سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 376 ـ 390
(376)
    63 ـ أبو عثمان ربيعة بن ابي عبد الرَّحمن المدني قال : عليُّ أوَّل من أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.
    64 ـ أبو النضر محمَّد بن السائب الكلبي قال : عليّ أوَّل من أسلم ، أسلم وهو إبن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.
    65 ـ محمَّد بن اسحاق قال : كان أوّل ذكرآمن برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وصلّى معه وصدَقه بما جاءه من عند اللّه عليُّ بن ابي طالب وهو يومئذ إبن عشر سنين (1) وكان ممّا أنعم اللّه به على عليَّ بن أبي طالب انَّه كان في حجر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قبل الإسلام.
    وقال : وذكر بعض أهل العلم أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حضرت الصَّلاة خرج إلى شعاب مكَّة وخرج معه عليُّ بن ابي طالب ، مستخفياً من عمِّه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصَّلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ماشاء اللّه أن يمكثا ، ثمَّ إنَّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلِّيان فقال لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : يابن أخي ما هذا الدين ؟ الحديث.
    تاريخ الطبري 2 ص 213. سيرة إبن هشام 1 ص 264 ، 265. سيرة إبن سيِّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 4 ص 22. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260. السيرة الحلبيَّة 1 ص 287.
    66 ـ جُنيد بن عبد الرَّحمن قال : أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي فصلَّيت الجمعة ثمَّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخٌ يقال له : ابو شيبة القاصّ يقصُّ على الناس ، فرغَّب فرغبنا ، وخوَّف فبكينا ، فلمّا انقضى حديثه قال : اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب ( عليه السلام ) فالتفت إليّ من على يميني فقلت له : فمن أبو تراب ؟ فقال : عليُّ بن أبي طالب إبن عمَّ رسول اللّه ، وزوج إبنته ، وأوَّل النّاس إسلاماً ، وأبوالحسن والحسين. فقلت : ما أصاب هذا القاص ؟! فقمت إليه وكان ذا وفرة فأخذت وفرته بيدي وجعلت ألطم وجهه
1 ـ في الكامل لابن الاثير : 2 ص 32. احدى عشرة سنة. نقلا عن ابن اسحاق.

(377)
وأبطح براسه الحائط ، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي وساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبدالملك وابو شيبة يقدمني فصاح يا أمير المؤمنين ؟ قاصّك وقاصّ آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمرٌ عظيمٌ. قال : من فعل لك ؟ فقال : هذا. فالتفت إليّ هشام وعنده أشراف النّاس فقال : يا أبا يحيى ؟ متى قدمت ؟ فقلت : أمس وأنا على المصير إلى أمير المؤمنين فادركتني صلاة الجمعة فصلَّيت وخرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائمٌ يقصُّ فجلست إليه فقرأ فسمعنا ، فرغَّب مَن رغبَّ ، وخوّف مَن خوّف ؛ ودعا فأمّنا ، وقال في آخر كلامه : اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب ، فسالت مَن أبو تراب ؟
    فقيل : عليُّ بن ابي طالب ، أوَّل الناس إسلاماً ، وإبن عم رسول اللّه ، وأبوالحسن والحسين ، وزوج بنت رسول اللّه. فواللّه يا أمير المؤمنين ؟ لو ذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر ولعنه بمثل هذا اللعن لأحللت به الّذي أحللت ، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه وزوج إبنته ؟! فقال هشام : بئس ما صنع. تاريخ ابن عساكر 3 ص 407.
    هذه جملةٌ من النصوص النبويَّة ، والكلم المأثورة عن أمير المؤمنين والصحابة والتابعين في أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم : وهي تربو على مائة كلمة ، أضف اليها ما مرَّ ج 2 ص 276 من أنَّ أمير المؤمنين سبّاق هذه الاُمَّة. واشفع الجميع بما أسلفناه ج 2 ص 306 من أنَّه صلوات الله عليه صدِّيق هذه الاُمة ، وهو الصِّديق الاكبر.
    فهل تجد عندئذ مساغاً لمكابرة إبن كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة وقوله : وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم. إلخ ؟!؟! فإذا لا يصحُّ مثل هذه فما الَّذي يصحّ ؟ وإن كان لا يصحّ شيء منها فما قيمة تلك الكتب المشحونة بها ؟! كلا ، إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون.
    وأنت ترى الرجل يزيف هذه الكلم والنصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة ، ويعتمد في إثبات أيِّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل والمقاطيع والآحاد ، ونقل المجاهيل وأفناء الناس (1).
1 ـ الغدير : ج 3 ص 219 ـ 239.

(378)
    مناظرة بين المأمون واسحاق :
    ولقد دار بين المأمون العباسي وإسحاق وهو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه « العقد الفريد » نذكر هنا خلاصته :
    قال المأمون : يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بَعث اللّه رسوله ؟
    إبن إسحاق : الإخلاص بالشهادة.
    المأمون : أليس السبق إلى الإسلام ؟
    ابن إسحاق : نعم.
    المأمون : إقرأ ذلك في كتاب اللّه يقول : « والسابقون السابقون اُولئك المقرَّبون » إنَّما عُني من سبق إلى الأسلام ، فهل علمت أحداً سبق عليّاً إلى الإسلام ؟
    إبن إسحاق : إنّ علياً أسلَم وهو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكمُ وأبوبكر أسلمَ وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.
    وهنا أمسك المأمونُ بزمام الكلام وقال :
    أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاماً من اللّه ؟
    قال إسحاق : بل دعاه رسول اللّه إلى الإسلام.
    قال المأمون : يا إسحاق هل يخلو رسول اللّه حين دعاه إلى الإسلام من ان يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلَّف ذلك من نفسه ؟
    ثمّ قال : يا اسحاق لا تنسب رسولَ اللّه إلى تكلّف فإن اللّه يقول : « وما أنا مِنَ المتكلّفين ».
    فإذا دعاه بأمر اللّه وليس من صفة الجبّار ـ جلَّ ذكرُه ـ أن يُكلِّفَ رسلَه دعاء مَنْ لا يجوز عليه حكم ، أفتراه في قياس قولك يا إسحاق ؟ أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكمُ قد تكلَّف رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من دعاء


(379)
الصبيان ما لا يطيقون (1).
    وعلى هذا الاساس يجب اعتبار ايمان علي ( عليه السلام ) ايماناً صحيحاً ثابتاً لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهميةً وقيمة بل هو افضل مصداق لقوله تعالى : « والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون » ، هو الإمام علي بن أبي طالب.

    قضيّةُ « إنقطاع الوَحْي » :
    لقد أضاءت روحُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفسُه الشريفة واستنارت بنور الوحي ، ودفَعَه ذلك إلى التأمّل والتفكير في الوظيفة الكبرى والثقيلة الّتي جعلها اللّه على كاهله ، وخاصة عندما خاطبه الله تعالى بقوله : « يا أيُّها المُدّثِّرُ. قُمْ فَأْنذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ » (2).
    وهنا طرح المؤرخون و بخاصّة الطبريّ الَّذي لا يخلو تاريخه من الاساطير الاسرائيليّة قضيّة باسم « انقطاع الوحي » فقالوا : إنّ رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملَك وسمع منه الآيات الاُولى من القرآن الكريم بقي ينتظر نزولَ خطاب آخر من جانب اللّه تعالى ، ولكن دون جدوى ، فهو لم يرَ ذلك المَلك الجميل بعد ذلك ، ولا أنه سمع النداء الغيبيّ مرة اُخرى على غرار ما رأى وسمع في بدء نزول الوحي.
    ولو كان لأنقطاع الوحي في بداية عهد الرسالة ( الّذي ادّعاه هؤلاء ) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس إلاّ.
    وقد تعلَّقت المشيئة الالهية اساساً بأن ينزلَ الوحيُ على رسول اللّه تدريجاً ، لا دفعةً واحدةً وذلك لمصالح معينة ، وحيث أن الأَمر في بدء الوحي كان على أوّله وفي بدايته ، لذلك لم ينزل الوحي الالهي بعد المرة الاُولى فوراً ، ولكن حُمِلَ هذا على « انقطاع الوحي » ولم يكن لا انقطاع الوحي ولا أية مسألة اُخرى من
1 ـ العقد الفريد : ج 5 ص 352 طبعة بيروت دار الكتب العلمية و ج 5 ص 94 طبعة لجنة التأليف القاهرة.
2 ـ المدثر 1 ـ 3.


(380)
هذا القبيل.
    وحيث أن هذه المسألة قد تذرَّع بها الكُتّابُ المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض الاهتمام ليتضح أن ما اُدّعي من انقطاع الوحي ، قضيةٌ فارغةٌ عن الحقيقة ولذلك لا صحّة لتطبيقِ الآيات القرآنية عليها.
    ولتوضيح هذا الأمر ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ ونقله في تاريخه ، ثم نعمد بعد ذلك إلى نقده.
    يكتب الطبري في هذا الصدد قائلا لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وجزع جزعاً شديداً قالت له خديجة : ما أرى ربَك إلا قد قلاك ، فانزل اللّه عزّ وجلّ قوله : « والضُّحى. واللّيْلِ إذا سَجى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وللآخرة خيرٌ لكَ مِنَ الاُوْلى. ولَسوْفَ يُعطِيْكَ ربُّكَ فَترضى. ألم يَجدْكَ يتيماً فآوى. وَوَجدَكَ ضالاّ فَهدى. وَوَجدَكَ عائلا فَأغْنى. فأمَّا اليَتيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السائلَ فَلا تَنهَرْ. وَأمّا بِنعْمَةِ رَبِّكَ فَحدّثْ » (1).
    ولقد أوجدَ نزولُ هذه الآيات سروراً عظيماً لدى خديجة ( عليها السلام ) ، وعلمت بأن ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحة (2).

    اُسطورة وليس تاريخاً !
    إنَّ ذاكرةَ التاريخ تحفظ وتتذكر جيّداً تاريخ حياة السيدة خديجة.
    إن خديجة الّتي كانت أخلاق محمَّد الفاضلة وخصاله المجيدة ، وافعاله الحميدة ماثلة امام عينيها والّتي كانت تؤمن بعدل ربّها كيف يجوز ان تسيء الظن باللّه تعالى وبنبيه الكريم ، العظيم الشأن ؟
    إنَّ مقامَ النبوَّة ومنصبَ الرسالة ، والسفارة الالهية لا يُعطى إلاّ لمن يملك طائفةً من الصفات النبيلة والخصال الرفيعة ، وما لم يتصف شخصُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه الصفات العليا ، وما لم تتوفر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة
1 ـ الضحى : 1 ـ 11.
2 ـ تاريخ الطبري : ج 2 ص 48.


(381)
والمواصفات المعينة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية ، والاعتماد والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات ، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة.
    ولقد قال العلماء : إنّ المسيرة التكاملية عند الانبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا ، فان الغشاوات والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الاُخرى منذ ذلك الوقت ، ويستمر ذلك حتّى تصل الاحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه أبداً ، ومن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك والحيرة والتردّد إلى قلبه وعقله مطلقاً.
    إنَّ آيات سورة « الضحى » وخاصة عبارة « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه العبارة للنبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا مَن هو قائلها ؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وروحيته فهي ساكتة عن كل ذلك ؟
    وذهب بعضُ المفسّرين إلى أن قائلها هم بعضُ المشركين ، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء الوحي ، لأنه لا أحد غير « علي » و « خديجة » كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي ، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه ، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك ، فإن أمر المبعث والرسالة ـ كما سنقول ذلك فيما بعد ـ بقي خافياً على أكثر المشركين لمدة ثلاثة اعوام تماماً ، فهو لم يكن مكلَّفاً بابلاغ رسالته إلى عامة الناس ، إلى أن نزَل قولُه تعالى : « فاصدَعْ بما تؤمر » الّذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء.

    إختلافُ المؤرخين في مسألة « انقطاع الوحي » :
    لم يرد في القرآن الكريم أيُ ذكر مطلقاً لمسألة ( انقطاع الوحي ) بل لم ترد به إشارة أيضاً ، إنما نلاحظها في كتب السيرة والتفسير فقط ، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علة ( انقطاع الوحي ) هذا ، ومدته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها ، وها نحن نشير اليها بشكل مّا :


(382)
    1 ـ ان اليهود سألوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن اصحاب الكهف ، وعن الروح ، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام : ساُخبركم غداً ، ولم يستثن ، فاحتبس عنه الوحي (1).
    بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود واحبارهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق قريش وسؤالهم اياه حول هذه الاُمور الثلاثة ، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا النبي عن تلك الاُمور الثلاثة (2).
    2 ـ قالت خولة وهي امرأة كانت تخدم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ ، فلمّا خرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جروٌ ميّت فأخذته والقته خلفَ الجدار فأنزلَ اللّهُ تعالى هذه السورة ولما نزل جبرئيل سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التأخر فقال : « أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ » (3).
    3 ـ إن المسلمين قالوا : يا رسول اللّه ، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ ؟ فقال : « وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا تقصُّون أظفاركُمْ ولا تأخذونَ من شواربكم » ؟ (4)
    فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة.
    4 ـ اهدى عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنقود عنب وقيل عِذق تمر فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلى الله عليه وآله وسلم ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه وهكذا ثلاث مرات فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ملاطفاً لا غضبان : أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخر الوحيُ أياماً فاستوحش فنزلت
1 ـ روح المعاني : ج 30 ، ص 157 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 310 و 311.
2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 و 301.
3 ـ تفسير القرطبي : ج 10 ، ص 83 و 71 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 349.
4 ـ نفس المصدر.


(383)
السورة (1).
    5 ـ إن جرواً لأحد نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه (2).
    6 ـ إنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي قال جبرئيل ، لا املِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا عبدٌ مأمورٌ (3).
    ثم ان هناك أقوالا اُخرى يمكنُ الحصول عليها من مراجعة التفاسير (4).
    ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر تمسَكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد حادثة ( حراء ) فقالت خديجة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما أرى ربَّك إلاّ قد قلاك !!
    فنزلَ الوحيُ يقولُ : « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » (5).
    وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من الكُتّاب ، المريضة ، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم ، أنهم تمسكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال ، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الّذي لم يَر في حياته أي أثر للشك والحيرة مطلقاً.
    وإننا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته :
    1 ـ لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حباً صادقاً وعميقاً ، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير ،
1 ـ تفسير روح المعاني : ج 30 ، ص 157.
2 ـ غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري : ج 30 ، ص 108.
3 ـ تفسير ابو الفتوح الرازي : ج 12 ، ص 108.
4 ـ مجمع البيان : ج 10 ، تفسير سورة الضحى.
5 ـ تفسير الطبري : ج 30 ، ص 148.


(384)
ووقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه ، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها الزوجية ، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها الا التقوى والطهر ولم تلمس منه إلا كَرَم الصفات و نبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين له صلى الله عليه وآله وسلم من أول يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه وعشرتها اياه صلى الله عليه وآله وسلم فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية ، مع زوجها بغليظ القول ، وتوجه له مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة ، بل والجارحة ؟؟!
    2 ـ إنّ آية : « ما وَدعَّكَ رَبُّك وَما قلى » لا تدل على أن « خديجة » قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمّا مَن هو القائل ، ولماذا قال هذا الكلام ؟ فليس ذلك معلوماً.
    3 ـ إن ناقل هذه الرواية يصف « خديجة » تارة بأنها طمأنت النبيّ ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن الإنتحار ، ولكنه يصفها تارة اُخرى بانها قالت له : بأن اللّه عاداه وقلاهُ ، ألا ينبغي هنا أن نقول : « كن ذكوراً ثم أكذب » ؟!
    4 ـ إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد حادثة جبل ( حراء ) ونزول بضع آيات من سورة « العلق » إلى أن نزلت سورة « الضحى » ، يتوجب ـ في هذه الصورة ـ ان تكون سورة « الضحى » ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُور في حين أنَّ تاريخ نزول الآيات و السور القرآنية يفيد أنها السورةُ الحادية عشَرة من سُور القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي :
    1 ـ العلق.
    2 ـ القلم.
    3 ـ المزمِّل.
    4 ـ المدّثر.
    5 ـ تبّت ( المَسَد ).


(385)
    6 ـ التكوير.
    7 ـ الاعلى.
    8 ـ الانشراح.
    9 ـ والعصر.
    10 ـ والفجر.
    11 ـ والضحى (1).
    نعم إنفرد اليعقوبي من بين المؤلفين باعتبار سورة الضحى ـ في تاريخه (2) ـ السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول ، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة المذكورة ( انقطاع الوحي ).

    الإختلاف في مدة انقطاع الوحي :
    لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير ، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير والأقوال التالية هي :
    4 ـ أيّام.
    12 ـ يوماً.
    15 ـ يوماً.
    19 ـ يوماً.
    25 ـ يوماً.
    40 ـ يوماً.
    ولكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفه لم يكن حدثاً إستثنائياً ، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية ، منجّمة إذ يقول تعالى : « وَقُرآناً فرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ على مكْث » (3).
1 ـ تاريخ القرآن للزنجاني : ص 58.
2 ـ تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 33.
3 ـ الاسراء : 106.


(386)
    ويكشفُ القرآن النقاب ـ في موضع آخر ـ عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال : « وَقال الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عليه الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة كَذلِكَ لِنُثبِّتَ بِهِ فَؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرْتيلا » (1).
    ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كل يوم وكلَّ ساعة ، وأن ينزل جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام ، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع ، بل إنّ الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات ، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبي ، ولأسرار اُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام (2).
    وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمى بانقطاع الوحي ، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري ، والمتلاحق للوحي.
1 ـ الفرقان : 32.
2 ـ راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية : ص 122 ـ 124.


(387)
    إستمرّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى دينه سِرّاً مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عَمَد إلى بناء الكوادر واعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس ، فإنَّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته ، ويكتفي بالاتصالات الفردية السِّرية ويدعو اشخاصاً معينين إلى دينه.
    وقد كانت هذه الدعوة السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس ، وتواجه دعوته صلى الله عليه وآله وسلم منهم بالقبول ، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، في هذه الفترة من عهد الرسالة ، وتاريخ الإسلام ، واليك بعضهم :
    1 ـ السيدة خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ).
    2 ـ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
    3 ـ زيد بن حارثة.
    4 ـ الزبير بن العوام.
    5 ـ عبد الرحمان بن عوف.
    6 ـ سعد بن أبي وقاص.


(388)
    7 ـ طلحة بن عبيداللّه.
    8 ـ أبوعبيدة الجراح.
    9 ـ أبو سلمة.
    10 ـ الأرقم بن أبي الارقم.
    11 ـ عثمان بن مظعون.
    12 ـ قدامة بن مظعون.
    13 ـ عبد اللّه بن مظعون.
    14 ـ عبيدة بن الحارث.
    15 ـ سعيد بن زيد.
    16 ـ خباب بن الأرتّ.
    17 ـ أبو بكر بن أبي قحافة.
    18 ـ عثمان بن عفان.
    وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي ، وآمنوا بنبوته في هذه الفترة (1).
    ولقد كان أقطاب قريش و أسيادها منهمكين ـ طيلة هذه الاعوام الثلاثة ـ في لهوهم ومجونهم ، ومع أنهم كانوا قد عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلاّ أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فِعل تجاهها ، ولم يقوموا بشيء ضدّها.
    ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش.
    واتفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكة ، واستنكروا عملهم هذا ، وأدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي « سعد بن أبي وقاص » أحد المسلمين ، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذ بَيْت « الأرقم بن أبي الأرقم » محلا
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 245 و 262.

(389)
للعبادة بدل شعاب مكّة ، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان ، بعيداً عن أعين المشركين (1).
    ولقد كان « عمّار بن ياسر » و « صهيب بن سنان » الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك البيت (2).

    دَعْوةُ الأَقْرَبيْن :
    يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج الواسعة والمشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى ـ عادة ـ من بدايات صغيرة ونقاط محددة ، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً ، وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة العمل ، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح ، والتكامل لما هم بصدده.
    ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة : ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الإجتماعية وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم ؟
    فأجابه ذلك الزعيم قائلا : ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم انتم أهل الشرق ، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى و نبدأ من مكان صغير ، وبعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل ، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا اُسلوب عمَلنا ، وعَدلنا إلى طريقة اُخرى ، وبدأنا بعمل آخر.
    أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير ، وتبدأون من نقطة واسعة ، وتحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة ، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في إمكانكم ان ترجعوا من
1 ـ تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 61.
2 ـ هذا البيت كان عند جبل الصفا ، وكان معروفاً إلى مدة ب‍ « دار الخيزران » اُسد الغابة : ج 4 ، ص 44 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 192 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 283.


(390)
منتصف الطريق إلاّ بتحمل خسائر كبرى فادحة.
    هذا مضافاً إلى ان أنفسكم كأنها قد عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر وترقّب وانتظار ، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة ، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة.
    هذا ما قاله ذلك الغربيّ.
    ولكن الّذي نتصوره ونعتقده نحن هو : أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب ، بل هي ميزة العقلاء الاذكياء من الناس ، فانهم يعتمدون هذا الاُسلوب لا نجاح مهامّهم ، وتحقيق مقاصدهم.
    ولقد اتبع قائد الإسلام الاكبر الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدة ثلاثة أعوام من دون تعجُّل ، وكان يعرضُ دينه على كل من وجده أهلا للدعوة ، ومستعدّاً من الناحية الفكرية للتبليغ.
    فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها ( لواء التوحيد ) جميع أفراد البشرية ، إلاّ أنه لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة ، بل لم يوجّه الدعوة الخاصة حتّى إلى أقاربه ، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا وصالحاً للدعوة ، ومستعدّاً لقبول الدِّين ، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته.
    وقد كان زعماء قريش ـ كما اسلَفنا ـ منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون « مكة » وطاغيتها : « أبو سفيان » وجماعته كلما سَمِعوا بالدَّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا لانفسهم : إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً تماماً كما انطفأت من قبل دعوة « ورقة » و « اميّة » ( الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجه نحو المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل والتوراة ) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ حتّى يُنسى هذا الاُمر ، ويغدو خبراً بعد أثر ، بل
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس