سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 271 ـ 285
(271)
العرب : فقال ورقة : « لئنْ كانَ هذا حَقاً يا خديجة إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الامُّة » (1).
    2 ـ مرَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوماً بمنزل « خديجة بنت خويلد » وهي جالسة في ملأمن نسائها وجواريها وخدمها وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود ، فلما مرّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة مري مَنْ يأتي بهذا الشاب ، فارسلت إليه من أتى به ، ودخل منزلَ « خديجة » ، فقال له الحبر : إكشفْ عَنْ ظهرك فلما كشف له قال الحبر : هذا واللّه خاتم النبوة فقالت له خديجة : لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء وان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود.
    فقال الحبر : ومن يقدر على « محمَّد » هذا بسوء ، هذا وحق الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر الزمان ، فطوبى لمن يكون له بعلا ، وتكون له زوجة وأهلا فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.
    فتعجَّبت « خديجة » ، وانصرف « محمَّد » وقد اشتغل قلبُ « خديجة » بنت خويلد بحبه فقالت : أيها الحبر بمَ عرفت محمَّداً انه نبي ؟
    قال : وجدتُ صفاته في التوراة انه المبعوثُ آخر الزمان يموت أبوه وامُّه ، ويكفله جدّه وعمه ، وسوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة فلما سمعت « خديجة » ما نطق به الحبر تعلق قلبُها بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلما خرج من عندها قال : إجتهدي ان لا يفوتك « محمَّدٌ » فهو الشرف في الدنيا والآخرة (2).
    3 ـ لقد كان ورقة بن نوفل ( وهو عم خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف « شيث » ( عليه السلام ) وصحف « إبراهيم » ( عليه السلام ) وقرأ التوراة والانجيل وزبور « داود » ( عليه السلام ) ) يقول دائماً : سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 191 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 136.
2 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 20 و 21 نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.


(272)
الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها ( أو تكون سيدة قومها ، وأميرة عشيرتها ) ، ولهذا كان يقول لها : « يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء » (1).
    هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين ، وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية ، وهي بمجموعها تدل على العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب « خديجة » بأخلاق فتى قريش الأمين ، ونبله ، وطهارته ، وعظيم سجاياه وخصاله وحبها لهذه الاُمور ، وليس هناك أي اثر في علل هذا الزواج لامانة « محمَّد » وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة « خديجة ».

    كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة ؟
    من المسلّم به أن اقتراح الزواج جاء من جانب « خديجة » نفسها أولاً ، حتّى أن ابن هشام (2) نقل في سيرته : ان « خديجة » لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له : « يا ابْنَ عم إبي قد رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك [ اي شرفك ومكانتك ] في قومك ، وأمانتك وحُسن خلقك ، وصدق حديثك » ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوج به.
    ويعتقدُ اكثرُ المؤرّخين أن « نفيسة بنت عليّة » بَلّغتْ رسالة « خديجة » إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على النحو التالي :
    قالت لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : « يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوج ... ولو دُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة الاّ تجيب ؟
    فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : فمن هي ؟
    فقالت : خديجة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : وكيف لي بذلك ، فقالت : عليَّ فذهبت إلى خديجة فأخبرتها ، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 21.
2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 189 و 190.


(273)
بوكيلها « عمرو بن اسد » (1) لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب (2).
    فشاور النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم أعمامه وفي مقدمتهم « أبو طالب » ، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش ، ورؤساؤها فخطبَ « أبو طالب » ، وبعد انَ حَمداللّه واثنى عليه وصفَ إبن أخيه محمَّداً بقوله :
    « ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبد اللّه لا يوزَنُ به رجلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونُبلا وفضلا وعقلا ، وإن كان في المال فإنَ المالَ ظِلُّ زائلٌ ، وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرجعَة ، وَلَهُ في خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي ، ومحمَّدٌ من قد عرَفتُمْ قرابتَه ».
    وحيث أن « ابا طالب » تعرَّض في خطبته لذكر قريش ، وبني هاشم وفضيلتهم ، ومنزلتهم بين العرب ، لذلك تكلّم « ورقة بن نوفل بن اسد » الّذي كان من أقارب خديجة (3) وقال في خطبة له : « لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكُمْ وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ » (4).
    ثم اُجري عقد النكاح ومهرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة (5).
1 ـ المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار ولهذا قام بالايجاب من قبلها عمها عمرو بن اسد ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد ( والد خديجة ) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الأمر ، ثم رضي بذلك نزولا عند رغبة خديجة.
2 ـ تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.
3 ـ المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ « خديجة بنت خويلد بن اسد » وورقة بن نوفل بن اسد فيكونان اولاد عمومة أي أنّه ابن عم خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب‍ « ابن عمّها » ( تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 282 ) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 203.
4 ـ بحار الانوار : ج 16 ، ص 16 ، مناقب آل أبي طالب : ج 1 ، ص 30 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.
5 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139.


(274)
    عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم :
    المعروف المشهور أن خديجة ( عليها السلام ) تزوجت من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهي في سنّ الأربعين وأنها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً.
    وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً.
    وذكَرَ أنها تزوجت قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برجلين أوّلهما « عتيقُ بن عائذ » ثمَ من بعده ابو هالة التميمي اللّذين توفي كلٌ منهما بُعيد زواجه بخديجة (1).
1 ـ ربما يُشكَّك في أن تكون خديجة ( عليها السلام ) قد تزوجت قبل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بأحد وهي الّتي امتنعت عن كل من خطبها ورام تزويجها من سادات قريش واشرافها. راجع الاستغاثة : ج 1 ، ص 70.

(275)
    تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها ، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل ، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير ، وتشتد حاكمية الغرائز المادية ، وتتضاءل شعلة العقل ، وتترائى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر ، وصباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.
    ولو مَلك الإنسانُ ـ في مثل هذه الفترة ـ شيئاً من الثروة ، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية ، وصحة المزاج من جهة والامكانات المادية والمالية من جهة اُخرى تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات ، والنزوات ، وتهيِّئان له عالماً بعيداً عن التفكير في المستقبل.
    ومن هنا يصف المربّون العلماء تلك الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة ، والفترة الّتي قلما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولا ، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على امل الحصول على الملكات الفاضلة ، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أي خطر متوقَع (1). حقاً إن كبح جماح
1 ـ وإلى هذه الحقيقة اشار الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) بقوله :
إنّ الفراغ والشباب والجدة مَفسدة للمرء اي مفسدة

(276)
النفس ، وزمَّها وحفظها مِنَ الإنزلاق في مهاوي الشهوات ، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر جدّ عسير ، ولو أن الانسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيراً سيّئاً ، ومستقبلا في غاية البؤس والشقاء.

    فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم :
    ليس من شك في ان فتى قريش « محمَّد » صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة ، وقوة بدنية عالية ، وكان شجاعاً قوياً ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء الحياة ، وفتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها واعضائها بالشجاعة والفروسية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة « خديجة » الطائلة فكانت ظروفُ الترف ، والعيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل ، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات المادية هل مدَّ موائد العيش واللذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب. واطلق العنان لشهوته ، وفكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر ، وتلك البيئة الفاسدة.
    أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في حياته ، واستفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية ، الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه.
    ان التاريخ ليشهد بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعيش كما يعيش أي رجل ، رجل عاقل لبيب وفاضل رشيد ، وأنه طوى تلك السنوات الحساسة من حياته كأحسن ما يكون ، بعيداً عن العبث والترف والضياع والانزلاق إلى الشهوات والانسياق وراء التوافه.
    بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما يكون نفوراً من اللهو ، والعبث ، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائماً آثار التفكّر والتأمل ، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أو الكهوف والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في مكة ، يلبث هناك أياماً يتأمل فيها في آثار القدرة الالهية ،


(277)
وفي عظمة الصنع الالهي ، الرائع البديع.

    احاسيسه ومشاعره الإنسانية في فترة الشباب :
    ولقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحركت عواطفه واحاسيسه ، فقد رأى مقامراً قد خسر بعيره وبيته ، بل بلغ الأمر به أن استرقهُ منافسُه عشرة أعوام.
    وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش « محمَّد » بشدة ، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في « مكة » ذلك اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.
    لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والاوضاع المأساوية ، وكان يتعجب من ضعف عقول قومه ، وانحطاط مداركهم.
    ولقد كان بيت « خديجة » قبل زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين ، وبعد أن تزوج النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُ تغيير من جهة الانفاق والبذل.
    ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت تضرب مكة وضواحيها بين الحين والآخر ربما قدمت « حليمة السعدية » مكة لتزور ولدها الرضاعي « محمَّد » فكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يكرمها ويحترمها ، ويفرش رداءه تحت أقدامها ، ويصغي لكلامها بعناية ولطف ، وفاء لجميلها ، وعرفاناً لعواطفها واُمومتها.
    فقد روي أن « حليمة » قدِمت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مكة بعد تزوّجه خديجة ، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَم رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم « خديجة » فأعطتها بعيراً واربعين شاة ، وانصرفت إلى أهلها موفورة ، مسرورة.
    وروي أيضاً انه استأذنت « حليمة » عليه ذات مرة فلما دخلت عليه قال : « اُمّي اُمّي » وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (1).
1 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 103.

(278)
    أولادُ خديجة :
    لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية ، ويعمّق جُذُورها ، ويمنح الجوَّ العائليّ بهاء ، ورَوْنقاً ، وجمالا خاصاً.
    ولقد أنجبت « خديجةُ » لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ستة من الأولاد اثنين من الذكور ، أكبرُهما « القاسم » ثم « عبدُ اللّه » اللَّذان كانا يُدعَيان ب‍ : « الطاهر » و « الطيّب » واربعة من الإناث.
    كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد : اكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم اُمُّ كلثوم ، ثم فاطمة.
    فأما الذكور من أولاده صلى الله عليه وآله وسلم فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام (1).
    ورغم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربَما انعكست احزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده.
    ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده « إبراهيم » من زوجته ماريّة القبطية حداً لم يحدثْ لغيره من أولاده ، إلاّ أنّه رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أن اعرابياً اعترض عليه صلى الله عليه وآله وسلم لما وجده يبكي على ولده قائلا : أولم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله :
    « انما هذا رحمة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم (2) ».

    حَدْسٌ لا أساس له من الواقع !!
    لقد كتبَ الدكتور هيكل في كتابه : « حياة محمَّد » يقول : « لا ريب أن
1 ـ مناقب ابن شهرآشوب : ج 1 ، ص 140 ، قرب الأسناد : 6 و 7 ، الخصال : ج 2 ، ص 37 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 15 ـ 152. وقد ذكر البعض للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اكثر من ولدين ، يراجع تاريخ الطبري ج 2 ، ص 35 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 166.
2 ـ بحار الأنوار : ج 22 ، ص 151.


(279)
خديجة عند موت كل واحد منهما ( اي ولدي النبي : القاسم وعبد اللّه ) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها » (1).
    إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي ، وليس هو بالتالي إلا حَدْسٌ باطل ، وإدعاء فارغ ليس له من منشأ إلاّ أن أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان ، فلابُدّ ان خديجة كانت على منوالهم !!
    في حين ان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية شبابه ، وقد اتضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللات والعزى : « اليك عني ، فما تكلَّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه ».
    مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنَ امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدةُ حبها وشغفها بزوجها موضعَ شك ، أن تتوجَّه عند موت وَلديها إلى الاصنام التي كانت ابغض الأَشياء عند زوجها ، وخاصة أن حبها لزوجها « محمَّد » وبل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان ومعنوية ، وصفات فاضلة ، وملكات اخلاقية عالية ، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ ، وأنه خاتم المرسلين ، فكيف والحال هذه يمكن ان يحتمل احد انها ـ مع هذا الاعتقاد ـ بثت شكواها وحزنها إلى الاوثان والاصنام ؟؟!

    دَعِيُّ رسول اللّه : زيد بن حارثة :
    عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن تبنيه له ... ذلك هو زيد بن حارثة.
    وكان « زيدٌ » ممّن سباهُ العرب من حدود الشام ، وباعُوه في أسواق مكة رقيقاً لأحد أقرباء « خديجة » يُدعى « حكيم بن حزام » ، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى « خديجة » في ما بعد ؟
1 ـ حياة محمَّد : ص 128.

(280)
    يقول هيكل في كتابه « حياة محمَّد » في هذا الصدد « لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في نفس النبي اثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى « خديجة » أن تبتاعه ففعلت ثم اعتقه وتبناه » (1).
    ولكن اكثر المؤرخين يقولون : ان « حكيم بن حزام » قد اشتراه لعمته « خديجة بنت خويلد » ، وقد أحبَّه رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لذكائه وطهره ، فوهبته « خديجة » له عند زواجه صلى الله عليه وآله وسلم منها.
    ففتش عنه والدُه « حارثة » حتّى عرف بمكانه في مكة ، فقدمها ، ودخل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه ، فدعاه رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وخيّره بين المقام معه صلى الله عليه وآله وسلم والرحيل إلى موطنه مع أبيه ، فاختار المقام مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لما وجد من خلقه ، وحنانه ، ولطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك اخرجه إلى الحجر واعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس ومسمع قائلا : « يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني » (2).

    بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين :
    لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم ، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت أسبابُه وعواملُه ، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة.
    فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب وانكروا عقائدهم الباطلة ، وطالما كانوا يتحدثون عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد.
    وكان اليهود يتوعدون أهل الاصنام بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون :
1 ـ حياة محمَّد : ص 128.
2 ـ الاصابة : ج 1 ، ص 545 و 456 ، اُسد الغابة : ج 2 ، ص 225 و 226.


(281)
ليخرجنَّ نبيُّ فَليكسرن أصنامكم (1).
    وكتب ابن هشام يقول : كان اليهود يقولون للعرب : إنه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ عاد وارم.
    وكتب يقول أيضاً : وكانت الاحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى والكهّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه.
    هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما بُعثَ ، ودعاهم اللّه ، بينما احجمت اليهودُ عن الايمان به وبرسالته وبقيت على كفرها وجحودها لنبوته الّتي طالما بشرت بها.
    وقد نزل فيهم قولُه تعالى : « وَلَمّا جاءهُمْ كتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصدِّقٌ لِما مَعهمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفرُوا فَلمّا جَاءهُمْ ما عَرفُوا كَفرُوا به فَلعْنَةُ اللّه عَلى الكافِرين » (2) (3).

    أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ :
    ولقد شهدَ أحدُ أعياد قريش حادثاً غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذِن باقتراب سقوط دولة الوثنيين ، وإنهيار صروح الوثنيّة وعبادة الأصنام ، وانقراضها.
    فقد اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، فتنحّى أربعةٌ ممن عُرفوا بالعلم ناحية ، وأخذوا يتحدَّثون سرّاً ، وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام ، وما عليه قومهم من فساد العقيدة.
    فقال بعضهم لبعض : واللّه ما قومكم على شيء ، لقد اخطأوا دين أبيهم
1 ـ بحار الأنوار : ج 15 ، ص 231.
2 ـ البقرة : 89.
3 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 221.


(282)
إبراهيم !! ما حَجرٌ نُطيف به لا يسمعُ ولا يبصرُ ، ولا يضرُ ولا ينفعُ ، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً ...
    وكان هؤلاء الأربعة هم :
    1 ـ « ورقة بن نوفل » الَّذي اختار النصرانية بعد أن طالعَ كُتُبَها ، واتصل بأهلها.
    2 ـ « عبيداللّه بن جَحش » الّذي أسلمَ عند ظهور الإسلام ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة.
    3 ـ « عثمان بن الحويرث » الّذي قدم على قيصر ملك الروم ، فتنصَّر.
    4 ـ « زيد بن عمرو بن نفيل » الّذي اعتزل الأوثان ، وقال : اعبدُ رب إبراهيم (1).
    إن ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنَّ دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة ، واستمراراً لها !!
    كيف يمكن أنْ نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ماانطوت عليه من أهداف كبرى ، واستندت إليه من معارف وأحكام لا تُحصى ، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً عن مثل هذا الاستنكار المحدود ؟
    إن الحنيفية وهي سُنّة إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت كليّاً في الحجاز بعد ايام بعثة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف ( وهم الذين كانوا على دين إبراهيم ( عليه السلام ) ) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية ، إلاّ أن ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس ، أو قيادة حركة ، أو تربية أفراد على نهجهم ، أو أن توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام « محمَّد » ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فلم يُنقَل عن هؤلاء سوى بعض الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 225.

(283)
بالمعاد واليوم الآخر ، وشيء بسيط من البرامج الأخلاقية ، وحتّى ما نقل عنهم من ابيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم ، وانْ لم يمكن نفي ذلك أيضاً (1).
    فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة ، والمعارف العقلية العالية ، والقوانين والتشريعات المفصلة ، والانظمة الأَخلاقية والسياسية والإقتصادية الإسلامية ، الشاملة الكاملة ، كنتيجة لمتابعة اُولئك النفر المعدود من « الأحناف » الموحدين المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُ عقائدهم تتألف من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه ، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق ؟!

    نموذج آخر عن ضَعف قريش :
    لم يكن يمض على عُمر فتى قريش اكثر من خمس وثلاثين عاماً يومَ واجه اختلافاً كبيراً بين قريش ، فأزال بحكمته ذلك التخاصم ، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الإحترام الّذي كان فتى قريش « محمَّد » يحظى به لدى قريش ، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه وأمانته.
    واليك تفصيل هذه الحادثة :
    إنحدر سيلٌ رهيب من جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظم « الكعبة المقدسة » فلم يسلم من هذا السيل بيت في مكة حتّى الكعبة المعظمة ، الّتي تصدَّعتْ جدرانُها تصدعاً كبيراً بفعل ذلك السيل.
    فعزمت قريشٌ على تجديد تلك البِنية المعظمة ، ولكنها تهيّبت ذلك ، وترددت في هدم الكعبة ، فأقدم « الوليد بن المغيرة » وهدمَ ركنين منها على شيء من الخوف ، فانتظر أهلُ مكة أن يحل به أمرٌ ، ولكنهم لما رأوا « الوليد » لم يصبه
1 ـ ولقد نقل ابن هشام في كتابه : السيرة النبوية : ج 1 ، ص 222 ـ 232 طائفة من الأبيات والقصائد التوحيدية هذه ؛ والّتي جاء في مطلع إحداها ما أنشده زيدُ بن عمرو بن نفيل :
أرَبّاً واحِداً أمْ أَلفُ ربٍّ عزلتُ اللات والعزّى جميعاً أدِينُ إذا تُقُسِمت الاُمورُ؟ كذلِكَ يفعل الجَلْد الصبُور ( البصير )

(284)
غضب من الآلهة ، اطمأنوا إلى أنه لم يرتكب قبيحاً ، وأنه عمل ما فيه رضى آلهتهم ، فاقدَمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من الكعبة ، واتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من « مصر » في تجارة لروميّ عند ميناء « جدة » بفعل الرياح والعواصف ، فعلمت بذلك قريش ، وأرسلت رجالا يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة ، وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن « مكة ».
    ولما ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل ، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش ، وتنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في مكانه.
    وتحالفت قبيلة « بني عبد الدار » مع « بني عَديّ » على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرُهم ، وعمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تاكيداً لذلك الميثاق.
    من هنا تأخرت عملية البناء وتوقّفت خمسة أيام بلياليها ، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ دامية ، وربما طويلة ، فقد اجتمعت طوائف مختلف من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر حادثة خطيرة ، فعمد ـ في الأخير ـ شيخ من شيوخ قريش يدعى « أبو اُميّة بن مغيرة المخزومي » من زعماء قريش وقال : يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول مَن يدخل من باب هذا المسجد (1) يقضي بينكم فيه » فقبلوا برايه اجمع ، فكان أول داخل عليه فتى قريش « محمَّد » صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمَّد.
    فقال صلى الله عليه وآله وسلم : هلم اليّ ثوباً ، فأخذ الحجَر ووضعه فيه ثم قال :
    « لتأخذْ كلُ قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوهُ جميعاً »
    ففعلوا حتّى إذا بغوا به موضعه من الركن وضعه صلى الله عليه وآله وسلم هو بيده مكانه ، وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش ، واختلافها ، وحلَّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُ بحكمه.
1 ـ وفي رواية : أول من يدخل باب الصفا.

(285)
    وإلى قضية التحكيم هذه يشير « هبيرة بن أبي وهب » في أبيات صوَّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى ، إذ قال :
تشاجَرَتِ الأحياء في فَصْل خطة تلاقَوابها بالبُغض بعد مَودَّة فلما راينا الأمر قد جدَّ جدُّه رضينا وقلنا العدل أولُ طالع ففا جأَنا هذا الامينُ محمَّدٌ بخير قريش كلِها أمس شيمة فجاء بأمر لم ير الناس مثلَه وتلك يدٌ منهُ علينا عظيمة جرت بينهم بالنَحس مِن بعد أسعد وأوقد ناراً بينهم شرّموقد ولم يبقَ شيء غيرُ سلّ المهند يجيء من البطحاء من غير موعد فقلنا رضينا بالأمين محمَّد وفي اليوم مع ما يُحدثُ اللّه في غد أعمَّ وارضى في العواقب والبَدِ يروبُ لها هذا الزمان ويعتدي (1)

    أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً :
    أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين ، وقل فيها الماء ، وأصابت الناس أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ( عليه السلام ) كثير العيال ، فعزم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أن يساعد عمه أبا طالب ، ويخفف عنه عبء العيال ، فانطلق إلى عمه العباس وقال له : « إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصابَ الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه فلنخفّفْ من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنتَ رَجلا ».
    فكفل العباسُ جعفراً ، وكفل رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عليا ( عليه السلام ).
    يقول أبو الفرج الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد :
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 192 ـ 199 وفروع الكافي : ج 4 ، ص 217 و 218 ، والجدير بالذكر أنهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة : « يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها مِن كسبكم إلاّ طيّبا ، لا يدخلُ فيها مهر بغيّ ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد للناس » ( البداية والنهاية : ج 2 ، ص 301 ) ولا شك أنّ هذه من بقايا تعاليم الأنبياء الّتي بقيت بينهم ولم تمح بالمرة.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس