سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 526 ـ 540
(526)
    إِن كلّ واحدة من هذه المقطوعات الشعريّة الّتي تشكل قسماً صغيراً من قصائد مفصّلة لأبي طالب ، تشهد بايمانه بدين ابن اخيه « محمّد » ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وخلاصة القول : أنَّ بيتاً واحداً من هذه الأبيات كاف في اثبات ايمان صاحبها وقائلها ، ولو أنّ أحداً قالها وهو خارج عن فلك الصراعات السياسية ، وبعيد عن دوائر التعصبات والأغراض لحكم الجميعُ ـ بالاتفاق ـ باسلام قائله وايمانه الخالص العميق.
    ولكن لما كان « أبو طالب » هو قائلها ، وكانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الاموية والعباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ آل « أبي طالب » من هنا أبى فريقٌ من الناس أن يُثبتوا مِثل هذه الفضيلة الكبرى لأبي طالب ( عليه السلام ).
    هذا من جانب.
    ومن جانب آخر فانّ أبا طالب والد « علي » الّذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام ، وتستغل كل الوسائل للحط من شأنه ، كان إسلام أبيه وإيمانه بالرسالة المحمدية يُعدُّ فضيلة بارزة من فضائله ( عليه السلام ) في حين أن كفر آباء الخلفاء وشركهم يعدُّ مثلبة توجب الحط من شأنهم ، وقيمتهم.
    وعلى كل حال قام جماعة بتكفير أبي طالب رغم كلِّ هذه الأشعار والأقوال ، والمواقف الصادقة ، بل لم يكتفوا بذلك ، فادعوا نزول آيات من القرآن تدل على كفره ، وشركه !!!

    الطريق الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب
    إنّ الطريق الثاني للبرهنة والتدليل على إيمان « أبي طالب » هو مواقفه من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وكيفية دفاعه وذبه عنه و حمايته له ، وحدبه عليه صلى الله عليه وآله وسلم وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق.
    ان كل واحدة من هذه الخدمات تستطيع بمفردها ان تكون المرآة الصادقة


(527)
الّتي تعكس فكر « أبي طالب » وعقيدته وما كان يحمله بين جوانحه من إيمان بالرسالة والرسول ، واخلاص للّه تعالى.
    لقد كان « أبو طالب » هو ذلكم الشخصية الّتي لم يرض لنفسه بان ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكة ، واصطحبه معه إلى الشام في الرحلة التجارية الّتي سبق ذكرها ، رغم الموانع الكثيرة ، وفقدان الوسائل اللازمة ، ورغم ما تَرتب على اصطحابه معه من متاعب.
    إن ايمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى درجة أنه أخذه إلى المصلّى واستسقى به ، مقسماً به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه ، ويرسل رحمته عليهم ، فيستجيب اللّه دعاءه ، وينزل عليهم غيثاً وافراً ممرعاً ، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ.
    إنه ذلك الرجل الّذي لم يفتأ عن الحفاظ على حياة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لحظة واحدة ، فهو الّذي تحمل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي والاجتماعي الصعب ، مؤثراً العيش في الشعب وفي شغاف الجبال والوديان القاحلة على زعامة قريش ، ورئاسة مكة إلى ان أعيته تلك المحن والمتاعب ففقد بذلك صحته ، وانحرف بذلك مزاجه ، وتوفّي متأثراً بتلك المتاعب والمصاعب ، والمشاق والمحن بعد نقض الصحيفة ، وانتهاء الحصار ، والعودة إلى المنازل بأيام معدودة !!
    لقد كان إيمان « أبي طالب » برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قوياً وراسخاً إلى درجة أنه رضى بأن يتعرّض كل ابنائه لخطر القتل والاغتيال ليبقى « محمّد » ولا يمسُّه من أعدائه أي سوء ، فكان يُضجِع ولده علياً في موضعه ، حتّى إذا أرادوا إغتياله لا يصيبه شيء وهذا يعني أنه كان يقيه بنفسه وبأولاده.
    وفوق هذا كلّه استعدَّ في يوم من الايام لأن يقتل كل زعماء قريش وأسيادها انتقاماً لمحمّد ، وكان من الطبيعي أن يقتل في هذا العملية بنو هاشم كلُّهم أيضاً (1).
1 ـ راجع الصفحة 522 من هذا الكتاب.

(528)
    وصية أبي طالب عند وفاته
    وعند وفاته قال لأولاده :
    « اُوصيكم بمحمّد خيراً فانّه الأمينُ في قُريش وهو الجامعُ لكلّ ما اُوصيكم به ، وقد جاءَ بأمر قبله الجَنان ، وانكره اللِسان مخافة الشنئان ، وأيم اللّه لكأنّي انظرُ إلى صعاليك العرب ، وأهل البرّ في الاطراف ، والمستضعفين من الناس ، قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا كلمته ، وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش و صناديدها أذناباً ، ودُورُها خراباً ، وضُعفاؤها أرباباً ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ... ».
    ثم ختم وصيته هذه بقوله :
    يا معشر قريش كونوا له ولاةً ، ولحزبه حماةً ، واللّه لا يسلك أحدٌ منكم سبيله الارشد ، ولا يأخذ أحد بهديه الاّ سعد (1).
    نحن لا نشك في أن « أبا طالب » كان صادقاً في اُمنيّته هذه لأن خدماته الكبرى وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله ، كما كان صادقاً في الوعد الّذي قطعه على نفسه لابن أخيه ( محمّد ) في مبدأ البعثة عندما جمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم إلى الإسلام فقال له ابو طالب :
    « اُخرج يا ابن أخي فانّكَ الرفيعُ كعباً ، والمنيع حزباً ، والأعلى أباً.
    واللّهِ لا يَسلِقُك لسانٌ الاسلَقتهُ ألسن حِداد ، واجتذَبته سيوفُ حداد.
    واللّهِ لَتَذلَنَّ لَكَ العربُ ذلَّ البُهم لحاضِنها » (2).
1 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 351 و 352.
2 ـ الطرائف تأليف السيد ابن طاووس : ص 85 ، نقلا عن كتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول تأليف ابراهيم بن علي الدينوري.


(529)
    آخر الطُرق لا ثبات ايمان أبي طالب
    ويحسن بنا أخيراً ان نسأل عن أبي طالب وعن ايمانه واخلاصه ، اقاربَه غير المغرضين لأن « أهل البيت ادرى بما في البيت ».
    1 ـ لما مات أبو طالب جاء عليٌ ( عليه السلام ) إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فآذنه بموته ، فتوجع توجعاً عظيماً ، وحزن حزناً شديداً ، ثم قال له امض فتولّ غسله فاذا رفعته على سريره فاعلمني ، ففعل فاعترضه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو محمول على رؤوس الرجال : قال : « وصلتك رحم يا عم ، وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً ».
    ثم تبعه إلى حضرته ، فوقف عليه فقال :
    « أما واللّه لاستغفرنَّ لك ، ولا شفعنَّ فيك شفاعةً يعجبُ لها الثقلان » (1).
    2 ـ روي ان علي بن الحسين ( عليهما السلام ) سئل عن ايمان أبي طالب. فقال :
    « واعجباً ! ان اللّه تعالى نهى رسوله ان يقرّ مسلمة على نكاح كافر ، وقد كانت فاطمة بنت اسد من السابقات إلى الإسلام ، ولم تَزَل تحتَ أبي طالب حتّى مات » (2).
    3 ـ روي عن علي بن محمّد الباقر ( عليهما السلام ) أنه قال :
    « لو وُضِعَ إيمان أبي طالِب في كفّة ميزان ، وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفّة الاُخرى لرجح إيمانه ».
    ثم قال :
    « ألم تَعلَموا أنَّ أميرَالمؤمنين عليّاً ( عليه السلام ) كانَ يأمر أن يُحجَّ عن عَبدِاللّه وَأبيه » (3).
    4 ـ قال الامام جعفر بن محمّد الصادق ( عليهما السلام ) :
1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 76.
2 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 69.
3 ـ المصدر السابق : ص 68.


(530)
    « إنَّ مَثَل أبي طالِب مَثَلُ أصحاب الكَهف أسَرُّوا الإيمان ، وأَظهَروا الشركَ فآتاهُمُ اللّهُ اَجرَهم مرّتين ، وأن أبا طالِب أسرّ الإيمان ، وأظهر الشرك ، فآتاه اللّه أجرَه مَرّتين » (1).

    رأي علماء الشيعة في أبي طالب
    ولقد اتّفقَ علماءُ الاماميّة والزيديّة تبعاً لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على : أن « أبا طالب » كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخرج من الدنيا إلاّ بقلب يفيض إيماناً بالاسلام ، وإخلاصاً للّه تعالى ، وحبّاً للمسلمين ، وقد اُلِّفَت في هذا المجال كتب ورسائل ، ودراسات عديدة ، يمكن الوقوف عليها لمن اراد ، ولمزيد التوسع في هذا المجال يراجع المجلد 7 ، ص 402 ـ 404 من موسوعة الغدير للعلامة الأميني طبعة النجف ، أو ج 7 ، ص 330 ـ 409 طبعة لبنان.

    نظرة إلى حديث « الضحضاح »
    واستكمالا لهذا الحديث ينبغي أن نلقي نظرة إلى رواية تشكك في ايمان أبي طالب فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري (2) ، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري ، عبدالملك بن عمير ، عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال عن أبي طالب رحمه اللّه :
    « وجدتُه في غمرات من النّارِ فأخرجتُه إلى ضحضاح ».
    « لعلّهُ تنفعُه شفاعَتي يومَ القيامة فيجعَلُ في ضَحضاح منَ النّار يبلغُ كعبَيه ، يغلي منهُ دماغُهُ » (3).
    إنّ هذه الرواية و ان كانت تكذبها عشرات الأحاديث والروايات الإسلامية ،
1 ـ اصول الكافي : ج 1 ، ص 448.
2 ـ صحيح البخاري : ج 1 ، ص 33 و 34 من أبواب المناقب.
3 ـ صحيح مسلم : كتاب الايمان.


(531)
والدلائل القاطعة الساطعة ، وتثبت بطلانها وتفاهتها ، ولكننا بهدف الوصول إلى مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين مرتبطين بهذا الحديث.

    1 ـ ضعف أسناد هذه الرواية
    إنّ رواة هذه الرواية ـ كما أسلفنا ـ هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري وعبدالملك بن عمير و عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً ـ في ضوء أقوال علماء الرجال المعترف بهم عند أهل السنة ـ عنهم :

    الف : سفيان بن سعيد الثوري
    قال أبوعبد اللّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ـ وهو من علماء الرجال عند اهل السنة ـ في سفيان الثوري : كان يدلّس عن الضعفاء (1).
    إن هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري ، وعلى روايته عن الضعفاء أو المجهولين ، وهو وصف يُسقطه عن درجة الاعتبار.

    باء : عبدالملك بن عمير
    قال عنه الذهبيّ المذكور : طال عُمره وساء حفظُه قال أبو حاتم : ليس بحافظ ، تغيّر حفظه ، وقال أحمد : ضعيف يغلط ، وقال ابن معين : مخلط وقال ابن خراش : كان شعبة لا يرضاه ، وذكر الكوسج عن احمد بن حنبل : انه ضعيف جداً (2)
    فمن مجموع هذه العبارات نعرف ان عبدالملك كان يتصف بصفات عديدة هي أنه :
    1 ـ سيء الحفظ.
    2 ـ ضَعيف.
    3 ـ كثير الغلط.
1 ـ ميزان الاعتدال : ج 2 ، ص 169.
2 ـ المصدر السابق ، ج 2 ، ص 660.


(532)
    4 ـ مخلط.
    ومن الواضح ان كل واحدة من الصفات والحالات المذكورة كافية لأن تبطلَ الاحاديث الّتي يرويها عبدالملك بن عمير ، والحال انه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل.

    جيم : عبدالعزيز بن محمد الدراوردي
    ولقد وصفَهُ علماء الرجال عند اهل السنة بالنسيان ، وقلة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته.
    فقد قال أحمد بن حنبل عنه : إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل (1).
    وقال أبو حاتم عنه : لا يُحتَجُّ به (2).
    وقال أبو زرعة أيضاً : سئ الحفظ (3). ومن مجموعة هذه العبارات يتضح بجلاء ان الرواة الاصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف ، إلى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم.

    2 ـ نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنة
    لقد نُسِب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح وبهذا خفَّفَ عنه العذاب ، أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم تمنى أن يشفع له ، فيخفِّفَ اللّهُ عنه العذابَ ، على حين نفى القرآنُ الكريم والسنة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار كما ونفيا شفاعة احد في حقهم.
    وعلى هذا الاساس فلو كان ابو طالب كافراً ، لم يجز للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ان يخفف عنه العذاب أو يتمنى له الشفاعة في يوم الجزاء.
    وبهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح.
    واليك فيما يأتي ادلة ما قلناه من الكتاب والسنة :
1 ـ المصدر السابق ، ص 634.
2 و 3 ـ المصدر السابق.


(533)
    الف : القرآن الكريم
    يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : « وَالَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّم لا يُقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عنْهُمْ مِن عَذابِها ، كَذلِكَ نَجْزي كُلَّ كَفُور » (1).

    ب : السنة النبوية
    ان السنة النبوية الطاهرة تنفي أيضاً الشفاعة للكفار ، ونذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث :
    1 ـ روى أبوذر الغفاري عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال :
    « اُعطيت الشفاعة وهي نائلة من اُمتي من لا يشرك باللّه شيئاً » (2).
    2 ـ روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال :
    « وشفاعتي لمن شهد أن لا اله الا اللّه مخلصاً ، وأنَّ محمّداً رسول اللّه يصدِّق لسانُه قلبَه ، وقلبُه لسانَه » (3).
    إن الآيات والروايات المذكورة تثبت بوضوح بطلان نص حديث الضحضاح عند من يقول بأن أبا طالب مات كافراً.
    ونتيجة البحث أنه تبين مما ذكر ان حديث الضحضاح لا أساس له من الصحة لا من جهة السند والطريق ، ولا من جهة المتن والنص ، ولا يمكن الاستدلال به.
    وبهذا ينهار أقوى حصن يتمسكُ به البعض للخدشة في ايمان أبي طالب الثابت المسلّم.
1 ـ فاطر : 36.
2 ـ الترغيب والترهيب : ج 4 ، ص 433.
3 ـ المصدر السابق : ص 437.


(534)

(535)
    المعراج في نظر القرآن والسنة والتاريخ
    كان الليل يخيم على الافق ، ويسودُ الظلام على كل مكان.
    فقد حان الأوانُ لان ترقدَ جميع الاحياء في مساكنها ، وتستريح في جحورها وأعشاشها ، وتغمض الأجفان لبعض الساعات عن مظاهر الطبيعة ، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديد حافل بالنشاط والحركة والسعي.
    فذلك قانون الطبيعة في كلِّ ليل ونهار.
    ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي.
    فهو صلى الله عليه وآله وسلم مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضاً.
    ولكنه فجأةً سمع صوتاً مألوفاً مأنوساً له ، وكان ذلك هو صوت أمين الوحي « جبرئيل » وهو يخبره بأن أمامه الليلة سفراً بعيداً ورحلة طويلة ، وانه سيرافقه في هذا الرحلة إلى مختلف نقاط الكون ، وسيسافر على متن دابة فضائية تدعى « البراق ».
    لقد بدأ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رحلته الفضائية العظيمة من بيت اخت علي بن أبي طالب (1) « اُم هاني » ، وتوجه على متن تلك الدابة إلى « بيت
1 ـ مجمع البيان : ج 6 ، ص 395 و 396 ، السيرة النبويّة : ج 1 ، ص 396 ـ 402.

(536)
المقدس » في الأردن وفلسطين والّذي يسمى « المسجد الأقصى » أيضاً ، وهبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جداً ، وزار مواضع عديدة من ذلك المسجد ، وتفقّد « بيت لحم » مسقط رأس « السيد المسيح » ومنازل الأنبياء وآثارهم ومحاريبهم ، وصلّى عند كل محراب من بعض تلك المحاريب ركعتين.
    ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من رحلته ، حيث عرج من ذلك إلى السماوات العلى ، وشاهد النجوم والكواكب ، واطّلع على نظام العالم العلوي ، وتحدث مع ارواح الأنبياء ، والملائكة السماويين ، واطّلع على مراكز الرحمة والعذاب ( الجنة والنار ) (1) ورأى درجات أهل الجنة ، وأشباح أهل النار عن كثب ، وبالتالي تعرف على أسرار الوجود ، ورموز الطبيعة ، ووقف على سعة الكون ، وآثار القدرة الالهيّة المطلقة ، ثم واصل رحلته حتّى بلغ إلى سدرة المنتهى (2) ، فوجَدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلال العظيم وعندها انتهى برنامج رحلته صلى الله عليه وآله وسلم ، فامر بأن يعود من حيث أتى فعاد ، بعد صلى الله عليه وآله وسلم ومرّ في عودته على بيت المقدس ثانية ، ثم توجّه منه إلى « مكة » ، ومرّ خلال الطريق على قافلة تجارية لقريش وقد ضلّ بعير لهم في البيداء وكانوا يبحثون عنه ، ثم وجد في رحلهم قعباً مملوء من الماء فشرب منه وصبَّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان بناء على رواية. وترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت « اُم هاني » قبيل طلوع الفجر ، وأخبرها بالخبر قبل اي أحد ، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة.
    فاستبعد السامعون قصة المعراج والحركة السريعة هذه ، واعتبروه أمراً محالا وانكروه ، وفشا هذا الخبر في جميع الأوساط وغضب بسببه أشراف قريش وساداتهم اكثر من غيرهم.
    وكعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه القصّة وقالوا : هذا واللّه الامر البيّن
1 ـ مجمع البيان : سورة الاسراء ، ج 6 ، ص 395.
2 ـ لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.


(537)
( العجيب المنكر ) واللّه إن العير لتطّرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة ، وشهراً مقبلة ، أفيذهب ذلك « محمّدٌ » في ليلة واحدة ؟
    وقالوا : إن صدقَتَ فصف لنا بيتَ المقدس ، فإن فينا من شاهدهُ.
    فلم يصف لهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بيت المقدس فحسب بل اخبرهم بكل ما مرّ به وفعله ورآه في طريق عودته من بيت المقدس إلى « مكّة » وقال : وآية ذلك أنّي مررت على بعير بني فلان بوادي كذا وكذا ، وقد ضلّ لهم بعير وقد همّوا في طلبه ، وشربت من ماء في آنية لهم مغطاة بغطاء وثم غطّيت عليها كما كان ، ثم مررتُ على بعير فلان وقد نفّرت لهم ناقة وانكسرت يدها.
    فقالت قريش : أخبرنا عن عير قريش.
    فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّها الآن في التنعيم ( وهو مبدأ الحرم ) يتقدمها جمل أورق ( أبيض مائل إلى السواد ) عليه غرارتان وستدخل الآن مكة.
    فغضب قريش من هذه الأخبار القاطعة وقالت : سنعلمنَّ الآن صِدقه أو كِذبه.
    ثم لم تمض لحظاتٌ إلاّ وطلعت العير عليهم ، وحدَّثهم أبو سفيان بكل ما أخبرهم به رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من ضياع بعير لهم في الطريق وهمّهم في طلبه ، وأنهم وضعوا ماء مملوء فغطوه ولما رجعوا وجدوه مغطى كما غطوه ولكن لم يجدوا فيه ماءً.
    هذه هي خلاصة ما جاء في كتب التفسير ، والتاريخ ، والحديث حول المعراج.
    وإذا أراد القارئ الكريم أن يقف على تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه إلاّ أن يراجع بحار الأنوار باب « المعراج » (1).

    هل للمعراج جذور قرآنية ؟
    لقد جاءَ ذكر « المعراج » النبوي وسيره العجيب صلى الله عليه وآله وسلم في
1 ـ بحار الأنوار : ج 18 ، ص 283 ـ 410.

(538)
العالم العلوي ، والفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح وصريح كما واشير اليها في سور اُخرى أيضاً.
    ونحن نكتفي هنا باستعراض الآيات الّتي ذكرت هذه القضيّة بصورة واضحة ، ونقف عند بعض النقاط الجديدة بالدراسة فيها :
    يقول اللّه تعالى في سورة الأسراء : « سُبحانَ الّذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرام إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَه مِن آياتِنا ، إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير » (1).
    ويستفاد من ظاهر هذه الآية اُمور :
    1 ـ لكي نعلم بأنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يطو تلك المسافات ، ولم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية ، بل تسنى له كلُ ذلك بقوة غيبيّة ، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة في زمن قصير جداً بدأ اللّه تعالى حديثه عن الاسراء بقوله : « سُبْحانَ الّذي » وهو اشارة إلى تنزيه اللّه عن كلِّ نقص وعيب.
    ولم يكتف بذلك بل وصف نفسَه بوضوح بأنه هو تعالى سبب هذه الرحلة والمسيّرُ فيها إذ قال : « أسرى » أي إنَّ اللّه تعالى هو الّذي سرى برسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخذه إلى تلك الرحلة.
    وهذه العناية لأجل أن لا يتصور الناس بأنّ هذه الرحلة تحققت بالوسائل العادية ، وحسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم إنكارها ، إِنما تحققت بقدرة اللّه وعنايته الربوبية الخاصة.
    2 ـ إن هذه الرحلة تحققت برمّتها خلال الليل ، ويستفاد هذا المطلب ـ علاوة على كلمة ليلا ـ من كلمة « أسرى » أيضاً لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلا.
    3 ـ مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت « اُم هاني » ابنة أبي طالب ، فإن الآية صرّحت بأنها تَمَّت من المسجد الحرام ، ولعل هذا لأنّ العرب كانت تعتبر
1 ـ الاسراء : 1.

(539)
كل مكة حرماً إلهياً ، ومن هنا كان كل مكان من مكة يتمتع عندهم بحكم الحرم والمسجد الحرام ، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة ، ومكّة والحرم كلها مسجد ، فصحَّ أن يقول : « من المسجد الحرام ».
    وتَذهب بعض الروايات إلى أنَّ المعراج كان من نَفس المسجد الحرام.
    ثم إنَّ هذه الآية وان كانت تصرّح بأنَّ المعراج بدأ من « المسجد الحرام » وانتهى ب‍ : « المجسد الأقصى » إلاّ أن ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رحلة اُخرى إلى العالم العُلوي لأنّ هذه الاّية تبيّن فقط قسماً من هذه الرحلة ، وأما القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع سورة « النجم ».
    4 ـ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عرج بجسمه وروحه معاً ، لا بالروح فقط.
    ويدلُّ على ذلك قوله تعالى « بعبده » الّذي يُستَعمل في « الجسم والروح معاً » ولو كان المعراج بالروح فقط لزم أن يقول : « بروحه ».
    5 ـ إنَّ الغرض من هذا السير العظيم وهذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على مراتب الوجود ، وإطلاعه على الكون العظيم ، وهذا ما سنشرحه فيما بعد.
    وأما السورة الاُخرى الّتي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح و صراحة هي سورة « النجم ».
    والآيات الّتي سندرجها هنا من هذه السورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال لقريش : « رأيت جبرئيلَ أوّل ما اُوحي التي على صورته الي خُلِقَ عليها » جادلته قريش في ذلك ، فنزلتِ الآيات التالية تجيب على اعتراضهم : « أفَتُمارُوْنَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً اُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إذْ يَغْشى السِدْرَة ما يَغْشى. ما زاغَ البَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آيات رَبّه الكُبرى » (1).
1 ـ النجم : 12 ـ 18.

(540)
    أحاديث المعراج :
    روى المفسرون والمحدّثون أخباراً وروايات كثيرة حول معراج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما شاهده في هذه الرحلة العظيمة ، ليست برمتها صحيحة مُسَلَّمة مقطوعاً بها.
    ولقد قسّم المفسر الشيعيُ الكبير المرحومُ « العلامة الطبرسيّ » هذه الاخبار إلى أصناف أربعة إذ قال :
    وتنقسم جملتها إلى أربعة اوجه :
    أحدها : ما يقطع على صحته لتواتر الأخبار به ، واحاطة العلم بصحته مثل أصل المعراج.
    وثانيها : ما ورد في ذلك مما تجوِّزه العقول ولا تأباه الاصول مثل طوافه في السماء ورؤيته أرواح الأنبياء وتحدّثه معهم ورؤيته للجنة والنار ، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته ، دون منامه.
    وثالثها : ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول ، إلاّ أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحق والدليل. مثل أنّه راى أهل الجنة وأهل النار وتحدّث معهما الّذي يجب أن يؤوّل فيُحمل على انه : رأى أشباحهم وصورَهُم وَصفاتهم.
    ورابعها : ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله ، وهي ما اُلصِق واُلحق بهذه الحادثة من الأساطير والخرافات ، مثل ما روي من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كلّم اللّه سبحانه جهرةً ورآه وقعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه ، ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه والتجسيم واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه ، فالأولى أن لا نقبله (1).
1 ـ مجمع البيان : ج 6 ، ص 395.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس