، كما هو مقتضى القول الأوّل ، وعدمه وجواز استقبال جزء من المسجد والحرم ولو منحرفاً عنها ، كما هو مقتضى القول الثاني.
    وثانيهما : تعيّن استقبال عين المسجد أو الحرم للنائي دون الجهة ، كما هو مقتضى القول الثاني ، وكفاية الجهة دون عينهما ، كما هو مقتضى القول الأوّل.
    وحيث إنّ الشهيد ومن بعده لم يتعرضوا إلّا للثمرة الأخيرة وجمعوا بين القولين بما مر ، ظهر منهم انحصار ثمرة الخلاف فيها خاصة ، دون السابقة ، وليس ذلك إلّا لتعيّن الكعبة للمشاهد ومن بحكمه كما عرفته.
    واعلم إن الجمع الذي ذكروه حسن ، إلّا أنه ربما يأبى عنه عبارة الخلاف المحكية ، حيث استدل على مختاره ـ بعد النصوص المتقدمة وما ادّعاه من إجماع الإمامية ـ بأنّ المحذور في استقبال عين الكعبة لازم لمن أوجب استقبال‏
1 ـ كنز العرفان 1 : 85.
2 ـ الذكرى : 162 ، وانظر كشف اللثام 1 : 171 ، والحدائق 6 : 375.


(258)
جهتها ؛ فإن لكل مصلٍّ جهة ، والكعبة لا تكون في الجهات كلها. ولا كذلك التوجّه إلى الحرم ؛ لأنه طويل يمكن أن يكون كل واحد متوجّهاً إلى جزء منه (1).
    وهو كما ترى صريح في نفي الجهة وتعيّن استقبال عين الحرم خاصة ، فلا يقبل الجمع المتقدم إليه الإشارة.
    ( و ) لكن ( فيه ضعف ) لا يخفى وجهه ، لاتّفاق الفريقين ـ كما ذكره جماعة (2) ـ على أن فرض النائي هو التعويل على الأمارات المتفق عليها بينهم لأهل كلّ إقليم ، وعليه فلا ثمرة لهذا الاختلاف ، إلّا بالنسبة إلى الثمرة الاولى ، وقد عرفت ارتفاع الخلاف فيها أيضاً.
    ولو سَلم وجود لمنع كل ما في الخلاف من الدليل :
    فالنصوص بما مرّ.
    والإجماع المحكي بالمعارضة بما يحكى عن ابني زهرة وشهرآشوب (3) من نفي الخلاف عن وجوب استقبال جهة المسجد لمن نأى عنه ، كما هو ظاهر الآية. ولو سلّم فغايته أنه خبر صحيح لا يعارض ما قدّمناه من الأدلّة.
    وأما الاعتبار فبما ذكره جماعة : من أنا نعني بالجهة السمت الذي فيه الكعبة لا نفس البنيّة (4) ، وذلك متّسع يمكن أن يوازي جهة كلّ مصلٍّ ، على أن الإلزام في الكعبة لازم في الحرم وإن كان طويلاً.
    واعلم أن للأصحاب اختلافاً كثيراً في تعريف الجهة ، لكنه قليل الفائدة
1 ـ الخلاف 1 : 295.
2 ـ منهم صاحبا المدارك 3 : 121 ، ولحدائق 6 : 375.
3 ـ ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 556 ، حكاه عن ابن شهر اشوب في كشف اللثام 1 : 173.
4 ـ منهم المحقق في المعتبر 2 : 66 ، الشهيد الثاني في روض الجنان : 190 ، صاحب المدارك 3 : 121.


(259)
بعد اتفاق الكلّ على أن فرض النائي رعاية العلامات المقررة ، والتوجّه إلى السمت الذي عيّنته رعاية تلك العلامة ، فالأولى إناطة تعريفها بذلك ، كما ذكره بعض الأجلّة (1).
     ( ولو صلّى في وسطها ) حيث جازت له الصلاة فيه ( استقبل أيّ جدرانها شاء ) مخيّراً بينها ، وإن كان الأفضل استقبال الركن الذي فيه الحجر ، على ما ذكره الصدوق (2). بلا خلاف في أصل الحكم على الظاهر ، المصرح به في بعض العبائر (3) ، بل في المنتهى أنه قول كل أهل العلم (4).
    وهو الحجّة ، لا ما ذكروه من حصول استقبال القبلة بناءً على أنها ليست مجموع البَنيّة ، بل نفس العرصة وكل جزء من أجزائها ، إذ لا يمكن محاذاة المصلّي بإزائها منه إلّا قدر بدنه والباقي خارج عن مقابلته ، وهذا المعنى يتحقق مع الصلاة فيها كما يتحقق مع الصلاة في خارجها.
    لقوة احتمال تطرّق الوهن إليه بأن الثابت من الأدلّة كون جملة البنيّة قبلة ، وأمّا كون أيّ بعض منها قبلة فلم يثبت ، لاختصاص ما دلّ على أن الكعبة قبلة ـ بحكم التبادر ـ بكون القبلة جملتها ، والمراد بهاً القطر والقدر الذي يحاذي المصلّي من قطر الكعبة ومجموعها ، والمصلّي داخلها لم يحصل له هذا ، فتأمّل (5).
1 ـ اُنظر المدارك 3 : 121.
2 ـ الفقية 1 : 178.
3 ـ انظرالمعتبر 2 : 67 ، والحدائق 6 : 381.
4 ـ المنتهى 1 : 218.
5 ـ ووجهه هو ان الاتفاق على جواز النافلة فيها اختياراً كاشف عن كون القبله ما ذكروه ، بناء على ان الاجماع على عدم جواز النافلة الى غير القبلة اختيارأ من غير استثناء ، وكذا جواز الفريضة الى ركن من اركان الكعبه بحيث يتجرد عن اصل ويتوجه الى جزء من الركن بمقدار ما يحاذي بدن المصلّي. ويعضده ايضأ ما سيأتي من دعوي اتفاق المتأخرين على جواز التطوع على


(260)
    و لهذا منع الشيخ في الخلاف والقاضي وغيرهما (1) من صلاة الفريضة جوفها ، ويعضده الصحيحان الناهيان عنه (2) ، وغيرهما (3).
    والموثق المرخّص لفعلها فيها (4) ـ مع قصوره عن المقاومة لهما سنداً ـ موافق للعامة ، فقد نسبه في المنتهى إلى جماعة منهم ، ومنهم أبو حنيفة (5).
    نعم هو مشهور بين المتأخّرين ، بل عليه عامّتهم (6) ، وفي السرائر الإجماع عليه (7).
    وبه ـ مضافاً إلى الموثقة المعتضدة بالشهرة ـ يصرف النهي في الصحيحين وغيرهما إلى الكراهة ، سيّما مع تبديل النهي في أحدهما في بعض الطرق ب « لا تصلح » (8) ، المشعر بالكراهة ، بل جعله الشيخ صريحاً ، مع أنه‏
السطح بعد ان يبرز من الكعبه شيئاً بين يديه بحيث يكون مواجهاً ومستقبلاً له في احواله.
و بالجملة فكل القرائن اُمور واضحة على ما ذكروه ، كما لا يخفى على من تامل وتدبر ( منه دام فضله ).
1 ـ الخلاف 1 : 439 ، القاضي في المهذّب 1 : 76 ، ومال اليه البهبهاني في حاشية المدارك : ( المدارك الحجري ) : 130. 257.
2 ـ الأول :
    الكافي 3 : 391/18 ، التهذيب 2 : 376/1564 ، الوسائل 4 : 336 أبواب القبلة ب 17 ح 1.
    الثاني :
    التهذيب 5 : 279/953 ، الاستبصار 1 : 298/1101 ، الوسائل 4 : 337 أبواب القبلة ب 17 ح 3.
3 ـ المقنعة : 447 ، الوسائل 4 : 338 أبواب القبلة ب 17 ح 9.
4 ـ التهذيب 5 : 279/955 ، الوسائل 4 : 337 أبواب القبلة ب 17ح 6.
5 ـ المنتهى 1 : 218.
6 ـ في « م » زيادة : كما صرّح به.
7 ـ السرائر 1 : 266.
8 ـ التهذيب 5 : 279/954 ، الاستبصار 1 : 298/1102 ، الوسائل 4 : 337 أبواب القبلة ب 17 ح 4.


(261)
رواه بطريق آخر « تصلح » (1) بدون لا ، وهو صريح في الجواز.
    وهنا روايتان لم أجد عاملاً بهما ، مع ضعف إحداهما بالجهالة ، والاُخرى بالإرسال ، ففي الأولى : عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة ولم يمكنه الخروج منها : « استلقى على قفاه ويصلّي إيماءً » (2) الحديث.
    وفي الثانية : « يصلّي إلى أربع جوانبها إذا اضطر إلى ذلك » (3).
    قال في الذكرى بعد نقل هذه : هذا إشارة إلى أن القبلة إنما هي جميع الكعبة ، فإذا صلّى في الأربع فكأنه استقبل جميع الكعبة (4). وهو حسن.
    وفيها بل وفي الأولى أيضاً ـ كالرواية الآتية (5) ـ تأييد لما قدّمناه من أن القبلة هي مجموع قطر الكعبة يجب استقباله ولو بعضا حيث كان خارجها. لكن ضعف سندهما ومعارضتهما بعضاً مع بعض يمنع عن العمل بهما ، وإن تؤيدا بالصحيحين الناهيين ؛ لما عرفت من مرجوحيتهما بالإضافة إلى الموثقة المعتضدة بالشهرة ، وحكاية الإجماع المتقدمة ، لكنّها معارضة بنقل الشيخ في الخلاف الإجماع على المنع (6).
    والشهرة المرجّحة معارضة باحتمال التقية ، الموجب للمرجوحيّة.
    والموثقة لا تعارض الصحيحين من وجوه عديدة ، وإن كانت صريحة.
1 ـ التهذيب 2 : 383/1597 ، والموجود فيه « لا تصلح » ايضاً ، نعم نقله بدون « لا » وفي الوسائل 4 : 337 أبواب القبلة ب 17 ح 5 ، وقال في ذيله : لفظه « لا » هنا غير موجودة في النسخة التي قوبلت بخط الشيخ ، وهي موجوده في بعض النسخ.
2 ـ التهذيب 5 : 453/1583 ، الوسائل 4 : 338 أبواب القبلة ب 17 ح 7 بتفاوت فيهما.
3 ـ الكافي 3 : 391/18 ، الوسائل 4 : 336 أبواب القبلة ب 17 ح 2.
4 ـ الذكرى : 151.
5 ـ في ص : 257.
6 ـ الخلاف 1 : 439.


(262)
    و الاحتياط اللازم المراعاة في العبادة التوقيفية يقتضي المنع عن فعل الفريضة جوف الكعبة إلّا مع الضرورة المسوّغة له. ولكن الأقرب الجواز مع الكراهة بلا شبهة.
    ( ولو صلّى على سطحها ) صلّى قائماً و ( أبرز بين يديه شيئاً منها ولو (1) قليلاً ليكون توجّهه إليه ، ويراعي ذلك في جميع أحواله حتى الركوع والسجود ، فلو خرج بعض بدنه عنها أو ساواها في بعض الحالات كما لو حاذى رأسه نهايتها حال السجود بطلت صلاته.
    هذا هو المشهور بين المتأخّرين ، بل عليه عامّتهم ، على الظاهر ، المصرّح به في التنقيح وغيره (2) ، وفاقاً منهم للحلي والمبسوط (3) ، ولكن عبارته قاصرة عن إفادة الوجوب ، لتعبيره عن الأمر بالصلاة قائماً بجوازها الذي هو أعم منه ، وإن أرجعه الماتن إليه ، قال : لأن جواز الصلاة قائماً يستلزم الوجوب ، لأن القيام شرط مع الإمكان (4).
    وهو حسن لو كان بناء الشيخ على ما ذكروه من حصول الاستقبال باستقبال المبرز من الكعبة وأمّا على ما قدّمناه ـ وهو خيرته في المسألة السابقة ـ من أنّ القبلة إنّما هي مجموع قطر الكعبة ولو بعضاً ممّا يحاذيه المصلّي فلا يستلزم الجواز الوجوب ، لاحتمال كون المراد منه مطلق الرخصة. ووجهه دوران الأمر بين فوات الاستقبال لو صلّى قائماً ، أو القيام ونحوه من الواجبات‏
1 ـ في المختصر المطبوع زيادة : كان.
2 ـ لم نعثر في التنقيح على التصريح بذهاب عامه المتاخرين الى ذالك. اُنظر التنقيح 1 : 174 نعم ، نقله في مفاتيح الكرامة 2 : 82 عن غاية المرام وادعي في روض الجنان : 203 الشهرة با الاجماع على ذلک.
3 ـ الحلي في السرائر 1 : 271 ، المبسوط 1 : 85.
4 ـ المعتبر 2 : 68.


(263)
لو صلّى مستلقياً مومياً ، وحيث لا ترجيح فلم يبق إلّا التخيير ، كذا قيل (1).
    وفيه نظر ؛ لفوات الاستقبال المأمور به في الكتاب والسنة على التقديرين. ومع ذلك فترجيح الصلاة قائما أظهر ، لعدم فوات شي‏ء من الواجبات معه عدا الاستقبال. ولا كذلك الصلاة مستلقياً ، لفوات القيام والركوع والسجود ورفع الرأس منهما معها ، فيكون الأول بالترجيح أولى.
    ومن هنا ظهر مستند الأكثر في تعيين الصلاة قائما ، وهو الأقوى.
    ويتعيّن الإبراز ، أمّا على ما اختاروه في القبلة وأنه ما حاذى المصلّي من أبعاضها مطلقاً فظاهر.
    وأمّا على ما ذكرناه ، فللاحتياط اللازم المراعاة ، مضافاً إلى الإجماع من كل من جوّز الصلاة قائماً.
    والفرق بين المختار وما اختاروه إنّما هو أصل جواز الصلاة عليها اختياراً ، فيأتي على مختارهم ولا على المختار إلّا مع الاضطرار. وحكي التصريح بعدم الجواز هنا إلا مع الاضطرار عن المهذّب والجامع (2).
    ( وقيل ) والقائل الشيخ في النهاية والخلاف (3) ، مدّعياً فيه الإجماع ؛ والقاضي وغيرهما (4) : إنه لو صلّى فوقها وجب عليه أن ( يستلقي ويصلّي مومياً إلى البيت المعمور ) للخبر (5).
    وفيه ضعف سنداً ومقاومةً ، كالإجماع ؛ للأدلة الدالّة على لزوم الأفعال‏
1 ـ اُنظر كشف اللثام 1 : 172.
2 ـ المهذّب 1 : 85 ، الجامع للشرائع : 64.
3 ـ النهاية : 101 ، الخلاف 1 : 441.
4 ـ القاضي في المهذَّب 1 : 85 ، جواهر الفقه : 20 واختاره الصدوق في الفقيه 1 : 178.
5 ـ الكافي 3 : 392/21 ، التهذيب 2 : 376/1566 ، الوسائل 4 : 340 أبواب القبلة ب 19 ح 2.


(264)
الواجبة من القيام والركوع وغيرهما ، المعتضدة من أصلها بالإجماع ، وفي خصوص المسألة بالشهرة العظيمة المتأخّرة التي كادت تكون إجماعاً ، بل لعلّها إجماع في الحقيقة ، كما صرّح به في روض الجنان (1).
    ( و ) اعلم أنه ذكر جماعة من الأصحاب (2) أنه يجب أن يكون توجه أهل كلّ إقليم إلى سمت الركن الذي يليهم ، فأهل المشرق ـ وهم أهل العراق ومن والاهم وكان في جهتهم إلى أقصى المشرق وجنبيه مما بينه وبين الشمال والجنوب ـ إلى الركن الذي يليهم ، وهو الركن العراقي الذي فيه الحجر الأسود ، وأهل المغرب إلى الغربي ، وأهل الشام إلى الشامي ، وأهل اليمن إلى اليمني.
    وهذا لا يلائم شيئاً من القولين المتقدمين في قبلة النائي : أنها جهة الكعبة أو الحرم ؛ فإنهما أوسع من ذلك ، فلا يتم الحكم بوجوب التوجّه إلى سمت الركن نفسه ، إلّا أن يراد بسمت الركن سمت الكعبة. ولا بأس به ، إلّا أنه لا فائدة لذكره هنا بعد معلوميته سابقاً ، لكنّهم أعرف بما قالوه.
    ومع ذلك فالتعبير بسمت الركن أولى من التعبير بالركن ، كما اتفق في القواعد (3) ؛ لإيهامه وجوب التوجّه إلى عينه لا سمته.
    ولذا قال المحقق الثاني : والمراد بالإقليم هنا الجهة والناحية ، ويتوجّه أهل كلّ إقليم إلى ركنهم توجّههم إلى جهة الركن الذي يليهم ؛ لأنّ البعيد لما كان قبلته الجهة ـ وكونها أوسع من الكعبة بمراتب أمر معلوم ـ فلا بد أن يراد بتوجّههم إلى الركن توجّههم إلى جهته. أو يراد أن حق توجّههم الصحيح في
1 ـ روض الجنان : 203.
2 ـ منهم المفيد في المقنعة : 96 ، والديلمي في المراسم : 60 ، والمحقق في المعتبر 2 : 69.
3 ـ القواعد 1 : 26.


(265)
الواقع الذي ليس فيه ميل أصلاً ولا انحراف : أن يكون إلى الركن الذي يليهم ، وإن اكتفى منهم بالتوجه إلى الجهة ، لأن البُعد يمنع عن العلم بذلك. انتهى (1).
    وهو حسن ، إلّا أنّ قوله في التوجيه الأخير : حق توجّههم الصحيح ... غير مفهوم للعبد ؛ لأنّ التوجّه الصحيح بالنسبة إلى القريب إنّما هو إلى نفس الكعبة وأيّ قطر منها يحاذي المصلّي ولو كان ركناً مخالفاً لركنه ، كما إذا توجّه إلى الركن اليمني وهو عراقي مثلاً ، فإنه صحيح ، وبالنسبة إلى البعيد جهتها ، وهي أوسع من الركن ، كما مضى ، فحصره التوجّه الصحيح فيما ذكره غير مستقيم على التقديرين ، ولا أعرف وجهه ، وهو أعرف بما حرّره.
    و كيف كان فقد ذكر الأصحاب لأهل الأركان علامات :
    فلأهل الشام جعل الجدي (2) خلف الكتف اليسرى ، وسُهَيل عند طلوعه بين العينين ، وعند غروبه على العين اليمنى ، وبنات النعش عند غيبوبتها خلف الاذُن اليمنى.
    ولأهل اليمن جعل الجدي بين العينين ، وسُهَيل عند غيبوبته بين الكتفين.
    ولأهل المغرب جعل الجدي على الخدّ الأيسر ، والثُريّا والعُيّوق على اليمين واليسار.
    ولأهل السند والهند جعل الجدي إلى الاذُن اليمنى ، وسهيل عند طلوعه خلف الاذُن اليسرى ، وبنات النعش عند طلوعها على الخدّ الأيمن ، والثُريّا عند غيبوبتها على العين اليسرى.
1 ـ راجع جامع المقاصد 2 : 53.
2 ـ قال في المغرب 1 : 77 : الجَدْي : العاشرة من البروج ، ويقال لكوكب القبلة جَدْي الفرقد ... والمنجمون يسمّونه الجُدَي على لفظ التصغير فرقاً بينه وبين البرج.


(266)
    و لأهل البصرة وفارس جعل الجدي على الخدّ الأيمن ، والشولة إذا نزلت للمغيب بين العينين ، والنسر الطائر عند طلوعه بين الكتفين.
    ولأهل المشرق ما أشار إليه بقوله ( يجعلون المشرق إلى المنكب ) وهو مجمع العضد والكتف ( الأيسر ، والمغرب إلى الأيمن ) هذه علامة ( و ) اُخرى أن يجعلوا ( الجدي ) وهو نجم مضي‏ء في جملة أنجم بصورة سمكة يقرب من القطب الشمالي ، الجدي رأسها والفرقدان ذَنبها ( خلف المنكب الأيمن ، و ) ثالثة أن يجعلوا ( الشمس عند الزوال محاذيةً لطرف الحاجب الأيمن مما يلي الأنف ) ورابعة ذكرها بعضهم (1) ، وهي : جعل القمر ليلة السابع من كل شهر عند غروب الشمس بين العينين ، وكذا ليلة إحدى وعشرين عند طلوع الفجر.
    ومستندهم في هذه العلامات قوانين الهيئة ، فإنّها مفيدة للظن الغالب بالعين ، والقطع بالجهة ، كما ذكره جماعة (2). وإلّا فلم يرد بشي‏ء منها نص ولا رواية ، عدا العلامة الثانية لأهل العراق ، فقد ورد بها نصوص ، منها الموثق : « عن القبلة ، فقال : ضع الجدي في قفاك وصلّ » (3).
    ومنها المرسل : أكون في السفر ولا أهتدي إلى الكعبة بالليل ، فقال : « أتعرف الكوكب الذي يقال لها جدي ؟ » قلت : نعم ، قال : « اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك » (4).
    ومنها المروي عن تفسير العياشي في تفسير ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (5)
1 ـ كالشيخ البهائي في الحبل المتين : 192.
2 ـ منهم الشهيد في الذكرى : 162 ، والفيض الكاشاني في المفاتيح 1 : 112.
3 ـ التهذيب 2 : 45/143 ، الوسائل 4 : 306 أبواب القبلة ب 5 ح 1.
4 ـ الفقية 1 : 181/860 ، الوسائل 4 : 306 أبواب القبلة ب 5 ح 2.
5 ـ النحل : 16.


(267)
قال : « هو الجدي ، لأنه نجم لا يزول ، وعليه بناء القبلة ، وبه يهتدي أهل البرّ والبحر » (1).
    ونحوه آخر مروي فيه أيضاً في تفسيره (2).
    وهي وإن كانت مطلقة ليس فيها التقييد بأهل العراق لكنّها خصّت بهم بقرينة الرواة ، لكونهم منهم ، لكنها مع ذلك لا تخلو من إجماع ، سيّما الروايات الأخيرة ، مع ضعف أسانيدها جملة بالإرسال ، والضعف بالسكوني في المشهور بين الطائفة (3).
    فإذاً العمدة هو استعمال قوانين الهيئة. وعليه لا يستقيم جعل الاُمور الأخيرة علامات لأهل العراق على الإطلاق ، كما نبّه عليه جماعة من المحققين (4) ، فقيّدوا المشرق والمغرب بالاعتداليين ، حاكين له عن الأكثر ، وجملة منهم (5) قيّدوا الجدي بحالة غاية ارتفاعه ، بأن يكون إلى جهة السماء والفرقدان إلى جهة الأرض ، أو غاية انخفاضه عكس الأوّل.
    ومع ذلك فقالوا : إن بين العلامات الثلاث الاُول اختلافاً واضحاً ، فإن العلامة الاُولى ـ سواء قيد المشرق والمغرب بالاعتداليين ، أو كان المقصود أن‏
1 ـ تفسير العياشي 2 : 256/12 ، الوسائل 4 : 307 أبواب القبلة ب 5 ح 3.
2 ـ تفسير العياشي 2 : 256/13 ، الوسائل 4 : 307 أبواب القبلة ب 5 ح 4.
3 ـ وقد وثقه الشيخ في العدة : 380 ، وحكي عن المحقق في الرسالة العزية انه ثقة اجمع الاصحاب على العمل بروايته ، وحكاه عنهما في خاتمة الوسائل 30 : 230 ، 231 ، 318 ، ووثقه ايضأ المحقق الداماد في الرواشح السماوية : 56 ، 57 ؛ فضعفه من المشهورات التي لا اصل لها. والمزيد الاطلاع راجع رجال السيد بحر العلوم 2 : 121 ـ 125 ، مفتاح الكرامة 8 : 256 ، تنقيح المقال 1 : 127 ـ 129 ، الكنى والالقاب 2 : 285 ، 286.
4 ـ منهم الشهيدان في البيان : 114 ، وروض الجنان : 196 ، والفاضل المقداد في التقيح 1 : 174 ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 2 : 54.
5 ـ كالشهيد الثاني في روض الجنان : 196 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 1 : 174.


(268)
يجعل مشرق يوم على اليسار ومغرب ذلك اليوم على اليمين ـ تقتضي محاذاة نقطة الجنوب ، وكذا العلامة الثالثة ، وأمّا الثانية فتقتضي انحرافاً بيّناً عنها نحو المغرب ، وهو الموافق لمعظم بلاد العراق.
    والأولى حمل العلامة الاوُلى والثالثة على أطراف العراق الغربيّة ، كالموصل ، وبلاد الجزيرة ؛ فإن قبلتهما تناسب نقطة الجنوب. والعلامة الثانية على أوساط العراق ، كبغداد والكوفة والحلة والمشاهد المقدّسة ، فإنه تنحرف قبلتها عن نقطة الجنوب نحو المغرب. وأما أطرافها الشرقية ـ كالبصرة ـ فهي أشدّ انحرافاً ، ويقرب منها تبريز وأردبيل وقزوين وهمدان وما والاها من بلاد خراسان. ونزّلوا إطلاق عبائر الأصحاب على ما ذكروه.
    وفيه بعد ، ولذا جعل ذلك سبيلاً إلى سهولة الأمر في القبلة واتساع الدائرة فيها ، وأنه لا ضرورة إلى ما ذكروه أرباب الهيئة.
    مضافاً إلى خلوّ النصوص عن بيان العلامات بالكلية ، إلّا ما مرّ إليه الإشارة ، وقد عرفت أيضاً إجماله.
    ومع ذلك فقد ورد في الصحيح وغيره : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » (1).
    قيل : ويؤيّد ذلك بأوضح تأييد ما عليه قبور الأئمة عليهم السلام في العراق من الاختلاف ، مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بعدم انحراف القبلة فيه ، مع استمرار الأعصار والأدوار من العلماء الأبرار على الصلاة عندها ، ودفن الأموات ، ونحو ذلك ، وهو أظهر ظاهر في التوسعة كما لا يخفى (2).
    وفيه نظر ، يظهر وجهه بالتدبّر فيما ذكره شيخنا في روض الجنان ، فقال‏
1 ـ الفقيه 1 : 180/855 ، الوسائل 4 : 314 أبواب القبلة ب 10 ح 2.
2 ـ الحدائق 6 : 387.


(269)
في جملة كلام له : وأما توهّم اغتفار التفاوت الحاصل بينها ـ أي بين العلامات الثلاث ـ وعدم تأثيره في الجهة ففاسد ؛ لما تقدم في تحقيق الجهة من اعتبار تعيين (1) الكعبة ( أو ) (2) ظنها أو احتمالها ، وهذا القدر من التفاوت لا يبقى معه شي‏ء منها. فإنّ من كان بالموصل مثلاً وكان عارفاً مجتهداً في القبلة يقطع بكونه ـ إذا انحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب بنحو ثلث ما بين الجنوب والمغرب الاعتداليين ـ خارجاً عن سمت الكعبة. وكذا من كان بأطراف العراق الشرقية ـ كالبصرة ـ إذا استقبل خط الجنوب. وهذا أمر لا يخفى على من تدبّر قواعد القبلة وما يتوقف عليه من المقدمات. ومن طريق النص إذا كان جَعل الجدي على الأيمن يوجب مسامتة الكعبة في الكوفة التي هي بلد الراوي ونحوها كيف يوجب مسامتتها إذا كان بين الكتفين ؟! لبُعد ما بينهما بالنسبة إلى بعد المسافة ، فإنّ الانحراف اليسير عن الشي‏ء مع البعد عنه يقتضي انحرافاً فاحشاً بينه وبين محاذاته ، فإنّا إذا أخرجنا خطين من نقطة واحدة لم يزالا يزدادان بعداً كلّما ازدادا امتداداً ، كما لا يخفى. وأيضاً : فلو كان جعله بين الكتفين محصّلاً للجهة كان الأمر بجعله على اليمنى لغوا خالياً عن الحكمة (3).
    وإنما ذكرناه بطوله لحسن مفاده وجودة محصوله.
    ( و ) لذا منع هو وكثير من الأصحاب ـ كالمحقق الثاني وجملة ممّن تأخّر عنهما (4) ـ عما ( قيل : ) من أنه ( يستحب التياسر لأهل المشرق عن سمتهم قليلاً (5) قالوا : لأن البعد الكثير لا يؤمن معه الانحراف الفاحش بالميل‏
1 ـ في « ل » و « ش » تعين ، وفي المصدر : يقين.
2 ـ في النسخ : وما اثبتناه من المصدر.
3 ـ روض الجنان : 198.
4 ـ جامع المقاصد 2 : 57 ؛ وانظر المدارك 3 : 130 ، والمفاتيح 1 : 113.
5 ـ مصباح المتهجد : 24 ، الجامع للشرائع 63 ؛ وانظر ص 252.


(270)
اليسير.
    ( و ) مع ذلك ( هو ) أي هذا الحكم ( بناء ) أي مبني ( على توجّههم إلى الحرم ) كما يستفاد من النصوص الدالة عليه.
    منها : الخبر : عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة ، وعن السبب فيه ، فقال : « إن الحجر الأسود لما اُنزل به من الجنّة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يساره ثمانية أميال ، كله اثنا عشر ميلاً ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة » (1) ونحوه المرفوع (2).
    والرضوي : « إذا أردت توجّه القبلة فتياسر مثل (3) ما تيامن ، فإن الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال » (4).
    والمبني عليه ضعيف كما تقدم (5). وكذا النصوص الواردة هنا سنداً ؛ لرفع الثاني ، وإرسال الأوّل في التهذيب ، وضعفه في الفقيه ، لتضمّن سنده محمد ابن سنان ومفضّل بن عمر الضعيفين عند الأكثر ؛ والرضوي قاصر عن الصحّة ، وإنما غايته القوّة ، وهي بمجرّدها لا تصلح لمعارضة الاعتبار الذي ذكره الجماعة ، فما ذكروه لا يخلو عن قوّة.
    ولذا توقف فيه في ظاهر الدروس (6) ، كالماتن في ظاهر العبارة ، إلّا أنّ‏
1 ـ الفقيه 1 : 178/824 ، التهذيب 2 : 44/142 ، علل الشرائع : 318/1 ، الوسائل 4 : 305 أبواب القبلة ل 4 ح 2.
2 ـ الكافي 3 : 487/6 ، التهذيب 2 : 44/141 ، الوسائل 4 : 305 أبواب القبلة ب 4 ح 1.
3 ـ في المصدر : « مثلَيْ » .
4 ـ فقه الرضا ( عليه السلام ) : 98 ، المستدرك 3 : 180 أبواب القبلة ب 3 ح 1.
5 ـ في ص 252.
6 ـ الدروس 159.
رياض المسائل ـ الجزء الثاني ::: فهرس