رياض المسائل الجزء السادس ::: 31 ـ 45
(31)
« إنّ رجلاً أتى علياً عليه السلام ولم يحجّ قطّ ، فقال إني كنت كثير المال وفرّطت في الحجّ حتى كبر سنيّ ، فقال : تستطيع الحجّ ؟ فقال : لا ، فقال له علي عليه السلام : إن شئت فجهّز رجلاً ثم ابعثه يحجّ عنك » (1). ونحوه آخر (2).
    وأمّا الرابع فلا قائل بإطلاقه لشموله لصورة عدم اليأس ، ولا خلاف في عدم الوجوب حينئذٍ ، إلّا من الدروس (3) ، وعلى‏ خلافه الإجماع في المنتهى‏ (4) ، فلا بد من تقييده ، وهو هنا ليس بأولى من حمل الأمر على‏ الاستحباب ، بناءً على‏ انَّ التقييد بصورة اليأس من البرء يستلزم تخصيص المرض وغيره من الأعذار بالفرد النادر إذ الغالب منها ما يُرجى‏ زوالها جدّاً.
    ومثل هذا التقييد ليس بأولى من الاستحباب لغلبتة في الأمر وما في معناه ، ولا كذلك حمل الإطلاق على‏ الفرد النادر ، لندرته ، ولولاها لكان التقييد أولى‏.
    وبالجملة : فاحتمال التقييد معارض باحتمال الاستحباب المساوي له هنا ، إن لم نقل برجحان الاستحباب ، وحيث تساويا يدفع التكليف الزائد من التقييد بالأصل ، وذلك واضح كما لا يخفى‏.
    سلّمنا ، لكن الأمر فيه ـ وكذا في سائر الأخبار ـ يحتمل الورود مورد التقية ، لكونه مذهب أكثر العامة ، ومنهم أبو حنيفة (5) أو مورد توّهم حرمة
1 ـ التهذيب 5 : 460/1599 ، الوسائل 11 : 64 أبواب وجوب الحجّ ب 24 ح 3.
2 ـ الكافي 4 : 272/1 ، الوسائل 11 : 65 أبواب وجوب الحجّ ب 24 ح 8.
3 ـ الدروس 1 : 312.
4 ـ المنتهى 1 : 656.
5 ـ حكاه عن أبي حنيفه في بدائع الصنائع 121 : 2 ، ونقله عنه وعن مالك والشافعي في البداية المجتهد 1 : 331 ، ومغني المحتاج 3 : 166 ، 167.


(32)
الاستنابة ، كما حكيت في الخلاف والمنتهى‏ (1) عن بعض العامة ، فلا يفيد سوى‏ الإباحة.
    ويقوّي احتمال الورود في هذا المورد ، ما مرّ من الخبر المتقدّم ، المتضمّن لتعليق الأمر بالمشيّة ، وهو عين الإباحة ولو بالمعنى الأعمّ الشامل للاستحباب.
    وخبر آخر مروي في الخلاف ، وفيه : إنّ امرأة من خثعم سألت رسول اللَّه صىل الله عليه وآله فقالت : إن فريضة اللَّه تعالى‏ على‏ العباد أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على‏ الراحلة ، فهل ترى أن يحجّ عنه ؟ فقال صلى الله عليه وآله : « نعم » (2) وذلك لتوارد السؤال والجواب عن أصل الجواز.
    ومن هنا يتوجّه أيضاً عن الإجماع المنقول في الخلاف لاحتمال رجوعه إلى‏ أصل الجواز في مقابلة من يدّعي المنع من هؤلاء الأقشاب ، الا إلى‏ أصل الوجوب ، سيّما وقد روي عن مولانا الأمير عليه السلام ما هو ظاهر في التخيير.
    مع احتمال اختصاصه بالمجمع عليه ، من صورة استقرار الوجوب ، كما يستأنس له ببعض أدلّته ، من قوله إنه إذا فعل ما قلناه برئت ذمته بيقين ، وإذا لم يفعل فليس على‏ براءة ذمته دليل (3).
    وذلك فإنّ وجوب تحصيل البراءة اليقينية إنّما هو حيث يتيقن اشتغال الذمة ، وهو في الصورة المجمع عليها خاصة ، وإلّا ففي محلّ المشاجرة
1 ـ الخلاف 2 : 249 ، المنتهى 2 : 655.
2 ـ الخلاف 2 : 249.
3 ـ الخلاف 2 : 249.


(33)
الكلام في أصل اشتغال الذمة لا براءتها ، لكن بعض عباراته كالصريح في صورة عدم الاستقرار.
    وبالجملة : بعد ملاحظة جميع ما ذكر لم يظهر من الأخبار ولا من الإجماع المنقول ما يتّضح به وجه الحكم بالوجوب ، فيشكل الخروج عن مقتضى‏ الأصل المقطوع ، وإن كان أحوط ، هذا.
    وربّما يتردّد في الوجوب مع الاستقرار أيضاً ؛ لخلوّ عبارة المتن وكثير عن هذا التفصيل ، وإنّما هو في عبارة ناقل الإجماع على‏ الوجوب فيه (1) ، وقليل (2) ، فيشكل الاعتماد على‏ نحو هذا الإجماع والتعويل ، سيّما وقد مرّ من النص بالتخيير ما هو ظاهر في صورة الاستقرار ، بل صريح.
    وبمثل ذلك يستشكل في التفصيل ـ على‏ تقدير الوجوب ـ بين صورتي اليأس وعدمه لخلو أكثر النصوص عنه و (3) الفتاوي.
    نعم يمكن أن يقال في الأول : إنّ ظاهر مساق أكثر العبارات ، بل كلّها ، الحاكمة بالوجوب والمستشكلة فيه ، هو خصوص صورة عدم الاستقرار.
    لكن ذلك لا يفيد اتّفاقهم على‏ الوجوب في صورة الاستقرار ، فيستفاد التفصيل ، إلّا أنّ يستنبط من اتّفاقهم عليه ـ مضافاً إلى‏ النصوص ـ بعد الموت ، فحين الحياة مع اليأس أولى‏ بناءً على‏ جواز الاستنابة حياً اتفاقاً ، فتوىً ونصاً.
    وهو وجه حسن ، إلّا أنّ مقتضاه عدم وجوب الإعادة مع زوال العذر
1 ـ المسالك 1 : 90.
2 ـ مجمع الفائدة 6 : 79.
3 ـ في ( ح ) زيادة : اكثر.


(34)
إذ مع وجوبها وجوب الاستنابة بعد الموت لا يفيد وجوبها قبله بطريق أولى‏ ، لقيام الفارق ، وهو القطع بعدم وجوب الإعادة في الأصل ، وعدمه في الفرع ، لاحتمال زوال العذر فتجب ، كما هو الفرض.
    وبالجملة : فاستفادة وجوب الاستنابة من الأولوية إنّما تتمّ على‏ تقدير الحكم بعدم وجوب الإعادة بعد زوال العذر.
    وهذا خلاف ما أطلقه الجماعة (1) بقوله : ( ولو زال العذر يحجّ ثانياً ) من غير خلاف صريح بينهم أجده ، بل قيل : كاد أن يكون إجماعاً (2) ، بل عن ظاهر التذكرة أنّه لا خلاف فيه بين علمائنا (3) لإطلاق الأمر بالحجّ ، وما فعله كان واجباً في ماله ، وهذا يلزم في نفسه.
    ونقل جماعة (4) منهم احتمال العدم عن بعضهم ؛ لأنّه أدّى حجّة الإسلام بأمر الشارع ، ولا يجب الحجّ بأصل الشرع إلّا مرّة واحدة ، وضعّفوه بما عرفته. ولم يفصّلوا في حكمهم ذلك بين صورتي الاستقرار وعدمه ، حتى من فصّل منهم بن الصورتين فيما سبق.
    ويمكن أن يقال : إنّ مساق عبارة من لم يفصّل ـ وهم الأكثرون ـ هو الصورة الثانية ، فحكمهم بوجوب الإعادة يتعلق بها خاصة ، فلا بعد في قولهم بعدمها في الصورة الأُولى‏ ، كما تقتضيه الأولوية المتقدمة ، ولا قادح‏
1 ـ منهم : الشيخ في النهاية 203 ، والمبسوط 1 : 299 ، وابن سعيد في الجامع للشرائع 173 ، والشهيد الثاني في الروضة 2 : 168 ، والفيض الكاشاني في المفاتيح 1 : 299.
2 ـ مفاتيح الشرائع 1 : 299.
3 ـ التذكرة 1 : 303.
4 ـ منهم : العلامة في التذكرة 1 : 304 ، وصاحب المدارك 7 : 58 ، وصاحب الحدائق 14 : 134.


(35)
قطعياً لها ، ولا حجّة في إطلاق المفصّل الحكم هنا على‏ غيره ، مع احتمال إرادته به الصورة الثانية خاصة لعدم صراحة كلامه هنا في الإطلاق جدّاً.
    وحينئذٍ فلا يبعد قبول دعوى الاتفاق على‏ وجوب الاستنابة في صورة الاستقرار ، والحكم به لكن المتوجه حينئذٍ في صورة زوال العذر عدم وجوب الإعادة ، كما في الموت ، وإلّا فاحتمال وجوبها هنا يهدم بنيان قبول الدعوى‏ والمدّعى‏.
    وكيف كان ، فالحكم بوجوب الاستنابة في الصورتين لا يخلو عن إشكال ، وإن كان الأقرب ذلك في الصورة الأولى‏ ؛ لنقل الإجماع عليه في عبائر الجماعة (1) ، مؤيداً بما عرفته من الأولوية ، وخصوص الصحيحين الذين مرّ كونهما قضية في واقعة ، لكون هذه الصورة داخلة فيهما قطعاً مطابقةً ، أو التزاماً ، مع تأملٍ ما فيهما ، لما مضى.
    والعدم في الصورة الثانية لما عرفته.
    وعلى‏ تقدير القول بالوجوب فيها فاستناب يجب عليه الإعادة بعد زوال العذر ؛ لما عرفته ، ولا كذلك الصورة الأولى‏ فإنّ الحكم فيها بوجوب الإعادة مشكل جدّاً.
    ( ولما مات مع ) استمرار ( العذر أجزأته النيابة ) في الصورتين قطعاً ، أمّا الأولى‏ : فواضح ، وأمّا الثانية : فلعدم داعٍ إلى‏ عدم الاجزاء بعد تحقق الامتثال بالاستنابة.
    ( وفي اشتراط الرجوع إلى‏ صنعة أو بضاعة ) أو نحوهما ممّا يكون فيه الكفاية عادةً ، بحيث لا يُحوجه صرف المال في الحجّ إلى‏ سؤال ، كما
1 ـ راجع ص : 29.

(36)
يشعر به بعض الروايات الآتية في الوجوب بالاستطاعة ، زيادة على‏ ما مرّ ( قولان ، أشبههما ) عند الماتن وأكثر المتأخرين على‏ الظاهر ، المصرح به في المسالك (1) ، بل عن المعتبر والتذكرة (2) الأكثر بقول مطلق ( أنه لا يشترط ).
    وفاقاً لظاهر المرتضى‏ في الجمل (3) وصريح الحلّي (4) وعن الإسكافي والعماني (5) لعموم الكتاب (6) ، وخصوص النصوص بتفسير الاستطاعة بأن يكون عنده ما يحجّ به ، كما في جملة من الصحاح (7) ، وبالزاد والراحلة ، كما في غيرها (8).
    خلافاً للشيخين والحلبي والقاضي وبني زهرة وحمزة وسعيد (9) وجماعة كما حكي (10) وفي المسالك : أنّه مذهب أكثر المتقدمين (11) ، بل في الروضة : أنّه المشهور بينهم (12) ، وفي المختلف‏
1 ـ المسالك 1 : 92.
2 ـ المعتبر 2 : 756 ، التذكرة 1 : 302.
3 ـ جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضي 3 ) : 62.
4 ـ السرائر 1 : 508.
5 ـ نقله عنهما في المختلف : 256.
6 ـ آل عمران : 97.
7 ـ الوسائل 11 : 33 أبواب وجوب الحجّ ب 8 الاحاديث 1 ، 2 ، 3.
8 ـ الوسائل 11 : 34 ، 35 أبواب وجوب الحجّ ب 8 الاحاديث 4 ، 5 ، 6 ، 7.
9 ـ المفيد في المقنعة : 384 ، الطوسي في النهاية : 203 ، والمبسوط 1 : 296 ، الحلبي في الكافي : 192 ، القاضي في شرح جمل العلم : 205 ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 573 ، ابن حمزة في الوسيلة : 155 ، ابن سعيد في الجامع للشرائع : 173.
10 ـ حكاه عنهم في كشف اللثام 1 : 290.
11 ـ المسالك 92 : 1.
12 ـ الروضة 2 : 168.


(37)
والمسالك (1) نقله المرتضى‏ عن الأكثر ، وفي الخلاف والغنية (2) : أنّ عليه إجماع الإمامية ، بل في الأخير : دعوى الإجماع عليه من كلّ من اعتبر الكفاية له ولعياله ذهاباً وإياباً.
    وهو الحجّة ، المعتضدة بالشهرة القديمة الظاهرة والمحكيّة ، مضافاً إلى‏ المعتبرة ولو بالشهرة.
    منها : المرسلة المروية في المجمع عن أئمتنا عليهم السلام في تفسير الاستطاعة : أنها وجود الزاد والراحلة ، ونفقة من يلزم نفقته ، والرجوع إلى‏ كفاية ، إمّا من مال أو ضياع أو حرفة ، مع الصحة في النفس وتخلية السرب من الموانع ، وإمكان السير (3).
    ونحوه المروي عن الخصال ، وفيه أنّها : « الزاد والراحلة مع صحة البدن ، وأن يكون للإنسان ما يخلفه على‏ عياله ، وما يرجع إليه من حجّة » (4).
    وقريب منهما المروي في المقنعة : « هلك الناس إذا كان من له زاد وراحلة ولا يملك غيرهما ، أو مقدار ذلك ممّا يقوت به عياله ، ويستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحجّ بذلك ، ثم يرجع فيسأل الناس بكفه ، لقد هلك إذاً » فقيل له عليه السلام : فما السبيل عندك ؟ فقال : « السعة في المال ، وهو أن يكون معه ما يحجّ ببعضه ويبقى بعض يقوت به نفسه‏
1 ـ المختلف : 256 ، المسالك 1 : 92.
2 ـ الخلاف 2 : 245 ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 573.
3 ـ مجمع البيان 1 : 478 ، الوسائل 11 : 39 أبواب وجوب الحجّ ب 9 ح 5 وفيهما بتفاوت يسير.
4 ـ الخصال : 606/9 ، الوسائل 11 : 38 أبواب وجوب الحجّ ب 9 ح 4.


(38)
وعياله » (1).
    والدلالة فيه واضحة ، كما اعترف به جماعة ، ومنهم الفاضل في المختلف ، قال : فقوله عليه السلام : « ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه » فيه تنبيه على‏ اشتراط الكفاية من مال أو صنعة ، ثم قوله : « ويبقى البعض يقوت به نفسه وعياله » يعني وقت رجوعه ، وإلّا فكيف يقوت نفسه بذلك البعض مع أنّه قد خرج إلى‏ الحجّ (2). انتهى‏.
    فالمناقشة فيها واهية ، وكذا المناقشة بضعف السند مطلقاً لانجباره بالشهرة ، وحكاية الإجماعين المتقدمين ، والأوفقية بالملّة السهلة السمحة.
    ألا ترى أنّه تعالى‏ لم يوجب الزكاة إلّا على‏ من يملك مائتي درهم ، ولم يوجب عليه إلّا خمسة ، تخفيفاً منه سبحانه ورحمة ، وإليه وقع الإشارة في الرواية الأخيرة على‏ رواية شيخ الطائفة. فإنّ فيها بعد تفسير السبيل بأنّه السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويبقى بعضاً لقوت عياله : « أليس قد فرض اللَّه تعالى‏ الزكاة فلم يجعلها إلّا على‏ من يملك مائتي درهم » (3).
    ولعلّه إلى‏ هذا نظر كلّ من استدل بهذه الرواية ، وهو في غاية المتانة ، ومرجعه إلى‏ تفسير الاستطاعة بما يكون فيه سهولة وارتفاع مشقة.
    ولا ريب أن ذلك هو المفهوم منها عرفاً ، بل ولغةً ، كما أشار إليه المرتضى‏ في المسائل الناصرية.
    فقال : والاستطاعة في عرف الشرع وعهد اللغة عبارة عن تسهّل الأمر
1 ـ المقنعة : 384 ، الوسائل 11 : 37 أبواب وجوب الحجّ ب 9 ح 1 ، 2.
2 ـ المختلف : 256.
3 ـ التهذيب 5 : 2/1 ، الاستبصار 2 : 139/453 ، الوسائل 11 : 37 أبواب وجوب الحجّ ب 9 ح 1.


(39)
وارتفاع المشقة ، وليست بعبارة عن مجرد القدرة ، الا ترى أنّهم يقولون ما أستطيع النظر إلى‏ فلان ، إذا كان يبغضه ويمقته ويثقل عليه النظر إليه وإن كان معه قدرة على‏ ذلك ، وكذا يقولون : لا أستطيع شرب هذا الدواء ، يريدون إنّني أنفر منه ويثقل عليّ ، وقال اللَّه تعالى‏ ( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) (1) وإنّما أراد هذا المعنى‏ لا محالة (2).
    ونحوه عبارة ابن زهرة في الغنية ، إلّا أنّه أثبت بذلك النفقة ذهاباً وإياباً ، وألحق مفروض المسألة بها بالإجماع المركب ، فقال : وإذا ثبت ذلك ثبت اعتبار العود إلى‏ كفاية لأنّ أحداً من الأُمة لم يفرّق بين الأمرين (3).
    وفيه إشعار بل ظهور بصدق الاستطاعة مع عدم الرجوع إلى‏ كفاية. وهو عند الأحقر محل مناقشة لعدم صدقها عرفاً وعادةً بلا شبهة ، بل ولغة ، كما عرفته من كلام المرتضى‏ ، وحينئذٍ فظاهر الآية مع القدماء ، لا عليهم.
    سلّمنا ، لكنها كالنصوص مقيّدة بما مرّ من الأدلّة ، سيّما وأنّ النصوص لم يقل بإطلاقها أحد من علمائنا لخلوّها من اعتبار النفقة رأساً ، بل اكتفت بما يحجّ به والزاد والراحلة ، كما عليه العامّة يومئذ (4) على‏ ما يستفاد من الرواية الأخيرة برواية الشيخين ، ولأجل ذلك يتقوى‏ احتمال ورودها للتقية.
    وبالجملة : فما ذكره القدماء لا يخلو عن قوة ، واختاره خالي العلّامة ـ
1 ـ الكهف : 67 ، 72 ، 75.
2 ـ المسائل الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : 208.
3 ـ الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 573 ، 574.
4 ـ راجع بدائع الصنائع 2 : 121 ، والمغني والشرح الكبير 3 : 165 ، 167.


(40)
ـ أدام اللَّه سبحانه بقاءه ـ (1) وحكى‏ عن بعض مقاربي العصر (2) ، لكن قال : أمّا لو كان بيت مال يعطى‏ منه ، أو كان ممن يتيسر له الزكاة والعطايا عادةً ممن لا يتحرز من ذلك ، فلا يشترط في حقه. انتهى‏.
    وهو حسن ، ويمكن إدخاله في عبائر الجماعة بتعميم الكفاية لمثله ، فإنّها تختلف باختلاف الأشخاص عادةً.
    وعلى هذا يمكن أيضاً تنزيل ما نقضهم به الحلّي (3) ، من إطلاقهم الحكم بالوجوب بالبذل ، من غير اشتراط لهذا الشرط بلا خلاف ، وإجزاء حجّ من أدرك أحد الموقفين معتقاً ، فتأمل جدّاً.
    هذا ، ولا ريب أن خيرة المتأخرين أحوط.
    ( ولا يشترط في ) وجوب الحجّ على‏ ( المرأة وجود محرم ) لها ، ممّن يحرم عليه نكاحها مؤبداً بنسب ، أو رضاع ، أو مصاهرة ( ويكفي ظنّ السلامة ) بغير خلاف أجد ، مصرّح به في الذخيرة (4) وفي ظاهر المنتهى‏ وغيره (5) : إنّ عليه إجماع الإمامية لعموم الكتاب والسنة ، وخصوص الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة :
    ففي الصحيح : عن المرأة تخرج إلى‏ مكة بغير ولي ، فقال : « لا بأس تخرج مع قوم ثقات » (6).
1 ـ الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح وهو مخطوط ، وكتاب الحج منه غير موجود عندنا.
2 ـ هو الشيخ علي بن سليمان البحراني علي ما حكاه عنه في الحدائق 14 : 124.
3 ـ السرائر 1 : 513.
4 ـ الذخيرة : 564.
5 ـ المنتهى 1 : 658 ؛ وانظر مجمع الفائدة والبرهان 6 : 106.
6 ـ الكافي 4 : 282/5 ، الفقيه 2 : 268/1308 وفيهما بتفاوت يسير ، الوسائل 11 : 153 أبواب وجوب الحجّ ب 58 ح 3.


(41)
    وإنّما اعتبروا ظنّ السلامة مع إطلاق جملة من الأدلة أخذاً بظاهر نحو هذه الصحيحة الآمرة بالخروج مع الثقة ، الذي هو غالباً محل المظنّة ، والتفاتاً إلى‏ استلزام التكليف بالحجّ مع عدمها العسر والحرج المنفيين اتفاقاً ، كتاباً وسنّة.
    ولو لم يحصل إلا بالمحرم اعتبر وجوده ، ويشترط سفره معها في الوجوب عليها ، ولا تجب عليه إجابتها تبرعا ، ولا بأُجرة ونفقة ، وله طلبهما ، وتكون حينئذٍ جزءاً من استطاعتها.
    ( ومع ) اجتماع ( الشرائط ) المتقدمة ( لو حجّ ماشياً أو في نفقة غيره أجزأه ) قطعاً ، بل قيل : لا خلاف فيه بين العلماء (1) لحصول الامتثال ، وعدم وجوب صرف المال في الحجّ إلّا مقدمةً ، فيجب حيث يتوقف الواجب عليه ، لا مطلقاً.
    ( والحجّ ) مطلقاً ولو مندوباً ( ماشياً أفضل ) منه راكباً للنصوص المستفيضة المتضمنة للصحيح وغيره (2) ، عموماً وخصوصاً ، المؤيدة بالاعتبار جدّاً.
    ( إذا لم يضعفه عن العبادة ) كمّاً وكيفاً ، فالركوب حينئذٍ أفضل للصحيح : « تركبون أحبّ إليّ ، فإنّ ذلك أقوى على‏ الدعاء والعبادة » (3).
    وقريب منه الحسن أو الموثق : أيّما أفضل نركب إلى‏ مكة فنعجّل فنقيم بها إلى‏ أن يقدم الماشي ، أو نمشي ؟ فقال : « الركوب أفضل » (4).
1 ـ المدارك 7 : 79.
2 ـ الوسائل 11 : 78 أبواب وجوب الحجّ ب 32.
3 ـ الكافي 4 : 456/2 ، التهذيب 5 : 12/32 : 5 ، الاستبصار 2 : 142/464 ، علل الشرائع : 447/4 ، الوسائل 11 : 83 أبواب وجوب الحجّ ب 33 ح 5.
4 ـ التهذيب 5 : 13/34 ، الاستبصار 2 : 143/466 ، الوسائل 11 : 82 أبواب وجوب


(42)
    وبهما يجمع بين النصوص المتقدمة المطلقة لأفضلية المشي ، ومثلها المطلقة لأفضلية الركوب.
    وربما يجمع بينها تارةً بحمل الأولة على‏ ما إذا سيق معه ما إذا أعيا ركبه ، والأخيرة على‏ ما إذا لم يسقه معه للموثق (1) وغيره (2) « لا تمشوا واركبوا » فقلت : أصلحك اللَّه تعالى‏ إنّه بلغنا أنّ الحسن بن علي عليه السلام حجّ عشرين حجّة ماشياً ، فقال : « إنّه عليه السلام كان يمشي وتساق معه محامله ورحاله ».
    وأخرى بحمل الأولى‏ على‏ ما إذا قصد بالمشي مشقة العبادة ، والأخيرة على‏ ما إذا قصد توفير المال ، كما في الخبرين (3) ، أحدهما الصحيح المروي عن مستطرفات السرائر ، وفيهما : « إذا كان الرجل موسراً فمشى ليكون أفضل لنفقته فالركوب أفضل ».
    والكل حسن ، إلّا أنّ الأول أشهر ، كما صرّح به جمع ممن تأخر (4) ، وأطلق الفاضل في التحرير أفضلية المشي (5) ، وعن خالي العلّامة احتمال‏
الحجّ ب 33 ح 3.
1 ـ الكافي 4 : 455/1 ، التهذيب 5 : 12/33 ، الاستبصار 2 : 142/465 ، قرب الإسناد : 17/624 ، الوسائل 11 : 83 أبواب وجوب الحجّ ب 33 ح 6.
2 ـ علل الشرائع 447/6 ، الوسائل 11 : 84 أبواب وجوب الحجّ ب 33 ح 7.
3 ـ الأول :
    مستطرفات السرائر : 35/46 ، الوسائل 11 : 85 أبواب وجوب الحجّ ب 33 ح 11.
    الثاني :
    الكافي 4 : 456/3 الفقيه 2 : 141/610 علل الشرائع : 447/5 ، الوسائل 11 : 85 أبواب وجوب الحجّ ب 33 ح 10.
4 ـ كالشهيد الثاني في المسالك 1 : 92 ، وصاحب المدارك 7 : 79 ، وصاحب الحدائق 14 : 174.
5 ـ التحرير 1 : 89.


(43)
حمل الأولة على‏ التقية (1) ، قال : كما يظهر من بعض الأخبار ، ولم أقف عليه.
    ( وإذا استقرّ الحجّ ) في ذمته ، بأن اجتمعت له شرائط الوجوب ومضى عليه مدة يمكنه فيها استيفاء جميع أفعال الحجّ ، كما عن الأكثر (2) ، أو الأركان منها خاصة ، كما احتمله جماعة (3) حاكين له عن التذكرة ، وضعّف بأن الموجود فيها احتمال الاكتفاء بمضي زمان يمكنه فيه الإحرام ودخول الحرم (4) ، كما احتملوه أيضاً وفاقاً له ( فأهمل ، قضي عنه ) وجوباً ( من أصل تركته ) مقدماً على‏ وصاياه ، بإجماعنا الظاهر ، المصرّح به في الخلاف والتذكرة والمنتهى‏ (5) وغيرها (6) ، والصحاح به مع ذلك مستفيضة جدّاً ، معتضدة بغيرها.
    وأمّا ما في نحو الصحيح : « من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام ، ولم يترك إلّا بقدر نفقة الحجّ ، فورثته أحق بما ترك ، إن شاؤوا حجّوا عنه ، وإن شاؤوا أكلوا » (7) فمحمول على‏ صورة عدم الاستطاعة.
    ( ولو لم يخلف سوى‏ الأُجرة ) لقضاء الحجّ ( قضي عنه من أقرب الأماكن ) إلى‏ الميقات و ( كذا لو خلف الزيادة ) (8) وفاقاً للأكثر على
1 ـ هو الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ، وهو غير موجود عندنا.
2 ـ علي ما نقله في الذخيرة : 563.
3 ـ منهم : الشهيد الثاني في المسالك 1 : 91 ، والسبزواري في الذخيرة : 563 ، ونقل عن التذكرة في المدارك 67 : 8.
4 ـ التذكرة 1 : 308.
5 ـ الخلاف 2 : 253 ، التذكرة 1 : 307 ، المنتهى 2 : 871.
6 ـ اُنظر المسالك 1 : 92.
7 ـ الكافي 4 : 305/1 ، الوسائل 11 : 67 أبواب وجوب الحجّ ب 25 ح 4 ؛ بتفاوت يسير.
8 ـ ما بين القوسين ليست في « ك ».


(44)
الظاهر ، المصرّح به في عبائر جمع (1) ، وفي الغنية الإجماع (2) للأصل ، وعدم اشتراط الحجّ بالمسير إلّا بالعقل ، فهو على‏ تقدير وجوبه واجب آخر لا دليل على‏ وجوب قضائه ، كيف ولو سار إلى‏ الميقات لا بنيّة الحجّ ثم أراده فأحرم صحّ ، وكذا لو استطاع في غير بلده لم يجب عليه قصد بلده وإنشاء الحجّ منه ، بلا خلاف ، كما في المختلف (3).
    ويؤيده الصحيح : عن رجل أعطى‏ رجلاً حجّة يحجّ عنه من الكوفة ، فحجّ عنه من البصرة ، قال : « لا بأس ، إذا قضى‏ جميع المناسك فقد تمّ حجّه » (4).
    وربما استدل عليه بنحو الصحيح : عن رجل أوصى‏ أن يحجّ عنه حجّة الإسلام ، فلم يبلغ جميع ما ترك إلّا خمسين درهماً ، قال : « يحجّ عنه من بعض الأوقات التي وقّت رسول للَّه صلى الله عليه وآله من قرب » (5).
    بناءً على‏ ترك الاستفصال عن إمكان الحجّ بذلك من البلد ، أو غيره‏
1 ـ منهم : الشيخ في المبسوط 1 : 301 ، والخلاف 2 : 255 ، ابن حمزة في الوسيلة : 157 ، ابن زهرة في الغنيه ( الجوامع الفقهية ) : 582 ، والفاضلان في كتبهم ( المحقق في المعتبر 2 : 760 ، العلامة في التذكرة 1 : 307 ، وشيخنا في المسالك 1 : 92 ، والروضة 2/173 ، وسبطه في المدارك 7 : 84 ، وصاحبا المفاتيح 2 : 177 ، والذخيرة : 542 ، وعن ابن فهد ( المهذب البارع 2 : 125 ) ، وغيرهم ( منه رحمه الله ).
2 ـ اُنظر الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 582.
3 ـ المختلف : 257.
4 ـ الكافي 4 : 307/2 ، الفقيه 2 : 261/1271 ، التهذيب 5 : 415/1445 الوسائل 11 : 181 أبواب النيابة في الحجّ ب 11 ح 1.
5 ـ الكافي 4 : 308/4 ، التهذيب 5 : 405/1411 ، الاستبصار 2 : 318/1128 ، قرب الإسناد 166/606 ، الوسائل 11 : 166 أبواب النيابة في الحجّ ب 2 ح 1 وفيه وفي التهذيب والاستبصار : من بعض المواقيت.


(45)
ممّا هو أقرب إلى‏ الميقات.
    وضعّف بجواز كون عدم إمكان الحجّ بذلك من غير الميقات معلوماً بحسب متعارف ذلك الزمان.
    ( وقيل ) : يقضى ( من بلده مع السعة ) في تركته ، وإلّا فمن الميقات ، والقائل الشيخ في النهاية (1) ، والحلي والقاضي (2) ، والصدوق في المقنع ويحيى بن سعيد في الجامع (3) كما حكي (4) ، وهو خيرة المحقّق الثاني والشهيد في صريح الدروس وظاهر اللمعة (5).
    ووجهه غير واضح ، عدا ما في السرائر من أنّه لو كان حياً كان يجب عليه في ماله نفقة الطريق من بلده ، فاستقرّ هذا الحق في ماله وأنّه به تواترت أخبارنا وروايات أصحابنا (6).
    وفي الأول ما مرّ وفي الثاني ما في المعتبر والمختلف (7) ، من أنّا لم نقف بذلك على‏ خبر شاذّ ، فكيف دعوى التواتر ؟! ولعلّه لذا لم يستند إليهما الشهيد ـ رحمه اللَّه ـ بل قال : لظاهر الرواية (8).
1 ـ النهاية : 203.
2 ـ الحلي في السرائر 1 : 516 ، القاضي في المهذب 1 : 267.
3 ـ الموجود في المقنع : 164 هكذا : وان لم يكن ماله يبلغ ما يحج عنه من بلده حج عنه من حيث تهيا. الجوامع : 174.
4 ـ حكاه عنهم في كشف اللثام 1 : 293.
5 ـ المحقق الثاني في جامع المقاصد 3 : 136 ، الدروس 1 : 316 ، اللمعة ( الروضة ) 2 : 172.
6 ـ السرائر 1 : 516.
7 ـ المعتبر 2 : 760 ، المختلف : 257.
8 ـ الروضة 2 : 172.
رياض المسائل الجزء السادس ::: فهرس