سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 556 ـ 570
(556)
الحزن (1).
    ومنذ أن توفّى اللّه الحاميين العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واجه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ظروفاً صعبة جداً قلما واجهها من قبل.
    فقد واجه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم منذ حلول السنة الحادية عشر جوّاً مفعماً بالعداء له ، والحقد عليه ، وصارت الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة ، وقد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة وكل امكانات الدعوة إلى دينه.
    يقول ابن هشام في هذا الصدد : ان « خديجة بنت خويلد » و « أبا طالب » هلكا ( اي توفيا ) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام ... وبهُلك عمّه أبي طالب وكان له عضداً ، وحرزاً في أمره ، ومنعةً وناصراً على قومه وذلك قبل هجرته الى المدينة بثلاث سنين ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً.
    ولما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك التراب دخل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها :
    « لا تبكي يا بُنيَّة فإنَّ اللّهَ مانع أباك ».
    ويقول بين ذلك :
    « ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ حتّى مات أبو طالب » (2).
    ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن ينتقل
1 ـ تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347.
2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 415 و 416 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 5 عن إعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.


(557)
من المحيط المكي إلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته.
    وحيث انَّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزاً هامّاً ، لذلك رأى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ان يسافر لوحده إلى الطائف ، ويجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب انصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق.
    ولما انتهى صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف عمد إلى نَفَر من قبيلة « ثقيف » هم يومئذ سادة ثقيف واشرافهم ، وجلس صلى الله عليه وآله وسلم إليهم ، ودعاهم إلى اللّه ، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا له : لئن كنتَ رسولا من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أردَّ عليك الكلام ، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي ان اكلمك !!
    فعرف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من رَدّهم الصبياني أنهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناقِ الإسلام ، فقام صلى الله عليه وآله وسلم من عندِهِم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ ثقيف فيتجرأوا عليه ويتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته ، ومن ثم إيذائه ، فوعدوه بالكتمان ، ولكنهم ـ وللاسف ـ لم يحترموا وعدهم هذا الّذي أعطوه لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وفجأة وجد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نفسه محاطاً بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتّى اجتمع الناس ، وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة إبني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل فجلس فيه وهو يتصبب عرقاً ، وقد الحقوا الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان مالقي من سفهاء أهل الطائف ، وقد كانا من اثرياء قريش ، يومئذ.
    فلما اطمأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم توجه إلى ربه وناجاه قائلا :
    « أللّهُمَّ إلَيكَ أشكُو ضَعفَ قُوَّتي ، وَقِلَّةَ حِيلَتي ، وَهَواني عَلى النّاسِ ، يا أرحَمَ الرّاحِمين ، أنتَ رَبُّ المُستَضعَفِين ، وَأنتَ رَبّي ، إلى مَن تكِلُني ، إلى


(558)
بعيِد يَتَجَهَّمُنِي ؟ أم إلى عَدُوّ ملكتَهُ اَمري ؟
    إن لَم يَكُن بِكَ عَليَّ غَضَبُ فَلا اُبالِي ، وَلكِ ، عافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي.
    أعُوذُ بِنُورِ وَجهك الّذي اشرقت لَهُ الظُّلماتُ ، وَصَلُحَ عَليهِ أمرُ الدُّنيا وَالآخِرَة مِن أن يَنزِلَ بِي غَضَبُكَ ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك.
    لَكَ العُتبى حتّى تَرضى ، وَلا حولَ وَلا قُوّةَ إلاّ بِكَ » (1).
    هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرماً في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق واخلاص ودفعوا عنه كل اذى ولكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتّى يلجأ إلى حائط عدوٍّ من اعدائه ، ويجلس في ظل شجرة ، مكروباً موجَعاً ينتظر مصيره.
    فلما رآه إبنا ربيعة « عتبة وشيبة » وكانا من الوثنيين ومن أعداء الإسلام وشاهدوا مالقي من الأذى والعذاب ، رَقّا لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى يقال له « عداس » فقالا له : خذ قطفاً من العنب فضَعهُ في هذا الطبق ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ، ثم أقبل بالعنب حتّى وضعه بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال له : كل ، فلما وضع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيه يده قال : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ».
    فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال : واللّه إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد.
    فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ومِن أهل أي البلاد أنتَ وما دينك ؟
    قال : أنا نصراني ، من أهل نينوى.
    قال صلى الله عليه وآله وسلم : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.
    فقال له عداس : وما يدريك ما ( من ) يونس بن متى ؟
    فقال صلى الله عليه وآله وسلم (2) : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ ، أنا رسول اللّه ،
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 420.
2 ـ وفي رواية البحار : ج 19 ، ص 6 جملة اعتراضية هنا : ـ وكان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه ـ.


(559)
واللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.
    فأكبَّ عداس على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق ، وجعل يقبّل رأسَه ويديه ، وقدميه ، وهما تسيلان من الدماء وآمن به ، ثم عاد بعد الاستئذان منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى صاحبيه في البستان.
    فتعجب ابنا ربيعة لِما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب ، وسألاه قائلين : ويلك يا عداس ما لك قبَّلت رأس هذا الرجل ، ويديه وقديمه وماذا قال لك ؟!
    فاجابهما الغلام قائلا : يا سيدَيَّ ما في الارض شيء خيرٌ من هذا ، هذا رجلٌ صالح لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبيُّ.
    فشقَّ كلامُ عداس على إبني ربيعة ، وقالا له بنبرة الناصحّ له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك فان دينَك خير من دينه !! (1)

    النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعود إلى مكة :
    انتهت ملاحقةُ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بلجوئه إلى حائط ابني ربيعة ، وكان عليه الآن ، وبعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود إلى مكة ، ولكنَّ عودته إلى مكة لم تكن لتخلو عن مشاكل ، لأنه قد فقد نصيره وحاميه ومدافعه الاكبر والا وحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون ويسفكوا دمه.
    فقرر صلى الله عليه وآله وسلم ان يبقى في منطقة « نخلة » ( وهي واد بين الطائف ومكة ) بعض الوقت.
    لقد كان يريد أن يرسل أحداً إلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتّى يدخل مكة بجوار ، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك « نخلة » إلى حراء ، وهناك التقى رجلا خزاعياً وطلب منه أن
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 419 ـ 421 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 6 و 7 و 22 مع اختلاف يسير.

(560)
يأتي « المطعم بن عدي » بمكة ، وكان من الشخصيات المكية البارزة و يسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش وكيدها.
    فدخل الخزاعيّ مكة ، وأبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقبل المطعم ـ رغم كونه وثنياً مشركاً ـ ان يجير رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال للخزاعي : ائته فقل له : إني قد أجرتك فتعال.
    فدخل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مكة ليلا ونزل في بيت مطعم مباشرة ، وبات ليلته هناك ، ولما طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا ، فاصحبنا إلى البيت ، ليروا جوارنا.
    فاستحسن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رأيه فاخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام ، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.
    وكان أبو سفيان قد كمن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليكيد به ، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً ، وانصرف عن ايذاء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، فجلس المطعم وولده واختانه واخوه ، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله. (1).
    ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتّى هاجر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 381. بحار الأنوار : ج 19 ، ص 7 و 8. ويستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك ، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك وذكر لذلك ادلة ووجوها.
ولكن يمكن الاجابة على هذا بأن الاجارة كانت امراً عادياً في ذلك العصر ، ولم يكن فيها ما يوجب شيناً على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولم تستلزم منة عليه.
ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا ، كتمكين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الدخول بسلام إلى مكة ، وتمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية ، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إلاّ يوماً أو بعض يوم وتسنّى بعده لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ترتيب اوضاعة في مواجهة الاخطار الّتي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.


(561)
من مكة إلى المدينة ، وتوفي المطعم في أوائل الهجرة في مكة ، ولما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلى الله عليه وآله وسلم إحسانه وجوارَه ، وانشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً لخدمته.
    وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يتذكره كثيراً ، حتّى انه تذكره في واقعة « بدر » الّتي انهزمت فيها قريش وعادت منكسرة إلى مكة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها واسر منها عدد كبير ، فتذكر مطعم بن عدي ثمة وقال صلى الله عليه وآله وسلم :
    « لو كان مطعم بن عَديّ حياً لو هبت له هؤلاء » (1).

    نقطة هامة :
    إنَّ سفر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته و استقامته وصبره صلى الله عليه وآله وسلم كما ان تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة وسجاياه. الفاضلة ، وخلقه العظيم.
    ولكن الاهمَّ من هذا وذاك هو أننا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة ، ومعرفة اهميتها الكبرى عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، بمقايستها مع ما فعله مطعم.
    فان مطعم لم يفعل شيئاً إلاّ أن اجار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحماه يوماً أو بعض يوم.
    بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ودافع عنه وخدمه عمراً كاملا ، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم منها ولا شيئاً ضئيلا.
    فاذا كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في « بدر » تقديراً لما قام به مطعم من اجارة بسيطة قصيرة ، فماذا
1 ـ المغازي للواقدي : ج 1 ، ص 110 ثم قال الواقدي : وكانت لمطعم بن عدي عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اجارة حين رجع من الطائف ، طبقات ابن سعد : ج 1 ، ص 210 و 212 ، البداية والنهاية : ج 3 ، ص 137.

(562)
عساهُ أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمُّه وحاميه وكافله الاكبر والأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاماً أنه يجب ان يكون لمثل هذا الشخص العظيم الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين عاماً بايامها وليالها ودافع عنه في السنوات العشر الاخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة الإسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة ، وحمايةً لصرح النبوة ، مقاماً عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية ، ومعلم الإنسانية ، وهاديها العظيم.
    كيف لا ؛ والفرق بين هذين الشخصين كبير ، والبون شاسع ، فمطعم رجل وثني مشركٌ ، بينما يعتبر أبو طالب واحداً من كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال.

    الدعوة في أسواق العرب :
    كانت العرب تجتمع ـ في مواسم الحج ـ في نقاط مختلفة مثل : « عكاظ » و « المجنة » و « ذي المجاز » ، وكان الشعراء والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال ، والتفاخر ، والعشق.
    وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم شأن كل الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة ـ كغيرها ـ لا بلاغ رسالة ربه إلى الناس ، ولم يكن لاحد منعه أوالكيد به لحرمة القتال والجدال في الاشهر الحرم.
    من هنا كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلا :
    « قُولُوا لا إله إلاّ اللّهُ تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ لعَجمُ ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم مُلُوكاً فِي الجَنَّة » (1).
1 ـ الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 216.

(563)
    دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج :
    وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية واشرافها ، ويقف على منازلهم منزلا منزلا ، ويعرض دينه عليهم ، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنه نبيُّ مرسل (1).
    وربما مشى خلفه عمُّه « أبو لهب » فاذا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله وما دعا به قال أبو لهب فوراً للناس : يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
    وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه ، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلاّ أنهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا : أرأيتَ إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك ؟
    فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : « الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ ».
    فرفضوا اعتناق الإسلام والإيمان باللّه ورسوله.
    ثم لما عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم و كان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه بما جرى بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه (2) ونقوم معه.
    فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم على رفضهم لدعوة الرسول وقال :
1 ـ قال ابن هشام : كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلاّ تصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده.
2 ـ أي نحميه.


(564)
يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده ما تَقَوَّلَها اسماعيليٌ قط (1) ، وإنّها لحقٌ ، فاين رأيكم كان عنكم ؟! (2)
    ان هذه القضية التاريخية تفيد ـ في ما تفيد ـ بان مسألة الخلافة والامامة بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر تنصيصي ، تعييني ، لا انتخابي ، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يعود إلى اللّه ، ولا خيار للناس فيه ، وانما عليهم الطاعة والرضا.
1 ـ أي ما ادعى النبوة كاذباً احدٌ من بني اسماعيل.
2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 424 و 425.


(565)
    كان ( وادي القرى ) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام ، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل وادياً طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة ، وكانت المناطق الواقعة على طوال هذا الوادي مناطق خضراء ، ومن هذه المناطق مدينة قديمة كانت تدعى ب‍ : يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.
    وقد سكن في هذه المدينة منذ اوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا : « الاوس والخزرج » اللتان كانتا من مهاجري عرب اليمن ( من القحطانيين ).
    وكان يعيش الى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة : « بنو قريظة » و « بنو النضير » و « بنو قينقاع » الذين كانوا قد هاجروا اليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها.
    وكان يقدم إلى مكة كل عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي بهم في تلك المواسم ، ويجري معهم اتصالات.
    وقد مهدّت بعض هذه اللقاءات للهجرة ، وصارت سبباً لتمركز قوى الإسلام المتفرقة ، في تلك النقطة.


(566)
    على ان كثيراً من تلك الاتصالات وان لم تثمر ولم تنطو على أية فائدة فعلية إلاّ أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب ـ لدى عودتهم ـ انباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من انباء الساعة ، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الامر المهم والخطير.
    ولهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات والاتصالات الّتي تمت بين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وجماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة من البعثة للتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى يثرب ، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.
    1 ـ كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام وعرض عليه ما عنده.
    وقد قدم مرة « سويد بن الصامت » فتصدى له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حين سمع به فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعلّ الّذي معك مثل الّذي معي.
    فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : وما الّذي معك.
    قال : مجلة لقمان يعني حكمة لقمان.
    فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إعرضها عليَّ فعرضها عليه. فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والّذي معي أفضل من هذا. قرآنٌ انزلهُ اللّهُ عليّ هو هدى و نور.
    ثم تلا عليه رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فقال سويد إنّ هذا قولٌ حسن وآمَنَ برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين وكان قتله قبل يوم بعاث (1) (2).
1 ـ بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.
2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 425 ـ 427.


(567)
    2 ـ قدم « انس بن رافع » مكّة ومعه فتيةٌ من بني عبد الاشهل فيهم « ياس بن معاذ » أيضاً ، يلتمسون الحلف والنصرة على قومهم من الخزرج ، فسمع بهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم وجلس اليهم وقال لهم : هل لكم في خير مما جئتم له ؟
    فقالوا له : وما ذاك ؟
    قال : « أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئاً وانزل عليّ الكتاب » ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
    فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً شهماً : أي قوم هذا واللّه خير مما جئتم له.
    فقد أدركَ جيّداً أنَ دينَ التوحيد يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ لأنه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة الاُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال ، وبذلك ينهي كل مظاهرِ الحرب والتنازع ، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو افضل من طلبِ المساعدة العسكرية من قريش الّتي جاؤوا من أجلها إلى مكة ، فآمن برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته « انس بن رافع » واستئذانه ، ولهذا غضب أنس وأخذ حفنة من تراب البطحاء وضرب بها وجهَ إياس وقال : دعنا منك فعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمَتَ اياس وقام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ولم يلبث اياس ان هلك ، وقد سمعه قومٌ حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات ، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلماً ، ولقد استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما سمع (1).

    وقعة بُعاث :
    كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية بين الأوس والخزرج ، ففي هذه
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428.

(568)
الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم ، وأحرقوا نخيل الخزرجيين ، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم.
    ولم يشترك « عبد اللّه بن اُبيّ » وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين ، وكاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب ، وتحمّل الخسائر الثقيلة ، ولهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية ، والغزو والاقتتال ، والثأر والانتقام ، واصرّت القبيلتان على « عبد اللّه بن اُبي » بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه ، بل وأعدوا له تاجاً يتوّجونه به ، حتّى يصبح أميراً في وقت معيَّن ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام ، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه بمكة بستة اشخاص من رجال الخرزج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به ، ولبُّوا دعوته.

    تفصيل الحادث :
    خرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الانصار وكانوا ستة انفار من الخزرج فقال لهم : أمِنْ موالي اليهود ؟ وهل لكم حلف معهم.
    قالوا : نعم.
    قال : أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم ؟
    قالوا : بلى.
    فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعرض عليهم السلام وتلا عليهم القرآن ، فاحدثت كلمات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في نفوسهم أثراً عجيباً ، وممّا ساعد على ذلك أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان ، وكان اليهود قد غزوهم في بلادهم ،


(569)
فكانوا إذا وقع بينهم نزاع وكان بينهم شيء قال اليهود لهم : إن نبياً مبعوث الآن ، قد اظلّ ( أو أطلّ ) زِمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عد وإرَم ، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشُر التوحيد ، وتنتهي على يديه حكومة الوثنية والشرك ، وقد قرب ظهوره.
    فلما كلَّمَ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم اُولئك النفر ، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض يا قوم : تعلّموا واللّه إنه للنبيُّ الّذي توعدّكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه.
    فاجابوه فيما دعاهم إليه بان صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك (1).

    بيعة العقبة الاُولى :
    لقد اثّرت دعوة هؤلاء السنة ، الجادة في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يثرب واعتناقهم عقيدة التوحيد.
    فلما كان العام المقبل ( أي السنة الثانية عشرة من البعثة ) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب ، فلقوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالعقبة ، وانعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية.
    وابرز هؤلاء الرجال هم : أسعد بن زرارة ، وعبادة بن الصامت ، وكان نص هذه البيعة ـ بعد الاعتراف ـ بالاسلام والايمان باللّه ورسوله هو :
    بايعنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا نشرك باللّه شيئاً ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا و أرجلنا ولا نعصيه في معروف.
1 ـ تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 86 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.

(570)
    فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : إن وفيتم فلكمُ الجنة ، وان غشّيتم من ذلك شيئاً فامركم إلى اللّه عزّوجل إن شاء عذَّبَ ، وان شاء غفر.
    وهذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء ، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو (1).
    وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب مفعمة بالايمان ، مترعة بمحبة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث لهم من يعلّمهم الإسلام والقرآنَ ، فبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم « مصعب بن عمير » وأمره بان يقرِّأهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقّههم في الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة.
    واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ ، وهذا الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في غياب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، ويؤمّهم ، ويصلي بهم (2).

    بيعة العقبة الثانية :
    لقد أحدث تقدم الإسلام في يثرب هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها ، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ ، ليقدموا مكة ، ويلتقوا برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن كثب ، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمة وعمل ، وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف.
    وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفراً فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من بينهم امرأتان ، والباقي إما راغبون في الإسلام ، واما غير مكترث به ، حتّى قدموا مكّة ، والتقوا برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ والّتي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.
2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 434 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس