سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 346 ـ 360
(346)
الاستاذ الأزهري محمّد عبدالعظيم الزرقاني الّذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه (1).

    الجواب الثاني :
    وهو أمتن الاجوبة والردود على هذا القول.
    فقد بذل الاستاذُ الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم ؛ واليك خلاصته :
    يقول العلامة الطباطبائي : إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان ، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي ، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك (2).
    وحيث أنّ النبيّ الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل بقرائته حتّى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى : « وَلا تعْجَل بِالْقُرانِ مِنْ قَبلُ أَن يُقْضى إلَيْكَ وَحْيُهُ » (3).
    وخلاصة هذا الجواب هي : أنَّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الّذي نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة في شهر رمضان ، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في يوم المبعث ، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

    الجواب الثالث : التفكيك بين نزول القرآن والبعثة
    إن للوحي ـ كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي اجمالا ـ مراتب
1 ـ مناهل العرفان في علوم القرآن : ج 1 ، ص 37.
2 ـ الميزان : ج 2 ، ص 14 ـ 16.
3 ـ طه : 114.


(347)
ومراحل ، يتمثل أولُ مراتبه في الرؤيا الصادقة الّتي رآها رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    والمرتبة الاُخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهي من دون وساطة ملك.
    وآخر تلك المراتب هو أن يسمع النبيُ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه ، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الاُخرى.
    وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الاولى تحمُّل مراتب ( الوحي ) جميعها دفعة واحدة بل لابدّ أن يتحملها تدريجاً ، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد سمع يوم المبعث ( اليوم السابع والعشرون من شهر رجب ) النداء السماويّ الّذي يخبره بأنه رسول اللّه ، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم ايّة آية قط ، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.
    وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً.
    وعلى هذا الاساس ما المانع من ان يُبعَث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رجب ، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام ؟
    ان هذه الاجابة وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية ( لأن كثيراً من المؤرخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه ) إلاّ أن هناك ـ مع ذلك ـ روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنداء الغيبيّ ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات ، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول :
    في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً يقول له : يا محمَّد إنّك لرسول اللّه ، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء ، فقط ، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك.
    وللمزيد من التوضيح ، والتوسع يُراجع « البحار » في هذا المجال (1).
1 ـ بحار الأنوار : ج 18 ، ص 184 و 190 و 193 و 253 ، الكافي : ج 2 ، ص 460 ، تفسير العيّاشي : ج 1 ، ص 80 وهذا الجواب لا ينسجم مع ما رواه البخاري من أنّ بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه.

(348)
    على أنَ هذه الاجابة تختلف عن الإجابة الرابعة الّتي تقول بأن مبعثَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان في شهر رجب ، وكان نزولُ القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية الّتي استغرقت ثلاثة أعوام.

    الانبياء والبشارة برسول اللّه :
    وينبغي ـ استكمالا لهذا الفصل من التاريخ النبوي ـ ان نلفت نظر القارئ الكريم إلى ان الرسالة المحمَّدية المباركة ، ممّا بشر به جميع الانبياء المتقدمين زمنياً على خاتم الانبياء والمرسلين محمَّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ولقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ قال اللّه تعالى : « وَإذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّينَ لمَا آتيتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكمَة ثُمَّ جاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرَنَّهُ قالَ ءأَقْرَرتُمْ وَأَخذتُم عَلى ذلِكُمْ إصريْ قالُوا أقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدينَ » (1).
    وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عام وكلّي وهو : وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق ، إلاّ أن المصداق الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم.
    فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكد من جميع الانبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه واتباعه ونصرته.
    روى الفخر الرازي عن اميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) :
    « إن اللّه تعالى ما بَعث آدم ( عليه السلام ) وَمؤمن بعده من الانبياء عليهم الصلاة والسَّلام إلاّ أخذ عليهم العهد لئن بُعث محمَّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه » (2).
    وممّا يؤيد هذا ان القرآن دعا اهل الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في
1 ـ آل عمران : 81.
2 ـ مفاتيح الغيب : ج 2 ، ص 507.


(349)
كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان ، واليك فيما ياتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر :
    1 ـ قال اللّه تعالى : « وَإذْ أَخَذَ اللّه ميثاقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ لَتُبيَّنُنَّهُ للنّاس وَلا تَكتُمونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراء ظُهورهمْ وَاشْتَروا بِه ثَمناً قَلِيلا فَبِئسَ مَا يَشْتَرُونَ » (1).
    2 ـ قال تعالى : « إنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِه ثَمناً قَليلا اُوْلئكَ مَا يَأكُلُونَ في بُطُونِهِم إلاّ النّار ، ولا يُكَلِّمهُمُ اللّه يَومَ الْقِيامَةِ ولا يُزكّيهمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أليمٌ » (2).
    3 ـ وقال تعالى : « الَّذينَ آتَيْناهمْ الْكِتابَ يَعرفُونَهُ كَما يَعرفُونَ أَبناءهُمْ وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ ليكتمون الحقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » (3).
    4 ـ وقال سبحانه : « الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبيّ الاُمِيَّ الَّذي يَجدُونَه مكتُوباً عِندَهُمْ في التَوراةِ وَالإنجيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوف وَيَنْهاهُمْ عِنَ الْمُنكر وَيُحِلُّ لَهُمْ الطيِّباتِ وَيُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائثَ وَيضَعُ عَنْهُمْ إصْرهُمْ وَالأَغْلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِم فالَّذينَ آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي اُنزِلَ معهُ اُوْلئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (4).
    ان القرآن الكريم يصرح بجلاء ان السيد المسيح ( عليه السلام ) اخبر عن رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى : « وَإذْ قالَ عيسَى بنْ مَريَمَ يَا بني إسرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليكُمْ مُصدِّقاً لِمَا بينَ يديَّ مِنْ التَوراة ومبشِّراً بِرَسُول يَأتي مِن بَعدي اْسمُه أَحمَدُ فلمّا جَاءهُمْ
1 ـ آل عمران : 187.
2 ـ البقرة : 174.
3 ـ البقرة : 146.
4 ـ الاعراف : 157.


(350)
بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سحرٌ مُبينٌ » (1).
    كما يتحدث القرآنُ الكريمُ عن أهل الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم عندما بُعثَ وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على اعدائهم إذ قال سبحانه : « وَلمَّا جاءهُمْ كِتابٌ مِنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبلُ يَسْتفتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفَرُوا فَلمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِه فلعنَةُ اللّه عَلى الْكافِرينَ » (2).
    بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأَنَّ إبراهيم ( عليه السلام ) يومَ أحلّ زوجتَه وولده اسماعيل بارض مكة دعا قائلا : « رَبَّنا وَابعَثْ فيهمْ رَسولا مِنْهُمْ يَتلو عَلَيْهمْ آياتِكَ وَيعلِّمُهُمْ الْكِتابَ وَالْحِكْمةَ وَيُزكّيهمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ » (3).
    وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذ يصفه القرآن الكريم بقوله : « لَقَدْ مَنّ اللّه عَلى الْمُؤمنينَ إذْ بَعثَ فيهمْ رَسولا مِنْ أنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِه وَيُزكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة وَإنْ كانوا مِنْ قَبلُ لَفي ضَلال مُبيْن » (4).

    محمَّد خاتم الانبياء :
    واستكمالا لهذا البحث ينبغي أيضاً أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته وهي مسألة الخاتمية.
    فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيّين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا نبيّ بعده ، ولا رسالة بعد رسالته.
1 ـ الصف : 6.
2 ـ البقرة : 89.
3 ـ البقرة : 129.
4 ـ آل عمران : 164.


(351)
    وها نحن ندرج ابرز الآيات الواردة في هذا المجال :
    1 ـ قال تعالى : « مَا كانَ مُحمَّد اَبا أَحد مِنْ رجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّه وَخاتَمَ الْنَبيّين وَكانَ اللّه بِكُلِّ شَيء عَليماً » (1).
    2 ـ قال سبحانه : « تَباركَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ عَلى عَبدِه ليكونَ للعالَمينَ نَذيراً » (2).
    3 ـ وقال سبحانه : « وَاُوحي إليّ هذا الْقُرآنُ لاُنذِركُمْ بِه وَمَنْ بَلغَ » (3).
    4 ـ وقال تعالى : « وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً لِلنّاسِ بَشيراً وَنَذيراً وَلكِنَّ أكثرَ النّاسِ لا يَعلَمُونَ » (4).
    والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأن رسالة النبيّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم عامة وعالمية وأبدية لأَنه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً للناس كافة ، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه.
    هذا وقد صرّح النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق.
    فعن ابي هريرة قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم :
    « اُرسلتُ إلى الناس كافة وبي خُتِم النبيّون » (5).
1 ـ الأحزاب : 40.
2 ـ الفرقان : 1.
3 ـ الانعام : 19.
4 ـ سبأ : 28.
5 ـ الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 128.


(352)

(353)

    أوَّلُ من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء :
    لقد انتشرَ الإسلامُ في العالَم بصورة تدريجية ، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة على نشرها قبل غيرهم ب‍ « السابقين ».
    وقد كان السبق إلى الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة ، ونتعرف على من سَبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال ، ومن النساء.

    مِنَ النساء : « خديجة »
    إن من المسلَّم به تاريخياً أن « خديجة » كانت أول امرأة آمنت برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يخالف في هذا اُحدٌ ، (1) ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهماً واحداً ذكره المؤرخون نقلا عن إحدى زوجات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مكتفين به رعايةً للاختصار.
    تقول عائشة : ما غرتُ على نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ على « خديجة » وإنّي لم اُدركها ، وقد كان رَسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 240.

(354)
من البيت حتّى يذكر « خديجة » فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الايام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلاّ عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ، فغضب حتّى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال :
    « لا واللّه ما ابدَلني اللّه خيراً منها ، آمنَت بي إذ كَفَر الناسُ ، وَصَدَّقَتني إذ كَذَّبني النّاسُ ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها اولاداً إذ حرمني اولاد الناس » (1).
    وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كلَ نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي ، ونزول القرآن ، لأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما انحدر من غار « حراء » واخبر زوجته « خديجة » بما جرى له واجه ـ رأساً ـ ايمان زوجته به وقبولها لكلامه ، وتصديقها برسالته ، تصريحاً وتلويحاً.
    هذا مضافاً إلى أنها كانت قد سمعت من قبل أخباراً تتعلق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب ، وهذه الأخبار وامانة فتى قريش وصدقه الّذي اشتهر به هي الّتي دفعت بها إلى أن تتزوج بالفتى الهاشميّ ( محمَّد ).

    أقدمُ الرجال اسلاماً : « عليّ »
    إن المشهور المقارب للمتَفق عليه بين المؤرخين ، سنة وشيعة ، هو أن « عليا » كان اول من آمن برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال.
    ونرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالا اخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً :
    فمثلا يقال : إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه وابنه بالتبني ، أو أبو بكر كان أول من أسلم ، ولكن دلائلَ عديدة ( نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار ) تشهد على خلاف هذين القولين.
1 ـ صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، صحيح البخاري : ج 5 ، ص 39 ، اسد الغابة لابن الأثير الجزري : ج 5 ، ص 428 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 8.

(355)
    واليك بعض هذه الدلائل :

    1 ـ عليّ تربّى في حجر النبيّ
    لقد تلقى عليٌ ( عليه السلام ) تربيته في حجر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم.
    قال عامّة المؤرخين وكُتّاب السيرة بالاتفاق : إنَّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدةٌ ( قبل بعثة النبي ) وكان أبو طالب ذاعيال كثير ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم للعباس عمّه ، وكان من أيسر بني هاشم : يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلْنخفّف من عياله ، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ انت رجلا فنكفهما عنه ، فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتّى اتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه ( إلى أن قال : ) فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم علياً فضمّه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه فلم يزل عليٌ مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبياً فاتبعه علي رضي اللّه عنه وآمن به وصدقه (1).
    في هذا الصورة يجب أن نقول بأنّ علياً ( عليه السلام ) انتقل إلى بيت النبيّ وهو دون الثامنة ، لأَنَّ الغرض من أخذ النبي إيّاه من ابيه « أبي طالب » هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة ( أبي طالب ) ، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في مثل هذا السنّ ( دون الثامنة ) مضافاً إلى أنَّ فصله عن والدَيه أمرٌ في غاية الصعوبة ، لن يكونَ لأَخذهِ وتكفّلِهِ أيُ أثر هامّ في وضع أبيه ( أبي طالب ) المعيشىّ.
    وعلى هذا يجب أن نفترض له ( عليه السلام ) عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الإقتصادي والمعيشي.
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 246 ، البداية والنهاية : ج 2 ، ص 25.

(356)
    فكيف يمكن القول ـ والحال هذه ـ أن اباعد عن البيت النبويّ مثل « زيد بن حارثة » وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي ، بينما جهل ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقرب الناس إليه والّذي كان معه في اكثر الأوقات بما أتى به صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل عليه.
    إنّ غرضَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من تربية الإمام عليّ وتكفّله إياه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو طالب من خدمات ، ولم يكن ثمة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أنْ يهديَ أحداً إلى الصراط المستقيم ، فكيف يمكن أن يقال ـ والحال هذه ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حرم ابن عمّه الّذي كان يتمتع بذكاء باهر وضمير يقظ ، من هذه النعمة الكبرى.
    إنَ من الأفضل أن نسمَعَ هذا الأمر من لسان « علي » نفسه ، فقد بيّن ( عليه السلام ) في الخطبة القاصعة منزلَته من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقربه إليه هكذا :
    « وَلَقدْ عَلِمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضَعني في حجره وأنا وليدٌ ، يضمُّني إلى صدره ، ويكنُفني في فراشه ، ويمسُّني جسده ، ويُشمُّني عرفَه ( عرقه ) ... ولقد كنتُ أتّبعه اتباعَ الفصيل إثر اُمِّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علَماً ويأمُرُني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فاراه ولا يراه غيري ، ولم يجمَعْ بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه ، وخديجة وأنا ثالثهما أرى نورَ الوحي والرِّسالة وأشمُّ ريحَ النبوة » (1).
    وجاء في تاريخ الطبري عن ابن اسحاق قال : كان اول ذكر آمن برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وصلّى معه وصدّق بما جاءه من عند اللّه « علي بن ابي طالب » ( عليه السلام ) وهو يومئذ ابن عشر سنين ، وكان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن ابي طالب ( عليه السلام ) انه كان في حجر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ نهج البلاغة : ج 2 ، ص 182 ، وفي هذه الخطبة نفسها يقول : اللّهمّ إني أوّل من أناب وَسَمِعَ وَاَجابَ لم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة.

(357)
قبل الإسلام (1).

    2 ـ عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ :
    ينقل ابن الاثير في « اُسد الغابة » ، وابن حجر في « الإصابة » عند ترجمة « عفيف الكندي » وكثير من علماء التاريخ القصة التالية عنه ، بأنه قال :
    كنت إمرء تاجراً فقدمتُ « منى » أيام الحج ، وكان العباس بن عبد المطلب امرء تاجراً فأتيته أبتاع منه وابيعه ، قال : فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلّي ، وخرج غلام يصلّي معه ، فقلت : يا عباس ما هذا الدين ، إنّ هذا الدين ما ندري به ؟ فقال : هذا محمَّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستُفتَح عليه ، وهذه امرأته « خديجة بنت خويلد » آمنت به وهذا الغلام ابن عمه « علي بن ابي طالب » آمن به قال عفيف : فليتني كنت رابعهم (2).
    وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتّى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها ، وفي امكان القارئ الكريم ان يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.

    3 ـ أنا الصِدّيق الأكبر :
    تلاحَظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً ، في خطب الإمام عليّ ( عليه السلام ) وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة :
    « أنا عَبْدُ اللّه ، وأخو رسول اللّه ، وأنا الصِدّيقُ الأكبر ، لا يقولُها بعدي الا كاذب مفتر ، ولقدْ صَلّيتُ مَعَ رسُول اللّه قبل الناسِ بسَبْع سِنين ، وأنا أوّل مَن
1 ـ تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57.
2 ـ الاصابة : ج 2 ، ص 480 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57. الكامل : ج 2 ، ص 37 و 38. اعلام الورى : ص 25 ، اسد الغابة : ج 3 ، ص 414.


(358)
صلّى معه » (1).

    4 ـ أوَّلكم إسلاماً : عليّ
    ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وبتعابير متنوعة قال فيها :
    « أوَّلُكُمْ وارداً عَليَّ الحوضَ ، أوَّلُكُمْ إسْلاماً عليُّ بنُ أبي طالب » (2).
    وعند ما يدرس المنصف المحايد هذه الاحاديث ، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام ، وتقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمَّدية ، ولا يختار القولين الآخرين اللَّذين لا يذهبُ إليهما إلاّ الأقليّة.
    فإنَّ ما يناهز الستين شخصاً من الصحابة والتابعين يؤيدون القولَ الأَولَ ( أي أن عليّاً أولُ القوم إسلاماً وأقدمهم أيماناً ) وحتّى الطبريّ نفسه الّذي شكَّكَ في هذا القول ، واكتفى بنقله دون اختياره وتأكيده ، روى في ج 2 ، ص 60 بأن « ابن سعد » سال اباه قائلا : أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ، فقال : لا ولقد أسلم قبله اكثر من خمسين.
    ومن غريب الأمر ان مؤرخاً كبيراً كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج 7 ، ص 334 من كتابه « البداية والنهاية » حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير المؤمنين وأنَّه أوَّل من اَسلم وصلّى ثمَّ أردفه بقوله : وهذا لا يصحّ من اي وجه كان روي عنه ، وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم من هذه الاُمَّة أحاديثٌ كثيرةٌ لا يصحّ منها شيء ... إلخ.
    وقد تصدى العلامة المحقق الاميني رحمه اللّه للردّ على هذا المقال بالتفصيل ونظراً لأهميّة ما كتبه العلامة الاميني وما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما ذكرناه.
1 ـ خصائص النسائي : ص 3 و سنن ابن ماجه : ج 1 ، ص 57 ، مستدرك الحاكم : ج 1 ، ص 112 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 56 وغيرها.
2 ـ يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير : ج 3 ، ص 220.


(359)
    يقول العلامة الاميني :
    نُسائل هذا الرَّجل لِمَ لا يصحّ شيء منها من أيّ وجه كان ؟! والطرق صحيحةٌ ، والرِّجال نقاتٌ ، والحفّاظ حكموا بصحَّته ، وأرباب السير أطبقوا عليه ، وكان من المتسالم عليه بين الصَّحابة الأَوَّلين والتابعين لهم بإحسان.
    ونحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير ( أعاذنا اللّه عن مثلها ) وتخفى عليه جليَّة الحال فيهمنا ذكرُ نزر ممّا يدلُّ على المدَّعى وإن لم يسعنا ايراد كثير منه روماً للاختصار.

    النصوص النبوية :
    1 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم : أوَّلكم وارداً ـ وروداً ـ على الحوض أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب.
    أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 136 وصحَّحه م ـ والخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 و يوجد في الاستيعاب 2 ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3 ، ص 258.
    وفي لفظ : أوَّل هذه الاُمّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه. السيرة الحلبيَّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيَّة.
    وفي لفظ : أوَّل الناس وروداً على الحوض أوّلهم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب مناقب الفقيه إبن المغازلي. مناقب الخوارزمي.
    2 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة : زوّجتك خير اُمَّتي أعلمهم علماً ، وأفضلهم حلماً وأوَّلهم سلماً. راجع ما مرَّ ص 95.
    3 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة : إنَّه لأوَّل أصحابي : إسلاماً. أو : أقدم اُمَّتي سلماً. حديث صحيحٌ راجع ص 95.
    4 ـ أخذ صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليّ ، فقال : إنَّ هذا أوَّل من آمن بي ، وهذا أوَّل من يُصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدِّيق الأكبر. راجع الجزء الثاني


(360)
ص 313 ، 314.
    5 ـ عن أبي ايوب قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى علي سبع سنين لأنا كنّا نصلّي وليس معنا أحدٌ يُصلّي غيرنا.
    مناقب الفقيه ابن المغازلي باسنادين م ـ أسد الغابة 4 : 18 ومناقب الخوارزمي وفيه : ولِمَ ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : لم يكن معي من الرجال غيره.
    كتاب الفردوس للديلمي. شرح إبن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47.
    6 ـ إبن عبّاس قال قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ اوَّل من صلّى معي عليُّ. فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق.
    7 ـ معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : يا عليُّ ! اخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ولا يُجاحدك فيه أحدٌ من قريش ، أنت أوَّلهم ايماناً باللّه ، وأوفاهم بعهد اللّه ، وأقومهم بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).
    8 ـ أبوسعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لعلّي ـ وضرب بين كتفيه ـ : يا عليُّ لك سبع خصال لا يُحاحّك فيهنَّ أحدٌ يوم القيامة ؛ أنت أوَّل المؤمنين باللّه ايماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأقومهم بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).
    9 ـ من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم انَّه قال لعليّ ( عليه السلام ) : هذا أوّل من آمن بي وصدَّقني وصلّى معي. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 256.
    10 ـ إنَّ ابابكر وعمر خطبا فاطمة فردَّهما رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال : لم أُؤمر بذلك. فخطبها عليُّ فزوَّجه إيّاها وقال لها : زوَّجتكِ أقدم الاُمَّة إسلاماً. روى هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة منهم : أسماء بنت عميس واُمّ أيمن وإبن عبّاس و جابر بن عبد اللّه. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 257.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس