سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 421 ـ 435
(421)
بعد الهجرة النبوية.
    ونحن نكتفي هنا بادراج اسماء طائفة منهم ونذكر شيئاً من خصوصياتهم.
    1 ـ « أبو لهب » : عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كان جاراً له صلى الله عليه وآله وسلم وهو الَّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وايذاء المسلمين.
    2 ـ « الاسود بن عبد يغوث » وكان أحد المستهزئين وكان إذا وَجَد مسلما فقيراً لا يحميه أحدٌ قال مستهزءاً : هؤلاء ملوك الأَرض الذين يرثون ملك كسرى !! (1).
    ولم يمهله أجلُه ليرى باُم عينيه كيف ورث المسلمون أرض كسرى وقيصر ، ووطأوا عرشهما.
    3 ـ « الوليد بن المغيرة » شيخ قريش وحكيمها الّذي كان يملك ثروة هائلة ، وسوف نتحدث عنه وعن موقفه من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في الفصل القادم.
    4 ـ « اُميّة » و « اُبيّ » ابنا خلف ، وقد مشى « اُبي » هذا بعظم رميم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبي وقال : أتزعم أن ربك يُحيي هذا بعد ما ترى ( أو بعد ما رمّ ) ؟ فنزل قولُ اللّه تعالى : « قُلْ يُحْيِيْها الَّذي أنشأَها أوَّلَ مرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلق عَليم » (2).
    وقد قتل إبنا خلف هذان في بَدْر.
    5 ـ « أبو الحكم بن هشام » الّذي سماه المسلمون لعناده وتعصُّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل ، وقد قُتل هو الآخر في بدر أيضاً.
    6 ـ « العاص بن وائل » وهو والد « عمرو بن العاص » ، وهو الّذي وصف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالأبتر.
1 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 318.
2 ـ بحار الأنوار : ج 18 ، ص 202 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 361 و 362.


(422)
    7 ـ « عقبة بن أبي معيط » الّذي كان من ألدّ اعداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشدّ خصومه بغضاً له صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان لا يألو جهداً في مضايقة المسلمين ولا يترك فرصةً تمرّ دون إيذائهم ! (1).
    هؤلاءهم بعض أعداء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم المبالغين في معاداته ، وهناك غيرُهم كأبي سفيان ممن ذكر المؤرخون خصوصياتهم كاملة في مؤلفاتهم ، وقد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار.

    عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام :
    لقد كان إسلام كل واحد من الذين أجابوا دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نابعاً من سبب معيَّن.
    فربَّما أدَّت حادثةٌ صغيرةٌ إلى أن يعتنق فردٌ أو فريقٌ الإسلام ، وينضمُّوا إلى صفوف المسلمين.
    وقد اتّسمَ السَبَبُ الّذي آل إلى إسلام عمر ـ من بين جميع تلكم الاسباب والعلل ـ بطرافة تقتضي التوقف عنده في هذه الدراسة التاريخية التحليلية.
    على أن التسلسل التاريخي ، والتنظيم الوقائعي لاحداث الإسلام وان كان يقتضي منا ان نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد هجرة صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة ، إلاّ أن الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبي وكيفية اسلامهم ومواقفهم ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني.
    يقول ابن هشام : كان اسلام عمر ـ في ما بلغني ـ أن اُخته بنت الخطاب وكانت عند « سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل » وكانت قد أسلمت وأسلمَ بعلُها « سعيدُ بن زيد » ، وهما مستخفيان باسلامهما من عمَر ( وهؤلاء هم كلُ من أسلم من آل الخطاب ) وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرأن.
1 ـ الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 47 و 51 ، وراجع أيضاً اُسد الغابة ، والاصابة والاستيعاب وغيرها.

(423)
    وكان « عمر » الّذي كانت بينه وبين المسلمين علاقات جداً سيئة (1) قد أزعجه ما أصابَ المجتمع المكي من تشتُّت وفرقة ، وما لحق بقريش من المتاعب أثر ظهور الإسلام ، من هنا عزم على أن يقضي على علة هذا الأمر باغتيال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم والفتك به.
    فخرج يوماً متوشحاً سيفَه يريد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ورهطاً من أصحابه وقد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عمّه « حمزة » بن عبد المطلب و « ابوبكر » و « علي بن ابي طالب » في رجال من المسلمين يحفظونه ويحرسونه.
    يقول « نعيم بن عبد اللّه » وقد كان صديقاً حميماً لعمر : لقيت عمراً وهو متوشح سيفاً ويريد مكاناً فقلتُ له : أينَ تريد يا عمر ؟
    فقال : اُريد محمَّداً هذا الصابئ الّذي فرّق في أمر قريش ، وسفّه أحلامها وعابَ دينها ، وسبَّ آلِهتها ، فأقتُله.
    فقال له نعيم : واللّه لقد غرّتك نفسُك من نفسِك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلتَ محمَّداً أفلا ترجع إلى اهل بيتك فتقيم أمرَهم ؟
    قال : وأيُ أهل بيتي ؟
    قال : ختنُك وابنُ عمك « سعيد بن زيد » واختك « فاطمة بنت الخطاب » فقد واللّه أسلما ، وتابعا محمَّداً على دينه فعليك بهما.
    فأغضب هذا النبأُ عمر بشدة فانصرف عن الهدف الّذي كان يرمي إليه وعاد من توّه إلى بيت اُخته ، فدخل على اُخته وختنه وعندهما « خبّاب بن الأرت » معه صحيفة فيها سورة « طه » يقرئُهما إياها ، فلما سمعوا حسّ « عمر » تغيّب « خبّاب » في مخدع لهم ، أوفي بعض البيت ، واخفت « فاطمة بنت
1 ـ راجع السيرة النبوية : ج 1 ، ص 342 ـ 346.

(424)
الخطاب » الصحيفة ، وكان « عمر » قد سمع حين دنا إلى البيت قراءة « خبّاب » عليهما ، فلما دخل قال : « ما هذه الهينمة (1) الّتي سمعت ؟
    قالا له : ما سمعتَ شيئاً.
    قال : بلى واللّه ، لقد اُخبرِتُ أنكما تابعتما محمَّداً على دينه.
    وبطش بختنه « سعيد بن زيد » فقامت إليه اختُه « فاطمة بنت الخطاب » لتكفَّه عن زوجها فضربها فشجَّها.
    فلما فعل ذلك قالت له اخته وختنُه : نعم قد اسلمنا وآمنّا باللّه ورسوله ، فاصنعْ ما بدا لك.
    فلما رأى « عمر » ما باُخته من الدَّم نَدمَ على ما صنع ، فارعوى ورجع ، وقال لاُخته : اعطيني هذه الصحيفة الّتي سمعتكم تقرأون آنفاً أنظرُ ما هذا الّذي جاء به محمَّد ؟
    فلما قال ذلك قالت له اُخته : إنّا نخشاك عليها. قال : لا تخافي وحلف لها بآلهته ليَرُدّنها إذا قرأها ، اليها.
    فلما قال ذلك طمعتِ في اسلامه ، فقالت : يا اُخيّ ، إنك نجسٌ على شِركك وانّه لا يمسُّها إلاّ الطاهر ، فقامَ « عمر » فاغتسل ، فأعطته الصحيفة وفيها آياتٌ من سورة « طه » هي : « طه. ما أنْزَلْنا عَليْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى. إلاّ تَذكَرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزيلا مِمَّن خَلقَ الأرْضَ وَالسَماواتِ العُلى * الرَّحمن عَلى العرش اْستوى. لَهُ ما في السَماواتِ وَما في الأرْض وَما بَيْنهما وَما تَحْتَ الثرى. وإنْ تَجهَر بالقَول فانَّه يَعلَمُ السِرَّ و أخفى » (2).
    ولقد تركت هذه الآياتُ المحكمة الفصيحة البليغة تأثيراً شديداً في نفس عمر فقال : ما احسن هذا الكلام ؟
    وقرر الرجلُ ، الّذي كان قبل ثوان عدوَّ الإسلام الأول ، أن يغيّر موقفه ،
1 ـ الهينمة صوت كلام لا يُفهم.
2 ـ طه : 1 ـ 8.


(425)
فتوجه من توّه إلى البيت الّذي ذكر له أنَّ فيه رسول صلى الله عليه وآله وسلم وجماعة من أصحابه وهو متوشح سيفَه ، فضربَ عليهم الباب ، فلمّا سَمِعُوا صوته قام رجلٌ مِن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيفَ فرجَع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو فزع وأخبرَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما رأى ، فقال حمزة : فائذن له ، فان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه.
    فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : إئذن له ، فأذِنَ له الرجل ، ونهض إليه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حتّى لقيه في الحجرة ، فأخذ حجزته ( وهو موضع شد الإزار ) أو بمجمع ردائه ثم جَبذَهُ جبذَةً شديدةَ ، وقال : ما جاء بك يابن الخطاب فواللّه ما أرى تنتهي حتّى ينزل اللّه بك قارعة ؟!
    فقال عمر : يا رسول اللّه جئتك لاؤمن باللّه وبرسوله وبما جاء من عند اللّه.
    وهكذا اسلم « عمر » عند رسول اللّه وأصحابه وانضوى إلى صفوف المسلمين.
    ثم ان ابن هشام روى رواية اُخرى في كيفية اسلام عمر من أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية (1).
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 343 ـ 346.

(426)

(427)
    ان البحث حول حقيقة الاعجاز القرآني أمرٌ خارج عن اطار هدفنا في هذا الكتاب فذلك متروكٌ إلى الكتب الإعتقادية والكلامية.
    ولكن الأبحاثَ التاريخيَّة تهدينا إلى أن القرآن الكريم كان من أكبر وأقوى اسلحة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم بحيث خضع أمام فصاحته البالغة وحلاوة كلماته وقوة آياته ، وعباراته ، اساتذة الفصاحة والبلاغة واُمراء البيان والكلام ، وعمالقة الكتابة والخطابة ، واعترفوا برمَّتهم ، وقضّهم وقضيضهم بأَنَّ القرآن الّذي جاء به محمَّد يحتل أعلى مكان في الفصاحة والبلاغة ، وأنَّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر ولم يعهد له التاريخ الانساني نظيراً.
    فلقد كانت جاذبيّة « القرآن الكريم » وتأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى اعدائه ، وربما انهارت قواه ، فبقي مدة طويلة ، لا يقوى على حِراك ، ولا يملك فعل شيء.
    وفيما يلي نذكر بعض النماذج في هذا المجال :

    حُكمُ الوَليد في القرآن :
    كان « الوليدُ بن المغيرة » ممن يرجُع إليه العربُ لحل الكثير من مشاكلها ،


(428)
وكان ذاسنٍّ ، وثروة كبيرة فيهم.
    وعندما واجهت قريش مشكلة ظهور الإسلام وانتشاره في القبائل مشى فريقٌ منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلا لهذا الأمر الّذي بات يهدّد كيان الزعامة المكيّة الجاهلية ، وطلبوا منه أن يبيّن رأيه في القرآن الكريم وقالوا : هل هو سِحر امْ كهانة امْ حديث قد حاكَهُ بنفسه.
    فاستنظرهم « الوليد » ليعطي رأيه فيه بعد أن يسمع شيئاً من القرآن ، فأتى إلى الحجر حيث كان يجلس النبيُّ ، ويتلو القرآن ، فقال : يا محمَّد أنشدْني شعرك.
    فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : ما هو بشعر ، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث انبياءه ورسله.
    فقال : اُتلُ عليّ منه ، فقرأ عليه رسول اللّه :
    « بسم اللّه الرحمن الرحيم ».
    فلما سمع : الرحمان ، استهزأ فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمى بالرحمان ؟
    قال. لا ، ولكني أدعو إلى اللّه وهو الرحمان الرحيم ثم افتتح سورة « حم السجدة » فلما بلغ إلى قوله تعالى : « فان أعرَضوا فَقلْ أنذَرتُكُمْ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ».
    وسمعه الوليد ، فاقشعر جلده ، وقامت كل شعرة في راسه ولحيته ، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.
    فقالت قريش : يا ابا الحكم صبا ابو عبد شمس إلى دين محمَّد ، أما تراه لم يرجع الينا وقد قبل قوله ، ومضى إلى منزله.
    فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا عليه ابو جهل فقال : يا عم نكّست رؤوسنا وفضحتنا.
    قال : وما ذاك يا ابن أخي ؟
    قال : صبوت إلى دين محمَّد.
    قال : ما صبوتُ واني على دين قومي وآبائي ، ولكني سمعت كلاماً صعباً


(429)
تقشعر منه الجلود فقال أبو جهل : أشِعر هو ؟
    قال : ما هو بشعر.
    قال : فخطبٌ هي ؟
    قال : لا وان الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منثور ، لا يشبه بعضُه بعضاً ، له طلاوة.
    قال : فكأنه هي ؟
    قال : لا.
    قال : فما هو ؟
    قال : دعني افكر فيه.
    فلما كان من الغد ، قالوا : يا ابا عبد شمس ما تقول ؟ قال : قولوا : هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه سبحانه فيه : « ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً * وَجَعلْت لَهُ مَالا مَمْدُوداً * وَبَنينَ شُهُوداً » إلى قوله : « عَليْها تِسْعَة عَشر » (1) (2).

    نموذَجٌ آخرٌ :
    كان « عتبة بن ربيعة » من كبراء قريش واشرافها ، ويوم أسلم « حمزة » وأصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون ويكثرون اغتمّت قريش كلّها ، وخشي زعماء المشركين ان ينتشر الإسلام اكثر من هذا فقال عتبة وهو جالس في نادي قريش يوماً ، ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى « محمَّد » فاكلّمه وأعرض عليه اُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟
1 ـ المدثر : 11 ـ 30.
2 ـ بحار الأنوار : ج 17 ، ص 211 و 212 ، إعلام الورى بأعلام الورى : ص 41 و 42.


(430)
    فقالوا : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلّمه.
    فقام إليه « عتبة » حتّى جلس إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يابن أخي إنك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب ، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامَهم ، وعبت به آلهتهم ، ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني اُعرض عليك اُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضَها ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قل يا أبا الوليد اسمع.
    قال : يا ابن أخي إن كنتَ إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثرنا مالا ، وان كنت تريد به شرفاً سَوَّدناك علينا حتّى لانقطع أمراً دونك ، وإن كنتَ تريدُ به مُلكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الّذي يأتيك رئيّاً ( وهو ما يتراءى للناس من الجنّ ) تراه لا تستطيع ردَّهُ عن نفسك طلبنا لك الطبَّ ، وبذَلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يداوي منه ، حتّى إذا فرغ « عتبة » ، ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يستمع منه قال : أقد فرغتَ يا أبا الوليد ؟ قال : نعم قال : فاسمع منّي ؛ قال : إفعل ، قال : « بِسم اللّه الرحمن الرَّحيم. حم * تَنْزيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرآناً عَربيّاً لِقَوْم يَعْلَمُونَ. بَشيراً وَنَذيراً فَأَعْرضَ اكثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا في أكنّة مِمّا تَدْعُونا إليْهِ » (1).
    ثم مضى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيها يقرؤها عليه ، فلمّا سمعها منه « عتبة » أنصتَّ لها وألقى يديه خلفَ ظهره معتمداً عليهما يسمع منه وبقي على هذه مدة من الزمن صامتاً وكأنه قد سُلِبَ قدرة النطق ، ثم انتهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة فسجد ثم قال :
    « قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ فأنتَ وذاك ».
1 ـ فصلت : 1 ـ 5.

(431)
    فقام « عتبة » إلى أصحابه وقد تغيَّرت ملامحُه فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الّذي ذهبَ به !! فلما جَلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟
    قال : ورائي اني قد سمعت قولا واللّه ما سمعت مثله قط ، واللّه ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فواللّه ليكوننَّ لقوله هذا الّذي سمعتُ منه نبأ عظيم ، فان تصِبهُ العربُ فقد كفيتموه بغيركم ، وان يظهر على العرب فمُلكه ملكُكُم ، وعزُه عزّكم ، وكنتم أسعد الناس به.
    فانزعجت قريشٌ من مقالة « عتبة » هذا وسخرت به وقالت : سحرَكَ واللّه يا ابا الوليد بلسانه !!
    قال : هذا رأيي ، فاصنَعوا ما بدا لكم (1).
    هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء العرب في العهد الجاهليّ ، في القرآن الكريم.
    على أن هناك أمثلة ونماذج اُخرى كثيرة في هذا المجال.

    تحججاتُ قريش العجيبة :
    اجتمع « عتبة بن ربيعة » ، و « شيبة بن ربيعة » و « أبو سفيان بن حرب » و « النضر بن الحارث » ، و « أبو البختري » ، و « الوليد بن المغيرة » ، و « ابو جهل » و « العاص بن وائل » وغيرهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : إبعثوا إلى « محمَّد » فكّلِمُوه ، وخاصموه حتّى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه ؛ فجاءهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلَّمهم فيه بداء وانهم قد غَيَّروا مواقفهم ، وكان يحبّ رشدهم وهدايتهم حتّى جلس إليهم.
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 293 و 294.

(432)
    فقالوا له : يا محمَّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمكَ ، وانّا واللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخلَ على قومه مثلَ ما أدخلتَ على قومك لقد شتمتَ الآباء ، وعبتَ الدّين ، وشتمت الآلهة ... ومضوا يعددون أُموراً من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه اُموراً ذكرها اللّه تعالى بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة الإسراء حيث يقول حاكياً عن لسانهم :
    « وَقالُوا لن نُؤمن لَك حَتى
    1 ـ تفجُرَ لَنا مِنَ الأَرض يَنْبُوعاً.
    2 ـ أوْ تكون لك جَنَّةٌ مِن نَخيْل و عنَب فَتُفجّر الأَنْهارَ خِلالَها تفجيراً.
    3 ـ أوْ تُسقطَ السَماء كما زعَمْتَ عَلْينا كِسَفاً.
    4 ـ أوْ تأتي باللّه وَالملائكة قبيلا.
    5 ـ أو يكُونَ لكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُف.
    6 ـ أوْ ترقى في السَماء ولن نؤمنَ لِرُقيِّكَ حَتّى تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نَقْرؤُهُ » !!
    وحيث أنَّ مضمون هذه الآيات هو عدم تلبية النبيّ لِمطالبِ قُريش حيث قال : « قُلْ سُبْحانَ اللّه رَبّي هَلْ كُنْتُ إلاّ بَشراً رَسُولا » قد تذرع به المستشرقون للايقاع بالرسالة المحمَّدية لذلك نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات والعلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب قريش ومقترحاتهم.
    الجواب : إنَّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كل ظرف و زمان ، فإن للاعجاز شروطاً خاصة لم تتوفر في هذه الاقتراحات ، وهذه الشروط هي :
    أولا : أن لا تكون المعجزة من الاُمور المستحيلة الّتي لا يمكن تحقّقها ، فإنّ مثلَ هذه الاُمور خارجة عن إطار القدرة ، ولا تتعلق بها مشيئة اللّه تعالى ولا مشيئة أيّ صاحب إرادة مطلقاً.
    وعلى هذا الأساس إذا طلب الناسُ من النبيّ أمراً محالا ، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلا على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط.


(433)
    هذا الشرط لم يكن متوفراً في بعض مقترحات المشركين المذكورة ( المقترح الرابع ) فانهم طَلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يأتي لهم باللّه سبحانه وتعالى ليقابِلوه وجهاً لوجه ، ويروه جهرة ومن قريب ، ورؤية اللّه تعالى امر محال ، لأن رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدوداً بالزمان والمكان ، وأن يكون جسماً وذا لون وصورة وهو تعالى منزهٌ عن المادّة ولوازم المادية.
    بل حتّى مقترحُهم الثالث لو كان المقصود منه أن تسقط السماء عليهم ( لا أن تسقط قطعة من الصخر على رؤوسهم و تقتلهم ) فان ذلك هو أيضاً من المحالات إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بان يفعل اللّه هذا في نهاية العالم ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضاً كما يدل عليه قولُهم : « كما زعمتَ ».
    إنَّ إنهدامَ المنظومة الشمسيّة وتبعثرَ النجوم وتساقطها وإن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال ، ولكنّه ـ حسب المشيئة الإلهية الحكيمة وإرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري ، ويصل إلى مرحلة الكمال ـ يعدّ محالا ، ولا يمكن أن يفعل حكيمٌ خلاف ما يقتضيه هدفه وغايته.
    ثانياً : حيث أنّ الغاية المنشودة من اقتراح وطلب الإعجاز هو أن يستدِلّ به على صدق دعوى النبيّ ، وصحة انتسابه إلى اللّه ، وبالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بعالم ما فوق الطبيعة ، لذلك فان أيّ اقتراح ومطالبة بالمعجزة لا تتوفر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبيّ النبيُ طلبَهم ويأتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلا على ارتباطه بعالم الغيب ، فحينئذ لا معنى ولا موجب لأن يقوم النبيُّ بما لا يرتبط بشؤونه ولا يخدم هدفه.
    وقد كانت بعض مقترحات المشركين المذكورة من هذا النوع ، وذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض ، أو أن تكون له جَنّة من نخيل وعنب ، أو أن يكون له بيتٌ من زخرف وذهب ، فإنّ مثل هذه الاُمور لا تدل على نبوّة من يمتلكها إذ ما اكثر الذين يمتكلون واحدة من هذه الأشياء وليسوا مع ذلك بأنبياء ، بل ربما يملكون اكثر من ذلك ، ومع ذلك لا يشم فيهم رائحة الايمان فضلا عن النبوة.


(434)
    فاذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام النبوّة ، ولا تكون دليلا على صدق من يدّعيها كان الإتيان بها أمراً لغواً وعبثاً تعالى عنه مقام النبوّة ، وجلّت عنه منزلة الأنبياء.
    وقد يقال : إنّ هذه الاشياء (1) لا تدل على صدق دعوى النبي إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية ، ولكنّها لو حصلت بصورة غير عاديّة ولا متعارفة كانت ولا شك من المعاجز الالهية ، ودلت على صدق النبي وصحة دعواه.
    ولكنّ الظاهر أن هذه فكرةٌ باطلة لان المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبيُّ صاحب مال و ثروة ، فقد كانوا يستبعدون أن يكون نبيُّ اللّه ورسولُه فقيراً لا يملك شيئاً من الثروة والمال ، وكانوا يعتقدون أنّ الوحي الالهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول وحول ، ولذلك قالوا مستغربين ومستنكرين : « وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذا القُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريتين عَظِيم » (2) ؟!!
    أي لماذا لم ينزل هذا القرآن على رَجُل ثَريّ من مكة أو الطائف.
    وممّا يدلّ على أن الهدف كان هو أن يملك النبيُ مثل هذه الاُمور بأي طريق كان ، ولو بالطريق العاديّ أنهم كانوا يريدون هذه الاشياء للنبيّ نفسه إذ قالوا : « أوْ يكونَ لكَ بيتٌ مِنْ زُخْرُف » (3).
    وبعبارة اُخرى : كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستاناً أو بيتاً من ذهب فاننا لن نؤمن لك !!
    ولو كان الهدف هو أن يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذ لقولهم : ما لم يكن « لَكَ » بيتٌ من زخرف ، فاننا نؤمن بك بل كان يكفي أن يقولوا : إذا لم تحدِث وتوجد بيتاً وجنّة فاننا لن نؤمن لك.
1 ـ أي الامور الثلاثة المقترحة الينبوع والجنة والبيت من ذهب.
2 ـ الزخرف : 31.
3 ـ الاسراء : 93.


(435)
    أمّا قولهم في مطلع اقتراحاتهم : « تُفجّرَ لَنا منَ الأَرض يُنبوُعاً » فان مقصودَهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالاعجاز ينبوعاً لينتفعوا به ، بل يفعل ذلك لكي يؤمنوا به.
    ثالثاً : انَ المقصود من المعجزة هو الاهتداء في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ وصدق مقاله ، والإيمان بمنصبه ، والإعتقاد بمقامه ، وعلى هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكونُ الاتيان له بالإعجاز سبباً لإيمانه بالنبيّ ، فحينئذ كان الاتيان بالمعجزة وتلبية اقتراحه أمراً مستحسناً ، وغير مقبوح عقلا.
    أما إذا كان المقترحون ، يقترحون عناداً ولجاجاً ، أو يطلبون ما يطلبونه لهواً وتسليةً كما يفعل الناس مع السحرة والمرتاضين فانَ منزلة الأنبياء أجلّ ـ حينئذ ـ من أن يلبيَّ مثلَ هذه المقترحات ، ويستجيب لمثل هذه المطالب ، وقد كانت بعض إقتراحات المشركين من هذا النمط.
    فان مطالبتهم بأن يصعَدَ النبيُّ إلى السماء ، أو أن يُنزل من السماء كتاباً يقرأونه لم يكن بهدف إكتشاف الحقيقة لأنهم لو كانوا ممن يهدف الوصول إلى الحقيقة فلماذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده إلى السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمَّ أمراً آخر إلى عروجه وصعوده ( وهو أن ينزّل معه كتاباً ) !!
    ثم أنه يُستفاد من آيات اُخرى ، غير هاتين الآيتين ايضاً ، أنهم كانوا سيعاندون ، ويصرون على كفرهم حتّى بعد نزول الكتاب عليهم من السماء كما يصرح بذلك قوله تعالى : « وَلَوْ نَزلنا عَلَيْكَ كِتاباً في قِرطاس فَلَمَسُوهُ بِأيْديْهِمْ لَقالَ الَّذينَ كَفرُوا إنْ هَذا إلاّ سِحْرٌ مُبِيْنٌ » (1).
    فمن غير المستبعد أن يكون الكتابُ المنزّلُ في قرطاس إشارة إلى إقتراح المشركين الّذي جاء ضمن آيات سورة الاسراء أي قولهم : « أوْ تَرْقى في السَّماء وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقيِّك حَتّى تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نقرأوه » (2) فقال اللّه سبحانه : حَتّى لَو
1 ـ الانعام : 7.
2 ـ الأسراء : 93.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس