سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 541 ـ 555
(541)
    متى وَقَعت هذه الحادثة ؟
    مع ان أهميّة هذه الحادثة العجيبة كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات ، إلاّ أنها تعرضت للاختلاف ـ مع ذلك ـ من بعض الجهات و منها تحديد تاريخ وقوعها.
    فقد ادّعى كاتبا السيرة المعروفان : « إبن اسحاق » و « ابن هشام » أنها وقعت في السنة العاشرة من البعثة الشريفة.
    وذهب المؤرخ الكبير « البيهقي » إلى أنها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة.
    وذهب آخرُون إلى أنها وقعت في أوائل البعثة ، بينما قال فريق رابع : أنها وقعت في أواسطها.
    وربما يقال في الجمع بين هذه الأقوال : أنه كان لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم معارج متعددة.
    ولكنّنا نعتقد أنّ المعراج الّذي فُرِضَت فيه الصلاة وَقع بعد وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) في السنة العاشرة قطعاً.
    لأنّ من مسلَّمات الحديث والتاريخ أن اللّه تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المعراج أن تصلّي اُمّة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كلَّ يوم وليلة خمس صلوات.
    كما أنه يُستفاد من ثنايا التاريخ أيضاً أن الصلاة لم تُفرَض مادام أبو طالب ( عليه السلام ) على قيد الحياة بل فُرِضت بعد وفاته ، لأنّه حضر عنده ـ ساعة وفاته ـ سراة قُريش وأسيادها ، وطلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه « محمّد » ويمنعه من فعله ، فيعطونه ـ في قبال ذلك ـ ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المجلس : نعم كلمة واحدة تعطونيها : « تقولون لا إله إلاّ اللّه وتخلعون ما تعبدون من دونه » (1).
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 417.

(542)
    لقد طلب منهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر ولم يطلب منهم شيئاً آخر كالصلاة وغيرها من الفُروع أبداً ، وهذا هو بنفسه يدلّ على أنه لم تجب الصلاة حتّى ذلك اليوم ، وإلاّ كان الإيمان المجرّد عن العمل ، والصلاة مفروضة ، لا فائدة فيه.
    وأما أنه لم يذكر شيئاً عن نبُوّته ورسالته فلأنّ الإعتراف بوحدانية اللّه بأمره وطلبه صلى الله عليه وآله وسلم إعتراف ضِمنيّ برسالته ونبوّته ، وفي الحقيقة انَّ التلفُّظ بهذه العبارات بأمره يتضمّن شهادتين واقرارين : الإقرار باللّهِ الواحد ، والإقرار بنبوّة رسول الإسلام.
    هذا مضافاً إلى أن كُتّاب السيرة ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل « الطفيل بن عمرو الدوسي » الّذي أسلم قبل الهجرة (1) بأعوام اكتفى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادتين ، ولم يجر اي حديث عن الصلاة ابداً.
    ان هذه الامثلة تكشف عن أن هذه الحادثة ( المعراج ) الّتي فُرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات.
    والذين تصوّروا أن المعراج وقع قبل السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيراً لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة وحتّى السنة العاشرة ، ولم يكن وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد ( مثل الصلاة ).
    وأما سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين والّتي كانت هي بنفسها مانعاً من فرض الصلاة على المسلمين ، كان المسلمون قلةً معدودين ، ولم يكن نورُ الايمان ، واُصول الإسلام قد ترسخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد ، ولذلك يكون من المستبعد أن يكلفوا بأمر زائد مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف.
    وأمّا ما ورد في بعض الأخبار والروايات من ان الامام علياً ( عليه السلام )
1 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 383.

(543)
صلى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات ، واستمر على ذلك بعدها أيضاً فليس المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت ، المشروطة بشروط خاصة ، بل كانت تلك الصلوات عبارة من عبادة خاصة غير محدودة (1) ، أو كان المراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة.

    هل كان المعراج جسمانياً ؟
    لقد وقع النقاش والكلام في كيفية معراج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنه كان روحانياً أو جسمانياً وروحانياً معاً ، وقيل في ذلك كلام كثير.
    ومع أن القرآن الكريم والأحاديث تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلى الله عليه وآله وسلم كان جسمانياً (2) ، فقد اُوردت في المقام بعض الإشكالات والاعتراضات الّتي منعت البعض عن قبول هذه الحقيقة ، وبالتالي دفعتهم إلى ارتكاب التأويل ، والزعم بأن معراج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان روحانياً ، أي بالروح لا بالجسم.
    لقد قال هؤلاء : ان روح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي الّتي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرة اُخرى !!
    وذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ ادّعوا بان جميع هذه المشاهدات والقضايا تمّت لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الرؤيا ، فكل ما رآه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كانت رؤيا ورؤيا الأنبياء صادقة !!
    على أن أقوال الفريق الأخير من البعد عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال والنظريات أبداً ، لأنَّ قريش بعد أن سمعت من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء والصلاة والاذان يراجع الكافي : ج 3 ، ص 482 ـ 489.
2 ـ لقد نقل الفقيه الجليل العلامة الشيعيّ المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع : ج 6 ، ص 395.


(544)
ادعاءه بانه سار كل تلك المسافة الطويلة البعيدة ، وطاف على كل تلك الاماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة انزعجت بشدة وهبّت لتكذيبه حقيقة ، إلى درجة أن خبر المعراج أصبح حديث الساعة في نوادي قريش واوساطها آنذاك.
    ولو كان كل ذلك تحقق للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المنام والرؤيا لما كان لتكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها معنى ، إذ لا موجب للنزاع لو كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنّي فعلت تلك الامور ، ورأيت تلك المشاهد في الرؤيا والمنام ، إذ هو على كل حال رؤيا ، وكل شيء ـ حتّى الاُمور المحالة أو المستبعدة جداً ـ ممكن في عالم الرؤيا.
    ومن هنا لا قيمة للقول الأخير أصلا فلا تستحق المتابعة أصلا.
    ولكن مع الأسف استحسن بعض العلماء المصريين ( مثل فريد وجدي ) هذا الرأي وسعى في تقويته وتبريره ، ونحن نحبذ ان نتركه ، وان لا نناقش فيه (1).

    ما هو المراد من المعراج الروحاني ؟
    لقد عمد فريق ممن عجز عن دفع وحلّ بعض الاعتراضات والاشكالات الواردة على المعراج الجسماني ، إلى تأويل الآيات والأحاديث ، واعتبر المعراج النبوي معراجاً روحانياً ، لا غير.
    والمقصود من المعراج الروحانيّ هو التدبّر في مخلوقات اللّه ومصنوعاته ، ومشاهدة جلاله وجماله والاستغراق في ذكر الحق ، والتفكر فيه ، وبالتالي التخلص من القيود والاغلال المادية ، والعلائق الدنيوية ، والعبور من المراتب الامكانية في المراحل الباطنية والقلبية الّتي يحصل بعد طيّها نوعٌ من القرب الخاص الّذي لا يمكن وصفه.
    فاذا كان المراد من ( المعراج الروحانيّ ) هو التفكر في عظمة الحق وسعة
1 ـ دائرة معارف القرن العشرين : ج 6 ، ص 329 مادة عرج.

(545)
الخلق و .. و .. فلا شك أن هذا ليس من مختصات رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بل كان أكثر الأنبياء ، وكثير من الاولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة يمتلكون هذه المرتبة ، على حين أن القرآن الكريم يعتبر ( المعراج ) من خصائص رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ويذكره على انه نوع من الامتياز الخاص به ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    هذا مضافا إلى ان مثل هذه الحالة ( اعني التفكر في عظمة الخالق والاستغراق في التوجه إلى الحق ) كانت تتكرر لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في كل ليلة (1) ، والحال ان ( المعراج ) الّذي هو محط الكلام قد وقع في ليلة معيَّنة.
    إن ما دفع بهذا الفريق إلى اتخاذ مثل هذا الموقف من ( المعراج ) ، وآل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني المعروف « بطلميوس » الّتي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق والغرب طيلة ألفي سنة بالكامل ، والّتي اُلّف حولها مئآت الكتب ، وكانت تعدُّ حتّى حين من المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية وهي على نحو الاجمال كالتالي :
    إن الاجسام في هذا العالم على نوعين : أجسام عنصرية ، واجسام فلكية.
    والجسم العنصري هي العناصر الأربعة المعروفة : « الماء ، والتراب ، والهواء ، والنار ».
    وأوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب وهي مركزُ العالم ، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء ، وتأتي بعد كل هذه الثلاثة كرة النار ، وكلٌ من هذه الكرات محيطة بالاُخرى ، وهنا ( اي وعند كرة النار ) تنتهي الكرات ، وتبدأ الاجسام الفلكية.
    والمقصود من الأجسام الفلكيّة هيَ الافلاكُ التسعة الّتي تقع الواحدة فوق الاخرى وتحيط الواحدة بالاُخرى على هيئة قشور البصل ، وهي متصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها وهي غير قابلة للاختراق والالتئام ( اي الشق
1 ـ راجع وسائل الشيعة : ج 7 ، كتاب صوم الوصال ، ص 388 قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إني لست كأحدكم ، أني اظل عند ربّي فيطعمني ويسقيني ».

(546)
والالتحام ) والفصل والوصل ولا يستطيع أيّ شيء من اختراقها والتحرك فيها بصورة مستقيمة لأن ذلك يستلزم انفصام اجزاء الفلك.
    من هنا يكون المعراج الجسماني مستلزماً لأن ينطلق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مركز العالم ويصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابراً الكرات العنصرية الأربع ، ومخترقا الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر ، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم التحامها حسب نظرية بطلميوس وفرضيّته الفلكية.
    وعلى هذا لا مناص من أن نعتقد بأن المعراج النبويّ كان معراجاً روحانياً ، اي ان روحه صلى الله عليه وآله وسلم هي الّتي عرجت حتّى لا يمنع أيُّ جسم من عبورها وسيرها وصعودها إلى النقطة المطلوبة والغاية المرسومة.
    الجواب :
    ان هذا الكلام كان مقبولا وذا قيمة عند ما كانت هيئة بطلميوس وفرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الاوساط العلمية وكان هناك من يعتقد بها من صميم فؤاده.
    ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن التلاعب بالحقائق القرآنية ، وتأويل صريح القرآن ونصوص الروايات.
    أما الآن فقد فقدت أمثال هذه الفرضيات قيمتها ، وظهر للجميع بطلانها ، ولم يعد أحد يتحدث عنها ، إلاّ من باب ما يسمى بتاريخ العلوم.
    فاليوم وبالنظر إلى كل هذه الأجهزة الفلكية والآلات الفضائية الدقيقة ، والتلسكوبات العملاقة ، وهبوط المركبات الفضائية المتعددة على سطح القمر والمريخ ، وعملية القيادة الفضائية على سطح القمر لم يعد مجال لهذه الفرضيات الخيالية.
    فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون فكرة العناصر الأربعة والفلك المتّصل كقشرة البصل إلاّ جزءً من الاساطير.
    فان العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية وأجهزة الرصد الدقيقة والعيون


(547)
المسلحة من رؤية ، تلك العوالم الّتي حاكها وصنعها بطلميوس بقوة خياله ، من هنا فان أية نظرية تقوم على هذا الاساس غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة ، واعتبار.

    نَغمةٌ شاذةٌ :
    ولقد طلع مؤسس الفرقة الشيخية (1) « الشيخ احمد الاحسائي » في « الرسالة القطيفية » بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث أراد بابداء طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين ( القائلين بروحانية المعراج النبوي والقائلين بجسمانيته ) حيث قال : ان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عرج ببدنه البرزخي ( الهور قليائي ) (2) ثم استدل لذلك بقوله :
    ان الصاعد كلّما صعد ألقى في كل رتبة من المراتب المذكورة ما فيها ، فمثلا إذا تجاوز كرة الهواء القى ما فيه من الهواء ، وإذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها وإذا رجع أخذ ما له من كرة النار ، وإذا وصل إلى كرة الهواء أخذ ما له من الهواء.
    ومن هنا فانَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما عرج إلى السماء القى في كل كرة واحداً من تلك العناصر الأربعة في كرته ، وعرج ببدن فاقد لهذه العناصر.
    ومثل هذا البدن لا يمكن ان يكون بدناً عنصرياً ، فليس هو الا البدن البرزخي ( الّذي أسماه الهور قليائي ) لا غير (3).
1 ـ لا شك أن هذه الفرقة وامثالها من الفرقة المبتدعة هي من صنائع الاستعمار أو هي مما يؤيده لتنفيذ أغراضه ، ومن حسن الحظ أن انتشار الوعي بين أبناء الامة الإسلامة حدَّ من نشاط هذه الفرق حتى انها أصحبت على أبواب الاندثار والانقراض نهائياً.
2 ـ وهو البدن البرزخي الّذي يشبه البدن الّذي يفعل به الإنسان الافعال المختلفة في عالم النوم والرؤيا ويقوم بكل نوع من انواع النشاط.
3 ـ تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع الكلم الّتي طبعت عام 1273.
ومع هذا التصريح يدّعي البعض ـ للتسترّ على خطأ الشيخ وزلته هذه ـ بأن الشيخ يعتقد بأن المعراج كان جسمانياً عنصرياً ، وأنه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.


(548)
    وبهذا ـ حسب تصوّره ـ أرضى من نفسه كلا الطرفين المذكورين ، لأنه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني ، وفي نفس الوقت تخلّص من اشكال « خرق الافلاك والتحامها » لأن نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي خَرق وانفصال في جدار الفلك.
    ولكن هذه النظرية ـ كما هو واضح لكلّ عالِم متحرٍّ للحقيقة ، بعيد عن العصبية ـ واضحة البطلان كسابقتها ( نظرية المعراج الروحاني ) ، فمضافاً إلى انها مخالفة للقرآن وظاهر الاحاديث ، لأنّه ـ كما أسلفنا ـ لو عرضنا آية المعراج ( من سورة الاسراء ) على أيّ عارف باللغة ، مهما كانت وطلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال : ان مراد القائل هو البدن الدنيوي العنصري الّذي عَبّر عنه القرآن بلفظ العبد ، في قوله تعالى : « سبحان الّذي أسرى بعبده » ، وليس الهور قليائي الّذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ ، ولا يعرف أمثاله في ذلك اليوم أساساً ، في حين أنهم كانوا هم المخاطَبون في آية المعراج في سورة الاسراء لا غيرهم.
    هذا مضافاً إلى أنَّ ما دفع بالشَيخ إلى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الاسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك ، حيث تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ ، وقد كذبها وفندها كلُ فلكييّ العالم اليَومَ ، وأعلنوا عن سخافتها.
    فلا يجوز لنا أن نقلِّد تلك الفرضية تقليداً أعمى.
    وإذا ما رأينا بعضَ القدماء من المشايخ قال بمثل هذا محسناً الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة وأمثالها امكن إعذارهم ، لعدم قيام ادلة علمية قوية على خلافها آنذاك.
    اما اليوم فلا ينبغي لنا ان نتجاهل الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العلمية.

    المعراج وقوانين العلم الحديث :
    قد يتصور فريقٌ من الناس أن القوانين الطبيعية والعلمية الحاضرة لا تتلاءم


(549)
مع معراج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لأنه :
    1 ـ يقول العلم الحديث : إِنَّ الابتعاد عن الأرض يتطلب التخلّص من جاذبية الأرض ، وبعبارة اُخرى ابطال مفعولها.
    فان ( الكرة ) الّتي نقذفها إلى الأعلى تعود مرة ثانية إلى الأرض بفعل الجاذبية ومهما كرّرنا قذف الكرة إلى الأعلى فانها تعود وترجع إلى الأرض أيضاً.
    فاذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية الأرض ابطالا كاملا بحيث لا تعود الكرة المقذوفة إلى الأعلى إلى الأرض ثانيةً بل تواصل مسيرها إلى الأعلى فإننا نحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى جعل سرعة الكرة باتجاه معاكس للأرض تعادل 000/25 ميلا في الساعة.
    وعلى هذا فان معنى المعراج هو ان يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج من محيط جاذبية الأرض ، واصبح في حالة انعدام الوزن.
    ولكن ينطرح هنا سؤال وهو : كيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ان يطوي بدون وسائل هذه المسافة بمثل هذه السرعة ، وهل البدن الطبيعي يتحمل مثل هذه السرعة مع عدم توفر الغطاء الواقي والوسائل اللازمة ، الّتي تصون الجسم من التبعثر والذوبان بفعل السرعة الفائقة.
    2 ـ إنّ الهواء القابل للاستنشاق غير موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيداً عن سطح الأرض ، بمعنى اننا كلما ذهبنا صعداً إلى الطبقات العليا وابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ ، حتّى يغدو غير قابل للاستنشاق ، وربما نصل إذا واصلنا الصعود إلى الأعلى إلى منطقة ينعدم فيها الهواء اللازم للتنفس بالمرة ، فكيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وبعد طي تلك المسافة الطويلة والبعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود الاوكسيجين ؟!
    3 ـ إِنَّ الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية والشهب الكثيرة المتطايرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادَتهُ ، وأفنته ، ولكنها عندما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى وتصبح كالبودر ولا تصل إلى الأرض ، فيكون


(550)
الغلاف الغازي في الحقيقة بمثابة درع يقي سُكّان الأرض من خطر تلك القذائف المهلكة.
    ومع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصون نفسَه من تلك الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية ؟!
    4 ـ إذا قلَّ ضغطُ الهواء على جسم الإنسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية ، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من الهواء ، لا يوجَد في الطبقات العُليا من الجوّ ، فكيف استطاع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء ؟!
    5 ـ إنَّ سرعة الحركة الّتي ساربها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة الّتي يسير بها النور ومع العلم بأنّ سرعة النور هي 000/300 كيلومتراً في الثانية ، مع العلم أيضاً أنه ثبت في العلم الحديث أنه لا يستطيع أيُّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور ، فكيف استطاع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ان يسير بسرعة تفوق سرعة النور ، ومع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله ؟؟!
    جوابنا :
    وجوابنا هو : أننا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز عدد الاعتراضات والاشكالات ما ذكرناه آنفاً.
    ولكننا نقول في جواب هذا الفريق متساءلين : ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية.
    هل تريدون القول بأن السير في العوالم العليا أمرٌ غير ممكن ، وممتنع ذاتاً وبالتالي أنه أمر محال.
    فاننا نقول ـ حينئذ ـ في الجواب على ذلك بان الجهود والتحقيقات العلمية الّتي بذلها علماء الفضاء في الشرق والغرب قد جعلت هذا الأمر ـ ولحسن الحظ ـ أمراً ممكناً ، وعادياً ، لأن مع اطلاق أوّل قمر اصطناعي عام ( 1957 م ) إلى السماء


(551)
والّذي اسماه علماء الفضاء ب‍ « اسپوتنيك » اتضح أنه يمكن إبطال مفعول جاذبية الأرض بواسطة الصاروخ ، كما أن إرسال السفن الفضائيّة الحاملة لروّاد الفضاء من البشر بواسطة الصاروخ أوضح أنَّ ما كان يَعِدّه البشر مانعاً من الصعود إلى الأعلى في الفضاء قد أصبح قابلا لرفعه وإزالته ، والتخلّص منه بيد العلم والتكنولوجيا.
    إن البشر استطاع بأدواته وآلاته العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة الشهب والنيازك المتطايرة في الجوّ ومشكلة الاشعة الفضائية ، ومشكلة إنعدام الغاز اللازم للتنفس و .. و .. وهاهو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ وان العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنهم سرعان ما يتمكنون من مدّ بساط الحياة والعيش في إحدى الكرات السماوية والسفر إلى إحدى الكواكب كالقمر والمريخ بِسهولة كبرى ! (1)
    إنَّ هذه الأحداث العلمية وهذا التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء شاهدٌ قويٌّ على أنّ هذا العمل أمر ممكن مائة بالمائة ، وليس من الاُمور المستحيلة.
    وإذا كان مقصود المعترضين على المعراج هو انه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة وتكنولوجية ، ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة فكيف طوى تلك المسافات وطاف
1 ـ بعد اطلاق الاقمار والسفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء ابريل عام 1961 بدأ الضابط الروسي جاجارين ( 27 سنة ) رحلته الفضائية في سفينة فضائية ، وكان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية ، وابتعدت سفينته 302 كيلومتراً عن سطح الأرض ، ودارت دورة واحدة حول الكرة الارضية في ساعة ونصف.
وبعد ذلك أقدمت أمريكا والاتحاد السوفيتي على ارسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزوالقمر حتّى حطّت « أپولو » الحاملة ل‍ 11 رائداً فضائياً على سطح القمر لأوّل مرّة ، وكان هذا أوّل مرة يحط فيها انسان قدمه على ارض القمر.
وقدتكررت تجربة هذا البرنامج الفضائي فيما بعد مرات ومرات وكانت ناجحة على الاغلب. وكل هذه الجهود والنتائج تكشف عن أن هبوط الإنسان على سطح الكرات والكواكب أمرٌ ممكن ، وما يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بارادته النافذة.


(552)
على جميع تلك العوالم من دون أدنى وسيلةِ نقل من هذا القبيل ؟!
    فاننا نقول في معرض الاجابة على اعتراضهم هذا بأن جواب هذا الاعتراض يتضح من الابحاث الّتي سبقت منا حول معاجز الأنبياء وخصوصاً بحثنا المفصَّل حول حادثة عام الفيل وهلاك جيش أبرهة العظيم بالأحجار الصغيرة ، لأنه من المسلَّم أنَّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات والآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعلَه بعناية اللّه تعالى ، وإقداره وبدون الأسباب الظاهرية والخارجية.
    لقد عرج رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء بعناية وباقدار اللّه الّذي خلق الوجود كله ، واقام هذا النظام البديع برمته ، فهو الّذي أعطى للأرض جاذبيتها ، وأعطى للشمس أشعتها وأوجد مختلف طبقات الهواء ، وأنواع الغازات في الجوّ ، ومتى أراد أخذَها وانتزاعها منها ، أو كبح جماحها ، وردّ عاديتها.
    فاذا تحقق معراج النبيّ الاكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في ظلّ العناية الآلهيّة فانّ من المسلَّم ان جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة ، وارادته الغالِبة ، وهي طوع إرادته ، والسماوات والأرض مطويّات بيمينه والجميع في قبضته ورهن اشارته دائماً وأبداً ، وفي كل حين وأوان.
    وعلى هذا فماذا يمنع من أن يعمل اللّه الّذي منح للأرض جاذبيتها ، وللأجرام السماوية أشعتها ، على إخراج عبده المصطفى بقدرته المطلقة ومن دون الاسباب الظاهرية ، من مركز الجاذبية الأرضيّة ، ويصونه من أخطار الاشعة الكونية ، وأن يعمد خالق كل هذا القدر الهائل من الاوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات الّتي ينعدم فيها الهواء ، وهذا هو معنى قولهم : « إنَّ اللّه مسبِّبُ الأسباب ومعطِّلُ الأسباب ».
    ان أمر المعجزة يختلف ويفترق أساساً عن أمر العلل الطبيعية والقدرة البشرية.
    ونحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه المطلقة بقدرتنا المحدودة ، فاذا كنّا لا نقدر


(553)
على شيء من دون الأسباب لم يصحَ أن نقول : ان القادر المطلق لا يقدر على مثله من دون الاسباب الطبيعية أيضاً.
    إنَّ إحياء الموتى ، وقلب العصا إلى ثعبان ، وإبقاء يونس حيّاً في بطن الحوت ، في قعر البحار ، مما صدّقته جميع الكتب السماوية ونقلته إلينا لا تقلّ إشكالا ولا تختلف جواباً عن قصة المعراج النبوي
    وخلاصة القول : ان جميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرةٌ لِلّه تعالى خاضعة لارادته ، مطيعةٌ لأمره وارادته يمكن تعلّقُها بكلّ شيء إلاّ بالأمر المحال ، وأما غيرذلك أي ما يكون ممكناً بالذات مهما كان ، فانّهُ قابلٌ لأن يتحقق في ظل ارادة اللّه ومشيئته سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر.
    على أن حديثنا هذا موجَّهٌ إلى مَن آمن باللّه ، وعرف ربّه بصفاته الخاصة به تعالى ، وبالتالي آمن باللّه الأزليّ على أنّه القادر على كلّ شيء.

    الهدفُ من المعراج :
    لقد بيّنت الاحاديث ـ بعد الآيات ـ الغرض من المعراج واليك طائفة من هذه الاحاديث.
    1 ـ يقول ثابت بن دينار سألت الامامَ زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن اللّه جلّ جلاله هل يوصَف بمكان فقال : « تعالى اللّهُ عَن ذلِكَ ».
    قلت : فلم اسرى بنبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ؟
    قال : « لِيُريَهُ مَلكوتَ السماوات وما فيها من عجائب صنعِهِ وبدائع خلقه ».
    2 ـ وقال يونس بن عبد الرحمان قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) لأيّ عِلة عرج اللّهُ بنبيّه إلى السماء ومنها إلى « سدرة المنتهى » ، ومنها إلى « حجب النور » وخاطبه وناجاهُ هناك واللّه لا يوصف بمكان ؟ (1).
    فقال ( عليه السلام ) : « إنَّ اللّه لا يُوصَفُ بمكان ولا يَجري عليهِ زمانٌ ، وَلكنَّهُ
1 ـ علل الشرائع : ص 55 ، البحار : ج 18 ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج 2 ، ص 400.

(554)
عزوجل أرادَ ان يُشَرِّف به مَلائِكته ، وسكانَ سَماواتِه ، ويكرِّمَهُم بمشاهدته ، وَيُريَه من عجائب عظمته ما يخبر بهِ بَعدَ هُبُوطِه ، وليسَ ذلِكَ على ما يَقُولُه المشبّهون سبحانَ اللّهِ تعالى عَمّا يَصِفُون » (1).
    أجل يجب أن يكون لرسول الإسلام وخاتم الأنبياء مثل هذا المقام العظيم ومثل هذه المنزلة السامقة ، ليقول للبشرية العائشة في القرن العشرين ، والّتي أصبحت تفكر في الهُبوط على « المريخ » و « الزهرة » وغيرها من الانجم البعيدة :
    بانني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة ، وانَّ ربّي قد مَنَّ عليّ وعرّفني على نظام السماوات والأرض ، وأطلَعَني بقدرته وبعنايته على أسرار الوجود ، ورموز الكون.
1 ـ علل الشرائع : ص 55. البحار : ج 18 ، ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج 2 ، ص 400.

(555)
    انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، فان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله ، ففي البداية فقد كبير بني عبد المطلب وسيدهم ، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الإسلامية والذابّ بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية ، والشخصية الاولى في قريش اعني « أبا طالب » ( عليه السلام ).
    ولم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد إلاّ وفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة ، السيدة خديجة الكبرى الّتي جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية (1).
    لقد حامى أبو طالب ودافع عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحافظ على حياته وسلامته ومكانته ، وبينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الإسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.
    من هنا سمى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم تلك السنة بعام الحداد ، أو
1 ـ جاء في تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 انه قيل بأن « خديجة » توفيت بعد « أبي طالب » بشهر وخمسة أيام ، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل ج 2 ، ص 63 إلى أن السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب ، لا بعده.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس