سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 76 ـ 90
(76)
    قال احدهم :
تظلّ مقاليت النساء يَطأنه يَقُلْنَ ألا يلقى على المرء مئزر

    10 ـ طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ :
    ومن تخيّلات العرب وخرافاتهم أن الغلام منهم إذا سَقَطَتْ له سنٌ أخذها بين السبابة والابهام واستقبل الشمسَ إذا طلعت وقذف بها وقال : يا شمس ابدليني بسنّ احسن منها ولتجر في ظلمها آياتك ، أو تقول أياؤك ، وهما جميعاً شعاع الشمس.
    قال احدهم وهو يصف ثغر معشوقته :
سقته أياة الشمس إلاّ لثاته أسفَّ ولم تكرم عليه باثمدِ
    أي كأن شعاع الشمس اعارته ضوءها.
    هذا وقد أشار شاعرُهم إلى هذا الخيال ( أوقل الخرافة المذكورة ) إذ قال :
شادنٌ يحلو إذا ما ابتسَمَتْ بدلته الشمسُ من منبته عن أقاح كاقاح الرمل غر بَرَداً أبيضَ مصقولَ الاثر

    11 ـ تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون :
    ومن تخيّلات العرب أنهم كانوا إذا خافُوا على الرجل الجنونَ ، وتعرّض الارواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الاقذار كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا : وأنفعُ من ذلك أن تعلِّقُ عليه طامتٌ عظامّ موتى ثم لا يراها يومَه ذلك. وانشدوا في ذلك :
فلو أن عِندي جارتَين وراقياً وعَلَّقَ أنجاساً عَلّي المعلقُ
    وقالت امرأة وقد نَجَّست ولَدها فلم ينفعه ذلك ومات :
نجّستُهُ لا ينفعُ التنجيسُ والموتُ لا تفوتُه النفوسُ

    12 ـ دم الرئيس يشفي :
    فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس يشفي من عضة الكلْب الكَلِب.


(77)
    قال الشاعر :
بناةُ مكارم وأساة جُرح دِماؤُهُمْ من الكَلبِ الشفاءُ
    وقال آخر :
أحلامُكُمْ لسِقامِ الجهل شافيةٌ كَما دِماؤكُمُ تشفي من الكَلَب

    13 ـ شق البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل :
    ومن أوهامهم وتخيلاتهم أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا احب إمرأة واحبّته فشق برقعها وشقّت رداءه صلح حبُهما ودام ، فان لم يفعلا ذلك فَسَد حبُهما ، قال في ذلك احدهم :
وكم شَقَقْنا مِن رداء محبِّر إذا شُق بُردٌ شُق بالبرد بُرقعٌ نروم بهذا الفعل بُقياً على الهوى وَ مِنْ بُرقُع عَنْ طَفلة غير عانس دواليك حتّى كلُّنا غير لابسِ والف الهوى يُغوى بهذي الوساوس

    14 ـ معالجةُ المرضى بالاُمور العجيبة :
    ومن مذاهبهم الخرافية في معالجة المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحيّ : الحلأ الحلأ ، الطعام الطعام ، فَتُلقي له النساءُ كِسَرَ الخبز ، واقطاع التمر واللحم في المنخل ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله ، فيبرأ مِنَ المرض فان أكل صبيّ من الصبيان من ذلك الّذي ألقاهُ للكلابِ تمرة أو لقمة أو لحمة بثرت شفته.
    فقد رويت عن إمرأة أنها انشدت :
ألا حلأ في شفة مشقوقَه فقد قضى منخلُنا حقوقَه
    ومن أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت علة الواحد منهم ، وظنُّوا أنَّ به مسّاً من الجن لانه قَتَلَ حية ، أو يربوعاً ، أو قنفذاً ، عملوا جِمالا من طين وجعلوا عليها جوالق وملاؤها حنطة وشعيراً وتمراً ، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا ليلتهم تلك ، فاذا اصبحوا نظروا إلى تلك


(78)
الجمال الطين فاذا رأوا انها بحالها قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها وان رأوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها من الميرة قالوا : قد قبلت الدية واستدلوا على شفاء المريض وفرحوا وضربوا الدفّ.
    قال بعضهم :
قالُوا وقد طالَ عَنائي والسَقمْ فَقَد فَعَلت والسقام لم يرم إحمِلْ إلى الجِن جمالات وضَمّ فبالذي يملَك برئي اعتصمْ
    وقال آخر :
فياليتَ أن الجن جازُوا حمالَتي اُعلّلُ قلبي بالَّذي يزعُمونه وزُحزحَ عني ما عناني من السقم فَيالَيتَني عُوفيت في ذلك الزعم
    ومن مذاهبهم في هذا المجال أن الرجلَ منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء ( وهو مرض جلدي ) عالجها بالريق.
    قال احدهم :
يا عَجَباً لهذه الفليقة هَل تُذهِبَّنَ القُوَباءَ الريقة

    15 ـ خرافاتٌ في مجال الغائب :
    كانوا إذا غُمَّ عليهم أمرُ الغائب ولم يعرفوا له خبراً جاؤوا إلى بئر عادية ( أي مظلمة بعيدة القعر ) أو جاؤوا إلى حصن قديم ونادوا فيه : يا فلان أو يا أبا فلان ( ثلاث مرات ) ، ويزعمون انه إن كان مَيتاً لم يسمَعوا صوتاً ، وإن كان حياً سمعُوا صوتاً ربّما توهموه وهماً ، أو سمعوه من الصدى فَبَنَوا عليه عقيدَتهم ، قال بعضهم في ذلك :
دَعوتُ ابا المِغوار في الحَفْر دعوة أظنُ أبا المغوار في قصر مظلم فما آضَ صوتي بالذي كنت داعيا (1) تجرُّ عليه الذارياتُ السَوافيا
    وقال آخر :
وكمْ ناديتُه والليلُ ساج بِعاديّ البِئار فما أجابا

1 ـ آضَ أي عاد ورجع.

(79)
    ومن ذلك أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال : ( أرى من اُحبُّه ) فأن كان غائباً توقع قدومَه ، وإنْ كان بعيداً توقَّعَ قربه ، وقالَ أحدهم :
إذا اختلَجَتْ عَيني أقولُ لعَلَّها فَتاة بني عمرو بها العينُ تَلْمعُ
    وقال آخر :
إذا اختلَجَت عَيني تَيقَّنتُ إنّني أراكَ وَإن كانَ المزارُ بَعيدا
    وكانوا إذا لا يُحِبُّونَ لمسافر أنْ يعودَ إليهم أوقدُوا ناراً خَلفَهُ ويقولون في دعائهم « أبعَدهُ اللّهُ وأسحقَهُ وأوقدَ ناراً إثرهُ » قال بعضهم :
صحوتُ وأوْقدتُ لِلجَهلِ ناراً وَرد عليك الصبا ما استعارا

    16 ـ عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتاثيرهُ :
    كانت العربُ في الجاهلية تعتقد في الجن وتأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقاداتٌ عجيبة وفي غاية الغرابة.
    فتارة تستعيذُ بالجن ، وقد إستعاذَ رجلٌ منهُمْ وَمَعَهُ ولدٌ فاكلهُ الأَسدُ فقال :
قَدْ استعَذْنا بعظيم الوادي مِن شَرِّ ما فيهِ مِنْ الأعادي
فلم يجرنا من هزبر عادي
    وعن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه سبحانَهُ في القرآن : « وَأَنَّهُ كانَ رجالٌ مِنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرجال مِنَ الجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهقاً » (1).
    ومن ذلك إعْتقادُهُمْ بهتاف الجن. ولهم في هذا المجال أساطيرُ خرافيةٌ مذكورة في محلّها.
    ومن هذا القبيلُ إعتقادهُم بالغول ، فقد كانت تزعم العربُ في الجاهلية أن الغيلان في الفلوات ( وهي من جنس الشياطين ) تتراءى للناس ، وتغول تغولا اي تتلوّن تلوناً فتضلّهم عن الطريق ، وتهلكهم ، ومن هذا القبيل أيضاً إعتقادُهم بالسعالي !!
1 ـ الجن : 6.

(80)
    وقد قال أحدُهم في ذلك :
وساحرةٌ عينيّ لو أنَّ عينَها أبيتُ وسعلاةٌ وغولٌ بِقَفْرة رَأَت ما اُلاقيهِ مِنَ الهَول جَنّتِ إذا الليلُ وأرى الجن فيه أرنت

    17 ـ تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والاشياء :
    ومن مذاهبهم الخرافية تشاؤمهم بأشياء كثيرة وحالات عديدة :
    فمن ذلك ؛ تشاؤمهم بالعطاس.
    وتشاؤمهم بالغراب حتّى قالوا : فلانٌ أشام من غراب البَيْن ، ولهم في هذا المجال أبياتٌ شعرية كثيرةٌ منها قول أحدهم :
ليتَ الغرابُ غداة ينعَبُ دائباً كانَ الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ
    وكذا تشاؤُمُهمْ وتطيّرهم بالثور المكسور القرن والثعلب. إلى غير ذلك من التخيلات والأوهام والخرافات والاساطير ، والاعتقادات العجيبة ، والتصورات الغريبة الّتي تزخر بها كتبُ التاريخ المخصصةِ لبيان أحوال العرب قَبْلَ الإسلام وحتّى ابان قيام الحضارة الإسلامية.

    مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات :
    ولقد كافح الإسلامُ جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة ، واساليب متنوعة.
    أما بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونَهُ بالحيوانات فمضافاً إلى أنّ أيّ شيء من هذه الأَعمال لا ينسجم مع العقل والمنطق والعلم لأن المطر والغيث لا ينزل من السماء باسعال النيران ، وضرب الثيران لا يؤثر في البقر ، كما لا ينفع كيُّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة ، وتعتبر هذه الاعمال نوعاً من تعذيب الحيوانات وقد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات وايذائها ، باي شكل كان.
    فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « لِلدّابةِ عَلى صاحبها ستُّ خصال :
    1 ـ يَبدأ بعلفها إذا نَزَل.


(81)
    2 ـ ويُعرضُ عليها الماء إذا مَرَّ به.
    3 ـ ولا يضرب وجهها فإنها تسبِّحُ بحمدِ ربّها.
    4 ـ ولا يقفْ على ظهرها إلا في سَبيل اللّه عزّوجلّ.
    5 ـ ولا يحمّلها فوق طاقتها.
    6 ـ ولا يكلّفها من المشي إلا ما تطيقُ (1).
    كما رُوي أنه نهى رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن توسَم البهائمُ في وجهها ، وأن تضرَب في وجوهها فانها تسبّح بحمد ربها.
    ومن هنا ندركُ ان التعاليم في مجال الرفق بالحيوان ، وحمايته ، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة العربية آنذاك.
    واما بالنسبة إلى التمائم والأَشياء الّتي كانت تعلّقها العربُ على أعناق وصدور رجالها ، وأولادها ، من الأحجار والخَرَز ، وَعظام الموتى ، ومعالجة المرضى والمصابين وغيرهم بها أحياناً فقد حاربَها الإسلامُ ، بعد أن ابطلها كما ابطل الافاعيل الّتي سبق أن ذكرناها قبل هذا.
    فلما جاءت جماعات من الأعراب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وسألوه عن الرّقى والقلائد الّتي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلا عن التداوي بالعقاقير والأدوية قائلين يا رسول اللّه : انتداوى ؟
    قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : « تداووا فإنَّ اللّه لَمْ يَضَعْ داء إلا وَضَعَ لَهُ دَواء » (2).
    بل نجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر سعد بن أبي وقاص عندما اُصيب بمرض في فؤاده أن يعالج نفسَه عِند طبيب إذ قال له لما عادَه وعرف بحاله : « إنَك رجلٌ مفودٌ ، إئتِ الحارثَ بن كلْدة أخا ثقيف فإنَهُ رَجَلٌ يتطبَّب » (3).
1 ـ من لا يحضره الفقيه : ج 2 ، ص 286 ، وراجع للوقوف على أحاديث حقوق الحيوان كتاب الشؤون الاقتصادية : ص 130 ـ 159 أيضاً.
2 ـ التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 178.
3 ـ التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 179.


(82)
    هذا مضافاً إلى أنه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة الّتي لا تنفع ولا تضرّ أبداً ، وها نحنُ نشير في ما يلي إلى نموذجين من هذه الأحاديث :
    1 ـ يقول أحدُهُم : دخلتُ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بابن لي قد علقت عليه من العُذرة ( وهي قلادة سحرية جاهلية ) فقال : علام تدغَرْن أولادَكنَّ بهذا العِلاق ، عليكنَّ بهذا العُود الهِنْديّ » وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقصد عصارة هذا العود (1).
    2 ـ رُوي عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : « إنَّ كثيراً مِنَ التمائم شِرْكٌ » (2).
    هذا مضافاً إلى أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياءه الكرام ـ بارشادهمُ الناس إلى ما ينبغي أن يتداووا به من العقاقير والأدوية وما أعطوْه من تعاليم قيمة كثيرة في هذا المجال ممّا جمعه المحدثون الكبار تحت عنوان : « طبّ النبيّ » و « طب الرضا » و ... و قد وجهوا ضربة قوية اُخرى إلى تلك الأوهام والتخيّلات ، والخرافات والاساطير الّتي كان يعاني منها المجتمعُ العربي الجاهلي قبل الإسلام (3).
    وأما الغول ، والطيرة ، والتشاؤم ، والهامّة والنَوء فقد حاربها النبي بصراحة إذ قال : صلى الله عليه وآله وسلم « لا هامَّة ولا نَوء ولا طِيرَة ، ولا غول » (4).
    وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « العِيافَةُ والطِيَرةُ والطَرْق مِن الجبْت » (5).
1 ـ التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 184.
2 ـ سفينة البحار : ج 1 ، مادة رقي.
3 ـ وقد فتح المحدّثون من الفريقين أبواباً خاصّة لأحاديث الطبّ النبويّ في كتب الحديث أيضاً.
4 ـ التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 196 و 197 الفصل الرابع باب نفي مزاعم الجاهلية ، قال مؤلف التاج : الهامّة طائر أو البوم إذ سقط في مكان تشاءم أهلُه ، أو دابّة تخرجُ من راس القتيل أو من دمه فلا تزالُ تصيح حتّى يؤخدَ بثاره ، والنَوء نجمٌ يأتي بالمطر وآخر يأتي بالريح ( حسب عقيدة الجاهلية ) !!
5 ـ التاج الجامع للاُصول : ج 3 ص 201. قال مؤلّف التاج العيافة زجر الطّيْر والتفاؤل بأسمائها وأصواتها كالتفاؤل بالعُقاب على العِقاب ، وبالغُراب على الغُربة ، وبالهُدْهُدْ على الهُدى ، وكذا بافعالها ، وكيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطيرَ وتثيره فما اخذ منها ذات اليمين تبركوا به وتيمَّنوا وما تياسر منها تشاء موابه ( كما في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 212 تحت عنوان كيفية الزجر عند العرب ).
و « الطرق » : الضرب بالحصى ( للإستدلال على اُمور غيبيّة باعتقاد الجاهليين ). والجبت هو الباطل.


(83)
    وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال : « إنَّ الرقى والتمائم والتولَة شركٌ » (1).
    وعن أحدهم قال : قلتُ يا رسولَ اللّه اموراً كنّا نصنعها في الجاهلية ، كنّا نأتي الكهّان ، قال : فلا تأتوا الكهّانَ ، قلت : كنّا نتطيّر قال : ذاك شيء يجدُهُ أحدُكُمْ في نفسِه فلا يَصُدَّنكم ».
    إن وجودَ النهي الشديد والمكرّر في الاحاديث الكثيرة عن الطيرة والتشاؤم ، والزجر والعيافة والتمائم والتولة والهامّة والنوء والغول ، والكهانة ، وايذاء الحيوانات وكيهنّ ، وتعذيبهن ، وماشابه ذلك يدل بوضوح وقوة على مدى رسوخ هذه العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية ، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها ، ونزوعهم اليها وهو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى : « ويضَعُ عنَهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلال الَّتي كانَت عَلَيهِمْ » (2) فأيّة سلاسل وأَغلال أثقل وأسوء عاقبة وأشدّ وطئة ، من هذه الأغلال ... أغلال الخرافة والوهم ، وسلاسل التخيلات والاساطير ؟!!

    أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام :
    إن اُولى خطوة خطاها البَشَر باتّجاه النمط الإجتماعي كانت عندما أقْبَل على تاسيس وإقامة الحياة القبلية ، فالقبيلة تتكون من إجتماع عدة عوائل واُسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى والنسب تحت زعامة شيخ القبيلة ، وبهذا يتحقق
1 ـ التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 203. قال مؤلِّف الجامع : « التولة » : نوع من السحر يحبّب الرجلَ إلى زوجته ، وهو من عمل المشركين ( أي في الجاهلية ).
2 ـ سورة الاعراف : 157.


(84)
أبسط نمط من أنماط الحياة الإجتماعية.
    وقد كانت الحياةُ العربية ـ آنذاك ـ من هذا القبيل ، فكلُ مجموعة من العوائل المترابطة نسبياً تتجمع في شكل قبيلة ، وتشكل بذلك مجتمعاً صغيراً يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة وزعيمها ، ولقد كان الجامع بين افراد القبيلة هو الرابطة القومية ، والوشيجة النسبية ، وكانت هذه القبائل تختلف في عاداتها ورسومها ، وتقاليدها وأعرافها ، اختلافاً كبيراً ، وإذ كانت كل قبيلة تعتبر القبائل الاخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين وزناً ولا قيمة ، ولا تعترف لهم باي حق أو حرمة.
    ولهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين وقتلهم ، ونهب أموالهم ، وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم من حقوقها القانونية المشروعة ، اللّهم إلاّ أن يكون بين القبيلة ، والقبيلة الاُخرى حلف أو معاهدة.
    هذا من جانب.
    ومن جانب آخر كانت القبيلة الّتي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة اُخرى ترى من حقها أن تردَّ الصاع صاعين ، تقتل كل أفراد القبيلة المغيرة ، لأن الدّم ـ في نظرهم ـ لا يغسله الا الدّم !!!
    ولقد تبدلت أخلاقيةُ العرب هذه بعد انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف ، بل تحوَّلوا من نمط الحكومة القبلية المتخلفة والنظام العشائري الضيّق هذا ، إلى حكومة عالميّة ، واستطاع رسولُ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ان يؤلف من القبائل العربية المتفرقة اُمّة واحدة.
    ولا شك أن تأليف اُمة واحدة من قبائل وجماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر والتنازع ، والتخاصم والتقاتل ، والتهاجم والإغارة في ما بينها ، واستمرأت سفك الدماء ، وإزهاق الارواح ، وذلك في مدة قصيرة ، عملٌ عظيم جداً ، ومعجزة اجتماعية لا نظير لها ، لأن مثلَ هذا التحوُّل العظيم إذا اُريدَ لَهُ أن يتمَّ عبر التحوُّلات والتطورات العاديّة لاحتاج إلى تربية طويلة الامد ، ووسائل لا تحصى كثرة.


(85)
    يقول « توماس كارليل » في هذا الصدد : لقد اخرج اللّه العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور ، وأحيى به منها امة خاملة لا يُسمعُ لها صوتٌ ولا يُحسُّ فيها حركة ، حتّى صار الخمولُ شُهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة ، والشرارة حريقاً ، وشمل نورُه الأَنحاء وعمَّ ضوؤه الأرجاء ما هُو إلا قرنٌ بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح للعرب ( المسلمين ) قدمٌ في الهند واخرى في الاندلس (1).
    وإلى هذه الحقيقة يشير ايضاً مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير « رينان » قائلا : « لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ والثقافي والدينيّ قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الّذي صار به العربُ اُمّة فاتحة مُبدعة ولم يكن لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الاُولى مِنَ الميلاد ، حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ » (2).
    أجل إنّ هذه القبائل العربية الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أية حضارة ، ولم تمتلك أية تعاليم وقوانين ، وأنظمة وآداب قبل مجيء الإسلام ، لقد كانت محرومة من جميع المقومات الإجتماعية الّتي توجبُ التقدم والرقي ، ولهذا لم يكن من المتوقع ابداً ان تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة ، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة إلى عالم الإنسانية الواسع ، واُفق الحضارة الرحيب بمثل هذه السُرعة الّتي وَصَلت إليه والزمن القصير الّذي انتقلت فيه.
    إنَّ مَثَل الشعوب والاُمم البشرية مثل المباني والعمارات تماماً.
    فكما أن البناء القوي الراسخ يحتاج إلى موادّ انشائية قوية معدَّة باتقان ومحضّرة باحكام حتّى يستطيع البناء المصنوع من هذه الموادّ ، والمؤسس بعناية وهندسة متقَنة من الوقوف في وجه الأعاصير ، والأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيانُ كل اُمة رشيدة من الاُمم إلى اُسس وقواعد محكمة ( وهي الاُصول والآداب الكاملة ، والأخلاق الإنسانية العالية ) لتستطيع من البقاء والتقدم.
1 ـ الخطط الاستعمارية لمكافحة الإسلام : ص 38 ، والإسلام والعلم الحديث : ص 33.
2 ـ حضارة العرب : ص 87.


(86)
    ولهذا السبب لابد من التأمل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل :
    كيف تحقق ذلك التطورُ العظيم ، وذلك التحول العميق للعرب الجاهلية ، ومن اين نشأ ؟؟
    كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة ، متعادية ، متناحرة ، متباغضة ، في ما بينها ، بعيدة عن النظم الإجتماعية ، بمثل هذه السرعة إلى اُمّة متآلفة متاخية متعاونة متسالمة متحابة ، وتشكل دولة قوية كياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه ، وتطيعها ، وتحترم مبادءها واخلاقها وآدابها آنذاك.
    حقاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة ، والذين عاشوا الانظمة الملكية سنيناً عديدة ، بل وربَّت في احضانها ملوكاً وقادة كباراً ، أن تصل إلى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة ، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة.
    لماذا لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضرة ، ويعيشون تحت ظلّ حضارة « الروم » أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد ؟
    لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ كانُوا ـ وإلى الامس القريب ـ يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي والتقدم ؟ وحتّى لووصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم وحققوا هذه القفزة فانه لم يكن أمراً يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى ، ويتغذون منها ، ولكن الّذي يثير الدهشة ، والعجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة ، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية ، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضاريّ مشرق ، بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل ، ويسيرون في ظلمات الخرافات والأساطير.


(87)
    دُوَل الحيرة وغسّان :
    على العموم كانت المناطقُ ذاتُ المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتّى آخر قرن قبل الإسلام تحت سيطرة ثلاث دول كبرى هي : « ايران » ، « الروم » ، « والحبشة ».
    فالشرق والشمال الشرقي من هذه المنطقة كانت تحت حماية « ايران ».
    والشمال الغربي كان تابعاً للروم.
    والمناطق المركزية والجنوب كانت تحت نفوذ « الحبشة ».
    وعلى أثر مجاورة هذه المناطق للدول المتحضّرة المذكورة ، وما كان بينها من نزاع وتنافس دائمين ظهرَت في المناطق الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضرة ، وشبه مستقلة كان كلُ واحدة منها تابعة في حضاراتها لدولة متمدنة عظمى تجاورها.
    وقد كانت دول « غسان » ، و « الحيرة » « وكنده » من هذه الدول شبه المستقلة وشبه المتمدنة ، وكانت كلُ واحدة منها تابعة لاحدى الدول العظمى آنذاك : « ايران » ، « الروم » ، « الحبشة ».
    الحيرة : يتبيَّن من الآثار والأخبار أنه هاجرت ـ في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد ـ بعضُ الطوائف العربية ، وذلك في نهايات الحكم الأشكناني ، إلى الأراضي المجاورة للفرات ، وسيطروا على قسم من أراضي العراق ، وقد أوجدت هذه الجماعةُ المهاجرةُ القرى والقلاع هناك ، شيئاً فشيئاً ، وأحدثت المدنَ الّتي مِن أهمّها : « الحيرة » الّتي كانت تقعُ على حافة صحراء بالقرب مِن مدينة الكوفة الحالية.
    وقد كانت هذه المدينة ـ وكما يظهر من إسمها ـ في بداية أمرها قلعة ( لأن الحيرة تعني في اللغة السريانية : الدير وما يشبهه ) يسكنها العرب ثم تطورت شيئاً فشيئاً إلى مدينة.
    وقد ساعد مناخها الجميل ، والمياهُ الوافرة الّتي تأتي اليها من الفرات ، وجودة


(88)
الأحوال الطبيعية الاُخرى إلى أن تجتذب اليها أصحاب الصحراء ، وسكان البوادي ، والقفار ، كما واستطاعت هذه المدينة وبفضل مجاورتها للحضارة الفارسية إن تكتسب من ثقافتها ومدنيتها ما أفاض عليها لوناً من الحضارة والمدنية ، وقد بُنيت بالقرب من « الحيرة » قصورٌ مثل « الخورنق » الّذي اضاف إلى هذه المدينة جمالا وبهاء خاصّين ، وقد تعرَّف العربُ الساكنون في هذه المنطقة على الخط والكتابة ، ويمكن ان تكون الكتابة والقراءة قد سرتا منها إلى بقية مناطق الحجاز ومُدُنها (1).
    ولقد كان ملوك « الحيرة » وأمرأوها من اللخميين العرب يؤيّدون من قِبَل الدولة الإيرانية بقوة ، وسبب هذا التأييد ، والحماية الايرانية لاُمراء الحيرة وملوكها كان يكمن في أن ملوك إيران ـ آنذاك ـ كانوا يُريدون أن تكونَ الحيرة سَدّاً ، وحاجزاً بينهم وبين عرب البادية ، يدفعون بهم خطرَ الغزاة من أهل الصحارى على الحدود الإيرانية.
    ولقد سجَّلَ التاريخُ أسماء هؤلاء الاُمراء ؛ وقد نظم « حمزة الاصفهاني » فهرستاً بأسمائهم ، وجدولا بأعمارهم ومُدد حكوماتهم ، ومن كان يعاصرهم من ملوك بني ساسان الإيرانيين (2).
    ومهما يكن الأمر فإن دولة اللخميين العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضرة في منطقة الحيرة ، وكان آخر ملوك هذه السلسلة هو « النعمان بن المنذر » صاحب القصة التاريخية الّتي تتضمن خلعه من الحكم ، وقتله بواسطة الملك الايراني : « خسرو برويز » (3).
    غَسان : في أوائل القرن الخامس أو اوائل القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي ـ أقصى نقاط الجزيرة العربية ـ وفي جوار الإمبراطوريّة الروميّة ، وأسسوا دولة الغساسنة ، وقد كانت هذه الدولة
1 ـ فتوح البلدان للبلاذري : ص 457.
2 ـ سِنيِّ ملوك الأرض : ص 73 ـ 76.
3 ـ الأخبار الطوال : ص 109.


(89)
تحت حماية الروم ، وكان مُلوكُها يُنصبون من جانب إمبراطوريات « قسطنطينية » مباشرة ، تماماً كما كان مُلُوك « الحيرة » يُنصبون من جانب ملوك ايران.
    ولقد كانت دولة الغساسنة متحضرة نوعاما ، وحيث أن مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى « دمشق » ومجاورة ل‍ : « بُصرى » مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية اُخرى ، لذلك تأثرت بحضارة الروم تأثراً كبيراً وبالغاً.
    ولقد كان الغساسنة متحالفين مع الروميين بسبب ما كان بينهم وبين ملوك الحيرة اللخميين العرب والايرانيين من الاختلاف والنزاع ، ولقد حكم في دولة الغساسنة تسعة أو عشرة من الاُمراء والملوك تباعاً.

    الدين في أرض الحجاز :
    لقد كان الدينُ الرائج في الحجاز هو الوثنية ، وعبادة الاصنام.
    نعم كانت هناك أقليّات دينية يهودية تقطن في يثرب ( المدينة فيما بعد ) وخيبر ، كما انه كان هناك من يتبع المسيحية وهم سكّان نجران ، البلد الحدودي لليمن والحجاز.
    وكان الدين الرائج في المناطق الشمالية من الحجاز ( إي الشام حالياً ) هو المسيحية بسبب مجاورة هذه المناطق للروم وخوضعها للسيادة الرومية.
    ولو أننا استثنينا من الحجاز هذه المناطق الحساسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلاّ الوثنية في أشكال مختلفة ، واعتقادات متنوعة ، اللّهم إلاّ بضع افراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممن يُسمّون بالاحناف كانوا على دين التوحيد ، وكان عددهم بالنسبة إلى الاكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلا جدّاً (1).
    فمنذ زمن النبي « إبراهيم » الخليل وابنه « اسماعيل » ( عليهما السلام ) دخل
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 122 و 123.

(90)
التوحيد ، ودخلت بعض التعاليم الأخلاقية والدينية إلى أرض الحجاز ، وكان الحج وأداء مناسكه إحتراماً للكعبة الشريفة هو أحدُ هذه التعاليم والسنن الّتي دخلت مع « الخليل » إلى هذه المنطقة ، ثم إن رجلا من قبيلة « خزاعة » يسمى « عمرو بن لحي » الّذي كانت زعامة مكة قد عهدت إليه ، أدخل عبادة الاوثان في مكة في ما بعد ، وذلك عندما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوماً من العمالقة يعكفون على تماثيل جميلة النقش والمنظر يعبدونها ، ويؤلّهونها ، فقال لهم : ما هذه الأصنام الّتي اراكُم تعبدون ؟؟ قالوا له : هذه اصنامٌ نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنماً فاسير به إلى ارض العرب فيعبدوه ؟؟ فأعطوه صنماً ، وهكذا استحب عملهم ، وجلب معه إلى مكة صنماً جميلُ النقش والنحت يدعى « هُبَل » فنصبه ودعا الناس إلى عبادته ، وتعظيمه.
    وهكذا دخلت الوثنية إلى « مكة » المكرمة ، واصبحت عبادة الاوثان والاصنام عبادة رائجة في تلك الديار (1).
    واشهر اصنام العرب هي :
    1 ـ هبل وكانت أعظم اصنام العرب الّتي في جوف الكعبة.
    2 ـ اساف.
    3 ـ نائلة وكانت هي واساف على موضع زمزم ينحرون عندهما.
    4 ـ اللات وكانت لثقيف بالطائف.
    5 ـ العُزّى وكانت بنخلة الشامية ، وكانت لقريش وبني كنانة.
    6 ـ منات وكانت للاوس والخزرج ومن ذهب مذهبهم من أهل يثرب.
    7 ـ عميانس وكان بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم.
    8 ـ سعد.
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 78 ـ 81 ، والعمالقة هم طائفة من العرب عاشوا وسادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس