سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 331 ـ 345
(331)
يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار ، بلا سأم ولا ملل ، ولا تعب ولا نصب.
    فكيف يمكن القول والحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت لديهم واوحت اليهم بحقائق وقيم وافكار ؟
    إن تفسير ( الوحي الالهي ) الّذي يُلقى إلى الانبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق وارفعها ، وأعظم المناهج واكملها ، بتجلّي الشخصية الباطنية ، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة ، أو بعبارة اخرى : حصر الوجود في المادة ، ومن هنا حاولوا إلْباس كل شيء حتّى الامور المعنوية والغيبية : اللباس الماديّ ، واغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب ، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتّى لظاهرة ( الوحي ) الّتي لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.
    هذا مضافاً إلى أن تفسير ( الوحي الالهيّ ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية ، وخاصة في شأن رسول الإسلام « محمَّد » صلى الله عليه وآله وسلم يواجه اشكالات ومؤاخذات اخرى تجعل هذه النظرية في عداد الاساطير !!
    وإنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم هي : أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام.
    فان نظرية « الشخصية الباطنية ، والوحي النفسي الذاتي » هي نظرية متبلورة ومتقدمة لتهمة ( الجنون والصَرع ) التي كان يَرمي بها العربُ الجاهليّون رسولَ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم !!
    فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون : ان ما يقوله « محمَّد » وما يتكلم به ليس إلا افكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله ، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة الّتي تسربت إلى فضاء عقله من دون ارادة منه ولا اختيار !!
    لنستمع إلى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام : « بَلْ قالُوا اضغاثُ أَحلام » (1).
1 ـ الأنبياء : 5.

(332)
    ولكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله : « وَالْنَّجْم إذا هَوى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنطِقُ عَنِ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمهُ شَدِيدُ الْقُوى » (1).
    ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة ( أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمَّد ) ، ويردُّ الأمر إلى الوحي الالهي ، والتوجيه الربانيّ العُلويّ.
    إن نظرية الوحي النفسيّ وتَجلّي الشخصية الباطنية الّتي طلع بها الماديون في عصرنا ما هيَ في الحقيقة إلاّ غطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون والخيال ، الّتي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الإسلامية ومعارضوها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تلك التهمة الّتي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله : « وَقالُوا يَا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَليْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمجنُونٌ » (2).
    وهي تهمة كان يوجهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات (3) وقد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة ، وتبلورت في نظرية : « الوحي النفسيّ ، وتجلّي الشخصية الباطنية ». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وماشابه ذلك كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الّذي يشبه نسبة الجنون إليه صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول تعالى : « إنّه لقولُ رَسُول كريم. ذي قوّة عند ذي العرش مكين. مُطاع ثمَّ امين. وَما صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون. وَ لَقدْ رآهُ بالاُفقِ المُبين. وَمَا هُو بِقول شَيْطان رَجيم. فَايْنَ
1 ـ النجم : 1 ـ 5.
2 ـ الحجر : 6 ، وايضاً راجع الآيات التالية : سبأ : 8 ، الصافّات : 36 ، الدخان : 14 ، الطور : 29 ، القلم : 2 ، التكوير : 22.
3 ـ إذ يقول القرآن في هذا الصدد : « كَذلِكَ ما أتى الَّذينَ مِنْ قَبلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنونٌ. أتواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » ( الذاريات : 52 و 53 ).


(333)
تَذْهَبُونَ إن هو إلاّ ذكرٌ للعالمين. لِمَنْ شاء مِنْكُمْ أن يستقيم » (1).
    بهذا البيان تبيَّنَ بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الاُخرى الّتي تحاول إعطاء ( الوحي ) طابعاً مادياً مألوفاً ، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة ، ونحن استكمالا لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال ، ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين :

    ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين :
    لا شك أن حياة كل فرد من افراد الإنسان تبدأ من « الجهل » ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً ، إلى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه.
    فيبدأ الإنسانُ بالتعرف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية ، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي إلى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس ، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً ، ويقف على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية.
    وربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام ومن خلال بصيرة خاصة على حقائق واُمور لا يُهتدى اليها حتّى عن طريق الاستدلال والبرهنة !
    ومن هنا قسّم العلماء ادراك البشر إلى ثلاثة أنواع : « إدراك العامّة » « إدراك المفكرين وأرباب الاستدلال » « إدراك العرفاء واصحاب البصائر والنفوس الكبرى ».
    وكأَنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحس ، والمفكرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة ، وأصحاب البصائر والمعرفة بالإلهام والاشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى.
1 ـ التكوير : 20 ـ 28.

(334)
    ان النوابغ في مجال الأخلاق ، وان عقول العلماء الخلاقة ، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد وتشهد بأن ما يحصلون عليه ، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي الا شرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم ، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة ، أو بالاستدلال والبرهنة والتأمل.

    قنواتُ المعرفة الثَلاث :
    من هذا الكلام نستنتج أن أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصدهم ؛ فالطريق الأول يستفيد منه جماهير الناس غالباً ، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني ، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلاّ أفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم ، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي :
    1 ـ الطريق التجريبي والحِسي ، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات ، والمشمومات والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها.
    وقد استطاع البشر اليوم ، وبفضل اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات واجهزة التلفاز والراديو ان يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيد من سيطرتها على البعيد والقريب.
    2 ـ الطريقُ التعقُّلي الإستدلالي : فان المفكرين يتوصِّلون إلى كشف طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير والتأمل وتشغيل جهاز العقل ، وإقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة ، وبذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي.
    إنَّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة ، والمسائل الفلسفية ، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمَّته من جهاز العقل ، وحركته ، وناتج من عملية التفكير ، والإستدلال المذكورة.
    3 ـ طريق الإلهام : وهذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق ، وهو فوق نطاق


(335)
الحس والتعقل.
    إنه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط متميّز من إدراك الحقائق ، ليس محالا من وجهة نظر العلم وان كان يصعُب على أصحاب الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسي ولا تعقّلي.
    وأما من جهة الاُصول العِلمية فلا مجال لإنكاره ، ولا مبرّر لعدّه من المحالات.
    ان طريق التعرُّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن ـ في منهج المادّيين ، وأصحاب النزعة المادية ـ ينحصر في قناتين لا اكثر ، وهما اللّذان سبق ذكرُهما ، في حين أنّ هناك ـ حسبَ نظرة الأديان والشرائع الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الالهيين ـ قناة ثالثة أيضاً.
    بل إنَّ هذا الطريق الثالث ـ كما أسلفنا في مسألة الوحي ـ أكثر واقعية ، وأقوى أسُساً ، وأوسع آفاقاً عند من يدَّعون الرسالة ، والنبوة من جانب اللّه سبحانه ، وإن نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا الطريق ، وفي ضوء هذه القناة.
    وكلّما حصل إرتباط بين اللّه ، وبين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص اُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسط الحواس الظاهرية ، وإعمال الفكر ، واستخدام جهاز العقل.
    وهذا النوع من الإلقاء يسمى حيناً بالالهام ، وبالاشراق حيناً آخر.
    ولكن كلما نتج من إرتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة اُطلِق على هذا النوع من الإلقاء عنوان ( الوحي ) ، وسمِّيَ الآتي بها ( ملَك الوحي ) والآخذ لها ( نبيّاً ).
    هذا وقد يوجب الإلهام الثقة والاطمئنان للملهَم إليه ، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الإطمئنان والثقة عند الآخرين (1).
1 ـ وانما قلنا « قد » أي يمكن أن يوجب الاطمئنان ولم نقطع بذلك لأنّ مصدر هذه الالهامات ليست معلومة وواضحة ، ولا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات القلبية والفجائية الّتي لا تستند إلى اُصول معلومة.
وبعبارة اُخرى : يجب الفصل والتمييز بين الإلهامات الرحمانية والالقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية والشرعية.


(336)
    من هنا اعتبر العلماء « الوحيَ » الطريقَ المطمئنة الوحيدة إلى المعرفة العامة ... الوحي الّذي ينزل على الانبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة ، من المعجزة وغيرها.

    أنواع الوحي واصنافه :
    إن في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة ، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق الّتي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام وائمته ، باختصار :
    1 ـ تارة يتلقى الحقائق السماوية العليا على نحو الالهام ، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم ( العلوم البديهية ) الّتي لا يتطرق اليها أي ريب وشك.
    2 ـ وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم معين ( كالجبل والشجرة ) كسماع موسى ( عليه السلام ) كلام اللّه من الشجرة.
    3 ـ وربما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.
    4 ـ وقد ينزلُ عليه ملَكٌ من جانب اللّه بكلام خاص.
    وقد نزل القرآن الكريم على النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الطريق ، وقد صرح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى : « نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين عَلى قلبك لِتكُونَ مِنَ المُنذَرين. بِلسان عَربيٍّ مُبِيْن » (1).

    أساطيرُ مختَلفة :
    لقد كتب المؤرخون والكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية ، وضبطوا كل
1 ـ الشعراء : 193 ـ 195 ، وقد اُشير في سورة الشورى الآية 51 إلى هذه الطرق الأربع جميعها.

(337)
ما جلَ اودقَّ في هذا المجال ، وربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم ، وكتاباتهم.
    غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة ، واهتم اتباعه وأصحابه ومحبّوه بكل شاردة وواردة في حياته الشريفة.
    إنَّ هذا الولع الشديد بتسجيل كل شيء ـ مهما صغر ـ من حياة النبيّ الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال ، تسبب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الاكرم وشخصيته العظيمة ، الطاهرة.
    ومثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين.
    من هنا يتعيّن على كل مؤلف يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ ( الحذر والإحتياط ) في تحليله لحوادثها ، وقضاياها ، فلا يغفل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.
    واليك بقية ما جرى في واقعة نزول ( الوحي ) في حراء :

    بقية حادثة نزول الوحي :
    استنارت نفس رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وروحه الكبرى بنور « الوحي » المبارك ، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملَك الوحي في ذلك اللقاء العظيم ، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً ، وكلمة كلمة.
    وقد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوه تلكم الآيات بقوله :
    يا محمَّد ... أنت رسولُ اللّه ... وأنا جبرئيل.
    وقيل : انه صلى الله عليه وآله وسلم سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لهذين الحدَثين ، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى الّتي اُلقيت على كاهله.


(338)
    وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء ، وهو لا ينافي بالمرة يقينه صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهُ بصدق ما اُنزلَ عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة والسمّو والقوة والصلابة ، ومهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب ، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فانَّها عندما تواجه لأول مرّة ملَكاً لم تره من قبل ، وذلك في مثل المكان الّذي التقى النبيُ ( فوق الجبل ) لابُدَّ أنْ يحصل لها مثل هذا الاضطراب ، ولهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في ما بعد.
    ثم إنّ الاضطراب والتعب الشديد قد تسبّبا في أن يتوجه النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت « خديجة » ( عليها السلام ) ، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عن ما جرى له ، فحدَّثها بكل ما سمع وراى وقصَّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معها ، فعظّمت « خديجةُ » ( عليها السلام ) أمره ، ودعت له ، وقالت : إبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً.
    ثم إن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان يشعر بالجهد والتعب قال لزوجته الوفيّة « خديجة » : دثّريْني ... دَثّريني.
    فدثّرته ، فَنام بعض الشيء.

    خديجة تذهب إلى ورقة بن نوقل :
    لقد تحدثنا في الصفحات الماضية عن « ورقة » وقلنا أنّه كان ممن تنصَّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والانجيل وكان ابن عم خديجة.
    فعند ما سمعت « خديجة » زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سمعته منه انطلقت إلى « ورقة » لتخبِّره بما سمعته من زوجها الكريم ، وشرحت له كلَ شيء مما جرى له مع جبرئيل.
    فقال « ورقة » في جواب ابنة عمه : إنّ ابن عمّك لصادق ... وإن هذا لبدء النبوة ، وانه ليأتيه الناموس الاكبر ( أي الرسالة والنبوة ) (1).
1 ـ الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195.

(339)
    إن ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة الّتي وصلت إليها ، والّتي دُوِّنت في جميع الكتب.
    بيداننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة اُموراً لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه ورُسُله العظام ، كما أنها لا تتفق مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الاساطير التاريخية ، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.
    وانا لنعجب قبل كل شيء من المفكّر المصريّ الدكتور « هيكل » كيف سمح لنفسه وهو الّذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة تسرب الاساطير إلى التاريخ النبويّ ، وقال : بأنّ هناك من دسَّ في السيرة النبوية ، عن عداوة أو جهل ، بعض الاكاذيب.
    ولكنه مع ذلك ينقل هنا اُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً ، في حين اعطى فريقٌ من علماء الشيعة ـ كالمرحوم الطبرسي ـ ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.
    وإليك في ما يلي بعض هذه الاساطير والقضايا المختلفة ، على أنها لم تكن جديرة بالاشارة ابداً لولا أن بعض المحبّين الجهَلاء ، والأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم ، وكرروها في دراساتهم.
    1 ـ قالوا : إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند ما دخل منزل خديجة ، كان يفكّر في نفسه : لعلّ بصرَه خدعته ، أو انه كاهن ، أوفيه جنون !!
    ولكن لمّا قالت له خديجة : « انّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابْن عبد اللّه ، إنك تصدق الحديث ، وتؤدّي الأمانة ، وتصلُ « الرحم » اطمأنَّ ، وزالَ عنه الشكُ والتردّد ، والقى على « خديجة » نظرَ شكر ومودة ، ثم طلب أن يُزمَّل ، فزمِّلَ فنام !! (1).
1 ـ الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195 ، حياة محمَّد : ص 134.

(340)
    2 ـ يقول الطبري وغيره من مؤرخي السيرة : ان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع نداء يقول : « يا محمَّد أنت رسول اللّه » أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتّى أنه همَّ بان يطرح نفسَهُ من أعلى الجبل ، فتبدى له ( ملَك الوحي ) ومنعه عن ذلك !!!
    3 ـ ثم إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم ، فرأى « ورقة بن نوفل » وشرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل ، فقال له ورقة :
    « والّذي نفسي بيده ، إنَّك لنبيَّ هذه الاُمة ، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الّذي جاء موسى ولتُكذبَنَّه ، ولتوذينَّه ولتخرجَنَّه ولتقاتلنِه » فأحس « محمَّد » بأن ورقة يصدّقه ، فاطمأن (1).

    بُطلانُ هذه المزاعم :
    إن الّذي نتصوره هو أن جميع هذه القصص مختلقة من الاساس ، وقد دُسَّت في التاريخ والتفسير عن قصد وهَدف ، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.
    وذلك :
    أولا : لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب ان نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم.
    إنَ القرآن الكريم قصَّ علينا قضاياهم ، وسيرهم ، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة.
    وإننا لا نجد أيَ أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحد منهم.
    إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول ( الوحي ) على « موسى » بشكل كامل ويبيّن جميع التفاصيل في قصته ( عليه السلام ) ولا يذكر أي شيء من الخوف ، والارتعاش ، والوحشة والفزع ، بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار على أثر سماع الوحي !! مع أن أرضية الخوف والفزع في مجال « موسى » كانت متوفرة
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238.

(341)
أكثر ، لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنه نبيُ مرسَلٌ.
    ولكن موسى ـ كما يصرّح القرآن الكريم ، بهذه الحقيقة ـ حافظ على هدوئه ، وسكونه ، وعندما خاطبَهُ اللّه تعالى بقوله : « أن ألقِ عصاك » القاها من فوره ، وكان خوفه من ناحية العصى الّتي تبدّلت إلى ثعبان مخيف ، لا من جهة الايحاء إليه.
    فهل يمكن ، أو يجوز لنا أن نقول : كان « موسى » لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً ، ولكن أفضل الانبياء والمرسلين اضطرب عند سماع كلام المَلك ، وفزع إلى درجة فكَّر في طرح نفسه من أعلى الجبل ؟! هل هذا كلام معقول ؟!
    لا ريب أن روح محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ما لم تكن مهيَّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الالهيّ ( النبوة ) لا يمكن أن يمنَ عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة ، ويختاره لمقام الرسالة ، لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل ، وارسال الانبياء هو هداية الناس وارشادهم.
    ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار خوفاً (1) وفزعاً كيف يمكن ان ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثر فيهم ؟!
    ثانياً : كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الالهيّ إلى أنه صادرٌ من جانب اللّه ، فطلبَ من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنه أفصحُ منه قولا (2) بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم ؟!
    ثالثاً : لقد كان « ورقة » مسيحيّاً حتماً ، ولكنه عند ما أراد أن يزيل عن « محمَّد » الشك والإضطراب ذكر نبوَّة « موسى » ( عليه السلام ) وقال : قد جاءك الناموس الّذي جاء موسى (3).
1 ـ كما نقل هيكل في كتابه : « حياة محمَّد ».
2 ـ طه : 29.
3 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238 وقد نقل المرحوم المجلسي هذه العبارة عن المنتقى ولكنه بلفظة « عيسى » أيضاً ولكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري وسيرة ابن هشام اللذين هما الأساس لهذه الامور.


(342)
    ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمة يداً اسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي الّتي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلة عما كان يدين به « ورقة » بطلُ القصة ؟!
    كل هذا بغصّ النظر عن أن مثل هذه الاُمور تتنافى والعظمة الّتي نعهدها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تنسجم معها أبداً ، ويبدو أن كاتب « حياة محمَّد » أدرك إلى درجة ما خرافية هذه القصة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة : « كما يقولون ».
    وقد حارب ائمةُ الشيعة هذه الاساطير بكل قوة ، وأبطلوها برمتها.
    فعندما يسأل زرارة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مثلا : كيف لم يَخفْ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتيه من قِبَل اللّه ان يكون ممّا ينزغ به الشيطان :
    قال الإمام ( عليه السلام ) : « إنّ اللّه إذا اتخذَ عبداً ورسولا ، أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّ وجلّ مثل الّذي يراه بعينه » (1).
    ويقول العلامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره ، في هذا الصدد :
    « إن اللّه لا يوحي الى رسوله إلاّ بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه تعالى ، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ ، ولا يَفْرُق » (2).
1 ـ بحار الأنوار : ج 18 ، ص 262 وفي الكافي : ج 1 ، ص 271 نظيره.
2 ـ مجمع البيان : ج 10 ، ص 384.


(343)
    لقد تَعرّضَ يوم مبعث رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم غير مقطوع به ، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبويّة.
    فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب ، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه.
    بينما اشتهر عند علماء السُنّة أن رسول الإسلام قد اُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.
    ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف « محمّد » صلى الله عليه وآله وسلم من جانب اللّه تعالى بهداية الناس ، وبُعثَ بالرسالة.
    ولما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الصادقين ، وتعتقد بصحة ما يرونه ويقولون به اتباعاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ، في حديث الثقلين : « إنهما لن يفترقا » فانهم اتبعوا ـ في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف ـ القول المأثور ـ بنقل صحيح ـ عن عترة النبي المطهرين في


(344)
هذا المجال.
    فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أن عظيمَ هذا البيت و سيّده ( أي النبيّ ) قد بُعِثَ في السابع والعشرين من شهر رجب ، وهم في ذلك حجة.
    ولهذا لا يمكن الشك والتردد في صحة هذا القول وثبوته (1).
    نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان ، وحيث أن يومَ بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانَ هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي ، والقرآن عليه ، لهذا يجب القول بان يوم البعثة الشريفة انما كان في نفس الشهر الّذي نزل فيه القرآن الكريم : اي شهر رمضان المبارك.
    واليك فيما يأتي الآيات الّتي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان :
    1 ـ « شَهْرُ رَمضان الَّذي اُنْزِلَ فِيه الْقُرانُ » (2).
    2 ـ « حم. وَالكِتابِ الْمُبين. إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة » (3) وتلك الليلة هي ليلة القَدْر الّتي قال عنها سبحانه : « إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدر. لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْر » (4).

    ما أجاب به علماء الشيعة :
    ولقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا :

    الجوابُ الأوَّل :
    إنَ الآيات المذكورة إنّما تدل على أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي « ليلة القدر » ، ولكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه
1 ـ راجع بحار الأنوار : ج 18 ، ص 189.
2 ـ البقرة : 185.
3 ـ الدخان : 1 ـ 3.
4 ـ القدر : 1 و 3.


(345)
الآيات ، وأنها أين نزلت ؟ وهي بالتالي لا تدل أبداً ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه ؟
    فيحتمل أن يكون القرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً.
    والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور (1).
    وعلى هذا فما المانع من ان تكون بعض آيات القرآن ( من سورة العلق ) قد نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ ، إلى موضع آخر عُبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.
    ويؤيّد هذا الرأي قولُ اللّه تعالى في سورة الدخان : « إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مباركةِ » فانَّ هذه الآية ـ بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب ـ تصرح بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلة مباركة ( في شهر رمضان ) ، ولابدَّ انَ يكون هذا النزول غير ذلك النزول الّذي تحقق في يوم المبعث الشريف ، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا اكثر.
    وخلاصة الكلام هي ان الآيات الّتي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة ( ليلة القدر ) لا يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الّذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسِه ، لأنَّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر ، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.
    وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من « اللوح المحفوظ » إلى « البيت المعمور ».
    وقد روى علماء الشيعة والسنة روايات وأخباراً بهذا المضمون ، وبخاصة
1 ـ للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس